موسكو تواجه تداعيات كبرى... داخلياً وخارجياً

رصد روسي لتحولات استراتيجية يتوقع مرحلة من الفوضى العالمية

نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مستقبلاً قياديي "حماس" موسى أبو مرزوق وباسم نعيم في موسكو (رويترز)
نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مستقبلاً قياديي "حماس" موسى أبو مرزوق وباسم نعيم في موسكو (رويترز)
TT

موسكو تواجه تداعيات كبرى... داخلياً وخارجياً

نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مستقبلاً قياديي "حماس" موسى أبو مرزوق وباسم نعيم في موسكو (رويترز)
نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مستقبلاً قياديي "حماس" موسى أبو مرزوق وباسم نعيم في موسكو (رويترز)

لم تكن موسكو في بداية الحرب الإسرائيلية - الفلسطينية الجديدة، تتوقع أن تكتسب المواجهة الدموية المتفاقمة أبعاداً جيو - سياسية تلقي بثقل إضافي على التحولات الجارية في العالم، ومساعي بلورة ملامح نظام دولي جديد. إذ تراوحت التقديرات الروسية في البداية على أن المواجهة التي فجّرتها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) لا تعدو كونها حلقة جديدة من الصراع المتواصل منذ عقود. غير أن تطورات المشهد المأساوي في غزة، وحجم الحشد الغربي الذي ألقى بثقله بالكامل خلف إسرائيل، عسكرياً وسياسياً، دفع إلى إعادة ترتيب حسابات الكرملين. لقد أعادت نيران الصراع المتجدد في الشرق الأوسط وفقاً لوجهات نظر روسية تقسيم العالم، وفي حين أن المعسكر الغربي توحّد مجدّداً بعد الحرب الأوكرانية خلف أهداف مشتركة، فإن الطرف الآخر المتمثل في روسيا والصين وجزء كبير من المجتمع الدولي ما زال لم يجد آليات مشتركة لمواجهة الوضع المتفاقم. ومع تلك الحسابات على الصعيد الخارجي، حملت بعض ردود الفعل الداخلية في روسيا المشغولة بأولوياتها الخاصة في أوكرانيا، مستوًى جديداً من التنبيه بخطر محدق. ورأت أوساط مقرّبة من الكرملين في حادثة اقتحام مطار محج قلعة عاصمة جمهورية داغستان الذاتية الحكم مؤشراً مقلقاً جديداً، يدل إلى مستوى تأثير الأحداث الخارجية على الوضع في البلاد. بل، وشكّل هذا العنصر السبب الأساسي وراء الربط غير المسبوق للكرملين بين حربي غزة وأوكرانيا.

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أخيراً، إن بلاده تقاتل في أوكرانيا «مصدر الخطر» عليها وعلى الفلسطينيين. وصعّد لهجته ضد واشنطن على خلفية أعمال الشغب التي شهدتها، الأسبوع الماضي، جمهورية داغستان الذاتية الحكم في منطقة شمال القوقاز. كذلك، ربط الرئيس بوتين بين محاولات تأجيج الوضع الداخلي في روسيا بتحريض مباشر من الغرب والتطورات الدامية في فلسطين، وقال: إن «مساعدة الفلسطينيين تكون بمكافحة مَن يقف وراء هذه المأساة، وهم مَن تقاتلهم روسيا في إطار العملية العسكرية الخاصة» التي تخوضها في أوكرانيا.

جدير بالذكر، أن داغستان كانت قد شهدت أعمال شغب بعد اقتحام مطار العاصمة محج قلعة من جانب متظاهرين مناصرين لفلسطين، سعوا إلى منع دخول ركاب طائرة أقلت إسرائيليين من مزدوجي الجنسية. وبالفعل، سيطر المتظاهرون لساعات على المطار، قبل أن تعلن السلطات إطلاق عملية أمنية انتهت بعودة فتح المطار أمام الرحلات الدولية من دون أن يعلن عن اعتقالات وسط المهاجمين.

هذا الحادث أثار قلقاً واسعاً في روسيا، خصوصاً أن دعوات للعنف سبقته وفقاً لإعلان السلطات الداغستانية. ومن جهة أخرى، رأت الحكومة الروسية أن أجهزة غربية وأوكرانية وقفت وراء التحريض على العنف، وسط مخاوف من انتشار هذه الظاهرة إلى مناطق روسية تسكنها غالبية مسلمة. وعليه، دعا بوتين إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن، أكد خلاله أن بلاده تتصدى لخطر التحريض الخارجي ومحاولات استفزاز انقسام واسع في المجتمع الروسي.

