نذير العرباوي... رئيس الوزراء الجديد في الجزائر مهمته انتشال البلاد من مشاكلها الداخلية والإقليمية

من أولويات المنصب إمداد الرئيس بعناصر اتخاذ القرار

نذير العرباوي... رئيس الوزراء الجديد في الجزائر مهمته انتشال البلاد من مشاكلها الداخلية والإقليمية
TT

نذير العرباوي... رئيس الوزراء الجديد في الجزائر مهمته انتشال البلاد من مشاكلها الداخلية والإقليمية

نذير العرباوي... رئيس الوزراء الجديد في الجزائر مهمته انتشال البلاد من مشاكلها الداخلية والإقليمية

بعد ثلاثة أيام من تعيين نذير العرباوي وزيراً أول بالجزائر، وضع رئيس البلاد عبد المجيد تبّون خارطة للحكومة تخص المرحلة المقبلة، وذلك في أول اجتماع للوزراء عُقد الثلاثاء 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023. وخلال الاجتماع شدد الرئيس على «تفادي الوعود المبالغ فيها، البعيدة عن الالتزامات مع الشعب الجزائري»، وكان يلمح إلى التعهدات التي قطعها هو في حملة انتخابات الرئاسة 2019 وعددها 54. وبالنتيجة، فهم المراقبون أن سبب عزل الوزير الأول السابق أيمن بن عبد الرحمن، بعد سنتين ونصف سنة تقريباً من تسييره الشأن الحكومي، يعود إلى إطلاقه وعوداً لم تتحقق «كان مُبالغاً فيها». لكن اللافت هو أن بن عبد الرحمن (58 سنة) دفع وحده ثمن هذا «الحكم الرئاسي»؛ لأن تبّون أبقى على الطاقم الحكومي كاملاً على الرغم من الجدل الدستوري الذي يثيره عدم إنهاء مهام الحكومة بكامل تعدادها، عند تنحية رأسها؛ إذ يفترض تشكيل حكومة جديدة مع تعيين وزير أول جديد.

رجّح متتبعون في الجزائر أن يكون سبب عزل رئيس الوزراء السابق أيمن بن عبد الرحمن، الذي شغل منصب محافظ البنك المركزي الجزائري سابقاً، عجزه الكبير في إيجاد حل لندرة حادة تشهدها عدة مواد غذائية في السوق، وارتفاع أسعار الكثير منها منذ أكثر من سنة. لكن بن عبد الرحمن لم يكن وحده المسؤول عن هذا الوضع الذي جاء نتيجة لقرار سياسي بوقف استيراد عدد كبير من السلع والمنتجات، وهو ما خلف ندرة سلع أدت إلى الأزمة. مع، هذا، مما يؤخذ على رئيس الوزراء السابق أنه سياسي تعوزه «الشخصية القوية»، كما يتهمه البعض بأنه «يفتقر إلى الكاريزما».

في أي حال، مما جاء في كلام الرئيس تبّون على أنها توجيهات لرئيس الوزراء الجديد نذير العرباوي (73 سنة)، وهو مدير ديوانه بالرئاسة السابق، «وجوب اعتماد السرعة القصوى في تطبيق قرارات مجلس الوزراء التي لم تجسّد أو تأخر تنفيذها»، و«الإبقاء على دعم الطبقتين الهشة والمتوسطة نصب أعين الحكومة، وذلك من خلال الحفاظ على القدرة الشرائية، وجعل البرامج السكنية بكل صيغها ضمن الأولويات، صيانة لكرامة المواطنين وتيسيراً لحياتهم».

تبّون طالب حكومته أيضاً بـ«التحلي باليقظة والحذر من تبذير المال العام، ومن استهلاك ميزانيات إضافية غير مرصودة في البرامج المحددة، بينما هناك ما ينتظر التنفيذ في هذه البرامج». ومن ثم، شدد على «ضرورة تكثيف الاستشارة ما بين أعضاء الحكومة، حول القرارات المؤثرة على التوازنات المالية الكبرى للدولة»، مبرزاً «أهمية تكريس قيمة العمل بشكل أكبر، مع الحفاظ على المهن والحرف الصغيرة؛ كونها خلاقة للثروة ومناصب الشغل». واختتم تبّون بالدعوة إلى «رفع وتيرة تنفيذ ما تبقى من برامج والتزامات، لا سيما في قطاعي التربية الوطنية، واقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة والمؤسسات المصغّرة».

