التجديد لـ«تشدد» أبو كيلة مؤشر لافت لأميركا اللاتينية

السلفادور حسمت معادلة «الأمان مقابل الحريات»

نجيب بو كيلة وزوجته يحييان مناصريه بعد فوزه الساحق (غيتي)
نجيب بو كيلة وزوجته يحييان مناصريه بعد فوزه الساحق (غيتي)
TT

التجديد لـ«تشدد» أبو كيلة مؤشر لافت لأميركا اللاتينية

نجيب بو كيلة وزوجته يحييان مناصريه بعد فوزه الساحق (غيتي)
نجيب بو كيلة وزوجته يحييان مناصريه بعد فوزه الساحق (غيتي)

مطالع القرن الماضي، وفي ذروة موجات الهجرة التي شهدتها بلدان المشرق العربي التي كانت ترزح تحت السيطرة العثمانية، غادر اومبرتو أبو كيلة سلمان مسقط رأسه، بلدة بيت لحم الفلسطينية، إلى السالفادور حيث استقر بعد إقامة قصيرة في نيكاراغوا المجاورة. وخلال سنوات من الوصول والاستقرار، تزوّج أرماندو من فيكتوريا قطّان، وهي أيضاً فلسطينية ومهاجرة من بيت لحم. وفي عام 1944 رزقا بمولودهما الأول أرماندو الذي أصبح، بعد تخرّجه في الجامعة، واحداً من أبرز رجال الأعمال في السالفادور، حيث أسّس مصنعاً للنسيج وشركات للأدوية والخدمات التسويقية. وفي عام 1992، وبعد اعتناقه الإسلام، بنى أرماندو أبو كيلة أول مسجد في السالفادور، وأصبح إماماً له وعضواً بارزاً في «رابطة المنظمات الإسلامية في أميركا اللاتينية وحوض البحر الكاريبي» التي صار رئيساً لها قبل وفاته عام 2015 بعد أيام من تدشينه خامس مسجد في العاصمة باسم «فلسطين الأرض المقدّسة». إلا أن أرماندو أبو كيلة لم يعش طويلاً ليرى أصغر أبنائه الخمسة، نجيب، الذي كان يتربّع على رأس بلدية العاصمة، يصل إلى سدة رئاسة الجمهورية وهو ما كان يزال في السابعة والثلاثين من عمره عام 2019. ويوم الأحد 4 فبراير (شباط) الفائت بالتوقيت المحلي، أعيد انتخاب نجيب (المعروف اسم عائلته اليوم بـ«بو كيلة») لولاية رئاسية ثانية بنسبة لم تعرفها السالفادور في أي انتخابات ديمقراطية في السابق، في حين تحوّل الرجل إلى ظاهرة إقليمية تسعى دول أخرى إلى الاقتداء بها لمعالجة المشاكل الأمنية المستعصية التي تعاني منها.

حشد من انصار الرئيس المجدّد يحتفلون فخورين .. ومرتدين ألوان حزبه (رويترز)

لم ينتظر نجيب أبو كيلة صدور النتائج الرسمية للانتخابات الرئاسية الأخيرة في السالفادور ليعلن فوزه الساحق، الذي حطم جميع الأرقام القياسية في تاريخ الأنظمة الديمقراطية في العالم مع نيل أبوكيلة ما يزيد على 85 في المائة من الأصوات. وبهذا الفوز الكبير جدّد الناخبون الولاية الرئاسية للرئيس الفلسطيني الأصل لخمس سنوات أخرى، وعد بأنها ستكون مرحلة الاستقرار والنمو الاقتصادي، وذلك بعدما اقتصرت ولايته الأولى تقريباً على قمع العصابات الإجرامية التي كانت تزرع الرعب وتقوّض سلطة الدولة في معظم أرجاء البلاد، وفي طليعتها العاصمة مدينة سان سالفادور.

تفويض كبير وحرية حركة

وإضافة إلى هذا الفوز غير المسبوق، الذي كان بمثابة «شهادة وفاة» لجميع أطياف المعارضة، حصد حزب «الأفكار الجديدة» (نويفاس إيدياس) الذي أسسه نجيب أبو كيلة منذ ست سنوات 58 مقعداً من أصل 60 في مجلس النواب، وهو ما سيسمح له بتمديد حالة الطوارئ الاستثنائية التي مكنّته من تفكيك المجموعات الإجرامية وزجّ أكثر من 70 ألفاً من أفرادها في السجون.

