جوزيف بواكاي... المُعارض الذي أطاح جورج وياه من رئاسة ليبيريا

سياسي مخضرم تعهّد حماية البلاد من «السقوط»

 أشرف على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا
أشرف على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا
TT

جوزيف بواكاي... المُعارض الذي أطاح جورج وياه من رئاسة ليبيريا

 أشرف على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا
أشرف على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا

رافعاً شعار «أحبوا ليبيريا... ابنوا ليبيريا»، يعود السياسي المعارض جوزيف بواكاي (78 سنة)، في يناير (كانون الثاني) المقبل، إلى قصر الرئاسة في العاصمة الليببيرية مونروفيا. إلا أنه، هذه المرة، عائد رئيساً للجمهورية، لا نائباً للرئيس كما كان قبل ست سنوات مضت. وقد حقق بواكاي هذا الإنجاز على أثر تمكنه أخيراً من الفوز في الانتخابات على مُنافسه الرئيس جورج وياه (57 سنة)، نجم كرة القدم المحترف العالمي السابق الذي سبق أن فاز بـ«الكرة الذهبية»، وكان من أبرز نجوم الكرة الأوروبية خلال تسعينات القرن الماضي.

اعتاد جوزيف بواكاي الظهور في المؤتمرات العامة معتمراً قبعة، وعيناه شبه مغلقتين. وقد رصدته الكاميرات غافياً في بعض الفعاليات، حتى لقّب بـ«جو النائم»، وهو اللقب الذي كان قد ردّده الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب عن غريمه السابق والرئيس الحالي جو بايدن.

وكحال بايدن، يعزو منتقدو بواكاي ذلك إلى كبر سنه، إذ إنه شارف على الثمانين. لكن الرئيس الجديد ونائب السابق - وهنا مفارقة أخرى تُذكّر بالرئيس الأميركي - يرى أن العمر «نعمة»، متعهداً بأنه قادر على «استعادة الأمل لبلاده، وحمايتها من السقوط في الهاوية».

حول تجربة وياه

قبل ست سنوات تغلّب النجم الكُروي اللامع وياه على بواكاي، حاملاً لجمهوره آمالاً كبيرة في ظل ما يحظى به من شهرة ومجد. إلا أن فترة حكمه شابتها اتهامات بالفساد والفوضى الإدارية، مما أسهم في خسارته الانتخابات الأخيرة أمام بواكاي، ولو بفارق ضئيل، ومن ثم بات بواكاي مطالباً بإصلاح الأخطاء وحماية ليبيريا من الانزلاق إلى حرب أهلية جديدة، ولا سيما وسط حالة الانقسام الشديد التي بيّنتها نتائج الانتخابات، فقد حصل بواكاي على 50.64 في المائة من الأصوات، مقارنة بـ49.36 في المائة لصالح وياه.

حالة الانقسام هذه دفعت الرئيس المنتخب - قبيل إعلان النتيجة الرسمية - إلى التعهد بأنه سيركز، خلال الفترة الأولى من حكمه، على توحيد البلاد. ويضيف: «قبل كل شيء، نريد أن تكون لدينا رسالة سلام ومصالحة».

وحقاً، يواجه بواكاي تحديات عدة لإعادة بناء ليبيريا، الجمهورية الأقدم في أفريقيا، التي أُسست على يد مجموعة من المحرّرين من العبودية الأميركية عام 1847. ومع هذا، فإن كثيرين يُعوّلون على خبرته السياسية؛ كونه سبق أن شغل منصب النائب الـ29 لرئيس ليبيريا، في الفترة بين عاميْ 2006 و2017، إبان حكم إلين جونسون سيرليف، أول رئيسة دولة بأفريقيا.

نشأة متواضعة

كانت نشأة جو بواكاي، أو جوزيف نيوماه بواكاي، «متواضعة»، ولا سيما أنه بدأ حياته في قرية نائية بليبيريا تُدعى واسونغا، تابعة لمقاطعة لوفا. ويَعد بواكاي صعوده إلى مكانة بارزة على المستوى الوطني «قصة ملهمة لأي طفل أفريقي»، كما يذكر على موقعه الإلكتروني الرسمي، حيث وُلد في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1944، لأبوين ريفيين فقيرين يعيشان في قرية نائية وينتميان لشعب الكيسي الذي يمتدُّ عبر حدود ليبيريا إلى سيراليون وغينيا المجاورتين.

وبينما لم يعرف والداه القراءة والكتابة، حرص جو منذ الصغر على التعليم، وكان يقطع يومياً مسافة 300 ميل ذهاباً وإياباً إلى المدرسة من واسونغا إلى العاصمة مونروفيا. وفي إحدى مقابلاته الإذاعية قال إنه كان يقطع تلك المسافة «بحثاً عن حياة أفضل».