لقد كان لافتاً تشديد الرئيس الروسي على أن جذور الاضطرابات الداغستانية «تنبع من المأساة التي تتكشف في فلسطين»، وأوضح أنه «حينما تنظر إلى الأطفال الملطخين بالدماء، والقتلى من الأطفال، وإلى معاناة النساء وكبار السن، وكيف يموت الأطباء، بالطبع تنقبض قبضات يدك وتنفجر الدموع في عينيك، ولا يمكن التعبير عن ذلك بأي طريقة أخرى (...) إلا أنه لا ينبغي، ولا حق لنا، ولا يمكن أن نسمح لأنفسنا بأن نسترشد بالعواطف». ومن وصل إلى النتيجة الرئيسية ومفادها أن روسيا «لا تشارك فقط في تشكيل عالم جديد، بل هي أحد قادة هذه العملية». وزاد: «إننا نقاتل من أجل مستقبلنا في ساحة المعركة. نحن نقاتل باستمرار ونفقد رفاقنا. إن وراء مأساة الفلسطينيين، ووراء الصراع في أوكرانيا، وفي أفغانستان وسوريا، تقف النخب الحاكمة في الولايات المتحدة. هؤلاء هم الذين يزرعون قواعد عسكرية في كل مكان، ويريدون تقسيمنا من الداخل».

لقطة من مهاجمة الطائرة الإسرائيلية في مطار العاصمة الداغستانية محج قلعة (آ ب)

مخاوف روسية داخلية

كشفت العبارات التي استخدمها الرئيس بوتين عن مستوى القلق الروسي من تفاقم الموقف، لا سيما، مع ربط ذلك باتهامات للغرب بمحاولة زعزعة الوضع في روسيا.

وعلى الرغم من أن اقتحام المطار شكّل تطوراً نوعياً في آليات التعبير عن الغضب، لكنه لا يُعدّ التحرك الوحيد الذي أقلق السلطات الروسية خلال الأيام الماضية. إذ أصدرت الإدارات الدينية لمسلمي روسيا نداءات متواصلة مطالبة بالتدخل لحماية الشعب الفلسطيني، كما دخل بعضها على خط إطلاق حملة واسعة لمقاطعة البضائع التي يدعم منتجوها إسرائيل. وكذلك، حفلت صفحات مسلمين روس على وسائل التواصل الاجتماعي بدعوات للتحرك من أجل حماية الفلسطينيين. لكن التطوّر الأبرز كان توجيه رسائل حادة جداً من رئيس الشيشان رمضان قديروف، الذي يحظى بنفوذ واسع في منطقة شمال القوقاز ذات الغالبية السكانية المسلمة. وكان قديروف قد قال: إن «الفاشية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ليست أقل من فاشية هتلر، وربما تفوقها». وأعلن، من ثم، عن استعداده لإرسال «قوات تفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين لتأمين حماية الشعب الفلسطيني». وعلى الأثر، وجد الكرملين نفسه مضطراً إلى الرد بسرعة على هذه التصريحات؛ إذ قال الناطق الرئاسي ديمتري بيسكوف: إن «لدى روسيا علاقات تاريخية طويلة الأمد مع الطرفين وتسعى إلى المحافظة على توازن علاقاتها».

في كل الأحوال، شكّل هذا التطور علامة فارقة في مستوى التحركات الداخلية المتوقعة كرد فعل على أحداث تجري في خارج البلاد. وللعلم، يُعد اقتحام المطار من حيث خطورته على استقرار الوضع الداخلي واحداً من التطورات الأبرز في روسيا، بعد منعطفي تمرّد مجموعة «فاغنر» في مايو (أيار) الماضي، وحملات النزوح الجماعية للشبان مع إطلاق عملية التعبئة العسكرية في مطلع العام.

هذا الأمر دفع السلطات إلى إبداء مستوى زائد من القلق على انعكاسات هذا المزاج على المستوى الداخلي الروسي. وأعلن الكرملين، أن أعمال الشغب التي شهدها مطار داغستان الروسية سوف يجري تحليلها عن كثب لمنع تكرارها. وبعد ذلك مباشرةً، بدأت تتردد معطيات حول توجيه تعليمات صارمة في الأقاليم، وخصوصاً تلك ذات الغالبية السكانية المسلمة بمنع وقوع أحداث مشابهة. وأيضاً وجّه بوتين، خلال ترؤسه مجلس الأمن الروسي الاستخبارات والسلطات الأمنية والمحلية، بالتصرف بحزم وفي الوقت المناسب لحماية النظام الدستوري والحفاظ على حقوق وحريات المواطنين، وحماية السلم الأهلي والديني في روسيا.

