مايك جونسون... رئيس مجلس النواب الأكثر محافظة في تاريخ الولايات المتحدة

الجمهوريون المعتدلون انضموا للمتشددين بعدما سئموا من المشاحنات والخلل الوظيفي

مايك جونسون... رئيس مجلس النواب الأكثر محافظة في تاريخ الولايات المتحدة
TT

مايك جونسون... رئيس مجلس النواب الأكثر محافظة في تاريخ الولايات المتحدة

مايك جونسون... رئيس مجلس النواب الأكثر محافظة في تاريخ الولايات المتحدة

عد انتخاب النائب الجمهوري اليميني المتشدد، مايك جونسون، رئيسا لمجلس النواب الأميركي، مفاجأة لم يكن يتوقعها، حتى الديمقراطيون أنفسهم. وكان هؤلاء قد شاركوا عمداً في جهود حفنة من النواب الجمهوريين اليمينيين المتشددين، في عزل رئيس المجلس السابق كيفن مكارثي، قبل شهر. كان الديمقراطيون يعتقدون أن من شأن استمرار تعطيل المجلس تعميق انقسامات الجمهوريين وإظهار ضعفهم ويحولهم إلى أضحوكة أمام قاعدتهم والرأي العام الأوسع. ومن ثم، تحميلهم المسؤولية عن إبقاء ثالث أرفع منصب سياسي في البلاد في حالة شغور غير مسبوقة، تمهيدا لإعادة سيطرتهم على المجلس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024. لكن الجمهوريين تمكنوا من تجاوز انقساماتهم، بعد 3 جولات انتخابية فاشلة، أطاحت برموز وازنة في حزبهم، ليستسلم مؤتمرهم ويوافق على انتخاب يميني «هادئ» وقيادي من الدرجة السابعة، ليصبح فجأة رقم 2 في خط الخلافة الرئاسية، بعد نائب الرئيس. الكرة أضحت الآن في ملعب الديمقراطيين، عليهم الخروج من مأزقهم في ظل رهانات سياسية خاطئة تتعلق بتقديراتهم لقوة التيار اليميني الذي يواصل صعوده في البلاد.

خلال صيف عام 2012، قال الرئيس الأميركي الديمقراطي باراك أوباما لمؤيديه، إنه إذا فاز بالبيت الأبيض مرة أخرى، فإن ذلك «سيكسر الحمّى اليمينية» بين الجمهوريين. ولكن، بدلا من ذلك، بعد خسارة المرشح الجمهوري المعتدل ميت رومني سباق الرئاسة أمامه، تبنى الحزب نسخة أكثر تشدداً عبر ترشيح دونالد ترمب في عامي 2016 و2020. وبعد فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2020، قال جو بايدن إنه مع رحيل ترمب، يأمل أن يتمكّن الحزب الجمهوري هذه المرة من كسر هذه «الحمى» أخيراً. لكن الحزب الجمهوري ذهب هذه المرة إلى عمق أكبر، حيث أشاد بمحاولة الرئيس السابق الفاشلة للبقاء في منصبه، ودافع عنه مرارا وتكرارا. وها هو اليوم، ينتخب مايك جونسون، أحد أكبر المُنكرين لنتائج انتخابات 2020، الذي كتب بنفسه المذكرة التي رفعت إلى المحكمة العليا لدعم مراجعة تلك الانتخابات.

الأمر إذاً ليس حمّى بقدر ما هو مسار، لا يزال الحزب الجمهوري يختطّه في عملية انزياح نحو اليمين، بعدما كان يُعد حزب الدفاع عن التقاليد والاستقرار السياسي. فاليوم، لا يوجد أي سبب للاعتقاد بأنه سيعود إلى ما كان عليه، مع انتخاب جونسون. فكيف تمكن هذا الرجل «المغمور»، الذي بالكاد كان معروفاً داخل الولايات المتحدة نفسها بحسب صحيفة «بوليتيكو»، ويجهد الدبلوماسيين الأجانب في واشنطن والعواصم الأجنبية للبحث عنه في محرك البحث «غوغل»؟

المتشدّدون حصلوا على رجُلهم عملياً،

حصل المتشدّدون الجمهوريون في النهاية على رجلهم، رغم أنه لم يكن هو الشخص الأكثر تطرفاً الذي كان خيارهم الأول. وقال النائب اليميني، ماثيو غايتس، الذي قاد عملية إقصاء مكارثي، لصحيفة «وول ستريت جورنال» في هذا الصدد «أعتقد أن التاريخ سيقيّم الأسابيع الثلاثة (المدة التي بقي فيها المجلس من دون رئيس) باعتبارها الأسابيع الأكثر إنتاجية للكونغرس الـ118، لأنه لدينا الآن رجل وخطة».