والحقيقة، أن فوز أبو كيلة لم يشكّل أي مفاجأة للمراقبين والمحللين، وذلك نظراً للشعبية العارمة التي بات يتمتع بها بعدما تمكّن إبان ولايته الأولى من خفض نسبة الجرائم والاغتيالات وعمليات الابتزاز إلى الحد الأدنى، لا، بل أخرج السالفادور من قائمة أخطر البلدان في العالم لتغدو البلد الأكثر أمناً في محيطها الإقليمي.

ولكن، في المقابل، بينما تنوّه الجهات الأمنية بفاعلية التدابير التي اتخذتها الحكومة لتفكيك العصابات التي كانت ترعب المواطنين منذ عقود، تشكو المنظمات الإنسانية من أن سياسة القمع والاعتقالات الجماعية من دون أدلّة اتهامية كافية تنتهك الحقوق الأساسية وتمنع أي اتصال بين المعتقلين وذويهم أو المحامين. وهي ترى أن الدخول إلى السجن الذي بناه أبو كيلة منذ سنتين ليصبح الأكبر في العالم يحصل بسهولة فائقة، بينما الخروج منه هو من «سابع المستحيلات».

تبرير السياسات الأمنية

مع هذا، لم تتأثر شعبية أبو كيلة بالانتقادات الموجهة ضد سياسته الأمنية المتشددة وتفرّده باتخاذ القرارات بأسلوب يتجاوز المؤسسات والأحكام الدستورية. وللعلم، تتوالى هذه الانتقادات منذ فترة في العديد من وسائل الإعلام الدولية، لكنه يعزوها دائماً إلى «عدو خارجي»، مثل المنظمات غير الحكومية التي يتهمها بالعمل لمصلحة «جهات مشبوهة» كـ«مؤسسة جورج سوروس» وبعض وسائل الإعلام والتيارات الليبرالية التي يطلق عليها مسمى «النخبة». وطبعاً، المفارقة هنا أن أبوكيلة نفسه نشأ في واحدة من أغنى العائلات في السالفادور.

في أي حال، يفاخر أبو كيلة بنتائج الاستطلاعات التي بيّنت عدة مرات أن المواطنين يعطون الأولوية للإنجازات الأمنية الباهرة التي تحققت خلال ولايته الأولى، حين صار بوسعهم التنقل بأمان من غير أن يتعرّضوا للعنف والابتزاز على يد العصابات الإجرامية.

وأيضاً، يدافع الرئيس المُجدَّدة ولايته عن سياسته الأمنية الصارمة بالقول «كانت السالفادور تعاني من سرطان تفشّى في 85 في المائة من أراضيها التي كانت تسيطر عليها العصابات وتفرض فيها سلطتها وقوانينها». ومن ثم يتابع: «لقد أجرينا عملية جراحية واسعة، ثم لجأنا إلى العلاج الكيميائي، فالإشعاعي... وسنخرج منه معافين من سرطان العصابات. عالجنا المرض الفتّاك، وأصبحنا اليوم على عتبة مرحلة الرفاه».

وفي كلمته الاحتفالية عند إعلان فوزه، مساء الأحد الفائت، وجّه أبو كيلة انتقادات مباشرة إلى صحيفتي «النيويورك تايمز» الأميركية و«الباييس» الإسبانية وكذلك شبكة «يونيفيزون» التي اتهمها بأنها لم تنقل الصورة الحقيقية لبلاده، وذكّر بالشعارات التي رفعها مؤيدوه في الحملة الانتخابية مثل «هو الذي أنقذنا من حكّام فاسدين ولصوص».

دائرة الرئيس الضيقة... وبدايته اليسارية

الواقع أنه منذ وصول تجيب أبوكيلة إلى الحكم للمرة الأولى، قبل خمس سنوات، وهو يدير السالفادور محاطاً بدائرة ضيّقة جداً من المستشارين والمساعدين الأمناء قوامها كريم وإبراهيم ويوسف، إخوته الثلاثة من أبيه الذي كان - إلى جانب أنشطته التجارية الواسعة ورئاسته الجالية المسلمة في السالفادور - يدير برنامجاً تلفزيونياً ثقافياً وسياسياً، ويملك شركة تقدم خدمات استشارية ولوجيستية للحزب اليساري الكبير «جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني».