هذه الخطوط العريضة لحكومة العرباوي ستضعه على المحك خلال سنة من العمل، تأهباً لانتخابات الرئاسة المقرّرة قبل نهاية 2024، التي يعتقد أن الرئيس تبّون سيخوضها طلباً لولاية ثانية.

مشادات حادة

شارحاً محاولته التعاطي مع خبر تعيين العرباوي على رأس الحكومة الجديدة، كتب صحافي جزائري مقيم في فرنسا: «ليس من السهل رسم صورة رئيس الوزراء الجديد؛ لأن الناس يخشون الكلام. لقد تقاعد في عام 2020، وعاد إلى العمل بفضل رمطان لعمامرة (وزير الخارجية السابق) الذي أدمجه في ديوان وزارة الخارجية، قبل أن يقترحه سفيراً للجزائر بالأمم المتحدة». ووفق ذلك الصحافي، كان العرباوي يريد أن يكون سفيراً لدى المملكة العربية السعودية، إلا أنه في النهاية وجد نفسه في مقر رئاسة الحكومة الموجود وسط العاصمة.

من جهة ثانية، ما تعرفه الأوساط الجزائرية المهتمة بالشأن العام - وخصوصاً وسائل الإعلام - عن العرباوي أنه دبلوماسي متمرّس، كان أهم وآخر منصب له في قطاع الخارجية رئيس البعثة الجزائرية بالأمم المتحدة. وخلال الفترة القصيرة التي أمضاها في هذه المهمة، نشبت مشادات كلامية حادة بينه وبين نظيره المغربي عمر هلال، حول مسألة الصحراء.

وكان من أقوى فصول التوتر بين السفيرين، يحتفظ الإعلام بهجوم حاد للعرباوي على هلال، العام الماضي، عندما طالب بـ«تمكين سكان القبائل الجزائرية من تقرير مصيرهم»، على اعتبار أن هناك تنظيماً يطالب بانفصال المنطقة يدعى اختصاراً «ماك» تعتبره الجزائر منظمة إرهابية. فرّد عليه الممثل الجزائري قائلاً إن «ممثل المغرب يسعى، من خلال مزاعم وادعاءات بائسة، إلى إحداث حالة من اللبس وخداع الرأي العام الدولي...».

من جانب آخر، قبل التحاقه بنيويورك، تولى العرباوي منصب سفير لدى مصر، وممثلاً للجزائر بالجامعة العربية، ثم عيّن سفيراً في باكستان. ثم إن العرباوي، الذي يتحدر من محافظة تبسة الحدودية مع تونس، وكان حينذاك مديراً للعلاقات الاقتصادية الدولية بوزارة الخارجية. وكذلك عرف بقيادته مفاوضات مع السلطات التونسية أفضت يوم 11 يوليو (تموز) 2011، إلى التوقيع على اتفاق يخص الحدود البحرية مع تونس. ثم إنه في الرصيد المهني لرئيس الوزراء الجديد إشرافه على التكفّل بالأجانب الذين فرّوا من ليبيا إلى الجزائر عبر الحدود البرّية بعد سقوط نظام معمر القذافي في خريف 2011، وتمتعه بتجربة مهمة بوصفه عضواً بمجلس إدارة «المركز المغاربي للدراسات والبحوث».

الإمداد بعناصر اتخاذ القرار

عودة إلى علاقة رئيس الوزراء الجديد بالرئيس تبّون، يقول عارفون بشؤون الحكم إن الرئيس كان قد طلب من مقرّبين منه، مساعدته في إيجاد مدير ديوان له، وحدّد لهم أوصافاً دقيقة على رأسها أنه يكون ملمّاً بالقضايا الدولية، وذلك كي يستعين بخبرته في اتخاذ القرارات ذات البعد الدولي. وحقاً نصحه المقربون بالسفير لدى الأمم المتحدة نذير العرباوي، فقرر فوراً استدعاءه من نيويورك في مارس (آذار) 2023. وبعد 6 أشهر فقط، منح الرئيس مدير ديوانه الجديد صلاحيات كبيرة، في إطار مرسوم يتضمن إجراءات غير مسبوقة تتصل بإعادة هيكلة واسعة لشؤون الرئاسة الجزائرية.

