موسكو تواجه تداعيات كبرى... داخلياً وخارجياً

رصد روسي لتحولات استراتيجية يتوقع مرحلة من الفوضى العالمية

نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مستقبلاً قياديي "حماس" موسى أبو مرزوق وباسم نعيم في موسكو (رويترز)
نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مستقبلاً قياديي "حماس" موسى أبو مرزوق وباسم نعيم في موسكو (رويترز)
TT

موسكو تواجه تداعيات كبرى... داخلياً وخارجياً

نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مستقبلاً قياديي "حماس" موسى أبو مرزوق وباسم نعيم في موسكو (رويترز)
نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مستقبلاً قياديي "حماس" موسى أبو مرزوق وباسم نعيم في موسكو (رويترز)

لم تكن موسكو في بداية الحرب الإسرائيلية - الفلسطينية الجديدة، تتوقع أن تكتسب المواجهة الدموية المتفاقمة أبعاداً جيو - سياسية تلقي بثقل إضافي على التحولات الجارية في العالم، ومساعي بلورة ملامح نظام دولي جديد. إذ تراوحت التقديرات الروسية في البداية على أن المواجهة التي فجّرتها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) لا تعدو كونها حلقة جديدة من الصراع المتواصل منذ عقود. غير أن تطورات المشهد المأساوي في غزة، وحجم الحشد الغربي الذي ألقى بثقله بالكامل خلف إسرائيل، عسكرياً وسياسياً، دفع إلى إعادة ترتيب حسابات الكرملين. لقد أعادت نيران الصراع المتجدد في الشرق الأوسط وفقاً لوجهات نظر روسية تقسيم العالم، وفي حين أن المعسكر الغربي توحّد مجدّداً بعد الحرب الأوكرانية خلف أهداف مشتركة، فإن الطرف الآخر المتمثل في روسيا والصين وجزء كبير من المجتمع الدولي ما زال لم يجد آليات مشتركة لمواجهة الوضع المتفاقم. ومع تلك الحسابات على الصعيد الخارجي، حملت بعض ردود الفعل الداخلية في روسيا المشغولة بأولوياتها الخاصة في أوكرانيا، مستوًى جديداً من التنبيه بخطر محدق. ورأت أوساط مقرّبة من الكرملين في حادثة اقتحام مطار محج قلعة عاصمة جمهورية داغستان الذاتية الحكم مؤشراً مقلقاً جديداً، يدل إلى مستوى تأثير الأحداث الخارجية على الوضع في البلاد. بل، وشكّل هذا العنصر السبب الأساسي وراء الربط غير المسبوق للكرملين بين حربي غزة وأوكرانيا.

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أخيراً، إن بلاده تقاتل في أوكرانيا «مصدر الخطر» عليها وعلى الفلسطينيين. وصعّد لهجته ضد واشنطن على خلفية أعمال الشغب التي شهدتها، الأسبوع الماضي، جمهورية داغستان الذاتية الحكم في منطقة شمال القوقاز. كذلك، ربط الرئيس بوتين بين محاولات تأجيج الوضع الداخلي في روسيا بتحريض مباشر من الغرب والتطورات الدامية في فلسطين، وقال: إن «مساعدة الفلسطينيين تكون بمكافحة مَن يقف وراء هذه المأساة، وهم مَن تقاتلهم روسيا في إطار العملية العسكرية الخاصة» التي تخوضها في أوكرانيا.

جدير بالذكر، أن داغستان كانت قد شهدت أعمال شغب بعد اقتحام مطار العاصمة محج قلعة من جانب متظاهرين مناصرين لفلسطين، سعوا إلى منع دخول ركاب طائرة أقلت إسرائيليين من مزدوجي الجنسية. وبالفعل، سيطر المتظاهرون لساعات على المطار، قبل أن تعلن السلطات إطلاق عملية أمنية انتهت بعودة فتح المطار أمام الرحلات الدولية من دون أن يعلن عن اعتقالات وسط المهاجمين.

هذا الحادث أثار قلقاً واسعاً في روسيا، خصوصاً أن دعوات للعنف سبقته وفقاً لإعلان السلطات الداغستانية. ومن جهة أخرى، رأت الحكومة الروسية أن أجهزة غربية وأوكرانية وقفت وراء التحريض على العنف، وسط مخاوف من انتشار هذه الظاهرة إلى مناطق روسية تسكنها غالبية مسلمة. وعليه، دعا بوتين إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن، أكد خلاله أن بلاده تتصدى لخطر التحريض الخارجي ومحاولات استفزاز انقسام واسع في المجتمع الروسي.

