التجديد لـ«تشدد» أبو كيلة مؤشر لافت لأميركا اللاتينية

السلفادور حسمت معادلة «الأمان مقابل الحريات»

نجيب بو كيلة وزوجته يحييان مناصريه بعد فوزه الساحق (غيتي)
نجيب بو كيلة وزوجته يحييان مناصريه بعد فوزه الساحق (غيتي)
TT

التجديد لـ«تشدد» أبو كيلة مؤشر لافت لأميركا اللاتينية

نجيب بو كيلة وزوجته يحييان مناصريه بعد فوزه الساحق (غيتي)
نجيب بو كيلة وزوجته يحييان مناصريه بعد فوزه الساحق (غيتي)

مطالع القرن الماضي، وفي ذروة موجات الهجرة التي شهدتها بلدان المشرق العربي التي كانت ترزح تحت السيطرة العثمانية، غادر اومبرتو أبو كيلة سلمان مسقط رأسه، بلدة بيت لحم الفلسطينية، إلى السالفادور حيث استقر بعد إقامة قصيرة في نيكاراغوا المجاورة. وخلال سنوات من الوصول والاستقرار، تزوّج أرماندو من فيكتوريا قطّان، وهي أيضاً فلسطينية ومهاجرة من بيت لحم. وفي عام 1944 رزقا بمولودهما الأول أرماندو الذي أصبح، بعد تخرّجه في الجامعة، واحداً من أبرز رجال الأعمال في السالفادور، حيث أسّس مصنعاً للنسيج وشركات للأدوية والخدمات التسويقية. وفي عام 1992، وبعد اعتناقه الإسلام، بنى أرماندو أبو كيلة أول مسجد في السالفادور، وأصبح إماماً له وعضواً بارزاً في «رابطة المنظمات الإسلامية في أميركا اللاتينية وحوض البحر الكاريبي» التي صار رئيساً لها قبل وفاته عام 2015 بعد أيام من تدشينه خامس مسجد في العاصمة باسم «فلسطين الأرض المقدّسة». إلا أن أرماندو أبو كيلة لم يعش طويلاً ليرى أصغر أبنائه الخمسة، نجيب، الذي كان يتربّع على رأس بلدية العاصمة، يصل إلى سدة رئاسة الجمهورية وهو ما كان يزال في السابعة والثلاثين من عمره عام 2019. ويوم الأحد 4 فبراير (شباط) الفائت بالتوقيت المحلي، أعيد انتخاب نجيب (المعروف اسم عائلته اليوم بـ«بو كيلة») لولاية رئاسية ثانية بنسبة لم تعرفها السالفادور في أي انتخابات ديمقراطية في السابق، في حين تحوّل الرجل إلى ظاهرة إقليمية تسعى دول أخرى إلى الاقتداء بها لمعالجة المشاكل الأمنية المستعصية التي تعاني منها.

حشد من انصار الرئيس المجدّد يحتفلون فخورين .. ومرتدين ألوان حزبه (رويترز)

لم ينتظر نجيب أبو كيلة صدور النتائج الرسمية للانتخابات الرئاسية الأخيرة في السالفادور ليعلن فوزه الساحق، الذي حطم جميع الأرقام القياسية في تاريخ الأنظمة الديمقراطية في العالم مع نيل أبوكيلة ما يزيد على 85 في المائة من الأصوات. وبهذا الفوز الكبير جدّد الناخبون الولاية الرئاسية للرئيس الفلسطيني الأصل لخمس سنوات أخرى، وعد بأنها ستكون مرحلة الاستقرار والنمو الاقتصادي، وذلك بعدما اقتصرت ولايته الأولى تقريباً على قمع العصابات الإجرامية التي كانت تزرع الرعب وتقوّض سلطة الدولة في معظم أرجاء البلاد، وفي طليعتها العاصمة مدينة سان سالفادور.

تفويض كبير وحرية حركة

وإضافة إلى هذا الفوز غير المسبوق، الذي كان بمثابة «شهادة وفاة» لجميع أطياف المعارضة، حصد حزب «الأفكار الجديدة» (نويفاس إيدياس) الذي أسسه نجيب أبو كيلة منذ ست سنوات 58 مقعداً من أصل 60 في مجلس النواب، وهو ما سيسمح له بتمديد حالة الطوارئ الاستثنائية التي مكنّته من تفكيك المجموعات الإجرامية وزجّ أكثر من 70 ألفاً من أفرادها في السجون.