فلقد نصّت المادة السابعة من المرسوم على إعطاء صلاحيات واسعة لمدير الديوان برئاسة الجمهورية، أهمها دراسة الملفات السياسية والعلاقات الدولية وتنفيذها، ومتابعة النشاط الحكومي وإجراء تحليل له. وأيضاً كلفه الرئيس بتنسيق نشاطات المستشارين بالرئاسة، وإبلاغ الرئيس بتطورات الوضع في البلاد سياسياً واقتصادياً، و«إمداده بالعناصر الضرورية لاتخاذ القرار». وأصبح من صلاحية مدير الديوان التواصل مع وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، ومع الأحزاب السياسية، وكذلك متابعة عرائض وتظلمات المواطنين والجمعيات بشأن أداء المرافق العمومية، ويُجري تقييماً لها.

من ثم، فُهم من توسيع صلاحيات العرباوي، أن الرئيس تبّون صار يعدّه «العقل المدبّر» في مقر الرئاسة، لا يقل أهمية عن «رجل الثقة» لديه، بوعلام بوعلام مستشار الشؤون القانونية والشؤون القضائية، الذي أضاف له في إطار الهيكلة الجديدة «العلاقات مع المؤسسات والتحقيقات والتأهيلات».

وبالفعل، إبان المدة القصيرة التي أمضاها العرباوي في قصر الرئاسة، كتبت مجلة «جون أفريك» الفرنسية، نقلاً عن «أحد معارفه رفض الكشف عن هويته»، أنه «بنى علاقات ثقة تتميز بالاحترام والاعتبار مع الرئيس... فمن حيث الأفكار والقناعات، هو مليء بالحماس الوطني... إنه متشبّع بقيم العدالة الاجتماعية وتعزيز الفئات المحرومة. وتحت سلطة تبون، أظهر ارتباطاً بقيَم الدبلوماسية الجزائرية، ومنها السيادة الوطنية والتعلق بقضايا التحرر». كذلك قال عنه «زميل سابق»، وفق المجلة ذاتها: «إنه مستبد لكنه ليس ديكتاتوراً... هو طاغية مستنير يشاوِر ويتشاور ثم يقرّر. إنه الجندي الذي حلم به رئيس الدولة».

أن الرئيس تبّون أصبح يعتبره «العقل المدبّر» في مقر الرئاسة

مشاكل التنمية والاضطرابات

بعدما استقر رأي الرئيس تبّون على أوصاف الشخص المؤهل ليكون «رقم 2» في السلطة التنفيذية لقيادة المرحلة المقبلة، يتساءل كثيرون عن ماهية التحديات التي تنتظر الوزير الأول الجديد، وكيف سيتعامل معها.

بهذا الخصوص، يقول الدكتور منير قتال، المحامي الدولي وأستاذ القانون العام بجامعة الجزائر، لـ«الشرق الأوسط»، في لقاء معه: «سبق للسيد العرباوي أن تقلد مناصب عدة داخل الدولة، وتدرّج في سلم المسؤوليات، آخرها مديراً لديوان الرئاسة. للسيد الوزير الأول دراية بالقضايا الاستراتيجية، الإقليمية والدولية، وبالكثير من الشؤون التي تخصّ الجزائر داخلياً وخارجياً. والمؤكد أنه يملك بُعد نظر واسعاً، لما ينبغي أن تكون عليه الجزائر في المستقبل، وفقاً للبرنامج المصمم من طرف السيد رئيس الجمهورية».

وفق الدكتور قتال: «سيكون الوزير الأول وجهاً لوجه مع تحديات كثيرة تنتظر حلولاً ملموسة، وهذا هو سبب اختيار الرجل من طرف رئيس الجمهورية للمهمة الجديدة. ومن بين هذه التحديات الملف الاقتصادي والمالي: التحول الاقتصادي وهو مطلوب في المرحلة التي تمر بها البلاد، بل هو ضروري وعاجل، وعلى الحكومة خلق قيمة إضافية وصياغة خطة اقتصادية على المديين المتوسط والبعيد، وخلق نمط اقتصادي يتماشى مع التطورات عبر العالم، والتخلص النهائي من الاقتصاد الريعي والتبعية للمحروقات».