... والبعد الخارجيفي الواقع، كانت موسكو قد سعت إلى إظهار تميز موقفها عن الغرب، عندما استقبلت وفداً من حركة «حماس» بشكل رسمي. وبرّر سياسيون روس الزيارة التي كانت استعراضية أكثر من أن يكون لها بُعد سياسي مهم يحشد موقفاً روسياً جديداً، وذلك عبر الحديث عن أن موسكو «منفتحة على الأطراف ويمكن أن يساعدها ذلك في لعب دور وساطة».

وفي هذا الشأن، صحيح أن كثيرين في روسيا وإسرائيل يشككون في قدرة موسكو حالياً، على لعب دور للوساطة، وبخاصة، على خلفية المواجهة المتفاقمة مع الغرب واتساع الهوة بين تل أبيب وموسكو على خلفية مواقف إسرائيل من الحرب الأوكرانية، لكن هذين الأمرين لا يمنعان - من وجهة النظر الروسية - من العمل على هذا المسار الذي يعزّز النفوذ الروسي ويشكل مؤشراً إضافياً على فشل سياسة عزل موسكو.

منطلقات روسية

هنا، لا بد من التوقف عند منطلقات الموقف الروسي حيال الحرب الجارية، وأسباب تبني موسكو مواقف وُصفت في إسرائيل بأنها عدائية.

يقول خبراء: إن السبب الرئيسي هو أن موسكو تستفيد حالياً من صرف الانتباه عن الحرب الدائرة في أوكرانيا، ومن الارتباك الغربي الحاصل على صعيد توزيع الجهد في إمداد إسرائيل وأوكرانيا بالسلاح والمعلومات الاستخباراتية والموازنات المالية الكبرى.

بعبارة أخرى، فإن بعض المجتمعات الغربية - وخصوصاً في أوروبا - سوف تبدأ بطرح تساؤلات حول الجدوى من استمرار دعم أوكرانيا بالسلاح والمال. وهذا ما أظهره، مثلاً، فشل الاتحاد الأوروبي في التوصل إلى اتفاق حول الموضوع أخيراً. أضف إلى ما سبق، أن تركيز العالم كله على إسرائيل وقطاع غزة، يمنح روسيا حرية أوسع للتصرف. وهنا، على سبيل المثال، نجحت روسيا في التخلي عن معاهدة حظر التجارب النووية بهدوء نسبي. وبالإضافة إلى ذلك، حصلت روسيا على فرصة لتنشيط دبلوماسيتها، والانفتاح بشكل أنشط على الأطراف الدولية ومنظمات المجتمع الدولي؛ ما يعني تقويض المحاولات الغربية لعزلها. وهذا ظهر أخيراً في النشاط الزائد لموسكو في مجلس الأمن وفي الاتصالات مع الأطراف المختلفة.

ومن جانب، آخر، وإن كان صحيحاً القول بصعوبة تصوّر أن تقبل القيادة الإسرائيلية بوساطة روسية في الحرب الجارية، فإن هذا لا يمنع موسكو من مراكمة فوائد بسبب الوضع الحالي.

اتساع الهوة مع إسرائيل

في سياق متصل، فإن تركيز بعض الخبراء على فكرة «الفوائد الروسية» من الصراع المتفاقم، لا يعكس وحده منطلقات الموقف الروسي من الصراع الحالي. إذ لا بد من ملاحظة مستوى الانزلاق الذي وصلت إليه العلاقات بين موسكو وتل أبيب خلال الفترة الأخيرة، على خلفية المواقف الإسرائيلية من الحرب الأوكرانية. وهنا يدخل عاملان رئيسيان على خط السجالات:

الأول، العلاقة الروسية - الإيرانية التي وصلت مستويات من التنسيق والتحالف، جعلت محللين إسرائيليين يتحدثون عن مواجهة «محور يضم روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران وبلداناً أخرى كثيرة».

والآخر، يتعلق بتبلور رؤية روسية جديدة للتحالفات على خلفية الصراع المتفاقم مع الغرب؛ ما يعني أن موسكو بدأت تدريجياً تفقد اهتمامها ببناء توازنات صعبة مثل تلك التي بنتها منذ حلول قواتها العسكرية في سوريا.