وما يستحق الذكر هنا، أن ابنه نجيب بدأ في هذا الحزب اليساري مسيرته السياسية رئيساً لبلدية البلدة التي نشأ فيها، نويفو كوسكاتلان، القريبة من العاصمة سان سالفادور. ثم انتقل بعد ذلك إلى العاصمة التي تولّى رئاسة بلديتها وهو في الرابعة والثلاثين من عمره.

ولكن، عندما حاول نجيب الوصول إلى رئاسة ذلك حزب «جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني» جُوبه بمعارضة شديدة. وعندها قرّر تأسيس حزبه الخاص، الذي خاض به انتخابات عام 2019 الرئاسية التي فاز بها، ثم عاد ليحقق انتصاره الضخم في انتخابات الأحد الفائت. وعلى الرغم من أنه أعلن في مطلع العام الماضي، عند تعديل الدستور بما يسمح له بالترشّح لولاية ثانية على التوالي، بأنه لن يعدّله للترشّح مرة ثالثة، لا أحد يتوقع رؤيته خارجاً من القصر الرئاسي بعد خمس سنوات.

مسيرة مخطّط لها

في هذا السياق، يقول الذين رافقوا مسيرة نجيب أبو كيلة السياسية، منذ بدايتها في البلدة القريبة من العاصمة، إنه منذ ذلك اليوم كان قد وضع خطة متكاملة بعيدة الأمد للوصول حيث هو الآن. وبالتالي، فإن جميع تصرّفاته كانت تخضع لما تضمنته تلك الخطة التي كان محيطه العائلي وحفنة من أصدقائه المقرّبين يساعدونه على تنفيذها. لقد كانت جدران البلدة مطليّة باللون الأزرق الفاتح، الذي أصبح فيما بعد لون الحزب الجديد الذي أسّسه بعد انشقاقه عن الحزب اليساري.

أكثر من هذا، حسب مصادر مقربة ومطلعة، كانت انتقادات أبو كيلة القاسية لقيادات مخطّطة لدفع الحزب اليساري الكبير إلى طرده من صفوفه، وكانت الأحرف الأولى من اسمه على جميع الجدران في البلدة الصغيرة التي كان يتنقل فيها في موكب من السيارات الفخمة والحرّاس يحاكي مواكب رؤساء الدول الكبرى.

أيضاً، يذكر أحد جيران أبو كيلة - حينذاك - أنه كان يحرص بانتظام على مخاطبة تجمّع صغير من سكان البلدة كل أسبوع، كما لو أنه يحاضر في جامعة عريقة أو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مرتدياً الملابس الأنيقة، ومستخدماً عبارات ومصطلحات لا يفقه معظم سامعيه معانيها. ويضيف الجار: «كانوا مأخوذين بالمشهد الاستعراضي الذي كان يقدّمه لهم بمنتهى الاتقان كمن يتدرّب على مسرحية كبرى. كانوا ينظرون إليه بمزيج من الاندهاش والإعجاب».

من جانبها، تذكر الصحافية والكاتبة بياتريس كيسادا، التي وضعت أول سيرة للرئيس السالفادوري: «يؤكد الذين يعرفونه جيداً أن طموحه لا يعرف الحدود، وأنه كان يتصرّف منذ شبابه الأول على يقين بأن قدره مكتوب بأحرف من ذهب... أي أنه ليس مجرد رئيس لبلدية بلدة صغيرة، بل إن مصيره المحتوم هو الوصول إلى رئاسة الجمهورية».

كذلك، تنقل كيسادا عن أحد رفاقه السابقين في حزب «جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني»، الذي يُعد المعقل التقليدي لليسار الذي حكم البلاد لسنوات بعد الثورة، «... في الواقع كان (أبو كيلة) يحتقر الحزب، ويعتبر أن هيكليته بالية تديرها كوادر لا تتمتع بالكفاءة اللازمة... وفي الاجتماعات كان الرفاق يشعرون بالحرج والانزعاج كلما كان يتكلم إليهم بأسلوب من التعالي يقارب الاحتقار... كان هو الذئب ونحن كنّا النعاج، لكننا يومها لم نكن نعرف ذلك!».

دافع الرئيس المُجدَّدة ولايته عن سياسته الأمنية الصارمة بالقول «كانت السالفادور تعاني من سرطان تفشّى في 85 في المائة من أراضيها التي كانت تسيطر عليها العصابات وتفرض فيها سلطتها وقوانينها».