لقد كان لافتاً تشديد الرئيس الروسي على أن جذور الاضطرابات الداغستانية «تنبع من المأساة التي تتكشف في فلسطين»، وأوضح أنه «حينما تنظر إلى الأطفال الملطخين بالدماء، والقتلى من الأطفال، وإلى معاناة النساء وكبار السن، وكيف يموت الأطباء، بالطبع تنقبض قبضات يدك وتنفجر الدموع في عينيك، ولا يمكن التعبير عن ذلك بأي طريقة أخرى (...) إلا أنه لا ينبغي، ولا حق لنا، ولا يمكن أن نسمح لأنفسنا بأن نسترشد بالعواطف». ومن وصل إلى النتيجة الرئيسية ومفادها أن روسيا «لا تشارك فقط في تشكيل عالم جديد، بل هي أحد قادة هذه العملية». وزاد: «إننا نقاتل من أجل مستقبلنا في ساحة المعركة. نحن نقاتل باستمرار ونفقد رفاقنا. إن وراء مأساة الفلسطينيين، ووراء الصراع في أوكرانيا، وفي أفغانستان وسوريا، تقف النخب الحاكمة في الولايات المتحدة. هؤلاء هم الذين يزرعون قواعد عسكرية في كل مكان، ويريدون تقسيمنا من الداخل».

لقطة من مهاجمة الطائرة الإسرائيلية في مطار العاصمة الداغستانية محج قلعة (آ ب)

مخاوف روسية داخلية

كشفت العبارات التي استخدمها الرئيس بوتين عن مستوى القلق الروسي من تفاقم الموقف، لا سيما، مع ربط ذلك باتهامات للغرب بمحاولة زعزعة الوضع في روسيا.

وعلى الرغم من أن اقتحام المطار شكّل تطوراً نوعياً في آليات التعبير عن الغضب، لكنه لا يُعدّ التحرك الوحيد الذي أقلق السلطات الروسية خلال الأيام الماضية. إذ أصدرت الإدارات الدينية لمسلمي روسيا نداءات متواصلة مطالبة بالتدخل لحماية الشعب الفلسطيني، كما دخل بعضها على خط إطلاق حملة واسعة لمقاطعة البضائع التي يدعم منتجوها إسرائيل. وكذلك، حفلت صفحات مسلمين روس على وسائل التواصل الاجتماعي بدعوات للتحرك من أجل حماية الفلسطينيين. لكن التطوّر الأبرز كان توجيه رسائل حادة جداً من رئيس الشيشان رمضان قديروف، الذي يحظى بنفوذ واسع في منطقة شمال القوقاز ذات الغالبية السكانية المسلمة. وكان قديروف قد قال: إن «الفاشية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ليست أقل من فاشية هتلر، وربما تفوقها». وأعلن، من ثم، عن استعداده لإرسال «قوات تفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين لتأمين حماية الشعب الفلسطيني». وعلى الأثر، وجد الكرملين نفسه مضطراً إلى الرد بسرعة على هذه التصريحات؛ إذ قال الناطق الرئاسي ديمتري بيسكوف: إن «لدى روسيا علاقات تاريخية طويلة الأمد مع الطرفين وتسعى إلى المحافظة على توازن علاقاتها».

في كل الأحوال، شكّل هذا التطور علامة فارقة في مستوى التحركات الداخلية المتوقعة كرد فعل على أحداث تجري في خارج البلاد. وللعلم، يُعد اقتحام المطار من حيث خطورته على استقرار الوضع الداخلي واحداً من التطورات الأبرز في روسيا، بعد منعطفي تمرّد مجموعة «فاغنر» في مايو (أيار) الماضي، وحملات النزوح الجماعية للشبان مع إطلاق عملية التعبئة العسكرية في مطلع العام.

هذا الأمر دفع السلطات إلى إبداء مستوى زائد من القلق على انعكاسات هذا المزاج على المستوى الداخلي الروسي. وأعلن الكرملين، أن أعمال الشغب التي شهدها مطار داغستان الروسية سوف يجري تحليلها عن كثب لمنع تكرارها. وبعد ذلك مباشرةً، بدأت تتردد معطيات حول توجيه تعليمات صارمة في الأقاليم، وخصوصاً تلك ذات الغالبية السكانية المسلمة بمنع وقوع أحداث مشابهة. وأيضاً وجّه بوتين، خلال ترؤسه مجلس الأمن الروسي الاستخبارات والسلطات الأمنية والمحلية، بالتصرف بحزم وفي الوقت المناسب لحماية النظام الدستوري والحفاظ على حقوق وحريات المواطنين، وحماية السلم الأهلي والديني في روسيا.

