بعد فوز ميلي... هل فُتحت أبواب المجهول أمام الأرجنتين؟

الرئيس الجديد احتاج لدعم اليمين التقليدي وسيعتمد عليه أكثر مستقبلاً

خافيير ميلي مع زوجته بعد انتصاره (رويترز)
خافيير ميلي مع زوجته بعد انتصاره (رويترز)
TT

بعد فوز ميلي... هل فُتحت أبواب المجهول أمام الأرجنتين؟

خافيير ميلي مع زوجته بعد انتصاره (رويترز)
خافيير ميلي مع زوجته بعد انتصاره (رويترز)

عندما ذهب الأرجنتينيون إلى صناديق الاقتراع يوم الأحد الماضي في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، كانوا يعرفون أن حظوظ مرشح اليمين المتطرف خافيير ميلي كانت قد ارتفعت بعد التأييد الذي حصل عليه من الحزب الليبرالي اليميني الذي يتزعمه الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، وهذا، مع أن ماكري كان في مرمى الانتقادات القاسية والشتائم التي أغدقها ميلي على جميع أقطاب الطبقة السياسية التي حكمت الأرجنتين في العقود الثلاثة المنصرمة، والتي كان توعّد بإفنائها في حال وصوله إلى السلطة. إلا أن أحداً لم يكن يتوقع مع بزوغ فجر الاثنين أن ميلي سيحقق ذلك الفوز الساحق بفارق يزيد على ثلاثة ملايين صوت على منافسه وزير الاقتصاد الحالي سيرجيو ماسّا الذي يمثّل الجناح المعتدل في الحركة البيرونية، الذي سبق له أن خسر الانتخابات الرئاسية لصالح ماكري عام 2015. وعندما تأكدت نتائج الانتخابات، شعر كثيرون بأن الأرجنتين أصبحت بلداً آخر غير الذي كانوا يعرفونه، أو أنها كانت هكذا، لكنهم ما كانوا يدركون ذلك. لقد كانوا يشعرون باعتزاز مفرط متأصل في هويتهم، رغم أنظمة الاستبداد والقمع التي تعاقبت عليهم والأزمة الاقتصادية والمعيشية الطاحنة الممتدة منذ سنوات. ويحسبون أنهم حالة مميزة في محيطهم الإقليمي ترقى إلى المستوى الأوروبي. غير أنهم اكتشفوا بين ليلة وضحاها أن الأرجنتين أيضاً أصبحت في دائرة المجتمعات اليائسة التي لا تتردد في تسليم قيادها إلى مغامر مثل ميلي أعطى براهين أكثر من كافية على جموحه وتطرفه الفظيع وطروحاته المتهورة.

ليس المراقب في حاجة إلى قراءة معمّقة في الانتخابات الرئاسية الأرجنتينية لكي يتبيّن أن فوز المرشح اليميني المتطرف خافيير ميلي لم يكن بفضل برنامجه الذي يقتصر على مجموعة من العناوين التي لم يتوقّف عن تغييرها طوال الحملة الانتخابية، بل هو النتيجة الطبيعية لانسداد أفق الحلول أمام كثرة من الأرجنتينيين.

هؤلاء، كما يبدو، فقدوا الأمل بالنهوض من الأزمات المتلاحقة التي أنهكتهم مادياً ونفسياً. ولذا راهنوا - ربما بنوع من اليأس - على سياسي شعبوي عرف كيف يجسّد الغضب الذي تولّد من حقد مواطنيه على الطبقة الحاكمة التي أوصلت الأرجنتين إلى هذه الكارثة، والتي كانوا هم ينتخبونها مرة غبّ المرة.

التصويت لـ«الضد»

الغالبية الساحقة من الأرجنتينيين ذهبت لتصوّت «ضد» الآخر المألوف، ولم يكن أمامها - مرئياتها - أفضل من ميلي الذي يجسّد الحقد على كل الآخرين. وللعلم، بنى الرجل أسس حملته الانتخابية على شعار بسيط واحد، هو: «لا بد من تدمير كل شيء والانطلاق من البداية... وأنا القادر على ذلك».

كثيرون استسلموا لمغريات هذا الشعار ولأسلوب صاحبه، من غير أن يعرفوا كيف سيخفّف من معاناتهم هذا الذي يطلق على نفسه لقب «ملك الغاب».