مرحلة فاصلة وتاريخية

بعد فوز أبو كيلة برئاسة بلدية العاصمة سان سالفادور، شعر الشاب الطموح جداً بأن ذلك المنصب - على أهميته - ما زال دون طموحاته التي كان يخطط لها منذ سنوات، وأن الوقت قد أزف للانتقال إلى المرحلة التالية والأخيرة، وهكذا قرر الترشّح للانتخابات الرئاسية في عام 2019.

عند هذه النقطة، رفض الحزب اليساري الكبير ترشيحه بحجة أنه ما زال شاباً لا يتمتع بالخبرة السياسية الكافية لتولي مثل هذا المنصب. فجاء رده بشن حملة ممنهجة ضد الحزب وقياداته... انتهت بقرار الطرد الذي كان ينتظره كذريعة لتأسيس الحزب الذي حمله بعد أشهر إلى الرئاسة.

ولكن عودة، إلى الانتخابات الأخيرة... إذ فور الإعلان عن فوز أبو كيلة توالت برقيات التهنئة من البلدان المجاورة في أميركا اللاتينية التي تحاول تطبيق وصفته لقمع ظاهرة العنف الذي يتفشّى على يد المنظمات الإجرامية والعصابات. وأيضاً جاءت تهنئة لافتة من الصين التي أضحت شريكاً تجارياً رئيسياً للسالفادور إبان ولايته الرئاسية الأولى، وموّلت أخيراً بناء مكتبة ضخمة وسط العاصمة. وجاء في برقية التهنئة الصينية: «إنه يوم مشهود في تاريخ السالفادور، التي نتطلع إلى توطيد العلاقات الثنائية معها على جميع المستويات».

ثم إنه عندما أطلّ بو كيلة من شرفة القصر الرئاسي برفقة زوجته قال: «لقد حطمّت السالفادور اليوم كل الأرقام القياسية بين جميع ديمقراطيات العالم على مرّ التاريخ... وهي أول مرة يقتصر فيها المشهد السياسي في نظام ديمقراطي على حزب واحد، وذلك بإرادة الشعب الحرة، بعدما انهارت كل أحزاب المعارضة مجتمعة».

تجربة برسم التعميم؟من ناحية أخرى، ورغم الصورة الشائعة عن أسلوب أبو كيلة الاستبدادي وجنوحه المفرط إلى تجاوز الأعراف والقوانين، يتوقع متابعون ومحللون أن يساهم هذا الفوز الساحق للرئيس السالفادوري بولايته الثانية، في تعميم تجربته الأمنية على الدول الأميركية اللاتينية التي تعاني من مشاكل الإجرام والعنف وتراجع سلطة الدولة في مناطق كثيرة منها. غير أنهم في الوقت ذاته يحذّرون من أن الاقتداء بهذا النموذج الأمني بغياب مجموعة من التدابير والإجراءات الفاعلة لاحترام حقوق الإنسان وحماية الحريات الأساسية، من شأنه أن يقوّض المؤسسات الديمقراطية الهشّة أصلاً في بلدان المنطقة.

وبالفعل، تخشى المنظمات الحقوقية، التي تراقب التجربة السالفادورية عن كثب، من أن استنساخها في بلدان المنطقة قد يكون فتيلاً يشعل صراعات اجتماعية دفينة تحت الرماد السياسي منذ سنوات، ويدفع باتجاه مرحلة قاتمة كلّف طي صفحتها عشرات الآلاف من الضحايا وخسائر مادية فادحة.

هذا، وتفيد الأرقام الرسمية أن عدد أفراد العصابات الإجرامية الذين اعتقلتهم أجهزة الأمن في السالفادور منذ أواسط عام 2022 يزيد على 76 الفاً، بينهم 1600 من القاصرين. أما المنظمات الحقوقية فتذكر أن ما لا يقلّ عن 15 في المائة من المعتقلين لا صلة لهم على الإطلاق بالعصابات، وأن كثيرين منهم تعرّضوا لسوء المعاملة وقضى العشرات منهم تحت التعذيب. وللعلم، تنصّ القوانين التي أقرّها البرلمان السالفادوري الموالي للرئيس على جواز المحاكمات الجماعية (تصل إلى 900 شخص) في جلسة واحدة ضمن إطار مكافحة العصابات، ومن دون الحاجة لإقامة أدلّة الاتهام أو القرائن الفردية.

