موسكو تواجه تداعيات كبرى... داخلياً وخارجياً

رصد روسي لتحولات استراتيجية يتوقع مرحلة من الفوضى العالمية

نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مستقبلاً قياديي "حماس" موسى أبو مرزوق وباسم نعيم في موسكو (رويترز)
نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مستقبلاً قياديي "حماس" موسى أبو مرزوق وباسم نعيم في موسكو (رويترز)
TT

موسكو تواجه تداعيات كبرى... داخلياً وخارجياً

نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مستقبلاً قياديي "حماس" موسى أبو مرزوق وباسم نعيم في موسكو (رويترز)
نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مستقبلاً قياديي "حماس" موسى أبو مرزوق وباسم نعيم في موسكو (رويترز)

لم تكن موسكو في بداية الحرب الإسرائيلية - الفلسطينية الجديدة، تتوقع أن تكتسب المواجهة الدموية المتفاقمة أبعاداً جيو - سياسية تلقي بثقل إضافي على التحولات الجارية في العالم، ومساعي بلورة ملامح نظام دولي جديد. إذ تراوحت التقديرات الروسية في البداية على أن المواجهة التي فجّرتها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) لا تعدو كونها حلقة جديدة من الصراع المتواصل منذ عقود. غير أن تطورات المشهد المأساوي في غزة، وحجم الحشد الغربي الذي ألقى بثقله بالكامل خلف إسرائيل، عسكرياً وسياسياً، دفع إلى إعادة ترتيب حسابات الكرملين. لقد أعادت نيران الصراع المتجدد في الشرق الأوسط وفقاً لوجهات نظر روسية تقسيم العالم، وفي حين أن المعسكر الغربي توحّد مجدّداً بعد الحرب الأوكرانية خلف أهداف مشتركة، فإن الطرف الآخر المتمثل في روسيا والصين وجزء كبير من المجتمع الدولي ما زال لم يجد آليات مشتركة لمواجهة الوضع المتفاقم. ومع تلك الحسابات على الصعيد الخارجي، حملت بعض ردود الفعل الداخلية في روسيا المشغولة بأولوياتها الخاصة في أوكرانيا، مستوًى جديداً من التنبيه بخطر محدق. ورأت أوساط مقرّبة من الكرملين في حادثة اقتحام مطار محج قلعة عاصمة جمهورية داغستان الذاتية الحكم مؤشراً مقلقاً جديداً، يدل إلى مستوى تأثير الأحداث الخارجية على الوضع في البلاد. بل، وشكّل هذا العنصر السبب الأساسي وراء الربط غير المسبوق للكرملين بين حربي غزة وأوكرانيا.

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أخيراً، إن بلاده تقاتل في أوكرانيا «مصدر الخطر» عليها وعلى الفلسطينيين. وصعّد لهجته ضد واشنطن على خلفية أعمال الشغب التي شهدتها، الأسبوع الماضي، جمهورية داغستان الذاتية الحكم في منطقة شمال القوقاز. كذلك، ربط الرئيس بوتين بين محاولات تأجيج الوضع الداخلي في روسيا بتحريض مباشر من الغرب والتطورات الدامية في فلسطين، وقال: إن «مساعدة الفلسطينيين تكون بمكافحة مَن يقف وراء هذه المأساة، وهم مَن تقاتلهم روسيا في إطار العملية العسكرية الخاصة» التي تخوضها في أوكرانيا.

جدير بالذكر، أن داغستان كانت قد شهدت أعمال شغب بعد اقتحام مطار العاصمة محج قلعة من جانب متظاهرين مناصرين لفلسطين، سعوا إلى منع دخول ركاب طائرة أقلت إسرائيليين من مزدوجي الجنسية. وبالفعل، سيطر المتظاهرون لساعات على المطار، قبل أن تعلن السلطات إطلاق عملية أمنية انتهت بعودة فتح المطار أمام الرحلات الدولية من دون أن يعلن عن اعتقالات وسط المهاجمين.