... والبعد الخارجيفي الواقع، كانت موسكو قد سعت إلى إظهار تميز موقفها عن الغرب، عندما استقبلت وفداً من حركة «حماس» بشكل رسمي. وبرّر سياسيون روس الزيارة التي كانت استعراضية أكثر من أن يكون لها بُعد سياسي مهم يحشد موقفاً روسياً جديداً، وذلك عبر الحديث عن أن موسكو «منفتحة على الأطراف ويمكن أن يساعدها ذلك في لعب دور وساطة».

وفي هذا الشأن، صحيح أن كثيرين في روسيا وإسرائيل يشككون في قدرة موسكو حالياً، على لعب دور للوساطة، وبخاصة، على خلفية المواجهة المتفاقمة مع الغرب واتساع الهوة بين تل أبيب وموسكو على خلفية مواقف إسرائيل من الحرب الأوكرانية، لكن هذين الأمرين لا يمنعان - من وجهة النظر الروسية - من العمل على هذا المسار الذي يعزّز النفوذ الروسي ويشكل مؤشراً إضافياً على فشل سياسة عزل موسكو.

منطلقات روسية

هنا، لا بد من التوقف عند منطلقات الموقف الروسي حيال الحرب الجارية، وأسباب تبني موسكو مواقف وُصفت في إسرائيل بأنها عدائية.

يقول خبراء: إن السبب الرئيسي هو أن موسكو تستفيد حالياً من صرف الانتباه عن الحرب الدائرة في أوكرانيا، ومن الارتباك الغربي الحاصل على صعيد توزيع الجهد في إمداد إسرائيل وأوكرانيا بالسلاح والمعلومات الاستخباراتية والموازنات المالية الكبرى.

بعبارة أخرى، فإن بعض المجتمعات الغربية - وخصوصاً في أوروبا - سوف تبدأ بطرح تساؤلات حول الجدوى من استمرار دعم أوكرانيا بالسلاح والمال. وهذا ما أظهره، مثلاً، فشل الاتحاد الأوروبي في التوصل إلى اتفاق حول الموضوع أخيراً. أضف إلى ما سبق، أن تركيز العالم كله على إسرائيل وقطاع غزة، يمنح روسيا حرية أوسع للتصرف. وهنا، على سبيل المثال، نجحت روسيا في التخلي عن معاهدة حظر التجارب النووية بهدوء نسبي. وبالإضافة إلى ذلك، حصلت روسيا على فرصة لتنشيط دبلوماسيتها، والانفتاح بشكل أنشط على الأطراف الدولية ومنظمات المجتمع الدولي؛ ما يعني تقويض المحاولات الغربية لعزلها. وهذا ظهر أخيراً في النشاط الزائد لموسكو في مجلس الأمن وفي الاتصالات مع الأطراف المختلفة.

ومن جانب، آخر، وإن كان صحيحاً القول بصعوبة تصوّر أن تقبل القيادة الإسرائيلية بوساطة روسية في الحرب الجارية، فإن هذا لا يمنع موسكو من مراكمة فوائد بسبب الوضع الحالي.

اتساع الهوة مع إسرائيل

في سياق متصل، فإن تركيز بعض الخبراء على فكرة «الفوائد الروسية» من الصراع المتفاقم، لا يعكس وحده منطلقات الموقف الروسي من الصراع الحالي. إذ لا بد من ملاحظة مستوى الانزلاق الذي وصلت إليه العلاقات بين موسكو وتل أبيب خلال الفترة الأخيرة، على خلفية المواقف الإسرائيلية من الحرب الأوكرانية. وهنا يدخل عاملان رئيسيان على خط السجالات:

الأول، العلاقة الروسية - الإيرانية التي وصلت مستويات من التنسيق والتحالف، جعلت محللين إسرائيليين يتحدثون عن مواجهة «محور يضم روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران وبلداناً أخرى كثيرة».

والآخر، يتعلق بتبلور رؤية روسية جديدة للتحالفات على خلفية الصراع المتفاقم مع الغرب؛ ما يعني أن موسكو بدأت تدريجياً تفقد اهتمامها ببناء توازنات صعبة مثل تلك التي بنتها منذ حلول قواتها العسكرية في سوريا.