وكان الرئيس أبو كيلة قد استبق إقرار ذلك القانون بتغيير أعضاء المحكمة العليا وتعويضهم بقضاة موالين له. كما أنه أعفى عشرات القضاة المستقلين من مهامهم، بينما كان يشنّ حملة شعواء ضد المنظمات غير الحكومية والصحافيين المستقلين الذين اضطر بعضهم إلى مغادرة البلاد.

ختاماً، ومهما كان من أمر، يعتقد كثيرون أن سياسة الرئيس السالفادوري الأمنية هي «السبيل الوحيد لمعالجة أزمة تفشي الإجرام والعنف» في المنطقة التي تُسمع في كثير من بلدانها أصوات تطالب برؤساء من طينة أبو كيلة، الذي أفاد مرصد الرأي العام في أميركا اللاتينية أخيراً بأنه «الأكثر شعبية منذ بداية مرحلة الانتقال إلى الأنظمة الديمقراطية في أميركا اللاتينية». يدافع الرئيس المُجدَّدة ولايته عن سياسته الأمنية الصارمة بالقول: «كانت السالفادور تعاني من سرطان تفشّى في 85 في المائة من أراضيها التي كانت تسيطر عليها العصابات وتفرض فيها سلطتها وقوانينها»

 

غوستافو بيترو (آ ف ب/غيتي)

ظاهرة العنف في أميركا اللاتينية... بانتظار علاجات ناجعة

> حسب أحدث إحصاءات الأمم المتحدة، سجـّلت دول أميركا اللاتينية وحوض البحر الكاريبي في عام 2021 أعلى معدلات الاغتيال في العالم (20 لكل مائة ألف مواطن)، وهو ما يعادل ضعفي المعدل الذي حددته «منظمة الصحة العالمية» مدخلاً لحالة «العنف المتوطِّن».ومن الحالات الجديدة الصارخة في المنطقة ما تشهده جمهورية الإكوادور، حيث تضاعفت نسبة العنف والاغتيالات في أقل من سنة، وبلغت أعمال الابتزاز مستويات قياسية، إلى جانب اعتداءات على نطاق واسع بالمتفجرات ومجازر في السجون واغتيالات لشخصيات سياسية وقضاة مستقلين.في كولومبيا، لم تنجح سياسة الرئيس غوستافو بيترو، حتى الآن، في خفض نسبة المجازر والاغتيالات وتجنيد الأطفال وأعمال الخطف على يد الجماعات المسلحة. وفي المكسيك، فشل الرئيس مانويل لوبيز أوبرادور في الحد من موجة العنف والقتل التي تروّع عدة ولايات منذ سنوات، وذلك على الرغم من لجوئه إلى القوات المسلحة لضبط الأمن وزيادة موازنة الأجهزة الأمنية.وفي هندوراس،

 

مانويل لوبيز اوبرادور (آ ف ب)

اضطرت الرئيسة شيونمارا كاسترو إلى طلب مساعدة الجيش لفرض هيبة القانون داخل السجون التي شهدت عمليات واسعة من التخريب والقتل. ولقد أفادت التقارير أخيراً بأن الرئيس الأرجنتيني الجديد خافيير ميلي أرسل موفداً خاصاً إلى السلفادور كلّفه دراسة النموذج الأمني الذي وضعه رئيسها نجيب بو كيلة.وفي سياق متصل، بينما يواصل الرئيس السلفادوري تسويق تجربته الأمنية التي يرتفع منسوب جاذبيتها بين بلدان المنطقة بارتفاع معدلات الإجرام والعنف فيها، أفادت وزارة العدل الأميركية بأن حكومة بو كيلة لجأت في مرحلة أولى إلى التفاوض سراً مع قيادات العصابات. ووفق الوزارة عرضت الحكومة السالفادورية على تلك القيادات معاملة تفضيلية وتسهيلات في السجون وحماية ضد تسليم أفرادها إلى الولايات المتحدة مقابل خفض معدلات العنف والإجرام ودعم الرئيس في الانتخابات، «ولكن عندما فشلت تلك المفاوضات أطلقت الحكومة خطتها الأمنية الراهنة».

شيومارا كاسترو (رويترز)

 


مقالات ذات صلة

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة جوية لمدينة هرجيسا (من منصة أكس)

«أرض الصومال»... إقليم «استراتيجي» يبحث عن هدف صعب

بين ليلة وضحاها، غزا إقليم «أرض الصومال» - «الصومال البريطاني» سابقاً - عناوين الأخبار، ودقّ ذاكرة المتابعين، إثر إعلان توقيعه مذكرة تفاهم تمنح إثيوبيا منفذاً

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.