وبالفعل، إبّان طفولته، عمل بواكاي في عدة مهن لمساعدة أسرته، قبل أن يستقر في مونروفيا لاستكمال تعليمه، وهو واحد من الأطفال محدودي الإمكانيات المادية، لذا انتقل من منزل أسرة لآخر حتى تمكن من الالتحاق بكلية غرب أفريقيا. ونقلت «رويترز» عن المتحدث باسم حملته الانتخابية، عمارة كونيه، أنه «لتأمين رسوم الدراسة في تلك الفترة، عمل بوّاباً للمدرسة، وكان ينظف الأرضيات والمراحيض ليلاً ويدرس نهاراً».

نجاح علمي وعملي

تخرَّج بواكاي لاحقاً في جامعة ليبيريا بدرجة البكالوريوس في إدارة الأعمال. وخلال الإجازات، كان يبقى في السكن الجامعي للعمل على توفير احتياجاته المدرسية للفصل الدراسي التالي. كذلك درس وتخرج في جامعة كنزاس الحكومية «Kansas State University» الأميركية.

وظيفياً تدرّج بواكاي في وظائف عدة، منها العمل بشركة تسويق، سرعان ما ترقّى لإدارتها بوصفه أول ليبيري يتولى منصب مدير الشركة؛ وذلك بفضل نجاحه في بعض المشروعات، منها دعم تمكين مزارعي الكاكاو والبن ونخيل الزيت وتحسين دخلهم.

كفاءاته الشخصية والمهنية، مضافاً إليهما اهتمامه بالزراعة، كانت عوامل أهّلت بواكاي لتولّي منصب وزير الزراعة في الثمانينات من القرن الماضي، في فترة حكم صامويل إدو، الذي تولّى الحكم على أثر انقلاب عسكري. وكان أحد أبرز مشروعاته في تلك الفترة الإشراف على شق طريق جديدة وتمويلها في واحدة من القرى القديمة بطول 11.2 كيلومتر، كما شارك مع آخرين في بناء مدرسة لتعليم 150 طفلاً، إضافة إلى عيادة طبية لخدمة 10 قرى.

وأشرف بواكاي أيضاً على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة، من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويُعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا، ولا سيما أن نسبة عالية من السكان يعملون في الزراعة.

وفي عام 1991، شغل بواكاي منصب المدير الإداري للشركة الليبيرية لتكرير البترول «LPRC» في ظل حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، التي أدارت البلاد إبان فترة الحرب الأهلية الأولى.

لكنه عقب الإطاحة بتلك الحكومة، توجه للعمل الخاص، وكثرت سفرياته إلى الخارج، وأمضى بعض الوقت في غانا. لكنه، في موطنه، يسكن في منزل بسيط لم يتغير منذ نحو 50 سنة، وهو متزوج، ولديه أربعة أبناء.

الحياة السياسية

يُعدّ جوزيف بواكاي من قيادات المعارضة البارزين في ليبيريا، وتتلخص رؤيته للقيادة، وفق قوله في أحد خطاباته، في «إيمانه بأن أداء الخدمات على أعلى مستوى أمر واجب». وبعد استقرار الأوضاع في البلاد، وعودة السلام إلى ربوعها بانتهاء الحرب الأهلية، انتُخب عام 2005 نائباً لرئيسة الجمهورية إيلين جونسون سيرليف، وهو المنصب الذي شغله لمدة 12 سنة.

هذه الخبرة في مجالي السياسة والإدارة يشجع المراقبين على توقع قدرته على الحكم بفاعلية، ثم إن هذه الخبرة كانت الركيزة التي اعتمد عليها بواكاي إبان حملته الانتخابية الأخيرة، وحتى في الانتخابات الرئاسية السابقة التي خسرها أمام جورج وياه عام 2017 في جولة الإعادة وبفارق ضئيل، حيث قال، في مقابلة تلفزيونية آنذاك، إنه «آتٍ ومعه ثروة من الخبرة... لماذا نطلب من أحد أن يتعلّم الوظيفة؟».

في هذا الإطار، يشير بواكاي كثيراً إلى فترة تولّيه منصب نائب الرئيس ومشاركته في عملية إرساء السلام بليبيريا، ووضعها على الطريق الصحيح، بعد فترة طويلة من الصراعات. ويذكر موقعه الإلكتروني الرسمي 58 إنجازاً طوال تاريخه العملي والسياسي، يُعدّ أكبرها «قدرته على الحفاظ على فترة سلام بعد 15 سنة من الحرب الأهلية».