على هذه الخلفية، من الصعب توقع تراجع موسكو عن مواقفها المعلنة. ذلك أنه من الناحية الجيو - سياسية ترى موسكو أن المواجهة الكبرى الحالية مع المخاوف من اتساع رقعتها وتحولها، كما قال بوتين، إلى «حرب إقليمية» تشكل فرصة مواتية لتعزيز التحركات الروسية على صعيد بلورة ملامح «نظام دولي جديد» دعت إليه مراراً موسكو وبكين. وفي هذا الإطار، يُنتظَر أن تواصل موسكو نشاطها السابق في مجلس الأمن وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، بما يهدف إلى تشكيل أوسع جبهة ممكنة معارضة للحرب. وبالأخص، أن إيقاف الحرب من دون تحقيق هدف تغيير الخرائط في المنطقة، سيؤدي إلى إضعاف نفوذ وتأثير واشنطن الإقليمي من وجهة النظر الروسية. وعلى صعيد موازٍ، صحيح أنه لن يكون بمقدور موسكو تجديد الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي للسلام أو طرح مبادرات كبرى - لأنها لن تكون وسيطاً مقبولاً من جانب الغرب - لكنها تظل قادرة على دعم مبادرات عدة قد تصدر من جهات مختلفة. وهنا يبرز مثال الدعوة الصينية لعقد مؤتمر للسلام. وأيضاً، بمقدور موسكو تحفيز مجموعات إقليمية عدة، بينها المجموعة العربية، لطرح آليات مختلفة عبر الجمعية العامة أو مجلس الأمن.

في مطلق الأحوال، ترى موسكو في الحرب الجارية مؤشراً إلى اتساع المأزق الغربي في التعامل مع الأزمات الإقليمية، وفرصة لتجديد حضورها المؤثر في هذه الأزمات. ومع أنها هنا قد لا تكون قادرة على القيام بمبادرة مباشرة لوحدها في ظل غياب أو تريث معسكر الحلفاء عن تقديم رؤية كاملة، من المرجح أن تقف موسكو بقوة خلف أي خطوات قد تقترحها الصين.

رمضان قديروف (آ ب)

«حرب غزة»... هل هي بداية تحولات استراتيجية؟

> يرى خبراء روس أن الحرب في فلسطين حالياً باتت تشكل المرحلة التالية من إعادة ترتيب النظام العالمي الجديد. وكتب الخبير فيودور لوكيانوف، أن «هذه العملية التي بدأت في مطلع القرن، اتخذت بُعداً جديداً، بعدما كانت القناعة قد سادت بأن جوهرها قد تحدد بنهاية المواجهة العسكرية الآيديولوجية العالمية في القرن العشرين. وانطلاقاً من هذا الفهم، فإن الصراعات الإقليمية عكست الفشل في تسريع وتيرة بناء النظام الدولي الجديد، كما أن كثرة التناقضات في العالم أدت إلى تراكم التوتر وتحول الصراعات المجمدة إلى صراعات ساخنة».

لقد بدأت الحروب في منطقتي جنوب القوقاز وأوروبا الشرقية، والآن في الشرق الأوسط، تشهد - وفقاً للخبير الروسي - «مرحلة الدعم العسكري المفتوح للتحولات السياسية والاقتصادية العالمية». وهنا يلاحظ لوكيانوف، أن «نظام العلاقات، الذي تأسس مع اختفاء الاتحاد السوفياتي وسيطرة القطب الواحد، لم يكن قادراً في نهاية المطاف على نزع فتيل «الألغام» القديمة أو عزلها من أجل الحد من تأثير التفجير. وللأسف، هناك عدد غير قليل من براميل البارود من هذا النوع منتشرة حول العالم، والأمل ضئيل في أن يقتصر الأمر على الانفجارات التي حدثت بالفعل».

وانطلاقاً من هذا الفهم، يرى خبراء روس، أن «حرب غزة 2023» لن تحل القضية الفلسطينية التي لا توجد بعد آليات لحل نهائي لها، لكنها أصبحت بالفعل «علامة فارقة في السياسة العالمية». ولتوضيح هذه الفكرة؛ كتب موقع «روسيا في السياسة العالمية»: إنه «من ناحية، هناك مجموعة من البلدان القريبة ثقافياً وتاريخياً والتي تقاتل، من أجل منع إعادة النظر في نتائج الحرب الباردة. وفي هذا الصدد، يهدف الغرب إلى تحقيق أقصى قدر من التوحيد ومواجهة الاتجاهات غير المواتية له. لكن الأمر اللافت هو أن مهمة الدمج ليست خارجية فحسب، بل داخلية أيضاً. إذ يتزايد عدد التناقضات الاجتماعية والسياسية داخل دول المجتمع الغربي. ما يؤسس لزيادة الحاجة إلى ظهور تهديد موحد من الخارج. لكن من المرغوب فيه ألا يكون هذا التهديد مفرطاً».

