نواف سلام... رئيساً لمحكمة العدل الدولية ويبقى مرشحاً بارزاً لرئاسة حكومة لبنان

وسط ترحيب وطني وقلق إسرائيلي

نواف سلام... رئيساً لمحكمة العدل الدولية ويبقى مرشحاً بارزاً لرئاسة حكومة لبنان
TT

نواف سلام... رئيساً لمحكمة العدل الدولية ويبقى مرشحاً بارزاً لرئاسة حكومة لبنان

نواف سلام... رئيساً لمحكمة العدل الدولية ويبقى مرشحاً بارزاً لرئاسة حكومة لبنان

هو القاضي اللبناني نواف سلام... رئيس «محكمة العالم»، الذي اختار العمل بهدوء بعيداً عن ضوضاء السياسة الداخلية وزواريبها، لكنه حمل من حيث هو في الأمم المتحدة، حيث شغل منصب سفير لبنان، وفي محكمة العدل الدولية التي انضم إليها منذ عام 2018، لواء الدفاع عن سيادة لبنان واستقراره وعن القضية الفلسطينية والقضايا الإنسانية.

لم تغر الدكتور نوّاف سلام، ابن البيت السياسي البيروتي العريق، المناصب ولا المراتب، لكنه وصل إليها نتيجة جهوده ومثابرته ليعيّن في شهر فبراير (شباط) الحالي رئيساً لـ«محكمة العدل الدولية» لمدة ثلاث سنوات. وبذا يغدو القانوني اللبناني ثاني عربي يترأس هذه المحكمة منذ إنشائها عام 1945، بعد وزير خارجية الجزائر الأسبق محمد بجاوي.

كان سلام، الذي يتبوأ اليوم أعلى سلطة قضائية في العالم، قد انضم عام 2018 إلى هذه المحكمة التي تتألف من 15 قاضياً يُصار إلى انتخابهم من قبل مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. ولقد لقيت خطوة انتخابه لهذا المنصب الرفيع ترحيباً لبنانياً واسعاً في لبنان، ولا سيما من داعميه الذين سبق أن كانوا قد رشّحوه لرئاسة الحكومة وعدّوا الامتناع عن تسميته لرئاسة الحكومة خسارة وطنية للبلاد. وفي المقابل، شكّل تعيين سلام قلقاً لإسرائيل، التي عبّر إعلامها بشكل واضح عن هذا الأمر انطلاقاً من مواقفه المعلنة المساندة للقضية الفلسطينية. إذ عدّت صحيفة «الجيروزاليم بوست» أن سلام صاحب تاريخ طويل بمناهضة إسرائيل عبر تصريحاته ومواقفه، مذكرة بموقف له على وسائل التواصل الاجتماعي حيث كتب عام 2015 متوجهاً إلى إسرائيل بالقول «عيد ميلاد غير سعيد لك، 48 عاماً من الاحتلال». ورأى كذلك أن «تصوير منتقدي سياسات إسرائيل بأنهم معادون للسامية هو محاولة لترهيبهم وتشويه سمعتهم، وهو ما نرفضه»، داعياً إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية وإلى عضوية فلسطين في الأمم المتحدة.

من القضية الفلسطينية إلى الهم اللبناني

في الواقع شكّلت القضية الفلسطينية محوراً أساسياً في حياة الشاب نواف سلام وأبناء جيله، ولا سيما في مرحلة «منظمة التحرير الفلسطينية» وأيام الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وهو ما ظهر جلياً في ممارساته وحياته الأكاديمية والسياسية والدبلوماسية.

وفي مقابلة سابقة له مع قناة هيئة الإذاعة البريطانية، (البي بي سي)، أكد سلام أنه ناضل خلال فترة دراسته الجامعية من أجل القضية الفلسطينية، وكان لنكسة يونيو (حزيران) 1967 تأثير كبير على شخصيته كما على كل الشباب من أبناء جيله. وأردف أنه إبان ترؤسه مجلس الأمن الدولي في شهر مايو (أيار) 2010 بكى تأثراً عندما تسلم ملف فلسطين لتقديم عضويتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

والواقع أن مؤازرة سلام للقضية الفلسطينية وحراكه وانفتاحه الذي تتميز به شخصيته كانت باباً لعلاقاته الواسعة في لبنان وخارجه. وفي هذا السياق، يصفه صديقه الوزير السابق والنائب الحالي مروان حمادة بـ«السياسي غير التقليدي» على الطريقة اللبنانية.