وبينما يراقب العالم الآن من كثب الخطوات الأولى التي سيتخذها الرئيس الجديد بعدما أدخلت الأرجنتين نفسها دائرة الأنظمة اليمينية المتطرفة، وقفزت بإرادتها نحو «المجهول» بعد هذا الفوز الكاسح الذي حققه مرشح كان مغموراً لأشهر خلت، بل ويعترف بأنه لا يفقه شيئاً عن الحكم. وفي حين يسود التوجّس من الحلول التي وعد بتنفيذها لمعالجة الوضع الاقتصادي والمعيشي المعقّد، كشف خافيير ميلي عن أنه سيقوم خلال الأيام القليلة المقبلة، أي قبل تسلمه مهامه في العاشر من ديسمبر (كانون الأول) المقبل، بزيارة إلى الولايات المتحدة الأميركية من أجل اللقاء بعدد من الحاخامات اليهود في مدينتي نيويورك وميامي، واللافت أنه ليس من المقرّر أن يعقد لقاءات مع إدارة الرئيس جو بايدن التي كانت من أوائل الذين سارعوا إلى تهنئته منوّهة بـ«ديمقراطية العملية الانتخابية ونزاهتها».

الصفات الشخصية والطروحات السياسية التي يحملها ميلي تشكّل حالة فريدة ضمن اليمينية الراديكالية

«طابع روحاني» ...ويمين متطرف

ميلي قال في مقابلة إذاعية فجر الثلاثاء الماضي إن زيارته الأميركية هذه سيكون لها طابع «روحاني»، وتندرج في سياق زيارات مماثلة قام بها في السابق حين كان يجتمع بزعماء روحيين يهود ويتابع تعاليمهم. ومن ثم، أكّد الرئيس المنتخب أنه سيتوجّه بعد ذلك من نيويورك إلى إسرائيل التي كان وعد خلال حملته الانتخابية بأنه في حال فوزه سيكون أول قرار يتخذه على صعيد العلاقات الخارجية هو نقل سفارة بلاده إليها من تل أبيب إلى القدس، وإنه سيركّز سياسته الخارجية على ما أسماه «المحور الأميركي - الإسرائيلي»، وفي المقابل، شدد ميلي على أنه لن يتفاوض مع الأنظمة الشيوعية مثل البرازيل والصين. وفي هذا المجال، كانت تصريحات لبعض المقرّبين منه بأنه يفكّر في «إعادة النظر في العلاقات مع الصين» قد استدعت تنبيهاً له من الخارجية الصينية بأنه خطأ فادح، وقالت إنه سيلحق ضرراً كبيراً بمصالح الأرجنتين.

جانب لافت آخر يعني ما يعنيه، أن كان أوّل مهنئي ميلي بفوزه سياسي يميني متطرف آخر، هو الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، الذي سبق له هو ايضاً أن أجرى بُعيد انتخابه زيارة إلى إسرائيل، حيث أعلن نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس. ومما قاله بولسونارو إنه سيحضر شخصياً حفل تنصيب الرئيس الأرجنتيني الجديد أواسط الشهر المقبل في بوينس آيرس.

كذلك، من رسائل التهنئة اللافتة التي تلقاها ميلي تلك التي بعث بها رئيسان يمينيان سابقان للمكسيك هما فيسنتي فوكس وفيليبي كالديرون الذي قال: «لقد أثبتت الأرجنتين إرادتها في صون النظام الديمقراطي، بعكس المكسيك التي تجنح بسرعة إلى وأد هذا النظام».

من جهة ثانية، بينما تتوقع الأوساط الدبلوماسية مرحلة من التوتّر في العلاقات الإقليمية بوصول ميلي إلى الرئاسة، يسود القلق أيضاً في أوساط الاتحاد الأوروبي الذي تريّث في تهنئة الرئيس الجديد واكتفى برسالة مقتضبة بعث بها شارل ميشال، رئيس الاتحاد، اقتصرت على قوله: «الشعب الأرجنتيني قال كلمته في انتخابات حرة وديمقراطية». واليوم، يقول مسؤولون أوروبيون صراحةً: إن وصول ميلي إلى الرئاسة يطرح علامات استفهام كبيرة حول المفاوضات الجارية بين الاتحاد الأوروبي ومجموعة بلدان «ميركوسور» (الأرجنتين، والبرازيل، والباراغواي والأوروغواي)، وأيضاً حول العلاقات مع «كتلة بلدان أميركا اللاتينية وحوض البحر الكاريبي» بعد الانفراج الذي سادها عقب خروج بولسونارو من السلطة في البرازيل وانتخاب ألبرتو فيرنانديز في الأرجنتين. وفي المقابل، ترى الأحزاب اليمينية المتطرفة في فوز ميلي فرصة لعودة الموجة المحافظة في الأميركتين التي قادها دونالد ترمب وجايير بولسونارو في السنوات الماضية، وتجسدها اليوم جيورجيا ميلوني في إيطاليا.