ويمضي الموقع «وهذا أمر مفهوم أيضاً - فغالبية المجتمعات لا تريد خوض حروب مباشرة سواء في أوروبا أو في أميركا. ومن هنا يأتي وفقاً لمجتمع الخبراء الروس، الشعار الثابت الذي يعبّر عنه الأميركيون بشكل أكثر صراحة، ويعبّر عنه الأوروبيون بشكل مستتر، بأن مساعدة الطرف المتحالف معهم المتحارب (أوكرانيا، والآن إسرائيل على ما يبدو) تشكل استثماراً مربحاً. وبهذا المعنى، يظل الغرب المجموعة الوحيدة من الدول التي لديها نظام فعّال للتبعية. وعلى رأس هذا التسلسل الهرمي تأتي الولايات المتحدة، التي عزّزت الآن هيمنتها. ولكن على وجه التحديد داخل القطب».

في المقابل، وفق الموقع الروسي، «فإن ممثلي بقية العالم لا تجد آليات للانخراط في شكل موحّد في مواجهة الغرب. ولذا ينجح الغرب بطرح آليات مؤقتة لتحقيق توازنات على المستوى الإقليمي مثلاً تحظى بقبول من جانب الأطراف التي لا تجد آليات أخرى لمواجهة التحديات الناشئة». ومن ثم، يرى الخبراء الروس أن هذا هو شكل النظام الدولي الحالي، وأن هذا المسار قد يمر بفترة انتقالية طويلة نسبياً. وهذا يعني أن على روسيا «الاستعداد لتحوّلات وانفجارات عدة في مناطق كثيرة في العالم».


مقالات ذات صلة

بوتين وأوربان يجريان «محادثات صريحة» وإنزعاج أوروبي

أوروبا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان في الكرملين (أ.ب)

بوتين وأوربان يجريان «محادثات صريحة» وإنزعاج أوروبي

أقام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استقبالاً حافلاً في الكرملين، أمس، لرئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، القائد الشعبوي اليميني والأوروبي المشاكس، بعدّه الأقرب إلى

رائد جبر (موسكو)
أوروبا منظر يظهر المباني السكنية المتضررة في بلدة توريتسك الأوكرانية (رويترز)

7 قتلى بضربات روسية في شرق أوكرانيا

قُتل سبعة أشخاص على الأقل وأصيب أكثر من 20 الجمعة في قصف روسي استهدف منطقة دونيتسك الواقعة في شرق أوكرانيا، وفق ما أعلن مسؤولون.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
تحليل إخباري جنود مشاركون بمناورات لحلف «الناتو» في لاتفيا (أرشيفية - إ.ب.أ)

تحليل إخباري من أخطر على مستقبل أميركا و«الناتو»... ترمب أم بايدن؟

مَن الرئيس الأميركي الذي قد يشكّل خطراً على مستقبل حلف شمال الأطلسي (الناتو)؟

إيلي يوسف (واشنطن)
أوروبا رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين في حديث مع قادة أوروبيين بمناسبة انعقاد قمة غير رسمية في بروكسل الاثنين (إ.ب.أ)

بوتين وأوربان يجريان «محادثات صريحة» في الكرملين

أثارت زيارة رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، إلى موسكو ولقاؤه مع بوتين عاصفة من السجالات في الأوساط الأوروبية.

رائد جبر (موسكو) «الشرق الأوسط» (بروكسل)
أوروبا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان في الكرملين (أ.ب)

بوتين لرئيس وزراء المجر: مستعد لمناقشة «الفروق الدقيقة» حول الأزمة الأوكرانية

التقى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، برئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، في الكرملين لمناقشة آفاق تطور أكبر أزمة أوروبية.