هذا الحادث أثار قلقاً واسعاً في روسيا، خصوصاً أن دعوات للعنف سبقته وفقاً لإعلان السلطات الداغستانية. ومن جهة أخرى، رأت الحكومة الروسية أن أجهزة غربية وأوكرانية وقفت وراء التحريض على العنف، وسط مخاوف من انتشار هذه الظاهرة إلى مناطق روسية تسكنها غالبية مسلمة. وعليه، دعا بوتين إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن، أكد خلاله أن بلاده تتصدى لخطر التحريض الخارجي ومحاولات استفزاز انقسام واسع في المجتمع الروسي.

لقد كان لافتاً تشديد الرئيس الروسي على أن جذور الاضطرابات الداغستانية «تنبع من المأساة التي تتكشف في فلسطين»، وأوضح أنه «حينما تنظر إلى الأطفال الملطخين بالدماء، والقتلى من الأطفال، وإلى معاناة النساء وكبار السن، وكيف يموت الأطباء، بالطبع تنقبض قبضات يدك وتنفجر الدموع في عينيك، ولا يمكن التعبير عن ذلك بأي طريقة أخرى (...) إلا أنه لا ينبغي، ولا حق لنا، ولا يمكن أن نسمح لأنفسنا بأن نسترشد بالعواطف». ومن وصل إلى النتيجة الرئيسية ومفادها أن روسيا «لا تشارك فقط في تشكيل عالم جديد، بل هي أحد قادة هذه العملية». وزاد: «إننا نقاتل من أجل مستقبلنا في ساحة المعركة. نحن نقاتل باستمرار ونفقد رفاقنا. إن وراء مأساة الفلسطينيين، ووراء الصراع في أوكرانيا، وفي أفغانستان وسوريا، تقف النخب الحاكمة في الولايات المتحدة. هؤلاء هم الذين يزرعون قواعد عسكرية في كل مكان، ويريدون تقسيمنا من الداخل».

لقطة من مهاجمة الطائرة الإسرائيلية في مطار العاصمة الداغستانية محج قلعة (آ ب)

مخاوف روسية داخلية

كشفت العبارات التي استخدمها الرئيس بوتين عن مستوى القلق الروسي من تفاقم الموقف، لا سيما، مع ربط ذلك باتهامات للغرب بمحاولة زعزعة الوضع في روسيا.

وعلى الرغم من أن اقتحام المطار شكّل تطوراً نوعياً في آليات التعبير عن الغضب، لكنه لا يُعدّ التحرك الوحيد الذي أقلق السلطات الروسية خلال الأيام الماضية. إذ أصدرت الإدارات الدينية لمسلمي روسيا نداءات متواصلة مطالبة بالتدخل لحماية الشعب الفلسطيني، كما دخل بعضها على خط إطلاق حملة واسعة لمقاطعة البضائع التي يدعم منتجوها إسرائيل. وكذلك، حفلت صفحات مسلمين روس على وسائل التواصل الاجتماعي بدعوات للتحرك من أجل حماية الفلسطينيين. لكن التطوّر الأبرز كان توجيه رسائل حادة جداً من رئيس الشيشان رمضان قديروف، الذي يحظى بنفوذ واسع في منطقة شمال القوقاز ذات الغالبية السكانية المسلمة. وكان قديروف قد قال: إن «الفاشية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ليست أقل من فاشية هتلر، وربما تفوقها». وأعلن، من ثم، عن استعداده لإرسال «قوات تفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين لتأمين حماية الشعب الفلسطيني». وعلى الأثر، وجد الكرملين نفسه مضطراً إلى الرد بسرعة على هذه التصريحات؛ إذ قال الناطق الرئاسي ديمتري بيسكوف: إن «لدى روسيا علاقات تاريخية طويلة الأمد مع الطرفين وتسعى إلى المحافظة على توازن علاقاتها».

في كل الأحوال، شكّل هذا التطور علامة فارقة في مستوى التحركات الداخلية المتوقعة كرد فعل على أحداث تجري في خارج البلاد. وللعلم، يُعد اقتحام المطار من حيث خطورته على استقرار الوضع الداخلي واحداً من التطورات الأبرز في روسيا، بعد منعطفي تمرّد مجموعة «فاغنر» في مايو (أيار) الماضي، وحملات النزوح الجماعية للشبان مع إطلاق عملية التعبئة العسكرية في مطلع العام.