وتابع قتال كلامه، فقال: «من غير المعقول ألا تستغل الجزائر ثرواتها الطبيعية الثمينة والبشرية المتنوعة. فاستغلال هذه الثروات بشكل جيد، وعلى أكمل وجه، سيولّد حتماً نهضة في البلاد، وسيحقق قفزات مهمة نحو اقتصاد صاعد ورائد». وأردف: «ما ينتظر السيد العرباوي هو الاهتمام بالقدرات المالية البلاد، وترشيد النفقات مع خفض مستويات الإنفاق، والحد من فاتورة الاستيراد، وتوجيه بعض الموارد المالية حسب الأهمية والأولويات، وتنويع مصادر الدخل لتجنيب البلاد تبعات انهيار محتمل لأسعار النفط». وأفاض المحلل القانوني والسياسي في شرحه: «مطلوب من الحكومة، بعد تعيين وزير أول جديد، خلق ثقافة جالبة للاستثمار الأجنبي، ومواصلة خطة تطوير البنية التحتية، وتنويع الصادرات من غير المنتجات النفطية، ما يسمح بتنويع مصادر الإيرادات العامة».

التكنولوجيا والعلوم والأموال المهرّبة

وفي القطاعات الأخرى، عدَّ الدكتور قتال أن من الأولويات «متابعة مشروع الرقمنة وتحديث كل القطاعات، وتحديات الذكاء الاصطناعي والحماية السيبرانية؛ إذ إن الحكومة مطالبة بوضع سياسة آمنة وشاملة لعصرنة كل المؤسسات والهيئات، وتبسيط العمليات المالية والمصرفية والإدارية والمرفقية، وحماية البيانات الشخصية والعمومية، ومحاربة كل الجرائم الإلكترونية».

واستطرد: «عليه أيضاً السهر على جودة التعليم وإيجاد تمويلات جديدة لقطاع التعليم العالي ودعم البحث العلمي، بجانب إيجاد آليات ونماذج جديدة لتمويله خاصة من طرف القطاع الخاص وتشجيعه على المساهمة فعلياً في تقوية الاقتصاد والتقدم العلمي. ثم إنه مطالب بمواصلة جهود استعادة الأموال المهرّبة إلى الخارج، وذلك عبر تفعيل الآليات القانونية التي تسمح بذلك، وتعزيز التدابير الوقائية من الفساد... وكل هذا من دون تناسي سد الثغرات التي يأتي منها القلق الاجتماعي، والتصدي للبطالة، وحل أزمة السكن، ورفع القدرة الشرائية للمواطن، ومعالجة مشكلة ندرة المياه بسبب الجفاف».

واختتم بالقول إن على رئيس الوزراء الجديد «العمل على توسيع التجربة الجزائرية في مجال تعزيز حقوق الإنسان ودور مؤسسات المجتمع المدني. وهذا، بالتوازي مع ضرورة التعامل مع التحديات الأمنية التي تواجه الجزائر على المستوى الإقليمي». فُهم من توسيع صلاحيات العرباوي،

 


مقالات ذات صلة

الجزائر: قائد الجيش يشدد على «تعزيز المناعة الأمنية» للبلاد

شمال افريقيا قائد الجيش خلال زيارته مركز الهندسة الميكانيكية العسكرية (وزارة الدفاع)

الجزائر: قائد الجيش يشدد على «تعزيز المناعة الأمنية» للبلاد

شنقريحة يؤكد على «وضع الركائز الأساسية لصناعة عسكرية جزائرية، واعدة ومتكيفة مع متطلبات الدفاع عن الوطن وبأيادٍ جزائرية خالصة».

