جوزيف بواكاي... المُعارض الذي أطاح جورج وياه من رئاسة ليبيريا

سياسي مخضرم تعهّد حماية البلاد من «السقوط»

 أشرف على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا
أشرف على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا
TT

جوزيف بواكاي... المُعارض الذي أطاح جورج وياه من رئاسة ليبيريا

 أشرف على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا
أشرف على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا

رافعاً شعار «أحبوا ليبيريا... ابنوا ليبيريا»، يعود السياسي المعارض جوزيف بواكاي (78 سنة)، في يناير (كانون الثاني) المقبل، إلى قصر الرئاسة في العاصمة الليببيرية مونروفيا. إلا أنه، هذه المرة، عائد رئيساً للجمهورية، لا نائباً للرئيس كما كان قبل ست سنوات مضت. وقد حقق بواكاي هذا الإنجاز على أثر تمكنه أخيراً من الفوز في الانتخابات على مُنافسه الرئيس جورج وياه (57 سنة)، نجم كرة القدم المحترف العالمي السابق الذي سبق أن فاز بـ«الكرة الذهبية»، وكان من أبرز نجوم الكرة الأوروبية خلال تسعينات القرن الماضي.

اعتاد جوزيف بواكاي الظهور في المؤتمرات العامة معتمراً قبعة، وعيناه شبه مغلقتين. وقد رصدته الكاميرات غافياً في بعض الفعاليات، حتى لقّب بـ«جو النائم»، وهو اللقب الذي كان قد ردّده الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب عن غريمه السابق والرئيس الحالي جو بايدن.

وكحال بايدن، يعزو منتقدو بواكاي ذلك إلى كبر سنه، إذ إنه شارف على الثمانين. لكن الرئيس الجديد ونائب السابق - وهنا مفارقة أخرى تُذكّر بالرئيس الأميركي - يرى أن العمر «نعمة»، متعهداً بأنه قادر على «استعادة الأمل لبلاده، وحمايتها من السقوط في الهاوية».

حول تجربة وياه

قبل ست سنوات تغلّب النجم الكُروي اللامع وياه على بواكاي، حاملاً لجمهوره آمالاً كبيرة في ظل ما يحظى به من شهرة ومجد. إلا أن فترة حكمه شابتها اتهامات بالفساد والفوضى الإدارية، مما أسهم في خسارته الانتخابات الأخيرة أمام بواكاي، ولو بفارق ضئيل، ومن ثم بات بواكاي مطالباً بإصلاح الأخطاء وحماية ليبيريا من الانزلاق إلى حرب أهلية جديدة، ولا سيما وسط حالة الانقسام الشديد التي بيّنتها نتائج الانتخابات، فقد حصل بواكاي على 50.64 في المائة من الأصوات، مقارنة بـ49.36 في المائة لصالح وياه.

حالة الانقسام هذه دفعت الرئيس المنتخب - قبيل إعلان النتيجة الرسمية - إلى التعهد بأنه سيركز، خلال الفترة الأولى من حكمه، على توحيد البلاد. ويضيف: «قبل كل شيء، نريد أن تكون لدينا رسالة سلام ومصالحة».

وحقاً، يواجه بواكاي تحديات عدة لإعادة بناء ليبيريا، الجمهورية الأقدم في أفريقيا، التي أُسست على يد مجموعة من المحرّرين من العبودية الأميركية عام 1847. ومع هذا، فإن كثيرين يُعوّلون على خبرته السياسية؛ كونه سبق أن شغل منصب النائب الـ29 لرئيس ليبيريا، في الفترة بين عاميْ 2006 و2017، إبان حكم إلين جونسون سيرليف، أول رئيسة دولة بأفريقيا.

نشأة متواضعة

كانت نشأة جو بواكاي، أو جوزيف نيوماه بواكاي، «متواضعة»، ولا سيما أنه بدأ حياته في قرية نائية بليبيريا تُدعى واسونغا، تابعة لمقاطعة لوفا. ويَعد بواكاي صعوده إلى مكانة بارزة على المستوى الوطني «قصة ملهمة لأي طفل أفريقي»، كما يذكر على موقعه الإلكتروني الرسمي، حيث وُلد في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1944، لأبوين ريفيين فقيرين يعيشان في قرية نائية وينتميان لشعب الكيسي الذي يمتدُّ عبر حدود ليبيريا إلى سيراليون وغينيا المجاورتين.

وبينما لم يعرف والداه القراءة والكتابة، حرص جو منذ الصغر على التعليم، وكان يقطع يومياً مسافة 300 ميل ذهاباً وإياباً إلى المدرسة من واسونغا إلى العاصمة مونروفيا. وفي إحدى مقابلاته الإذاعية قال إنه كان يقطع تلك المسافة «بحثاً عن حياة أفضل».