هذا الأمر دفع السلطات إلى إبداء مستوى زائد من القلق على انعكاسات هذا المزاج على المستوى الداخلي الروسي. وأعلن الكرملين، أن أعمال الشغب التي شهدها مطار داغستان الروسية سوف يجري تحليلها عن كثب لمنع تكرارها. وبعد ذلك مباشرةً، بدأت تتردد معطيات حول توجيه تعليمات صارمة في الأقاليم، وخصوصاً تلك ذات الغالبية السكانية المسلمة بمنع وقوع أحداث مشابهة. وأيضاً وجّه بوتين، خلال ترؤسه مجلس الأمن الروسي الاستخبارات والسلطات الأمنية والمحلية، بالتصرف بحزم وفي الوقت المناسب لحماية النظام الدستوري والحفاظ على حقوق وحريات المواطنين، وحماية السلم الأهلي والديني في روسيا.

... والبعد الخارجيفي الواقع، كانت موسكو قد سعت إلى إظهار تميز موقفها عن الغرب، عندما استقبلت وفداً من حركة «حماس» بشكل رسمي. وبرّر سياسيون روس الزيارة التي كانت استعراضية أكثر من أن يكون لها بُعد سياسي مهم يحشد موقفاً روسياً جديداً، وذلك عبر الحديث عن أن موسكو «منفتحة على الأطراف ويمكن أن يساعدها ذلك في لعب دور وساطة».

وفي هذا الشأن، صحيح أن كثيرين في روسيا وإسرائيل يشككون في قدرة موسكو حالياً، على لعب دور للوساطة، وبخاصة، على خلفية المواجهة المتفاقمة مع الغرب واتساع الهوة بين تل أبيب وموسكو على خلفية مواقف إسرائيل من الحرب الأوكرانية، لكن هذين الأمرين لا يمنعان - من وجهة النظر الروسية - من العمل على هذا المسار الذي يعزّز النفوذ الروسي ويشكل مؤشراً إضافياً على فشل سياسة عزل موسكو.

منطلقات روسية

هنا، لا بد من التوقف عند منطلقات الموقف الروسي حيال الحرب الجارية، وأسباب تبني موسكو مواقف وُصفت في إسرائيل بأنها عدائية.

يقول خبراء: إن السبب الرئيسي هو أن موسكو تستفيد حالياً من صرف الانتباه عن الحرب الدائرة في أوكرانيا، ومن الارتباك الغربي الحاصل على صعيد توزيع الجهد في إمداد إسرائيل وأوكرانيا بالسلاح والمعلومات الاستخباراتية والموازنات المالية الكبرى.

بعبارة أخرى، فإن بعض المجتمعات الغربية - وخصوصاً في أوروبا - سوف تبدأ بطرح تساؤلات حول الجدوى من استمرار دعم أوكرانيا بالسلاح والمال. وهذا ما أظهره، مثلاً، فشل الاتحاد الأوروبي في التوصل إلى اتفاق حول الموضوع أخيراً. أضف إلى ما سبق، أن تركيز العالم كله على إسرائيل وقطاع غزة، يمنح روسيا حرية أوسع للتصرف. وهنا، على سبيل المثال، نجحت روسيا في التخلي عن معاهدة حظر التجارب النووية بهدوء نسبي. وبالإضافة إلى ذلك، حصلت روسيا على فرصة لتنشيط دبلوماسيتها، والانفتاح بشكل أنشط على الأطراف الدولية ومنظمات المجتمع الدولي؛ ما يعني تقويض المحاولات الغربية لعزلها. وهذا ظهر أخيراً في النشاط الزائد لموسكو في مجلس الأمن وفي الاتصالات مع الأطراف المختلفة.

ومن جانب، آخر، وإن كان صحيحاً القول بصعوبة تصوّر أن تقبل القيادة الإسرائيلية بوساطة روسية في الحرب الجارية، فإن هذا لا يمنع موسكو من مراكمة فوائد بسبب الوضع الحالي.

اتساع الهوة مع إسرائيل

في سياق متصل، فإن تركيز بعض الخبراء على فكرة «الفوائد الروسية» من الصراع المتفاقم، لا يعكس وحده منطلقات الموقف الروسي من الصراع الحالي. إذ لا بد من ملاحظة مستوى الانزلاق الذي وصلت إليه العلاقات بين موسكو وتل أبيب خلال الفترة الأخيرة، على خلفية المواقف الإسرائيلية من الحرب الأوكرانية. وهنا يدخل عاملان رئيسيان على خط السجالات:

الأول، العلاقة الروسية - الإيرانية التي وصلت مستويات من التنسيق والتحالف، جعلت محللين إسرائيليين يتحدثون عن مواجهة «محور يضم روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران وبلداناً أخرى كثيرة».