«الشرق الأوسط» (موسكو)

ضبابية الانتخابات تُدخِل فرنسا في نفق مظلم

الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)
الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)
TT

ضبابية الانتخابات تُدخِل فرنسا في نفق مظلم

الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)
الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)

لا يخفى على أحد مصدر القلق في العاصمة الألمانية برلين من النتائج المحتملة للانتخابات النيابية الفرنسية. فأولاً، هناك الثقل الذي تمثله فرنسا باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي. وثانياً، فرنسا هي عضو الاتحاد الأوروبي الدائم الوحيد في مجلس الأمن الدولي المتمتع بحق النقض (الفيتو). وثالثاً لأنها تمتلك وحدها القوة النووية.

فضلاً عما سبق، لطالما شكّل محور برلين - باريس الحاضنة للمشروع الأوروبي الذي جاء لقلب سنوات الحروب بين البلدين. وطيلة العقود المنصرمة، شكّل «الثنائي» الألماني - الفرنسي القاطرة التي دفعته إلى الأمام، وأفضت به لأن يضم راهناً 27 دولة أوروبية ويتأهب لفتح ذراعيه أمام أوكرانيا ومولدوفا، وثمة مجموعة دول أوروبية أخرى تنتظر أن يفتح لها الباب لولوج جنة الاتحاد.

القفز إلى المجهول

هذا ليست المرة الأولى التي قرّر فيها رئيس فرنسي حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة.

الجنرال شارل ديغول، مؤسس «الجمهورية الخامسة»، فعل ذلك مرتين، وسار على دربه الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران، وتبعه خليفته في قصر الإليزيه، جاك شيراك.

إلا أن ثمة فروقاً تجعل الوضع الراهن مختلفاً إلى حد كبير مع ما عرفته فرنسا في السابق. فخلال العقود المنصرمة، كانت الانتخابات تفضي إمّا إلى فوز اليمين التقليدي متحالفاً مع الوسط أو اليسار المسمّى «حكومي» وعَصَبه الحزب الاشتراكي. وعند فوز الأخير بالرئاسة للمرة الأولى في العام 1981، بناءً على «برنامج حُكم مشترك» يضم كل تلاوين اليسار، بما في ذلك الحزب الشيوعي، لم يتردّد ميتران في ضم وزيرين شيوعيين إلى حكومته مع أن فرنسا عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) والعالم غارق وقتها في «الحرب الباردة».

ولكن، رغم ذلك، سارت الأمور بسلاسة وبعيداً عن الهزّات لا في الداخل ولا في الخارج.

بعكس ذلك، أحدث قرار ماكرون زلزالاً سياسياً ستكون له تبعات لعقود على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فرنسا. واللافت، أن أقرب المقرّبين من ماكرون، مثل رئيس الحكومة غبريال أتال ورئيسة مجلس النواب يائيل براون - بيفيه وشركائه في السلطة ورئيس حكومته السابق أدوار فيليب... كلهم صبّوا جام غضبهم على قراره لأنه «غير مبرّر»، ولأن لا شيء كان يُلزمه بحل البرلمان، وبالأخص، بعد نجاح منقطع النظير لحزب «التجمع الوطني» في الانتخابات الأوروبية حين حصد ضِعفي ما حصل عليه تحالف الأحزاب الثلاثة الداعمة للعهد والحكومة، أي «تجدد» و«الحركة الديمقراطية» و«هورايزون».

زعيم جبهة اليسار جان لوك ميلونشون (آ ف ب)

قرار ماكرون أحدث صدمة عامة. ولذا؛ سعى غير مرة، لشرح دوافعه وإقناع مواطنيه بصوابية قراره من غير أن يفلح. إذ بينت تقارير صحافية أنه اتخذ قراره بعيداً عن أي تشاور ضارباً عرض الحائط بما ينصّ عليه الدستور، الذي يفرض عليه التشاور مع رئيسي مجلسي النواب والشيوخ، مكتفياً بـ«نصائح» مجموعة ضيقة قريبة من المقربين منه.

رهانات ماكرون الخاطئة

لقد بدا واضحاً في الأيام القليلة التي انقضت بعد حل البرلمان، أن «رهانات» الرئيس الفرنسي جاءت خاطئة. ولفهم قراره، تتعين الإشارة إلى أن الانتخابات النيابية (التشريعية) السابقة لم تعط ماكرون سوى أكثرية نسبية في البرلمان، بعكس ما كانت عليه الأمور في ولايته السابقة حين تمتعت حكوماته المتعاقبة بأكثريات فضفاضة صادقت على كل مشاريع القوانين التي قُدّمت إلى البرلمان.