على هذه الخلفية، من الصعب توقع تراجع موسكو عن مواقفها المعلنة. ذلك أنه من الناحية الجيو - سياسية ترى موسكو أن المواجهة الكبرى الحالية مع المخاوف من اتساع رقعتها وتحولها، كما قال بوتين، إلى «حرب إقليمية» تشكل فرصة مواتية لتعزيز التحركات الروسية على صعيد بلورة ملامح «نظام دولي جديد» دعت إليه مراراً موسكو وبكين. وفي هذا الإطار، يُنتظَر أن تواصل موسكو نشاطها السابق في مجلس الأمن وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، بما يهدف إلى تشكيل أوسع جبهة ممكنة معارضة للحرب. وبالأخص، أن إيقاف الحرب من دون تحقيق هدف تغيير الخرائط في المنطقة، سيؤدي إلى إضعاف نفوذ وتأثير واشنطن الإقليمي من وجهة النظر الروسية. وعلى صعيد موازٍ، صحيح أنه لن يكون بمقدور موسكو تجديد الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي للسلام أو طرح مبادرات كبرى - لأنها لن تكون وسيطاً مقبولاً من جانب الغرب - لكنها تظل قادرة على دعم مبادرات عدة قد تصدر من جهات مختلفة. وهنا يبرز مثال الدعوة الصينية لعقد مؤتمر للسلام. وأيضاً، بمقدور موسكو تحفيز مجموعات إقليمية عدة، بينها المجموعة العربية، لطرح آليات مختلفة عبر الجمعية العامة أو مجلس الأمن.

في مطلق الأحوال، ترى موسكو في الحرب الجارية مؤشراً إلى اتساع المأزق الغربي في التعامل مع الأزمات الإقليمية، وفرصة لتجديد حضورها المؤثر في هذه الأزمات. ومع أنها هنا قد لا تكون قادرة على القيام بمبادرة مباشرة لوحدها في ظل غياب أو تريث معسكر الحلفاء عن تقديم رؤية كاملة، من المرجح أن تقف موسكو بقوة خلف أي خطوات قد تقترحها الصين.

رمضان قديروف (آ ب)

«حرب غزة»... هل هي بداية تحولات استراتيجية؟

> يرى خبراء روس أن الحرب في فلسطين حالياً باتت تشكل المرحلة التالية من إعادة ترتيب النظام العالمي الجديد. وكتب الخبير فيودور لوكيانوف، أن «هذه العملية التي بدأت في مطلع القرن، اتخذت بُعداً جديداً، بعدما كانت القناعة قد سادت بأن جوهرها قد تحدد بنهاية المواجهة العسكرية الآيديولوجية العالمية في القرن العشرين. وانطلاقاً من هذا الفهم، فإن الصراعات الإقليمية عكست الفشل في تسريع وتيرة بناء النظام الدولي الجديد، كما أن كثرة التناقضات في العالم أدت إلى تراكم التوتر وتحول الصراعات المجمدة إلى صراعات ساخنة».

لقد بدأت الحروب في منطقتي جنوب القوقاز وأوروبا الشرقية، والآن في الشرق الأوسط، تشهد - وفقاً للخبير الروسي - «مرحلة الدعم العسكري المفتوح للتحولات السياسية والاقتصادية العالمية». وهنا يلاحظ لوكيانوف، أن «نظام العلاقات، الذي تأسس مع اختفاء الاتحاد السوفياتي وسيطرة القطب الواحد، لم يكن قادراً في نهاية المطاف على نزع فتيل «الألغام» القديمة أو عزلها من أجل الحد من تأثير التفجير. وللأسف، هناك عدد غير قليل من براميل البارود من هذا النوع منتشرة حول العالم، والأمل ضئيل في أن يقتصر الأمر على الانفجارات التي حدثت بالفعل».

وانطلاقاً من هذا الفهم، يرى خبراء روس، أن «حرب غزة 2023» لن تحل القضية الفلسطينية التي لا توجد بعد آليات لحل نهائي لها، لكنها أصبحت بالفعل «علامة فارقة في السياسة العالمية». ولتوضيح هذه الفكرة؛ كتب موقع «روسيا في السياسة العالمية»: إنه «من ناحية، هناك مجموعة من البلدان القريبة ثقافياً وتاريخياً والتي تقاتل، من أجل منع إعادة النظر في نتائج الحرب الباردة. وفي هذا الصدد، يهدف الغرب إلى تحقيق أقصى قدر من التوحيد ومواجهة الاتجاهات غير المواتية له. لكن الأمر اللافت هو أن مهمة الدمج ليست خارجية فحسب، بل داخلية أيضاً. إذ يتزايد عدد التناقضات الاجتماعية والسياسية داخل دول المجتمع الغربي. ما يؤسس لزيادة الحاجة إلى ظهور تهديد موحد من الخارج. لكن من المرغوب فيه ألا يكون هذا التهديد مفرطاً».