والآخر، يتعلق بتبلور رؤية روسية جديدة للتحالفات على خلفية الصراع المتفاقم مع الغرب؛ ما يعني أن موسكو بدأت تدريجياً تفقد اهتمامها ببناء توازنات صعبة مثل تلك التي بنتها منذ حلول قواتها العسكرية في سوريا.

على هذه الخلفية، من الصعب توقع تراجع موسكو عن مواقفها المعلنة. ذلك أنه من الناحية الجيو - سياسية ترى موسكو أن المواجهة الكبرى الحالية مع المخاوف من اتساع رقعتها وتحولها، كما قال بوتين، إلى «حرب إقليمية» تشكل فرصة مواتية لتعزيز التحركات الروسية على صعيد بلورة ملامح «نظام دولي جديد» دعت إليه مراراً موسكو وبكين. وفي هذا الإطار، يُنتظَر أن تواصل موسكو نشاطها السابق في مجلس الأمن وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، بما يهدف إلى تشكيل أوسع جبهة ممكنة معارضة للحرب. وبالأخص، أن إيقاف الحرب من دون تحقيق هدف تغيير الخرائط في المنطقة، سيؤدي إلى إضعاف نفوذ وتأثير واشنطن الإقليمي من وجهة النظر الروسية. وعلى صعيد موازٍ، صحيح أنه لن يكون بمقدور موسكو تجديد الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي للسلام أو طرح مبادرات كبرى - لأنها لن تكون وسيطاً مقبولاً من جانب الغرب - لكنها تظل قادرة على دعم مبادرات عدة قد تصدر من جهات مختلفة. وهنا يبرز مثال الدعوة الصينية لعقد مؤتمر للسلام. وأيضاً، بمقدور موسكو تحفيز مجموعات إقليمية عدة، بينها المجموعة العربية، لطرح آليات مختلفة عبر الجمعية العامة أو مجلس الأمن.

في مطلق الأحوال، ترى موسكو في الحرب الجارية مؤشراً إلى اتساع المأزق الغربي في التعامل مع الأزمات الإقليمية، وفرصة لتجديد حضورها المؤثر في هذه الأزمات. ومع أنها هنا قد لا تكون قادرة على القيام بمبادرة مباشرة لوحدها في ظل غياب أو تريث معسكر الحلفاء عن تقديم رؤية كاملة، من المرجح أن تقف موسكو بقوة خلف أي خطوات قد تقترحها الصين.

رمضان قديروف (آ ب)

«حرب غزة»... هل هي بداية تحولات استراتيجية؟

> يرى خبراء روس أن الحرب في فلسطين حالياً باتت تشكل المرحلة التالية من إعادة ترتيب النظام العالمي الجديد. وكتب الخبير فيودور لوكيانوف، أن «هذه العملية التي بدأت في مطلع القرن، اتخذت بُعداً جديداً، بعدما كانت القناعة قد سادت بأن جوهرها قد تحدد بنهاية المواجهة العسكرية الآيديولوجية العالمية في القرن العشرين. وانطلاقاً من هذا الفهم، فإن الصراعات الإقليمية عكست الفشل في تسريع وتيرة بناء النظام الدولي الجديد، كما أن كثرة التناقضات في العالم أدت إلى تراكم التوتر وتحول الصراعات المجمدة إلى صراعات ساخنة».

لقد بدأت الحروب في منطقتي جنوب القوقاز وأوروبا الشرقية، والآن في الشرق الأوسط، تشهد - وفقاً للخبير الروسي - «مرحلة الدعم العسكري المفتوح للتحولات السياسية والاقتصادية العالمية». وهنا يلاحظ لوكيانوف، أن «نظام العلاقات، الذي تأسس مع اختفاء الاتحاد السوفياتي وسيطرة القطب الواحد، لم يكن قادراً في نهاية المطاف على نزع فتيل «الألغام» القديمة أو عزلها من أجل الحد من تأثير التفجير. وللأسف، هناك عدد غير قليل من براميل البارود من هذا النوع منتشرة حول العالم، والأمل ضئيل في أن يقتصر الأمر على الانفجارات التي حدثت بالفعل».