ثم إنه إذا كان الجمهوريون المعتدلون هم من أسقطوا النائب جيم جوردان، الأب الروحي لليمين المتطرف - ويرجع ذلك جزئياً إلى اعتراضهم على دوره في محاولة إلغاء انتخابات 2020 - فلماذا إذاً انضموا إلى التيار اليميني لصالح جونسون، الذي كتب المذكرة إلى المحكمة العليا لإلغائها؟

يقول البعض إن المعتدلين، نظراً لأعدادهم المحدودة، «لم يروا أي طريق آخر للخروج من الاضطرابات التي يشهدها حزبهم، بعدما سئموا من المشاحنات والخلل الوظيفي وأرادوا العودة إلى العمل». ومع ذلك، بدا من الضروري مراجعة المسار الذي أدى في النهاية إلى صعود جونسون، الذي لم يكن يحظى بشهرة وطنية، ليظهر في نهاية المطاف، المرشح الرئيسي لمنصب رئيس البرلمان. وما يستحق الذكر هنا، أنه حتى السيناتورة الجمهورية المعتدلة المخضرمة سوزان كولينز، قالت إنها اضطرت للبحث عنه على موقع غوغل.

أكثر من هذا، بجانب كون جونسون عضواً «من الدرجة الثانية» في قيادة مجلس النواب، إذ انتخب لأول مرة عام 2016، فهو يعد أيضاً المشرّع الأكثر غموضاً الذي وصل إلى رئاسة المجلس منذ انتزع المنصب النائب السابق دينيس هاسترت، الذي جاء من المقاعد الخلفية عام 1998، خلفا لنيوت غينغريتش، بعد تغلبه على توم ديلاي، الذي كان يعد نسخة جيم جوردان في ذلك الوقت. فكيف أصبح هذا الغموض المحيط بالرجل ميزة بالنسبة له؟

أعداء جونسون قليلون

جونسون، على عكس المرشحين الثلاثة الفاشلين لمنصب رئيس مجلس النواب الذين سبقوه، لديه عدد قليل من الأعداء بين الجمهوريين في مجلس النواب. ووفق كتابات عدة، فإن السمة المميّزة له هي «الجمع بين وجهات نظره المتشددة والأسلوب الشخصي اللطيف». غير أن طبيعة جونسون اللطيفة لا تعني أنه مرشح يحظى بالإجماع. وهذا ما حصل في الواقع، حين خسر تصويت الحزب أمام توم أيمير، الذي استقال بعد 4 ساعات فقط، ليحظى لاحقاً بشبه إجماع ويصبح الرئيس الـ56 لمجلس النواب.

في الحقيقة، مايك جونسون ليس معتدلاً ولا مؤسساتياً بل هو العكس تماماً. إنه أحد «تلامذة» جوردان، الآتي من الجناح اليميني المتشدد المناهض للمؤسساتية في الحزب الجمهوري والكونغرس. ومع أنه لم يكن عضواً في «تجمّع الحرية» الذي يرأسه جوردان، إلا أنه قاد لجنة الدراسة الجمهورية التي جعلت مقولة «أن أي دولار يُنفَق على الضمان الاجتماعي هو إنفاق أكثر من اللازم» شعارا لعملها ضد دور الحكومة.

أيضاً، عدّ الكثير من وسائل الإعلام انتخاب جونسون «حدثاً تاريخياً»، وتوقعت أنه قد يكون رئيس المجلس الأكثر محافظة في تاريخ الولايات المتحدة. بيد أن وقائع عدة تظهر أن صعوده لم يأت مصادفةً، بل كان تتويجاً لسلسلة متعمّدة من التحركات التي مكّنته من وضع نفسه في موضع قوة أكبر. ذلك أنه - مثلاً - يعارض حقوق الإجهاض وزواج المثليين، كما أنه لم يعارض أبداً «قاعدة» الحزب الجمهوري... وفي الوقت نفسه، كان يبني صدقيته باعتباره من الموالين لترمب. ومما قاله لصحيفة «الديلي بيست» عام 2018 إنه سعى جاهداً للحفاظ على العلاقات مع كل من «تجمع الحرية» وقيادة الحزب. واستمرت هذه التوجّهات مع تحرك المتشددين ضد سلفه رئيس مجلس النواب السابق كيفن مكارثي، إذ صوّت جونسون ضد تمويل أوكرانيا والإنفاق المؤقت في 30 سبتمبر (أيلول)، وأيد صفقة مكارثي مع الديمقراطيين للحد من الديون، مما منحه المصداقية كلاعب جماعي. وفيما وصفته حملة الرئيس بايدن لعام 2024 بأنه «ماغا مايك» (شعار ترمب اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى)، قال عنه ترمب بأنه «سيقوم بعمل رائع».