ويتابع حمادة نواف سلام «يشبه منطقة رأس بيروت المتنوعة والمنفتحة والعابرة للطوائف». ويستطرد «نضاله وانفتاحه أنتجا شخصية هادئة أخذت موقعها الوسطي الذي يميل إلى الأفكار الليبرالية – الاشتراكية، وهو ما ظهر بشكل واضح في كتاباته ومؤلفاته».

وحقاً، شكّل حمله لواء القضية الفلسطينية قاعدة صلبة لحمله لواء القضية اللبنانية منذ أن بدأ مسيرته السياسية والدبلوماسية، وخاصة، عندما شغل مقعد لبنان غير الدائم في الأمم المتحدة بين عامي 2009 و2010.

ومن على منبر مجلس الأمن والأمم المتحدة، حمل سلام الدبلوماسي والقانوني، لواء سيادة لبنان في مواقف قاطعة ضد إسرائيل وانتهاكها للقرارات الدولية، ولا سيما عبر القرار 1559 الذي ينص على احترام سيادة لبنان واستقلاله ووحدة أراضيه، والقرار 1701 الذي أدى إلى وقف إطلاق النار في عام 2006 بين لبنان وإسرائيل. يضاف إلى ذلك العمل على تعزيز «سياسة النأي بالنفس» عن الحرب في سوريا، والسعي إلى إنهاء الإفلات من العقاب من خلال إنشاء «المحكمة الدولية الخاصة بلبنان» للنظر في قضيّة اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1757.

وبالفعل، كان الهم اللبناني، أول ما تحدث عنه، سلام - ابن بيروت - عند انتخابه رئيساً لـ«محكمة العدل الدولية»، إذ قال إن ذلك يحمّله «مسؤولية كبرى في تحقيق العدالة الدولية وإعلاء القانون الدولي». وأردف: «أول ما يحضر إلى ذهني في هذه اللحظة هو همي الدائم أن تعود مدينتي بيروت (أمّاً) للشرائع كما هو لقبها، وأن ننجح - نحن اللبنانيين - في بناء دولة القانون في بلادنا، وأن يسود العدل بين أبنائه».

أسرته وولادته ونشأته

ولد نواف عبد الله سليم سلام يوم 15 ديسمبر (كانون الأول) 1953 في العاصمة اللبنانية بيروت. وهو يتحدّر من عائلة سياسية بيروتية معروفة. إذ كان جده لأبيه «أبو علي» سليم علي سلام (1868 – 1938) أحد أبرز زعماء المدينة في مطلع القرن العشرين، وأحد نوابها في البرلمان العثماني (مجلس المبعوثان)، كما تولى رئاسة بلديتها (عام 1908)، وترأس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية (كبرى الجمعيات الخيرية الإسلامية في لبنان). ولكن، بعدما أسقط الاتحاديون الأتراك (جمعية الاتحاد والترقي) السلطان عبد الحميد الثاني، تغيّرت سياسة الباب العالي تجاه أهل الشام نتيجة اعتماد الاتحاديين سياسة «التتريك». وهكذا، بدأت حركات التحرر العربية تلوح بالأفق، وانضم سليم سلام لـ«المؤتمر العربي الأول» في باريس عام 1913. وساهم بتأسيس «جمعية الإصلاح البيروتية» المناهضة للسياسة التركية في الشرق. وعام 1918 بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ونجاح «الثورة العربية»، وتشكيلها «الحكومة العربية الكبرى»، كان سلام أحد أعضائها، ومديراً لمكتبها في بيروت. ثم إنه انضم لـ«المؤتمر السوري العام» في دمشق عام 1919 ممثلاً عن بيروت، وترأس مؤتمرات الساحل والأقضية الأربعة عام 1936. وأصبح عام 1937 رئيساً للمجلس القومي الإسلامي قبل وفاته بستة أشهر.

أما، والد نواف سلام، عبد الله سلام، فكان رجل أعمال بارزاً وأحد مؤسسي شركة طيران الشرق الأوسط. ومن أعمامه رئيس الوزراء اللبناني السابق صائب سلام، الذي تولى رئاسة حكومة لبنان أربع مرات، ما بين عامي 1952 و1973، والوزير السابق المهندس مالك سلام. ومن أبناء أعمامه تمام صائب سلام رئيس الحكومة السابق (بين عامي 2014 و2016).