والحقيقة، أن فوز أبو كيلة لم يشكّل أي مفاجأة للمراقبين والمحللين، وذلك نظراً للشعبية العارمة التي بات يتمتع بها بعدما تمكّن إبان ولايته الأولى من خفض نسبة الجرائم والاغتيالات وعمليات الابتزاز إلى الحد الأدنى، لا، بل أخرج السالفادور من قائمة أخطر البلدان في العالم لتغدو البلد الأكثر أمناً في محيطها الإقليمي.

ولكن، في المقابل، بينما تنوّه الجهات الأمنية بفاعلية التدابير التي اتخذتها الحكومة لتفكيك العصابات التي كانت ترعب المواطنين منذ عقود، تشكو المنظمات الإنسانية من أن سياسة القمع والاعتقالات الجماعية من دون أدلّة اتهامية كافية تنتهك الحقوق الأساسية وتمنع أي اتصال بين المعتقلين وذويهم أو المحامين. وهي ترى أن الدخول إلى السجن الذي بناه أبو كيلة منذ سنتين ليصبح الأكبر في العالم يحصل بسهولة فائقة، بينما الخروج منه هو من «سابع المستحيلات».

تبرير السياسات الأمنية

مع هذا، لم تتأثر شعبية أبو كيلة بالانتقادات الموجهة ضد سياسته الأمنية المتشددة وتفرّده باتخاذ القرارات بأسلوب يتجاوز المؤسسات والأحكام الدستورية. وللعلم، تتوالى هذه الانتقادات منذ فترة في العديد من وسائل الإعلام الدولية، لكنه يعزوها دائماً إلى «عدو خارجي»، مثل المنظمات غير الحكومية التي يتهمها بالعمل لمصلحة «جهات مشبوهة» كـ«مؤسسة جورج سوروس» وبعض وسائل الإعلام والتيارات الليبرالية التي يطلق عليها مسمى «النخبة». وطبعاً، المفارقة هنا أن أبوكيلة نفسه نشأ في واحدة من أغنى العائلات في السالفادور.

في أي حال، يفاخر أبو كيلة بنتائج الاستطلاعات التي بيّنت عدة مرات أن المواطنين يعطون الأولوية للإنجازات الأمنية الباهرة التي تحققت خلال ولايته الأولى، حين صار بوسعهم التنقل بأمان من غير أن يتعرّضوا للعنف والابتزاز على يد العصابات الإجرامية.

وأيضاً، يدافع الرئيس المُجدَّدة ولايته عن سياسته الأمنية الصارمة بالقول «كانت السالفادور تعاني من سرطان تفشّى في 85 في المائة من أراضيها التي كانت تسيطر عليها العصابات وتفرض فيها سلطتها وقوانينها». ومن ثم يتابع: «لقد أجرينا عملية جراحية واسعة، ثم لجأنا إلى العلاج الكيميائي، فالإشعاعي... وسنخرج منه معافين من سرطان العصابات. عالجنا المرض الفتّاك، وأصبحنا اليوم على عتبة مرحلة الرفاه».

وفي كلمته الاحتفالية عند إعلان فوزه، مساء الأحد الفائت، وجّه أبو كيلة انتقادات مباشرة إلى صحيفتي «النيويورك تايمز» الأميركية و«الباييس» الإسبانية وكذلك شبكة «يونيفيزون» التي اتهمها بأنها لم تنقل الصورة الحقيقية لبلاده، وذكّر بالشعارات التي رفعها مؤيدوه في الحملة الانتخابية مثل «هو الذي أنقذنا من حكّام فاسدين ولصوص».

دائرة الرئيس الضيقة... وبدايته اليسارية

الواقع أنه منذ وصول تجيب أبوكيلة إلى الحكم للمرة الأولى، قبل خمس سنوات، وهو يدير السالفادور محاطاً بدائرة ضيّقة جداً من المستشارين والمساعدين الأمناء قوامها كريم وإبراهيم ويوسف، إخوته الثلاثة من أبيه الذي كان - إلى جانب أنشطته التجارية الواسعة ورئاسته الجالية المسلمة في السالفادور - يدير برنامجاً تلفزيونياً ثقافياً وسياسياً، ويملك شركة تقدم خدمات استشارية ولوجيستية للحزب اليساري الكبير «جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني».