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
شمال افريقيا مكان انعقاد القمة الروسية - الأفريقية في سوتشي (روسيا اليوم)

هجوم جزائري على المغرب وفرنسا في «قمة سوتشي»

في 25 يوليو (تموز) الماضي، أبدت الجزائر سخطاً شديداً عندما أبلغتها باريس، عبر القناة الدبلوماسية، بأنها قررت دعم «خطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء».

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
شمال افريقيا الرئيس تبون مستقبلاً السكرتير الأول لـ«جبهة القوى الاشتراكية» في يونيو 2022 (الرئاسة)

الجزائر: حزب معارض يستنكر اعتقال قيادييه «في ظروف غامضة»

ندد حزب «جبهة القوى الاشتراكية» الجزائري المعارض باعتقال قياديين من صفوفه «في ظروف يلفها الغموض».

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
شمال افريقيا علي بن حاج قيادي «جبهة الإنقاذ» التي تم حلها (متداولة)

الجزائر: إضراب «إسلاميين» معتقلين عن الطعام لـ«تأخر» محاكمتهم

بدأ عدد من «الإسلاميين» في الجزائر إضراباً عن الطعام داخل سجنهم بعاصمة البلاد، احتجاجاً على طول مدة إقامتهم في الحبس الاحتياطي.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
شمال افريقيا من لقاء سابق بين الرئيس تبون ونظيره الفرنسي (الرئاسة)

قرار جزائري يهدد العلاقات التجارية مع فرنسا

جمعية البنوك والمؤسسات المالية الجزائرية تُبلغ البنوك بإجراء جديد يتعلق بوقف معالجة عمليات الاستيراد والتصدير من وإلى فرنسا.

«الشرق الأوسط» (باريس)

«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
TT

«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)
الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)

«لقد انتصرت روسيا اليوم في جورجيا... علينا أن نعترف بذلك»... بهذه الكلمات لخّص الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي تخوض بلاده حرباً مفتوحة مع روسيا منذ 33 شهراً، المشهد في جمهورية جورجيا السوفياتية السابقة. وبالفعل، عكست عبارته البُعد الأوسع للصراع الانتخابي في البلد القوقازي الصغير، الذي تحدى منذ سنوات قيود الكرملين وانفتح على توسيع علاقات تحالف مع أوروبا وحلف شمال الأطلسي «ناتو»، فدفع أثماناً باهظة. ولا شك أن الانتخابات النيابية الأكثر سخونة في تاريخ جورجيا، شكّلت علامة فارقة في مسار تطور هذا البلد، الذي شهد كثيراً من التقلبات وخاض صراعات عدة، أسفرت في وقت سابق عن اقتطاع أجزاء منه. هذا الوضع أدّى إلى استفحال معركة سياسية داخلية حادة بين طرفين، يدين أحدهما بالولاء لـ«الحلم الأوروبي» التي ظل على مدى سنوات هاجساً لطموحات كثيرين رأوا أن تبليسي العاصمة يمكن أن تتحول إلى «باريس قوقازية» إذا نعمت بالأمن والاستقرار، وفقاً لمقولة رئيسة البلاد سالومي زورابيشفيلي. وفي المقابل، ثمة طرف آخر حظي بدعم كامل من جانب الكرملين، يؤكد على ضرورة المحافظة على علاقات وثيقة مع روسيا، رافعاً شعار «الحلم الجورجي» بديلاً عن الأحلام الطامحة لتحالفات مع أوروبا و«الناتو».

فاز «الحلم الجورجي» في الانتخابات العامة بجورجيا، التي أثير حولها كثير من الشكوك، بعد اتهامات واسعة بوقوع عمليات تزوير وحشو صناديق، وتأثير دعائي وتدخّل مالي واسع من جانب مؤسّس «الحلم» رجل الأعمال الملياردير بيدزينا إيفانيشفيلي. وهو شخصية مقرّبة من الكرملين، ويطلق عليه الجورجيون لقب «سيد جورجيا» كونه يدير فعلياً - من وراء ستار التمويل والدعم الواسع - الحكومة التي تدير شؤون البلاد منذ عام 2012.

وفق نتائج فرز الأصوات، حصل حزب «الحلم الجورجي» الحاكم على نحو 54 في المائة من الأصوات، مقابل أقل بقليل من 38 في المائة لتحالف المعارضة، الذي يحظى بدعم رئيسة البلاد، سالومي زورابيشفيلي، في الجمهورية التي يقوم الحكم فيها على نظام شبه رئاسي.