بالنسبة لدراسته الجامعية والقانونية، يحمل نواف سلام شهادة دكتوراه دولة في العلوم السياسية من معهد الدراسات السياسية (سيانس بو) في باريس، ودكتوراه في التاريخ من جامعة باريس - السوربون، وماجستير في القوانين من جامعة هارفارد، وله مؤلفات عديدة في السياسة والتاريخ والقانون. وعلى الصعيد العملي مارس سلام المحاماة، كما عمل أستاذاً محاضراً في التاريخ المعاصر في السوربون، كما درّس العلاقات الدولية والقانون الدولي في الجامعة الأميركية في بيروت؛ حيث ترأس دائرة العلوم السياسية والإدارة العامة فيها من 2005 إلى 2007. وبالنسبة للمؤلفات والأبحاث، كان بين أحدث مؤلفات سلام «لبنان بين الأمس والغد» الصادر في بيروت عام 2021. ونشير إلى أنه قبل تعيينه رئيساً لمحكمة العدل الدولية، كان قد شغل قبل ذلك منصب سفير لبنان لدى الأمم المتحدة بين 2007 و2017. ومثّله في مجلس الأمن خلال ولايته فيه عامي 2010 و2011 وترأس أعمال هذا المجلس في شهري مايو (أيار) 2010 وسبتمبر (أيلول) 2011.

شدد سلام على أن الهم الأساس هو «إنقاذ لبنان من محنته، وهذا يتطلب التغيير في مقاربة الأزمة نهجاً وممارسة

العائلة وبيروت والجبل

حب لبنان بالنسبة إلى سلام ليس فقط في الكتب ومن على المنابر، فهو البيروتي العتيق الذي بقي على علاقة وثيقة بمدينته بيروت رغم غيابه عنها لفترات بعيدة بسبب عمله. وهو لا يزال يملك في هذه المدينة صداقات من مختلف الطوائف والتوجهات. ويحرص على اللقاء بهم في كل مرة يزور بها العاصمة اللبنانية. وهذه الزيارات لا تقتصر فقط على الإجازات الطويلة إنما قد يأتي إلى بيروت فقط للمشاركة في مناسبة معينة للعائلة وللأصدقاء، ثم المغادرة. وكما لبيروت، كذلك لمنزله في منطقة شملان الجبلية الواقعة في قضاء عاليه (جبل لبنان) حيّز خاص في حياته وحياة زوجته سحر بعاصيري (سفيرة لبنان لدى اليونيسكو)، ولا سيما في فصل الصيف.

وإضافة إلى اللقاءات مع الأصدقاء الكثر، تغري سلام، وهو أب لشابين هما عبد الله ومروان، النوادي ذات الطابع الأكاديمي على غرار نادي هارفارد في نيويورك، الذي هو عضو فيه، إضافة إلى أنه قارئ نهم وشغوف بالموسيقى التي هي بالنسبة له رفيق دائم.

 

«مرشح الانتفاضة الشعبية»

على صعيد آخر، برز اسم نواف سلام بشكل كبير إبان «الانتفاضة الشعبية» عام 2019 وتحديداً بعد استقالة رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري. ويومذاك طرح أفرقاء في المعارضة اسمه على أنه مرشح تسوية حيادي - تكنوقراط، إلا أن «الفيتو» الحاسم من قبل «الثنائي الشيعي» (حزب الله وحركة أمل)، وعدّه «مرشّح الولايات المتحدة»، مع ما رافق ذلك من حملات ضدّه، حالت دون وصوله إلى رئاسة الحكومة. مع هذا، حصل سلام حينئذٍ في الاستشارات النيابية على تأييد كل من كتلة «الحزب التقدمي الاشتراكي»، وحزب «الكتائب اللبنانية»، وعدد من النواب المستقلين، لكن «الفيتو» الشيعي ضده أدى إلى تكليف حسان دياب بترؤس الحكومة.

مع هذا، بعد استقالة حكومة دياب إثر انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2019، عاد فطرح اسم سلام لرئاسة الحكومة، لكن التوافق بين معظم الكتل النيابية، بدعم من المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أدى إلى تسمية السفير مصطفى أديب بحصوله على 90 صوتاً من النواب، لكن أديب اعتذر عن المهمة في وقت لاحق بعد اصطدام اتصالاته لتشكيل الحكومة بحائط مسدود.