وبالفعل، إبّان طفولته، عمل بواكاي في عدة مهن لمساعدة أسرته، قبل أن يستقر في مونروفيا لاستكمال تعليمه، وهو واحد من الأطفال محدودي الإمكانيات المادية، لذا انتقل من منزل أسرة لآخر حتى تمكن من الالتحاق بكلية غرب أفريقيا. ونقلت «رويترز» عن المتحدث باسم حملته الانتخابية، عمارة كونيه، أنه «لتأمين رسوم الدراسة في تلك الفترة، عمل بوّاباً للمدرسة، وكان ينظف الأرضيات والمراحيض ليلاً ويدرس نهاراً».

نجاح علمي وعملي

تخرَّج بواكاي لاحقاً في جامعة ليبيريا بدرجة البكالوريوس في إدارة الأعمال. وخلال الإجازات، كان يبقى في السكن الجامعي للعمل على توفير احتياجاته المدرسية للفصل الدراسي التالي. كذلك درس وتخرج في جامعة كنزاس الحكومية «Kansas State University» الأميركية.

وظيفياً تدرّج بواكاي في وظائف عدة، منها العمل بشركة تسويق، سرعان ما ترقّى لإدارتها بوصفه أول ليبيري يتولى منصب مدير الشركة؛ وذلك بفضل نجاحه في بعض المشروعات، منها دعم تمكين مزارعي الكاكاو والبن ونخيل الزيت وتحسين دخلهم.

كفاءاته الشخصية والمهنية، مضافاً إليهما اهتمامه بالزراعة، كانت عوامل أهّلت بواكاي لتولّي منصب وزير الزراعة في الثمانينات من القرن الماضي، في فترة حكم صامويل إدو، الذي تولّى الحكم على أثر انقلاب عسكري. وكان أحد أبرز مشروعاته في تلك الفترة الإشراف على شق طريق جديدة وتمويلها في واحدة من القرى القديمة بطول 11.2 كيلومتر، كما شارك مع آخرين في بناء مدرسة لتعليم 150 طفلاً، إضافة إلى عيادة طبية لخدمة 10 قرى.

وأشرف بواكاي أيضاً على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة، من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويُعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا، ولا سيما أن نسبة عالية من السكان يعملون في الزراعة.

وفي عام 1991، شغل بواكاي منصب المدير الإداري للشركة الليبيرية لتكرير البترول «LPRC» في ظل حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، التي أدارت البلاد إبان فترة الحرب الأهلية الأولى.

لكنه عقب الإطاحة بتلك الحكومة، توجه للعمل الخاص، وكثرت سفرياته إلى الخارج، وأمضى بعض الوقت في غانا. لكنه، في موطنه، يسكن في منزل بسيط لم يتغير منذ نحو 50 سنة، وهو متزوج، ولديه أربعة أبناء.

الحياة السياسية

يُعدّ جوزيف بواكاي من قيادات المعارضة البارزين في ليبيريا، وتتلخص رؤيته للقيادة، وفق قوله في أحد خطاباته، في «إيمانه بأن أداء الخدمات على أعلى مستوى أمر واجب». وبعد استقرار الأوضاع في البلاد، وعودة السلام إلى ربوعها بانتهاء الحرب الأهلية، انتُخب عام 2005 نائباً لرئيسة الجمهورية إيلين جونسون سيرليف، وهو المنصب الذي شغله لمدة 12 سنة.

هذه الخبرة في مجالي السياسة والإدارة يشجع المراقبين على توقع قدرته على الحكم بفاعلية، ثم إن هذه الخبرة كانت الركيزة التي اعتمد عليها بواكاي إبان حملته الانتخابية الأخيرة، وحتى في الانتخابات الرئاسية السابقة التي خسرها أمام جورج وياه عام 2017 في جولة الإعادة وبفارق ضئيل، حيث قال، في مقابلة تلفزيونية آنذاك، إنه «آتٍ ومعه ثروة من الخبرة... لماذا نطلب من أحد أن يتعلّم الوظيفة؟».

في هذا الإطار، يشير بواكاي كثيراً إلى فترة تولّيه منصب نائب الرئيس ومشاركته في عملية إرساء السلام بليبيريا، ووضعها على الطريق الصحيح، بعد فترة طويلة من الصراعات. ويذكر موقعه الإلكتروني الرسمي 58 إنجازاً طوال تاريخه العملي والسياسي، يُعدّ أكبرها «قدرته على الحفاظ على فترة سلام بعد 15 سنة من الحرب الأهلية».