من هو جونسون؟

نشأ مايكل «مايك» جونسون، (51 سنة) في مدينة شريفيبورت بولاية لويزيانا. وكان والده رجل إطفاء كاد أن يُقتل عام 1984 في انفجار مصنع أدى إلى إعاقته. وقال جونسون لصحيفة مسقط رأسه لاحقاً «لقد غيّرت هذه الحادثة مسار حياة عائلتنا». وذكر أنه كان يحلم بأن يصبح رجل إطفاء، إلا أنه بدلاً من ذلك التحق بجامعة ولاية لويزيانا وأصبح محامياً دستورياً.

ثم إنه قال في خطابه بعيد انتخابه رئيساً لمجلس النواب بشيء من الاعتزاز «أنا أول خريج جامعي في عائلتي»، وفي حينه، سجلت صحيفة «وول ستريت جورنال» أنه «بدا لطيفاً وخفيف الظل وذكياً».

بعدما خدم جونسون لفترة وجيزة في المجلس التشريعي لولاية لويزيانا، وقبل ترشحه كنائب عن ولاية لويزيانا في مجلس النواب الأميركي، وفوزه عام 2016، دافع جونسون أمام المحكمة العليا في لويزيانا عن الحظر الذي فرضته الولاية على زواج المثليين.

والواقع أن جونسون مسيحي إنجيلي محافظ ومتشدد، يعتز بأن «إيمانه يحدد كل ما يفعله». وهو متزوّج من كيلي لاري ولديهما أربعة أطفال. وفي نفي مُسبق لأي شعور عنصري، قال إنه في وقت مبكّر من حياته الزوجية تبنّى وزوجته صبياً أميركياً من أصل أفريقي يبلغ من العمر 14 سنة واعتبراه جزءاً من عائلتهما. وللعلم، فإنه يقدّم وزوجته «بودكاست» عن الدين والسياسة تحت مسمى «الحقيقة تُقال».

قناعاته الاقتصادية اليمينية

عام 2018، قال جونسون إن ضابط الإنفاق العام هو «أولويته الأولى»، مضيفا أن تخفيضات «تقديمات الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية والمساعدات الطبية والفوائد على الديون... كان من الواجب أن تحدث بالأمس (أي إنها تأخرت كثيراً عن الوقت الملائم)» لأنها (أي التقديمات) تشكل «تهديداً وجودياً للتجربة الأميركية».

وحقاً، في عامي 2019 و2021، عارض جونسون قانون رفع الحد الأدنى للأجور، إلى 15 دولاراً في الساعة، باعتباره «تشريعاً مدمّراً للوظائف». ومن جهة ثانية، أيّد الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس السابق دونالد ترمب عام 2017 بحظر الهجرة من سبع دول ذات غالبية مسلمة، قائلاً «هذه ليست محاولة لحظر أي دين، بل هي بالأحرى محاولة لحماية وطننا بشكل مناسب. نحن نعيش في عالم خطير، وهذا الإجراء المهم سيساعدنا على تحقيق التوازن بين الحرية والأمن».

رفضه نتائج انتخابات 2020

في سياق متصل، وبعيداً عن نزعته المحافظة بشأن قضايا السياسة، انضم مايك جونسون بشكل وثيق إلى جهود ترمب لإلغاء نتائج انتخابات عام 2020، ولعب دوراً ريادياً بارزاً في حث الجمهوريين على التوقيع على مذكرة إلغاء النتائج. وأيضاً حشد الدعم لدعوى قضائية في ولاية تكساس سعت إلى إلغاء النتائج في أربع ولايات متأرجحة فاز بها جو بايدن، ورفضت المحكمة العليا تلك القضية.

جونسون، يُعد بالفعل أحد أعضاء الكونغرس الجمهوريين الذين يثيرون قلق العديد من خبراء الديمقراطية، بسبب رفضه تقبّل ما يدعونه «أحد المبادئ الأساسية للنظام الأميركي»... أي الاستعداد لقبول هزيمة حزبهم. وفي هذا الاتجاه اعتبر العالم السياسي خوان لينز شخصيات مثله بأنهم «الجهات الفاعلة شبه المخلصة من السياسيين الذين لا يبادرون إلى شن هجمات (مباشرة) على الديمقراطية، لكنهم ينسجمون معها».