وكان سلام، الذي التزم طوال هذه المرحلة الصمت قد عبّر عن تأثره بالثقة التي أولاها إياه عدد من النواب في الاستشارات النيابية الأولى، مؤكداً أن «حملة التشهير لم تستند أصلاً إلى أي دليل، فضلاً عن التزامي مبدأ التحفّظ لكوني اليوم قاضياً في محكمة العدل الدولية». ومن ثم تابع: «فيما لو صح شيء من هذه التهمة الباطلة، فلماذا سكتوا عنها طوال هذه السنين وأنا في هذا الموقع الحساس معيناً ممثلاً للبنان بإجماع مجلس الوزراء؟ وما يؤكد أيضا كذب كل هذه الافتراءات، هو أن مئات المواقف التي اتخذتها والخطب التي أدليت بها دفاعاً عن لبنان وقضايا العرب وفلسطين موثقة بالكامل».

وفيما يشبه «البرنامج الحكومي» شدد سلام على أن الهم الأساس هو «إنقاذ لبنان من محنته، وهذا يتطلب التغيير في مقاربة الأزمة نهجاً وممارسة، بدءاً بالإصلاح في السياسات المالية، والإصلاح السياسي الذي يبقى عنوانه الأول التصدي لعقلية الزبائنية وثقافة المحاصصة». كذلك شدد على أهمية «تحقيق استقلالية القضاء وتحصين مؤسسات الدولة ضد آفات الطائفية والمحسوبية.... ولا معنى لأي من هذه الإصلاحات إن لم تكن مرتكزة على أهداف ومبادئ الإنصاف والعدالة الاجتماعية وصيانة الحقوق والحريات العامة والخاصة». وتعهد بأنه سيبقى دائماً «يعمل إلى جانب كل الملتزمين قضية التغيير من أجل إصلاح الدولة وبسط سيادتها على كامل أراضيها واستعادة بلدنا موقعه ودوره العربي وثقة العالم به».



 


مقالات ذات صلة

تقرير: إسرائيل تطالب بإبعاد فرنسا عن اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان

المشرق العربي لبنانيون يشاهدون من جانب الطريق الدخان يتصاعد نتيجة قصف إسرائيلي على ضاحية بيروت الجنوبية (رويترز)

تقرير: إسرائيل تطالب بإبعاد فرنسا عن اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان

نشرت القناة 12 الإسرائيلية تفاصيل عما وصفته بأنه «النقاط العالقة» بين إسرائيل و«حزب الله» اللبناني للوصول إلى وقف لإطلاق النار.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي خلال زيارته وزارة الدفاع (حسابه عبر منصة إكس)

ميقاتي: اللبنانيون مصرون رغم كل الظروف على إحياء ذكرى استقلالهم

أكد رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي أن «اللبنانيين مصرون رغم كل الظروف على إحياء ذكرى استقلالهم لإيمانهم بما تحمل لهم من معاني الحرية والسيادة»

«الشرق الأوسط» (بيروت)
الخليج الشيخ محمد بن زايد آل نهيان والملك عبد الله الثاني بن الحسين ويظهر الشيخ عبد الله بن زايد وأيمن الصفدي وعدد من المسؤولين خلال اللقاء (وام)

تأكيد إماراتي أردني على أهمية تكثيف الجهود لوقف إطلاق النار في غزة ولبنان

الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات، بحث مع العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني بن الحسين، قضايا المنطقة والعلاقات الثنائية.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
المشرق العربي مسيّرة إسرائيليّة من نوع (هرمز 450)

«حزب الله» يعلن إسقاط مسيّرة إسرائيلية من طراز «هرمز 450» فوق الطيبة

أعلنت جماعة حزب الله اللبنانية، في ساعة مبكرة من صباح اليوم الثلاثاء، أنها أسقطت مسيرة إسرائيلية بصاروخ أرض-جو في جنوب لبنان.

«الشرق الأوسط» (هرمز 450)
المشرق العربي عناصر من خدمة الطوارئ الإسرائيلية في مكان سقوط مقذوف في حيفا أطلق من لبنان (رويترز)

الجيش الإسرائيلي: سقوط صواريخ أطلقها «حزب الله» على حيفا وتضرر كنيس

أعلن الجيش الإسرائيلي تضرر كنيس في «هجوم صاروخي كبير» شنه «حزب الله» اللبناني على مدينة حيفا (شمال غرب)؛ ما أسفر عن إصابة شخصين.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».