عندها، سارعت المعارضة، التي كانت توقّعات سابقة رشّحتها للفوز بأكثر من 52 في المائة من الأصوات، إلى رفض النتائج، وأعلنت أنها لن تشارك في جلسات البرلمان المنتخب على أساسها. ومع اشتعال مظاهر الاحتجاج في الشارع، بدا أن معركة دستورية وقانونية قد انطلقت للتوّ، إذ رفضت «لجنة الانتخابات» التشكيك بنتائج عملها، واستندت إلى دعم واسع من جانب الحكومة، التي حرّكت بدورها النيابة العامة لمواجهة تحالف المعارضة. بل شكّل استدعاء رئيسة البلاد للمثول أمام النيابة العامة من أجل تقديم أدلتها على اتهامات التزوير، تطوراً جديداً ولافتاً قد يمهد للإطاحة بها، وتقويض سلطات الفريق الذي يدعم «الحلم الأوروبي» نهائياً.

«تحدّي» الأدلة الواضحةباختصار، إذا لم تنجح زورابيشفيلي في تقديم أدلة واضحة ومقنعة على وقوع انتهاكات، فإنها ستواجه اتهامات قضائية بالخداع وتضليل الجورجيين وإطلاق اتهامات غير مُثبتة ضد أركان الدولة، بما فيها الحكومة والجهاز الانتخابي.

هنا يقول أنصار الرئيسة إن الهدف هو القضاء نهائياً على هذا التيار. وفي المقابل، تحذّر الحكومة من أن «المهزومين في المعركة الانتخابية يعدون لانقلاب دستوري كامل من خلال مقاطعة البرلمان وشلّ حكومة البلاد وتعيين حكومة تصريف أعمال تقنية».

وهكذا، اشتعلت الآن المعركة الداخلية، والشارع لا يكاد يهدأ، والمخاوف تعاظمت من مواجهات قد تسفر عن صراع داخلي دامٍ يعيد إلى الأذهان الأوضاع المعقدة التي خاضتها جورجيا خلال السنوات التي أعقبت الاستقلال.

امتداد معركة أوكرانيا

الرئيسة زورابيشفيلي (تاس)

كان من الطبيعي أن تشكّل التطورات الساخنة في جورجيا حلقة متجددة في الصراع المحتدم بين روسيا والغرب. وطوال سنوات كان ينظر لجورجيا ومولدوفا (مولدافيا) المجاورة على أنهما ستكونان «ساحتي» المواجهة المقبلة بعد «إنجاز» مهمة الكرملين في أوكرانيا.

ومع أن الحكومة الجورجية نجحت في النأي بنفسها حتى الآن عن الصراع الدامي في أوكرانيا، ورفضت الانخراط في تنفيذ رزم العقوبات المفروضة على موسكو التزاماً بموقفها الداعي إلى التقارب مع الكرملين. وتحسباً لوصول نيران الحرب إلى الداخل الجورجي، وصل الانقسام الحاد في المجتمع الجورجي إلى «لحظة الحقيقة»، كما يقول ساسة جورجيون. ويبدو أن نتائج الانتخابات والتداعيات المنتظرة مع احتدام المواجهة الداخلية ستدفع أكثر إلى تعاظم التأثير الخارجي على البلاد، من طرفي روسيا والغرب.

لقد ظهرت أولى تلك التداعيات مباشرة بعد ظهور النتائج، إذ تلاحقت ردود الفعل الغربية الداعية إلى التحقيق في «الانتهاكات» مقابل تزايد الشعور بالنصر في روسيا، التي طغت فيها مقولات تؤكد هزيمة التيار الموالي للغرب في جورجيا، وأن الجورجيين اختاروا «الطريق الروسي».