وانطلاقاً من هذا الفهم، يرى خبراء روس، أن «حرب غزة 2023» لن تحل القضية الفلسطينية التي لا توجد بعد آليات لحل نهائي لها، لكنها أصبحت بالفعل «علامة فارقة في السياسة العالمية». ولتوضيح هذه الفكرة؛ كتب موقع «روسيا في السياسة العالمية»: إنه «من ناحية، هناك مجموعة من البلدان القريبة ثقافياً وتاريخياً والتي تقاتل، من أجل منع إعادة النظر في نتائج الحرب الباردة. وفي هذا الصدد، يهدف الغرب إلى تحقيق أقصى قدر من التوحيد ومواجهة الاتجاهات غير المواتية له. لكن الأمر اللافت هو أن مهمة الدمج ليست خارجية فحسب، بل داخلية أيضاً. إذ يتزايد عدد التناقضات الاجتماعية والسياسية داخل دول المجتمع الغربي. ما يؤسس لزيادة الحاجة إلى ظهور تهديد موحد من الخارج. لكن من المرغوب فيه ألا يكون هذا التهديد مفرطاً».

ويمضي الموقع «وهذا أمر مفهوم أيضاً - فغالبية المجتمعات لا تريد خوض حروب مباشرة سواء في أوروبا أو في أميركا. ومن هنا يأتي وفقاً لمجتمع الخبراء الروس، الشعار الثابت الذي يعبّر عنه الأميركيون بشكل أكثر صراحة، ويعبّر عنه الأوروبيون بشكل مستتر، بأن مساعدة الطرف المتحالف معهم المتحارب (أوكرانيا، والآن إسرائيل على ما يبدو) تشكل استثماراً مربحاً. وبهذا المعنى، يظل الغرب المجموعة الوحيدة من الدول التي لديها نظام فعّال للتبعية. وعلى رأس هذا التسلسل الهرمي تأتي الولايات المتحدة، التي عزّزت الآن هيمنتها. ولكن على وجه التحديد داخل القطب».

في المقابل، وفق الموقع الروسي، «فإن ممثلي بقية العالم لا تجد آليات للانخراط في شكل موحّد في مواجهة الغرب. ولذا ينجح الغرب بطرح آليات مؤقتة لتحقيق توازنات على المستوى الإقليمي مثلاً تحظى بقبول من جانب الأطراف التي لا تجد آليات أخرى لمواجهة التحديات الناشئة». ومن ثم، يرى الخبراء الروس أن هذا هو شكل النظام الدولي الحالي، وأن هذا المسار قد يمر بفترة انتقالية طويلة نسبياً. وهذا يعني أن على روسيا «الاستعداد لتحوّلات وانفجارات عدة في مناطق كثيرة في العالم».


مقالات ذات صلة

الكرملين يعترف بأزمة ديموغرافية «كارثية» ويدعو لزيادة المواليد

أوروبا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (قناة الكرملين عبر «تلغرام»)

الكرملين يعترف بأزمة ديموغرافية «كارثية» ويدعو لزيادة المواليد

لفت الكرملين النظر إلى أن الحالة الديموغرافية «كارثية على مستقبل الأمة»، في حين عجزت السياسات المختلفة المنفّذة في روسيا منذ ربع قرن عن زيادة معدل المواليد.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا أوراق نقدية من فئة 20 و50 يورو (د.ب.أ)

الاتحاد الأوروبي يحول لأوكرانيا 1.5 مليار يورو من عائدات الأصول الروسية

أعلن الاتحاد الأوروبي تأمين 1.5 مليار يورو (1.6 مليار دولار) لدعم أوكرانيا، وهي أول دفعة من الأموال المكتسبة من الأرباح على الأصول الروسية المجمدة.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
أوروبا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ.ب)

بوتين يدعو إلى «معاقبة» الساعين لـ«تقسيم» روسيا

شجع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المحققين الروس على التصدي لأي خطر يتسبب بانقسام المجتمع في روسيا.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا وزير خارجية الصين يمد يده لمصافحة نظيرة الروسي في عاصمة لاوس فينتيان الخميس (أ.ف.ب)

الكرملين يؤكد الاستعداد للتفاوض مع كييف لـ«تحقيق أهدافنا»

أكدت روسيا انفتاحها بشكل عام على عملية التفاوض مع أوكرانيا مع حاجتها لفهم ما إذا كان الجانب الأوكراني مستعداً لذلك.