وما يستحق الذكر هنا، أن ابنه نجيب بدأ في هذا الحزب اليساري مسيرته السياسية رئيساً لبلدية البلدة التي نشأ فيها، نويفو كوسكاتلان، القريبة من العاصمة سان سالفادور. ثم انتقل بعد ذلك إلى العاصمة التي تولّى رئاسة بلديتها وهو في الرابعة والثلاثين من عمره.

ولكن، عندما حاول نجيب الوصول إلى رئاسة ذلك حزب «جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني» جُوبه بمعارضة شديدة. وعندها قرّر تأسيس حزبه الخاص، الذي خاض به انتخابات عام 2019 الرئاسية التي فاز بها، ثم عاد ليحقق انتصاره الضخم في انتخابات الأحد الفائت. وعلى الرغم من أنه أعلن في مطلع العام الماضي، عند تعديل الدستور بما يسمح له بالترشّح لولاية ثانية على التوالي، بأنه لن يعدّله للترشّح مرة ثالثة، لا أحد يتوقع رؤيته خارجاً من القصر الرئاسي بعد خمس سنوات.

مسيرة مخطّط لها

في هذا السياق، يقول الذين رافقوا مسيرة نجيب أبو كيلة السياسية، منذ بدايتها في البلدة القريبة من العاصمة، إنه منذ ذلك اليوم كان قد وضع خطة متكاملة بعيدة الأمد للوصول حيث هو الآن. وبالتالي، فإن جميع تصرّفاته كانت تخضع لما تضمنته تلك الخطة التي كان محيطه العائلي وحفنة من أصدقائه المقرّبين يساعدونه على تنفيذها. لقد كانت جدران البلدة مطليّة باللون الأزرق الفاتح، الذي أصبح فيما بعد لون الحزب الجديد الذي أسّسه بعد انشقاقه عن الحزب اليساري.

أكثر من هذا، حسب مصادر مقربة ومطلعة، كانت انتقادات أبو كيلة القاسية لقيادات مخطّطة لدفع الحزب اليساري الكبير إلى طرده من صفوفه، وكانت الأحرف الأولى من اسمه على جميع الجدران في البلدة الصغيرة التي كان يتنقل فيها في موكب من السيارات الفخمة والحرّاس يحاكي مواكب رؤساء الدول الكبرى.

أيضاً، يذكر أحد جيران أبو كيلة - حينذاك - أنه كان يحرص بانتظام على مخاطبة تجمّع صغير من سكان البلدة كل أسبوع، كما لو أنه يحاضر في جامعة عريقة أو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مرتدياً الملابس الأنيقة، ومستخدماً عبارات ومصطلحات لا يفقه معظم سامعيه معانيها. ويضيف الجار: «كانوا مأخوذين بالمشهد الاستعراضي الذي كان يقدّمه لهم بمنتهى الاتقان كمن يتدرّب على مسرحية كبرى. كانوا ينظرون إليه بمزيج من الاندهاش والإعجاب».

من جانبها، تذكر الصحافية والكاتبة بياتريس كيسادا، التي وضعت أول سيرة للرئيس السالفادوري: «يؤكد الذين يعرفونه جيداً أن طموحه لا يعرف الحدود، وأنه كان يتصرّف منذ شبابه الأول على يقين بأن قدره مكتوب بأحرف من ذهب... أي أنه ليس مجرد رئيس لبلدية بلدة صغيرة، بل إن مصيره المحتوم هو الوصول إلى رئاسة الجمهورية».

كذلك، تنقل كيسادا عن أحد رفاقه السابقين في حزب «جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني»، الذي يُعد المعقل التقليدي لليسار الذي حكم البلاد لسنوات بعد الثورة، «... في الواقع كان (أبو كيلة) يحتقر الحزب، ويعتبر أن هيكليته بالية تديرها كوادر لا تتمتع بالكفاءة اللازمة... وفي الاجتماعات كان الرفاق يشعرون بالحرج والانزعاج كلما كان يتكلم إليهم بأسلوب من التعالي يقارب الاحتقار... كان هو الذئب ونحن كنّا النعاج، لكننا يومها لم نكن نعرف ذلك!».

دافع الرئيس المُجدَّدة ولايته عن سياسته الأمنية الصارمة بالقول «كانت السالفادور تعاني من سرطان تفشّى في 85 في المائة من أراضيها التي كانت تسيطر عليها العصابات وتفرض فيها سلطتها وقوانينها».