يبدو أن نتائج الانتخابات ستدفع أكثر نحو تعاظم التأثير الخارجي على جورجيا من روسيا والغرب

وفي هذه الظروف، برزت تحركات رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، الذي يوصف بأنه «رجل بوتين في الاتحاد الأوروبي»، لتظهر مستوى امتداد المواجهة الروسية الغربية إلى جورجيا حالياً. فقد سارع أوربان إلى تهنئة الحزب الحاكم بـ«الفوز المقنع»، وتوجّه فوراً إلى تبليسي ليظهر دعمه الكامل. وبعكسه، دخل زيلينسكي على خط التوقعات المتشائمة بعد الانتخابات، فوجّه رسالة تحذيرية للغرب بأن خسارة جورجيا تعني «الهزيمة أمام الكرملين». إذ كتب الرئيس الأوكراني: «علينا أن نعترف بأن روسيا انتصرت اليوم في جورجيا. في البداية، استولوا على جورجيا، ثم غيّروا سياستها، وغيّروا الحكومة. والآن هناك حكومة مؤيدة لروسيا، وخيارها هو عدم الذهاب إلى الاتحاد الأوروبي. لقد غيّروا موقفهم. لقد فازت روسيا اليوم. سلبوا حرية جورجيا».

مولدوفا... المحطة التاليةفي حال لم تكن جورجيا كافية للغرب، يحذّر زيلينسكي من أن مولدوفا ستكون الاستحواذ التالي لروسيا، محذراً: «سترى أن روسيا تسير في الاتجاه ذاته. إنهم يريدون أن يفعلوا الشيء نفسه، وسيفعلونه إذا لم يوقفهم احد (...) الغرب يواصل التلويح بالخطوط الحمراء، لكنه لا يفعل شيئاً، وإذا استمر هذا الخطاب، فسيخسر مولدوفا خلال سنة أو سنتين».

ولكن، تعليقاً على هذه الكلمات، كتب المعلّق السياسي في وكالة أنباء «نوفوستي» أن «هذا يعني أن كييف تخيف الغرب الآن، ليس بالدبابات الروسية فقط في وارسو وبوخارست، بل بخسارة جورجيا ومولدوفا أيضاً». ويرى المحلل أن «روسيا لم تنتصر في جورجيا، ولم تُخضعها، بل انتصرت المصالح الوطنية والحسابات الرصينة في جورجيا. وبطبيعة الحال، ساعد الضعف العام للاتحاد الأوروبي والغرب كله، في الولايات المتحدة وأوروبا، إذ كانوا يرغبون في تغيير السلطة في تبليسي».

هذا السجال يظهر واقع الحال في ساحة المواجهة الجديدة بين روسيا والغرب، وسط توقعات بأن تكون الانتخابات البرلمانية الحالية حاسمة بالفعل لمستقبل جورجيا المنقسمة بين معارضة مؤيدة لأوروبا، وحزب حاكم موالٍ لروسيا... ومتهم بالانحراف نحو السلطوية. هذا، بينما تمارس موسكو تأثيراً على الناخبين والنتائج.

رأي تقرير أميركيعلى صعيد متصل، رأى تقرير لـ«معهد دراسة الحرب» في واشنطن، أن الكرملين ركّز جهوده للتأثير على الانتخابات لمساعدة حزب «الحلم» الحاكم على الفوز، وبالتالي إعادة تأسيس النفوذ الروسي على جورجيا بشكل كامل.

ويشير التقرير، في هذا السياق، إلى مخاوف حقيقية من تحوّل مؤسس حزب «الحلم» ورئيسه بيدزينا إيفانيشفيلي، إلى «لوكاشينكو جديد»، في إشارة إلى الرئيس البيلاروسي وحليف موسكو الأوثق ألكسندر لوكاشينكو.

ومن ثم، يلفت التقرير إلى أن موسكو استخدمت على مدى سنوات مجموعة من الوسائل للوصول على هذه النتيجة، أبرزها العمل العسكري المباشر من خلال احتلال أراضي أبخازيا وأوسيتيا الجورجيتين منذ عام 2008. كذلك، يدعي التقرير أن الكرملين استخدم وسائل الضغط الاقتصادي كرسوم الاستيراد المرتفعة والجمارك حتى العقوبات المباشرة على جيرانه الجورجيين لثنيهم عن مساعيهم بالانضمام للاتحاد الأوروبي. إضافة إلى ما سبق ذكره، عمد الكرملين - وفقاً للتقرير - منذ شهور إلى إطلاق حملات إعلامية مباشرة في جورجيا، تصوّر روسيا على أنها قوة استقرار، وتروّج لفكرة أن الحكومة الجورجية المؤيدة لروسيا هي الخيار الأفضل لمستقبل جورجيا.