ويمضي الموقع «وهذا أمر مفهوم أيضاً - فغالبية المجتمعات لا تريد خوض حروب مباشرة سواء في أوروبا أو في أميركا. ومن هنا يأتي وفقاً لمجتمع الخبراء الروس، الشعار الثابت الذي يعبّر عنه الأميركيون بشكل أكثر صراحة، ويعبّر عنه الأوروبيون بشكل مستتر، بأن مساعدة الطرف المتحالف معهم المتحارب (أوكرانيا، والآن إسرائيل على ما يبدو) تشكل استثماراً مربحاً. وبهذا المعنى، يظل الغرب المجموعة الوحيدة من الدول التي لديها نظام فعّال للتبعية. وعلى رأس هذا التسلسل الهرمي تأتي الولايات المتحدة، التي عزّزت الآن هيمنتها. ولكن على وجه التحديد داخل القطب».

في المقابل، وفق الموقع الروسي، «فإن ممثلي بقية العالم لا تجد آليات للانخراط في شكل موحّد في مواجهة الغرب. ولذا ينجح الغرب بطرح آليات مؤقتة لتحقيق توازنات على المستوى الإقليمي مثلاً تحظى بقبول من جانب الأطراف التي لا تجد آليات أخرى لمواجهة التحديات الناشئة». ومن ثم، يرى الخبراء الروس أن هذا هو شكل النظام الدولي الحالي، وأن هذا المسار قد يمر بفترة انتقالية طويلة نسبياً. وهذا يعني أن على روسيا «الاستعداد لتحوّلات وانفجارات عدة في مناطق كثيرة في العالم».


مقالات ذات صلة

لافروف: العلاقات مع سوريا استراتيجية... ولا نريد «هدنة ضعيفة» في أوكرانيا

العالم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (لقطة من بث حي للمؤتمر الصحافي) play-circle

لافروف: العلاقات مع سوريا استراتيجية... ولا نريد «هدنة ضعيفة» في أوكرانيا

قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن قائد الإدارة الجديدة في سوريا، أحمد الشرع، «يصف العلاقات مع روسيا بأنها طويلة الأمد واستراتيجية، ونحن نتفق معه في ذلك».

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا جانب من الدمار الذي خلفه هجوم روسي على خاركيف في 25 ديسمبر (إ.ب.أ)

أوكرانيا تُدين الهجوم الروسي «غير الإنساني» على نظامها للطاقة

أدان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، هجوماً واسعاً شنته القوات الروسية على شبكة الطاقة، أمس (الأربعاء)، وعدَّه «غير إنساني» لأنه جاء صبيحة الاحتفالات بعيد.

«الشرق الأوسط» (كييف - لندن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتهية ولايته جو بايدن (رويترز)

بايدن يندّد بالهجوم الروسي «الشائن» على أوكرانيا

قال الرئيس الأميركي المنتهية ولايته جو بايدن، الأربعاء، إنه أصدر توجيهات لوزارة الدفاع لمواصلة زيادة تسليم الأسلحة إلى أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا احتفل آلاف الجنود الأوكرانيين بيوم الميلاد على جبهات القتال بدونيتسك في 25 ديسمبر (أ.ب)

زيلينسكي يدين ضربات روسية «لا إنسانية» استهدفت قطاع الطاقة

كييف رصدت استخدام 70 صاروخاً، بينها صواريخ باليستية، وأكثر من 100 مسيّرة في الهجوم الروسي على البنية التحتية للطاقة.

«الشرق الأوسط» (لندن - كييف )
أوروبا اتهمت روسيا «الناتو» بالسعي إلى تحويل مولدوفا مركزاً لوجيستياً لدعم الجيش الأوكراني (إ.ب.أ)

روسيا تتهم «الناتو» بمحاولة تحويل مولدوفا «مركزاً لوجيستياً» لدعم أوكرانيا

اتهمت وزارة الخارجية الروسية، اليوم الأربعاء، «حلف شمال الأطلسي (ناتو)» بالسعي إلى تحويل مولدوفا مركزاً لوجيستياً لدعم الجيش الأوكراني.

«الشرق الأوسط» (تشيسيناو)

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».