مرحلة فاصلة وتاريخية

بعد فوز أبو كيلة برئاسة بلدية العاصمة سان سالفادور، شعر الشاب الطموح جداً بأن ذلك المنصب - على أهميته - ما زال دون طموحاته التي كان يخطط لها منذ سنوات، وأن الوقت قد أزف للانتقال إلى المرحلة التالية والأخيرة، وهكذا قرر الترشّح للانتخابات الرئاسية في عام 2019.

عند هذه النقطة، رفض الحزب اليساري الكبير ترشيحه بحجة أنه ما زال شاباً لا يتمتع بالخبرة السياسية الكافية لتولي مثل هذا المنصب. فجاء رده بشن حملة ممنهجة ضد الحزب وقياداته... انتهت بقرار الطرد الذي كان ينتظره كذريعة لتأسيس الحزب الذي حمله بعد أشهر إلى الرئاسة.

ولكن عودة، إلى الانتخابات الأخيرة... إذ فور الإعلان عن فوز أبو كيلة توالت برقيات التهنئة من البلدان المجاورة في أميركا اللاتينية التي تحاول تطبيق وصفته لقمع ظاهرة العنف الذي يتفشّى على يد المنظمات الإجرامية والعصابات. وأيضاً جاءت تهنئة لافتة من الصين التي أضحت شريكاً تجارياً رئيسياً للسالفادور إبان ولايته الرئاسية الأولى، وموّلت أخيراً بناء مكتبة ضخمة وسط العاصمة. وجاء في برقية التهنئة الصينية: «إنه يوم مشهود في تاريخ السالفادور، التي نتطلع إلى توطيد العلاقات الثنائية معها على جميع المستويات».

ثم إنه عندما أطلّ بو كيلة من شرفة القصر الرئاسي برفقة زوجته قال: «لقد حطمّت السالفادور اليوم كل الأرقام القياسية بين جميع ديمقراطيات العالم على مرّ التاريخ... وهي أول مرة يقتصر فيها المشهد السياسي في نظام ديمقراطي على حزب واحد، وذلك بإرادة الشعب الحرة، بعدما انهارت كل أحزاب المعارضة مجتمعة».

تجربة برسم التعميم؟من ناحية أخرى، ورغم الصورة الشائعة عن أسلوب أبو كيلة الاستبدادي وجنوحه المفرط إلى تجاوز الأعراف والقوانين، يتوقع متابعون ومحللون أن يساهم هذا الفوز الساحق للرئيس السالفادوري بولايته الثانية، في تعميم تجربته الأمنية على الدول الأميركية اللاتينية التي تعاني من مشاكل الإجرام والعنف وتراجع سلطة الدولة في مناطق كثيرة منها. غير أنهم في الوقت ذاته يحذّرون من أن الاقتداء بهذا النموذج الأمني بغياب مجموعة من التدابير والإجراءات الفاعلة لاحترام حقوق الإنسان وحماية الحريات الأساسية، من شأنه أن يقوّض المؤسسات الديمقراطية الهشّة أصلاً في بلدان المنطقة.

وبالفعل، تخشى المنظمات الحقوقية، التي تراقب التجربة السالفادورية عن كثب، من أن استنساخها في بلدان المنطقة قد يكون فتيلاً يشعل صراعات اجتماعية دفينة تحت الرماد السياسي منذ سنوات، ويدفع باتجاه مرحلة قاتمة كلّف طي صفحتها عشرات الآلاف من الضحايا وخسائر مادية فادحة.

هذا، وتفيد الأرقام الرسمية أن عدد أفراد العصابات الإجرامية الذين اعتقلتهم أجهزة الأمن في السالفادور منذ أواسط عام 2022 يزيد على 76 الفاً، بينهم 1600 من القاصرين. أما المنظمات الحقوقية فتذكر أن ما لا يقلّ عن 15 في المائة من المعتقلين لا صلة لهم على الإطلاق بالعصابات، وأن كثيرين منهم تعرّضوا لسوء المعاملة وقضى العشرات منهم تحت التعذيب. وللعلم، تنصّ القوانين التي أقرّها البرلمان السالفادوري الموالي للرئيس على جواز المحاكمات الجماعية (تصل إلى 900 شخص) في جلسة واحدة ضمن إطار مكافحة العصابات، ومن دون الحاجة لإقامة أدلّة الاتهام أو القرائن الفردية.