طبيعة جورجيا الجميلة (غيتي)

 

حقائق

جورجيا: استقلال مخضّب بالثورات والدماء

جورجيا كانت بجبالها الشاهقة وسواحلها على البحر الأسود تعد «لؤلؤة» الدولة السوفياتية في زمان مضى. وكانت منتجعاتها الساحرة تعد على مرّ العصور محطّ الأنظار، ومقرات الراحة والضيافة للقياصرة والزعماء، الذين تعاقبوا على مقعد الحكم في الكرملين.

نجحت هذه الجمهورية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في أن تخطو سريعاً، مثل جمهوريات حوض البلطيق، نحو بناء حكم جديد قضى على الفساد المستشري المزمن، وكرّس مبادئ تداول السلطة وبناء دولة حديثة. إلا أنها، رغم ذلك، ظلت حبيسة أقدار التاريخ والجغرافيا. ولم تصلح مظاهر السيادة والعلم والنشيد الوطني ومشاعر سكان الجبال التواقة إلى الاستقلال، في تجاوز حقيقة أن هذا البلد الصغير يشكل امتداداً طبيعياً لمنطقة النفوذ الروسي في جنوب القوقاز.

التطورات التي شهدتها جورجيا خلال تاريخ قصير من «الاستقلال» أظهرت صعوبة تخلص بلد صغير ومحدود الموارد من هيمنة «الأخ الأكبر». فالبلد الذي أعلن انفصاله عن الاتحاد السوفياتي قبل أشهر معدودة من إعلان الوفاة الرسمية للدولة العظمى في السابق، سرعان ما خاض حرباً أهلية دامية، قادت بعد سنوات إلى انفصال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بدعم روسي. وتم تكريس أمر واقع جديد، عزّز وجود القوات الروسية في الإقليمين. ولم تمر سنوات قليلة بعد ذلك حتى جاءت «ثورة الزهور» التي أطاحت الرئيس الجورجي الأول، إوارد شيفارنادزه، ووضعت خططاً للتقارب مع الغرب.

هذه الأحداث، إلى جانب اتهامات بتورّط جورجيا في «حرب الشيشان الثانية»، أدت إلى تدهور حاد في العلاقات مع روسيا. وغذّى هذا النزاع أيضاً دعم ومساعدة روسيا المفتوحة لانفصال الإقليمين. ولم تنجح الاتفاقات التي أبرمها الطرفان في ظروف معقدة للغاية في تخفيف حدة التوتر، برغم التزام موسكو بتنفيذ بنود حول سحب القواعد العسكرية الروسية (التي يعود تاريخها إلى العهد السوفياتي) من محيط مدينتي باتومي وأخالكالاكي. إذ جاءت الحرب الروسية الجورجية صيف عام 2008 لتكرس اقتطاع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية نهائياً بعدما وصلت الدبابات الروسية إلى العاصمة تبليسي في غضون 3 أيام من المعارك الضارية، التي أجبرت الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي على الاستسلام بوساطة أوروبية، قضت بالقبول بالأمر الواقع الجديد من دون الاعتراف رسمياً باستقلال الإقليمين، اعترفت بهما روسيا وعدد محدود من حلفائها، في مقابل انسحاب القوات الروسية من الأراضي الجورجية.

هذه الخلفية مهّدت للمواقف الجورجية لاحقاً، لجهة دعم أوكرانيا في الحرب مع روسيا. لكن في الوقت ذاته، برز تيار واسع داخل جورجيا حظي بدعم الكرملين، وطالب بالانكفاء عن «الحلم الأوروبي» وتعزيز الروابط مع الجارة الكبرى روسيا. وردّد أصحاب هذا التيار مقولة تعكس تنامي القلق من أن تلاقي جورجيا مصيراً مماثلاً لأوكرانيا في حال واصلت عنادها وتحديها لواقع الجغرافيا ودروس التاريخ.