سعيد عبد الرازق (أنقرة) «الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا روسيا استخدمت طائرات مسيرة هجومية من طراز «شاهد-131/136» (أرشيفية - رويترز)

أوكرانيا تسقط 25 من 38 مسيرة أطلقتها روسيا ليلا

قال قائد القوات الجوية الأوكرانية، اليوم (الخميس)، إن القوات الجوية دمرت 25 من 38 طائرة مسيرة أطلقتها روسيا أثناء الليل.

«الشرق الأوسط» (كييف )

روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
TT

روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)

مطلع الشهر الماضي ذهب الأوروبيون إلى صناديق الاقتراع لتجديد عضوية البرلمان الأوروبي، فيما أجمعت الآراء على وصفها بأنها أهمّ انتخابات في تاريخ الاتحاد، الذي منذ أكثر من سنتين تشتعل حرب على تخومه وتهدد باتساع دائرتها وإيقاظ أشباح الماضي الذي قام المشروع الأوروبي بهدف وأده، وهذا بينما تتنامى داخل حدوده القوى التي منذ ثمانية عقود أفرزت أقسى الحروب التي شهدتها القارة في الأزمنة الحديثة. ولقد جاءت النتائج لتؤكد الصعود المطّرد للموجة اليمينية المتطرفة التي كانت قد أمسكت بزمام الحكم منذ سنتين في إحدى الدول الأعضاء الكبرى المؤسسة، إيطاليا، وأصبحت قاب قوسين من الوصول إلى سدّة الرئاسة الفرنسية... فيما بدت جذورها راسخة في العديد من البلدان الأعضاء الأخرى. ولكن، على الرغم من الصاعقة التي ضربت الصرح السياسي الفرنسي، ظل صعود هذه الموجة دون منسوب الطوفان الذي كانت تنذر به الاستطلاعات ويهدد - وفقاً لأفضل الاحتمالات - بجنوح المركب الأوروبي عن مساره التأسيسي. أمام هذا المشهد المعقد، كان القرار الأول الذي اتخذه البرلمان الجديد في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الفائت بعد انتخاب رئيسة له، تأكيد الدعم لأوكرانيا وترسيخ الانقسام الحاد بين الكتل السياسية الذي لم يشهد له مثيلاً منذ تأسيسه في عام 1979.

صور بارديلا مرفوعة خلال حملة الانتخابات الفرنسية (إيبا/شاترستوك)

يتّسم البرلمان الأوروبي الجديد الذي افتتح ولايته الاشتراعية العاشرة هذا الأسبوع في العاصمة البلجيكية بروكسل بكونه الأكثر تشرذماً، على صعيد الكتل التي تشكلت داخله بعد انتخابات التاسع من الشهر الماضي، والأكثر جنوحاً نحو اليمين. إذ أصبح أكثر من نصف أعضائه ينضوون تحت الرايات اليمينية المحافظة واليمينية المتطرفة. بيد أن عجز القوى المتطرفة عن الانصهار ضمن كتلة واحدة، أدّى إلى تشكيل 8 كتل سياسية، للمرة الأولى منذ عشرين سنة، تتصدرها كتلة الحزب الشعبي الأوروبي الذي يضمّ 26 في المائة من الأعضاء. وحقاً، ينذر هذا التشرذم بولاية يتخلّلها المزيد من النقاش الحاد، يصعب فيها التوازن عند الاستحقاقات الحسّاسة ويتعذّر الاتفاق، ذلك أن القوى المعتدلة التي كانت تشكل مجتمعة 70 في المائة من أعضاء البرلمان الأول عام 1979، ما عادت تمثّل اليوم أكثر من 45 في المائة فقط.