وكان الرئيس أبو كيلة قد استبق إقرار ذلك القانون بتغيير أعضاء المحكمة العليا وتعويضهم بقضاة موالين له. كما أنه أعفى عشرات القضاة المستقلين من مهامهم، بينما كان يشنّ حملة شعواء ضد المنظمات غير الحكومية والصحافيين المستقلين الذين اضطر بعضهم إلى مغادرة البلاد.

ختاماً، ومهما كان من أمر، يعتقد كثيرون أن سياسة الرئيس السالفادوري الأمنية هي «السبيل الوحيد لمعالجة أزمة تفشي الإجرام والعنف» في المنطقة التي تُسمع في كثير من بلدانها أصوات تطالب برؤساء من طينة أبو كيلة، الذي أفاد مرصد الرأي العام في أميركا اللاتينية أخيراً بأنه «الأكثر شعبية منذ بداية مرحلة الانتقال إلى الأنظمة الديمقراطية في أميركا اللاتينية». يدافع الرئيس المُجدَّدة ولايته عن سياسته الأمنية الصارمة بالقول: «كانت السالفادور تعاني من سرطان تفشّى في 85 في المائة من أراضيها التي كانت تسيطر عليها العصابات وتفرض فيها سلطتها وقوانينها»

 

غوستافو بيترو (آ ف ب/غيتي)

ظاهرة العنف في أميركا اللاتينية... بانتظار علاجات ناجعة

> حسب أحدث إحصاءات الأمم المتحدة، سجـّلت دول أميركا اللاتينية وحوض البحر الكاريبي في عام 2021 أعلى معدلات الاغتيال في العالم (20 لكل مائة ألف مواطن)، وهو ما يعادل ضعفي المعدل الذي حددته «منظمة الصحة العالمية» مدخلاً لحالة «العنف المتوطِّن».ومن الحالات الجديدة الصارخة في المنطقة ما تشهده جمهورية الإكوادور، حيث تضاعفت نسبة العنف والاغتيالات في أقل من سنة، وبلغت أعمال الابتزاز مستويات قياسية، إلى جانب اعتداءات على نطاق واسع بالمتفجرات ومجازر في السجون واغتيالات لشخصيات سياسية وقضاة مستقلين.في كولومبيا، لم تنجح سياسة الرئيس غوستافو بيترو، حتى الآن، في خفض نسبة المجازر والاغتيالات وتجنيد الأطفال وأعمال الخطف على يد الجماعات المسلحة. وفي المكسيك، فشل الرئيس مانويل لوبيز أوبرادور في الحد من موجة العنف والقتل التي تروّع عدة ولايات منذ سنوات، وذلك على الرغم من لجوئه إلى القوات المسلحة لضبط الأمن وزيادة موازنة الأجهزة الأمنية.وفي هندوراس،

 

مانويل لوبيز اوبرادور (آ ف ب)

اضطرت الرئيسة شيونمارا كاسترو إلى طلب مساعدة الجيش لفرض هيبة القانون داخل السجون التي شهدت عمليات واسعة من التخريب والقتل. ولقد أفادت التقارير أخيراً بأن الرئيس الأرجنتيني الجديد خافيير ميلي أرسل موفداً خاصاً إلى السلفادور كلّفه دراسة النموذج الأمني الذي وضعه رئيسها نجيب بو كيلة.وفي سياق متصل، بينما يواصل الرئيس السلفادوري تسويق تجربته الأمنية التي يرتفع منسوب جاذبيتها بين بلدان المنطقة بارتفاع معدلات الإجرام والعنف فيها، أفادت وزارة العدل الأميركية بأن حكومة بو كيلة لجأت في مرحلة أولى إلى التفاوض سراً مع قيادات العصابات. ووفق الوزارة عرضت الحكومة السالفادورية على تلك القيادات معاملة تفضيلية وتسهيلات في السجون وحماية ضد تسليم أفرادها إلى الولايات المتحدة مقابل خفض معدلات العنف والإجرام ودعم الرئيس في الانتخابات، «ولكن عندما فشلت تلك المفاوضات أطلقت الحكومة خطتها الأمنية الراهنة».

شيومارا كاسترو (رويترز)

 


مقالات ذات صلة

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)
حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».