في تلك الفترة عُرف بواكاي بالشخص الملازم والمخلص لرئيسة الجمهورية. ولعلّ هذا ما دفعه إلى خوض الانتخابات عام 2017، حين كان يصف نفسه آنذاك بأنه «سيارة سباق تصطفُّ في المرآب»، ثم يكرر خوض السباق مرة أخرى ضد منافسه وياه، ولا سيما مع ما شهدته فترة حكمه من مشكلات. والواقع أنه عندما أعلن ترشحه قال إنه يترشح اقتناعاً بأن «ليبيريا ليست دولة فقيرة، لكن مشكلتها الدائمة ترجع أساساً إلى افتقارها لقيادة سليمة ونزيهة».

الزراعة... أساساً

جوزيف بواكاي يَعدّ نفسه في مهمة هي «ضمان استعادة الصورة المفقودة لليبيريا». وقد ركّز في حملته الانتخابية على الزراعة، وفي أحد الحوارات الإعلامية قبل الانتخابات قال إنه «ينوي التركيز على محاربة الفساد وتعزيز الإنتاج الزراعي لتقليل تكلفة الطعام، إضافة إلى إصلاح الطرق». وتعهّد بتسليط سيفه على الفساد. وبين وعوده، خلال المائة يوم الأولى من حكمه، «التأكد من أنه لا توجد مركبة في الوحل»، معتبراً ذلك عاملاً مؤثراً على أسعار السلع الغذائية، ولا سيما مع زيادة تكلفة النقل في الطرق الموحِلة.

في هذا الشأن، يرى بواكاي أن الإمكانيات الزراعية لبلاده «واعدة»، لكن المشكلة كانت في سوء الإدارة، وهو رغم اعترافه بمشقة الرحلة الرئاسية، يقول إنه «عازم على مساعدة ملايين الليبيريين الذين تُركوا في مواجهة الفقر والمرض والجهل وانعدام الأمن».

من وجهة نظر داعميه، فإن ليبيريا تحتاج الآن إلى «عمله الجاد وخبرته»، بعد سنوات من حكم وياه شابتها الفوضى الإدارية. ويرى هؤلاء أن «حياته الخالية من الفضائح وسلوكه الهادئ يُعدّان الترياق الواقي من فترة حكم وياه».

من ناحية أخرى، مع أن معدل النمو الاقتصادي في ليبيريا بلغ، عام 2022، نحو 4.8 في المائة، فإن أكثر من 80 في المائة من سكان البلاد الواقعة غرب أفريقيا، يواجهون نقصاً في الأمن الغذائي، وفق بيانات «البنك الدولي». كذلك ترتفع نسب البطالة وتعاطي المخدرات بين الشباب، ولا يمكن الاعتماد على إمدادات الطاقة في جميع أنحاء الريف المكسوّ بالغابات. وللعلم، في العام الماضي، احتلت ليبيريا المرتبة 142 بين 180 دولة في مؤشر الفساد الذي تُصدره «منظمة الشفافية الدولية».

كل هذه المشكلات تتربع على جدول أعمال بواكاي، الذي سيركز على ملفات التعليم والصحة والاقتصاد، بجانب الزراعة. وكما يقول ناطق باسم حملته: «سيعطي بواكاي الشعب الأمل، سيصلح الاقتصاد لتتحسن حياة كل فرد».

عامل السن

على صعيد مختلف، فور إعلان فوز الرئيس الجديد بالانتخابات، سارع عدد من الرؤساء والملوك إلى تهنئته، يتقدمهم الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي قال، في بيان صحافي: «أظهرت الانتخابات الحرة والنزيهة التزام الليبيريين بإسماع أصواتهم عبر صناديق الاقتراع... أتطلع للعمل معاً لتعميق العلاقات».

ولكن، في حقيقة الأمر، يثير سن بواكاي مخاوف لدى بعض منتقديه، الذين يعتبرون ذلك عقبة في إدارة بلد 60 في المائة من سكانه تحت 25 سنة. إلا أنه ردّ على ذلك، عدة مرات، خلال الحملة. وفي المقابل، يشدّد مؤيدوه على نزاهته وخبرته في محاربة الفساد، «وهو الذي عُرف عنه الدفاع عن النزاهة العامة»، ذلك أنه قال، في إحدى مقابلاته التلفزيونية: «الفساد بكل مظاهره يؤدي إلى التخلف والحرمان، وهذا ما يجب على القادة الأفارقة محاربته».اليوم، بعد انتهاء الكلام، يترقب الشعب الليبيري ما سيفعله بواكاي، آملين أن يخلصهم من عهود الفوضى والفساد، وأن يحافظ على البلاد؛ حتى لا تنزلق إلى هوة الحرب الأهلية من جديد.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».