في تلك الفترة عُرف بواكاي بالشخص الملازم والمخلص لرئيسة الجمهورية. ولعلّ هذا ما دفعه إلى خوض الانتخابات عام 2017، حين كان يصف نفسه آنذاك بأنه «سيارة سباق تصطفُّ في المرآب»، ثم يكرر خوض السباق مرة أخرى ضد منافسه وياه، ولا سيما مع ما شهدته فترة حكمه من مشكلات. والواقع أنه عندما أعلن ترشحه قال إنه يترشح اقتناعاً بأن «ليبيريا ليست دولة فقيرة، لكن مشكلتها الدائمة ترجع أساساً إلى افتقارها لقيادة سليمة ونزيهة».

الزراعة... أساساً

جوزيف بواكاي يَعدّ نفسه في مهمة هي «ضمان استعادة الصورة المفقودة لليبيريا». وقد ركّز في حملته الانتخابية على الزراعة، وفي أحد الحوارات الإعلامية قبل الانتخابات قال إنه «ينوي التركيز على محاربة الفساد وتعزيز الإنتاج الزراعي لتقليل تكلفة الطعام، إضافة إلى إصلاح الطرق». وتعهّد بتسليط سيفه على الفساد. وبين وعوده، خلال المائة يوم الأولى من حكمه، «التأكد من أنه لا توجد مركبة في الوحل»، معتبراً ذلك عاملاً مؤثراً على أسعار السلع الغذائية، ولا سيما مع زيادة تكلفة النقل في الطرق الموحِلة.

في هذا الشأن، يرى بواكاي أن الإمكانيات الزراعية لبلاده «واعدة»، لكن المشكلة كانت في سوء الإدارة، وهو رغم اعترافه بمشقة الرحلة الرئاسية، يقول إنه «عازم على مساعدة ملايين الليبيريين الذين تُركوا في مواجهة الفقر والمرض والجهل وانعدام الأمن».

من وجهة نظر داعميه، فإن ليبيريا تحتاج الآن إلى «عمله الجاد وخبرته»، بعد سنوات من حكم وياه شابتها الفوضى الإدارية. ويرى هؤلاء أن «حياته الخالية من الفضائح وسلوكه الهادئ يُعدّان الترياق الواقي من فترة حكم وياه».

من ناحية أخرى، مع أن معدل النمو الاقتصادي في ليبيريا بلغ، عام 2022، نحو 4.8 في المائة، فإن أكثر من 80 في المائة من سكان البلاد الواقعة غرب أفريقيا، يواجهون نقصاً في الأمن الغذائي، وفق بيانات «البنك الدولي». كذلك ترتفع نسب البطالة وتعاطي المخدرات بين الشباب، ولا يمكن الاعتماد على إمدادات الطاقة في جميع أنحاء الريف المكسوّ بالغابات. وللعلم، في العام الماضي، احتلت ليبيريا المرتبة 142 بين 180 دولة في مؤشر الفساد الذي تُصدره «منظمة الشفافية الدولية».

كل هذه المشكلات تتربع على جدول أعمال بواكاي، الذي سيركز على ملفات التعليم والصحة والاقتصاد، بجانب الزراعة. وكما يقول ناطق باسم حملته: «سيعطي بواكاي الشعب الأمل، سيصلح الاقتصاد لتتحسن حياة كل فرد».

عامل السن

على صعيد مختلف، فور إعلان فوز الرئيس الجديد بالانتخابات، سارع عدد من الرؤساء والملوك إلى تهنئته، يتقدمهم الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي قال، في بيان صحافي: «أظهرت الانتخابات الحرة والنزيهة التزام الليبيريين بإسماع أصواتهم عبر صناديق الاقتراع... أتطلع للعمل معاً لتعميق العلاقات».

ولكن، في حقيقة الأمر، يثير سن بواكاي مخاوف لدى بعض منتقديه، الذين يعتبرون ذلك عقبة في إدارة بلد 60 في المائة من سكانه تحت 25 سنة. إلا أنه ردّ على ذلك، عدة مرات، خلال الحملة. وفي المقابل، يشدّد مؤيدوه على نزاهته وخبرته في محاربة الفساد، «وهو الذي عُرف عنه الدفاع عن النزاهة العامة»، ذلك أنه قال، في إحدى مقابلاته التلفزيونية: «الفساد بكل مظاهره يؤدي إلى التخلف والحرمان، وهذا ما يجب على القادة الأفارقة محاربته».اليوم، بعد انتهاء الكلام، يترقب الشعب الليبيري ما سيفعله بواكاي، آملين أن يخلصهم من عهود الفوضى والفساد، وأن يحافظ على البلاد؛ حتى لا تنزلق إلى هوة الحرب الأهلية من جديد.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.