الحركة البيرونية... تعرضت لنكسة موجعة (رويترز)

تنوّع رغم الوحدة

في سياق متصل مع ما سبق، إذا كان «زئير» النقمة الشعبية على الأنظمة الحاكمة، وما تحمله من طروحات وأساليب تقليدية، هو الذي دفع بالمشاريع الشعبوية المتطرفة إلى السلطة في أكثر من موقع على المشهد السياسي العالمي - ورغم القواسم المشتركة بين معظم هذه المشاريع - فإن لكل منها خاصياته وأسباب نجاحه المختلفة.

وبما يتعلّق بالأرجنتين، فإن الصفات الشخصية والطروحات السياسية التي يحملها خافيير ميلي تشكّل حالة فريدة متميّزة ضمن الأممية اليمينية الراديكالية. إذ يثير الفوز الكاسح الذي حققه قدراً كبيراً من الدهشة والقلق والاستغراب في الأوساط التقدمية والليبرالية المعتدلة، وتخشى أن يكون ذلك نذيراً لموجة أوسع على الصعيدين الإقليمي والدولي في ظل الظروف الدولية المضطربة بشكل غير مسبوق على الصعيدين الأمني والاقتصادي. ولعل أكثر ما يثير القلق في «ظاهرة» ميلي أن طروحاته تكاد تكون نوعاً من المزايدة لما فيها من تطرف استثنائي وغير مألوف، في الوقت الذي لا يخفى على أحد حقيقة أنها لا ترتكز إلى أي مسوّغ فكري أو علمي، فضلاً عن أنها تشكّل تراجعاً كبيراً عن منجزات اجتماعية وسياسية كثيرة.

هذا الغضب الذي يحرّك الموجة الشعبية الناقمة على المنظومة السياسية، محملاً إياها مسؤولية الفساد والانهيار الاقتصادي والاجتماعي، هو الذي يولّد الإحباط ويغذّي الرغبة في التغيير الجذري، ويرفع إلى السلطة قيادات تزعم أنها «متنوّرة» وتحمل وعوداً بالعودة إلى ما يشبه لكثيرين أنه كان عالماً أفضل.

ولعلّ أخطر ما في هذه الظاهرة أنها تمتطي صهوة الإمكانات الهائلة التي تتيحها وسائل التواصل التكنولوجي الحديثة. فهذه أضحت تحمل السياسة إلى بحر العواطف والمشاعر التي يصعب أن يستقيم فيها العقل والمنطق على أعتاب الذكاء الاصطناعي الذي يطرح تساؤلات كبيرة لا يجرؤ أحد بعد على الإجابة عنها. لكن هذا الجذع الذي تتشاركه الحالات الشعبوية المتطرفة التي وصلت إلى السلطة، لا يخفي أن وصول ميلي كان في الدرجة الأولى تعبيراً مباشراً عن الرفض التام لحكم الحركة البيرونية، تماماً كما كان وصول بولسونارو تعبيراً عن رفض حكم حزب العمال البرازيلي... إذ خسر التقدميون في الحالتين بسبب إخفاقاتهم الاقتصادية المدوّية وسلسلة فضائح الفساد المالي الذي عشّش في صفوف قياداتهم.

أما في حالات أخرى، فيعود صعود الحركات الشعبوية المتطرفة بنسبة كبيرة إلى «النزعة الحمائية في مواجهة الظواهر العالمية، مثل الآثار السلبية لبعض أساليب التجارة الحرة، وموجات الهجرة، والتكنولوجيا الحديثة التي تقتصر منافعها على نسبة ضئيلة من الناس، والتداعيات الناجمة عن التغيّر المناخي. في هذه الحالات تتحمّل الحركات الاجتماعية الديمقراطية - أو الاشتراكية المعتدلة - قدراً من المسؤولية بسبب من الأخطاء التي ارتكبتها في الماضي القريب، وأبرزها اعتناق بعض القيم والمبادئ الليبرالية التي جعلت من الصعب تمييزها عن اليمين المعتدل.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.