أهمية الاستقرار السياسي

تعدّ هذه الولاية على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للاستقرار السياسي داخل الاتحاد، خاصةً بعد صعود اليمين المتطرف والزلزال الذي نجم عن الانتخابات الأخيرة في فرنسا، حيث لا يزال المخاض مستمراً لتشكيل حكومة جديدة. وفي حين تجهد القوى المعتدلة للتأكيد بأنها تمكّنت من صدّ الموجة اليمينية المتطرفة - مع خشية كثيرين من أن تكون هذه آخر فرصة لقطع الطريق أمام الانقلاب السياسي الكبير - تكثّف هذه القوى مساعيها لفرض حظر على التعامل مع بعض القوى اليمينية المتطرفة التي تصنّفها قريبة من روسيا، وتعمل على منعها من تولّي مناصب حساسة في المؤسسات الأوروبية.

كتلة الحزب الشعبي الأوروبي تضم اليوم في البرلمان الجديد 188 عضواً، تليها كتلة الحزب الاشتراكي التي تتكوّن من 136 عضواً لا يتجاوزون نسبة 20 في المائة من المجموع للمرة الأولى منذ انطلاق البرلمان. وتأتي في المرتبة الثالثة كتلة «وطنيون من أجل أوروبا» اليمينية المتطرفة بـ84 عضواً، التي يقودها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وزعيمة «التجمّع الوطني» الفرنسي مارين لوبان، ثم تأتي في المرتبة الرابعة الكتلة اليمينية الأخرى التي تتزعمها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني وتضمّ 87 عضواً تحت شعار «المحافظون والديمقراطيون من أجل أوروبا»... التي فشلت حتى الآن كل محاولات ضمّها إلى كتلة الحزب الشعبي الأوروبي. أما الكتلة الأخيرة التي تتجاوز بقليل 10 في المائة من مجموع أعضاء البرلمان، فهي الكتلة الليبرالية الوسطية، التي كانت أكبر الخاسرين في الانتخابات الأخيرة بعدما فقدت المرتبة الثالثة التي كانت تحتلها عادةً بين الكتل السياسية في البرلمان الأوروبي.

"تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان"

البرلمان الأكثر جنوحاً نحو اليمين

بذلك يكون هذا البرلمان الجديد الأكثر جنوحاً نحو اليمين في تاريخ الاتحاد الأوروبي. ويبقى الذكور يشكلون فيه أكثرية الأعضاء (60 في المائة)، مع أن بعض البلدان، مثل قبرص، لم تنتخب أي رجل للبرلمان الجديد، بينما تشكّل النساء ثلث الأعضاء المنتخبين في كلٍ من ألمانيا وإيطاليا.

من ناحية أخرى، كان التطور اللافت والمفاجئ في المعسكر اليميني المتطرف نجاح رئيس الوزراء المجري أوربان في لمّ شمل القوى اليمينية المتطرفة القريبة من موسكو ضمن كتلة برلمانية جديدة «وطنيون من أجل أوروبا». ولقد قامت هذه الكتلة على أنقاض كتلة «الهوية والديمقراطية»، وتضمّ كلاً من الحزب الليبرالي النمساوي و«التحالف المدني» الذي يقوده رئيس الوزراء التشيكي السابق أندريه بابيس، إلى جانب حزب «فوكس» الإسباني، وحزب «الرابطة» الإيطالي بزعامة ماتّيو سالفيني، واليمين الهولندي المتطرف، وحزب «التجمع الوطني» الفرنسي بزعامة مارين لوبان.

ويعود الفضل في تشكيل هذه الكتلة الجديدة، التي تعمّدت تهميش رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، إلى أوربان وحلفائه في أوروبا الشرقية. ويهدف هذا التجمع الجديد إلى التأثير في سياسات البرلمان الأوروبي وعرقلة مشروع الاندماج الذي يتجه نحو توسعة جديدة للاتحاد تشمل دول البلقان وبعض بلدان القوقاز، إلى جانب أوكرانيا.

رئيس الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني (رويترز)

دور فيكتور أوربان

وتأتي هذه الخطوة أيضاً، وسط تزايد القلق بين الشركاء الأوروبيين من الدور الذي يلعبه فيكتور أوربان في الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد، وجولاته على كييف وموسكو وبكين في «مهمة سلام» لم تكلفه بها الدول الأعضاء التي وجهت إليه انتقادات شديدة واتهمته بخدمة مصالح الكرملين، وبدأت أخيراً بمقاطعة الاجتماعات الوزارية التي تنظمها الرئاسة المجرية.