وحقاً، خلال السنتين المنصرمتين من ولايته الثانية، كان على حكومة إليزابيث بورن ثم حكومة غبرييل أتال التفاوض والمساومة، أحياناً مع اليمين وأحياناً أخرى مع اليسار و«الخضر»، لتوفير الأكثرية اللازمة. وكان «سيف» سحب الثقة منها دائماً قريباً من عنقها لدرجة أنه كان يمكن أن تسقط في حال توافقت المعارضة يميناً ويساراً على التخلص منها.

ولكن رغم هشاشة الوضع السياسي، انقضت سنتان من عمر العهد واستمرت الحياة السياسية على وتيرتها المعتادة. ومن هنا، فإن المحللين السياسيين اعتبروا بادرة ماكرون «متهوّرة» وقائمة على حسابات غير دقيقة. لا، بل إن كثيرين قارنوا بين ما حصل في ألمانيا، حيث حصل الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على النسبة نفسها التي حصل عليها تحالف أحزاب ماكرون، ومع ذلك، لم ينخرط المستشار أولاف شولتس في مغامرة شبيهة بمغامرة ماكرون رداً على القفزة الانتخابية الكبيرة التي حققها حزب «البديل» اليميني المتطرف. وها هي الحياة السياسية في ألمانيا قد عادت إلى سابق عهدها بانتظار الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.

جوردان بارديلا... مرشح اليمين المتطرف لرئاسة الحكومة العتيدة (رويترز)

أزمة نظام

يقول العارفون إن ماكرون راهن - في قراره - على أمرين: الأول، الانقسامات العميقة داخل اليسار الفرنسي بين حزب «فرنسا الأبية» الذي يتزعمه المرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون من جهة، وبين المكوّنات الأخرى من جهة ثانية... وتحديداً الحزب الاشتراكي و«الخضر». والآخر، ضَعف اليمين الفرنسي التقليدي ممثلاً بحزب «الجمهوريون» - وريث الديغولية -، واعتباره أن ثمة فرصة لتشكيل «ائتلاف وسطي» يضم الأحزاب الثلاثة الداعمة له تقليدياً، والتي يمكن أن ينضم إليها مرشحون قادمون من اليسار المعتدل ومن اليمين التقليدي.

غير أن الرهانين سقطا: فاليسار نجح خلال زمن قياسي في طي صفحة الخلافات وتشكيل «جبهة شعبية جديدة» مع برنامج انتخابي محدّد. أما اليمين التقليدي، فإن رئيسه أريك سيوتي التحق باليمين المتطرف، في حين رفض أركانه المتبقّون العرض الرئاسي. ثم أن ستيفان سيجورنيه، وزير الخارجية ورئيس حزب ماكرون المسمّى «تجدد»، سارع إلى الإعلان عن أن «الائتلاف الوسطي» سيمتنع عن تقديم منافسين لمرشحي اليمين «الوسطيين» لتسهيل إعادة انتخابهم ولتشجيعهم لاحقاً للتعاون في حكومة قادمة.

خلال الأيام العشرين المنقضية منذ حلّ البرلمان، كانت الدعاية الرئاسية (أي... الرئيس ماكرون نفسه) تركّز على التخويف من وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، وأيضاً على إبراز التناقضات داخل اليسار، وخصوصاً على «التهويل» بسيطرة حزب «فرنسا الأبية» اليساري المتشدد عليه... فضلاً عن التنديد بزعيمه ميلونشون الذي اتهمته الدعاية الرئاسية بـ«معاداة السامية» بسبب مواقفه من الحرب الإسرائيلية على غزة. وبالفعل، تحوّل هذا الاتهام «لازمة»... تتكرّر إلى ما لا نهاية في التجمعات الانتخابية وعلى شاشات التلفزيون.

أنا... أو «الحرب الأهلية»

وهكذا، رست صورة الوضع السياسي في فرنسا على الصورة التالية: ثمة ثلاث مجموعات سياسية تتقدمها مجموعة اليمين المتطرف - أي «التجمع الوطني» - بزعامة مارين لوبن ورئاسة جوردان بارديلا (مرشح «التجمع» لرئاسة الحكومة) التي ترجّح استطلاعات الرأي المتعاقبة على حصولها على 35 في المائة من الأصوات. المرتبة الثانية تحتلها وفق الاستطلاعات «الجبهة الشعبية الجديدة» (اليسار) التي تتأرجح نسبة أصواتها حول 30 في المائة. أما «الائتلاف الوسطي» فقد عجز عن تخطي عتبة الـ20 في المائة.

بيد أن ترجمة هذه النسب إلى مقاعد في البرلمان القادم تبدو بالغة الصعوبة بالنسبة إلى المؤسسات المتخصصة؛ نظراً للنظام الانتخابي القائم على الدائرة الصغرى. إذ تضم فرنسا 577 دائرة انتخابية لكل منها معطياتها الخاصة، لكن المرجح وفق المعطيات المتوافرة حتى اليوم، أن أياً من المجموعات الثلاث لن تحصل على الأكثرية المطلقة في البرلمان القادم (289 نائباً). وبما أنه يصعب توقع تحالف أي مجموعتين من المجموعات الثلاث للحكم معاً، فإن تشكيل حكومة قادرة على حيازة ثقة البرلمان وتمرير القوانين وقيادة البلاد للسنوات الثلاث المتبقية للرئيس ماكرون في الإليزيه، سيكون بمثابة معجزة.

ينص الدستور الفرنسي على أنه لا يحق لرئيس الجمهورية أن يحل البرلمان مرة جديدة إلا بعد مرور سنة على حله للمرة الأولى. وهذا يعني أن ماكرون سيكون مقيد اليدين وعاجزاً عملياً عن إيجاد أكثرية برلمانية مطلقة أو أكثرية نسبية لن يحصل عليها بسبب طغيان اليمين المتطرف و«الجبهة الشعبية الجديدة». وهنا يبدو واضحاً أن فرنسا تسير باتجاه أزمة حقيقية، أبعد من أزمة سياسية. بل هي بالأحرى «أزمة نظام» بسبب الانسداد السياسي المتجهة إليه بسرعة... إلا في حال فوز اليمين المتطرف بالأكثرية المطلقة، وهذا أمر قد يحصل وفق عدد من المحللين.

في رسالة مكتوبة وجهها ماكرون إلى الفرنسيين بداية الأسبوع من خلال الصحافة الإقليمية، فإنه ركّز على أمرين: أحدهما أن برنامج الحكم لليمين المتطرف، ولما يسميه «اليسار المتطرف»، سيشرع الباب أمام فرنسا لولوج أزمات متنوعة. والآخر التأكيد أن لا خلاص لها إلا بتمكين «ائتلاف الوسط» من الحصول على الأكثرية.

بيد أن الرئيس ذهب في اليوم التالي أبعد من ذلك؛ إذ حذر في «بودكاست» من انزلاق فرنسا نحو «الحرب الأهلية» في حال وصل حزب «التجمع الوطني» أو حزب «فرنسا الأبية» (من خلال «الجبهة الشعبية الجديدة») إلى الحكم. فاليمين المتطرف، كما قال، يصنّف المواطنين وفق ديانتهم وأصلهم بينما «فرنسا الأبية» يتبع «نهجاً طوائفياً».

هذا التنبيه استدعى ردود فعل عنيفة اتهمت الرئيس بـ«اللامسؤولية»؛ إذ قال بارديلا إنه «لا يجوز أن يصدر عن رئيس للجمهورية مثل هذا القول»، في حين اتهمه ميلونشون بـ«السعي دوماً لإشعال النار». كذلك، أثار هذا الكلام استغراباً شديداً حتى في صفوف «الماكرونية»؛ إذ اتهمه أحد نوابها بأنه «فقد بوصلته السياسية» وأنه يسعى لإخافة المواطنين المتقدمين في السن لدفعهم للعودة إلى أحضان حزبه.

والواقع، أن استطلاعات الرأي تبيّن أن الانتخابات القادمة ستشكل نوعاً من الاستفتاء على اسم ماكرون الذي أمضى في الحكم، حتى اليوم، سبع سنوات. كما أنها مرجّح أن تفضي الانتخابات إلى مجلس نيابي تحكمه الفوضى بسبب هشاشة السيناريوهات الحكومية التي قد تكون متاحة بناء على نتائج الانتخابات.

...وأخيراً، ثمة أحجية على ماكرون و«ائتلاف الوسط» حلها، وهي تتناول الجولة الانتخابية الثانية يوم الأحد 7 يوليو (تموز)، ومضمون «النصيحة» التي سيقدّمانها لناخبيهما في حال انحصر التنافس بين مرشح يميني متطرف وآخر من «الجبهة الشعبية الجديدة»... وما الذي سيتعين عليهم اختياره «ما بين الكوليرا والطاعون»!