هذا، وكان «التجمّع الوطني» الفرنسي الذي تقوده لوبان، والذي يشكّل القوة الرئيسية في هذه الكتلة الجديدة بعد حصوله على 30 مقعداً في انتخابات الشهر الماضي، قد تريّث في الإعلان عن انضمامه إلى الكتلة في انتظار نتائج الدورة الثانية من الانتخابات الاشتراعية الفرنسية التي كان يأمل أن يحصل فيها على الغالبية المطلقة ويكلّف نجمه الصاعد الشاب جوردان بارديلا تشكيل الحكومة الجديدة. إلا أنه بعد ظهور النتائج النهائية للانتخابات الفرنسية وتراجع «التجمع الوطني» إلى المرتبة الثالثة، صرّح بارديلا - الذي كان قد انتُخب عضواً في البرلمان الأوروبي – بـ«أن أعضاء (التجمع الوطني) في البرلمان الأوروبي الجديد سيلعبون دورهم كاملاً ضمن كتلة كبيرة سيكون لها تأثير واضح على موازين السلطة ومعادلاتها في أوروبا». وتعهّد بارديلا، بالتالي، مواصلة العمل من أجل «منع إغراق بلدان الاتحاد بالمهاجرين، ورفض السياسات البيئية المتطرفة، ومصادرة السيادة الوطنية».

وما يُذكر أنه على الرغم من تغيّب بارديلا عن الاجتماع التأسيسي للكتلة الجديدة، فإنه انتُخب رئيساً لها بالإجماع، يعاونه ستة نواب للرئيس، تبرز من بينهم المجرية كينغا غال كنائبة أولى.

تشكيك بإمكانية توحيد اليمين

في أي حال، تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة هذه الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان الجديد، وتستبعد نجاحها في العمل بتوجيهات موحدة في ضوء اختلاف مصالحها وأهدافها الخاصة. وكانت الكتلة السابقة «الهوية والديمقراطية»، التي قامت على أنقاضها الكتلة الجديدة، وكان ينتمي إليها حزب «البديل من أجل ألمانيا» - الذي طُرد منها بسبب التصريحات النازية لزعيمه - دائماً معزولة من القوى البرلمانية الأخرى، بما فيها الكتلة التي تتزعمها ميلوني. وهنا نشير إلى أنه رغم الانسجام العريض بين مواقف ميلوني ومواقف أوربان من معظم الملفات الأوروبية، فإن الزعيمين يختلفان بوضوح حول الحرب الدائرة في أوكرانيا؛ إذ تصطف ميلوني ضمن الموقف الرسمي للاتحاد، بعكس حليفها اللدود في الائتلاف الحكومي الذي ينافسها على زعامة المعسكر اليميني المتطرف في إيطاليا، زعيم حزب «الرابطة» ماتيو سالفيني.

جدير بالذكر، أن البرلمان الأوروبي الجديد انتخب في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الماضي المالطية روبرتا متسولا، من الحزب الشعبي، رئيسة لنصف الولاية الاشتراعية حتى مطلع عام 2027. ونالت متسولا، التي كانت ترأس البرلمان السابق منذ وفاة الإيطالي دافيد ساسولي، 562 صوتاً من أصل 720، وهذا رقم قياسي لم يحصل عليه أي من الرؤساء السابقين؛ الأمر الذي يدلّ على أنها حصلت أيضاً على تأييد عدد من نواب اليمين المتطرف بجانب تأييد الكتلتين الكبريين اللتين تتوافقان عادة على توزيع المناصب القيادية في مؤسسات الاتحاد.

ولقد قالت متسولا في كلمتها قبل البدء بالاقتراع السري: «أدعوكم إلى التمسك والالتزام بمبادئنا وقيمنا التأسيسية، والدفاع عن سيادة القانون، وعن الإنسانية في الشرق الأوسط ورفض اجتياح أوكرانيا». وشددت، كما فعلت عند انتخابها للمرة الأولى، على إعطاء البرلمان الأوروبي صلاحية اقتراح التشريعات المقصورة حالياً على المفوضية.