وهنا نشير إلى أن جونسون «ابتكر» نظرية قانونية لتبرير اعتراض ترمب على نتائج 2020، وأيدها العديد من زملائه في مجلس النواب، تزعم أن فنزويلا متورّطة بطريقة ما في العبث بآلات التصويت في الولايات المتحدة. وبسبب مواجهة جائحة «كوفيد - 19» التي فرضت تغييرات في طريقة التصويت، حثّ الجمهوريين على منع المصادقة على نتيجة الانتخابات بحجة أنها كانت غير شرعية وغير دستورية. وعندما سُئل، خلال مؤتمره الصحافي الأول كرئيس للمجلس، عما إذا كان لا يزال متمسكاً بجهوده لإلغاء انتخابات 2020، تجاهل السؤال، وصرخت النائبة فيرجينيا فوكس من ولاية نورث كارولينا على الصحافيين طالبة منهم بأن يصمتوا.

هذا عن الانتخابات الفائتة... ولكن إذا خسر ترمب مرة أخرى انتخابات 2024، وادعى حصول تزوير، قد يكون مايك جونسون في وضع أفضل لمساعدته. وبحسب موقع «بوليتيكو»، تساءل مايكل والدمان الباحث في «مركز برينان للعدالة» عن نيات رئيس مجلس النواب قائلاً «هل سيدافع هذا الرجل عن الدستور؟ أم أنه سيفعل ما فعله في المرة السابقة؟».


مقالات ذات صلة

«البنتاغون»: وزيرا الدفاع الأميركي والإسرائيلي يجتمعان في واشنطن الأربعاء

الولايات المتحدة​ وزارة الدفاع الأميركية (رويترز)

«البنتاغون»: وزيرا الدفاع الأميركي والإسرائيلي يجتمعان في واشنطن الأربعاء

قالت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، الأحد، إن الوزير لويد أوستن سيجتمع مع نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت، يوم الأربعاء.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ القلق من تأثير المعلومات المضللة على نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية يسيطر على أغلب الناخبين (إ.ب.أ)

الناخبون الأميركيون يخشون الأخبار المضللة الصادرة عن السياسيين أنفسهم

قبل شهر من الانتخابات الرئاسية الأميركية، تواجه البلاد سيلاً من المعلومات الزائفة، وأكثر ما يخشاه الناخبون التضليل الإعلامي الصادر عن السياسيين أنفسهم.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب وزوجته ميلانيا (د.ب.أ)

ميلانيا ترمب: لا أتفق مع كل قرارات زوجي

كشفت ميلانيا ترمب في مذكراتها الجديدة أنها لا تتفق مع كل قرارات زوجها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شؤون إقليمية المرشح الرئاسي الجمهوري والرئيس السابق دونالد ترمب يتحدث في تجمع لحملته الانتخابية في نورث كارولاينا (رويترز) play-circle 00:56

ترمب يدعم ضرب «النووي» الإيراني… وإسرائيل لا تقدم ضمانات لبايدن

أرسلت وزارة الدفاع الأميركية(البنتاغون) مجموعة كبيرة من الأسلحة إلى المنطقة، ومنها حاملات طائرات ومدمرات بصواريخ موجهة وسفن هجومية برمائية وأسراب من المقاتلات.

علي بردى (واشنطن)
الولايات المتحدة​ لحظة إصابة دونالد ترمب في أذنه اليمنى (رويترز)

ترمب يعود اليوم الى مسرح محاولة اغتياله في بنسلفانيا

يعود المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأميركية دونالد ترمب، اليوم السبت، إلى بلدة باتلر في ولاية بنسلفانيا حيث تعرّض لمحاولة اغتيال بالرصاص.

«الشرق الأوسط» (بيتسبرغ)

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)
تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)
TT

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)
تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)

بعد عِقد من الزمن، توافد الناخبون بإقليم جامو وكشمير، ذي الغالبية المسلمة والخاضع للإدارة الهندية، بأعداد قياسية للتصويت للحكومة المحلية في إطار انتخابات البرلمان المحلي. واصطف الناخبون في طوابير طويلة، خارج مراكز الاقتراع، للإدلاء بأصواتهم. وأفادت لجنة الانتخابات الهندية بأن نسبة المشاركة في التصويت تجاوزت 61 في المائة، ما يشكل أعلى نسبة منذ 35 سنة. ويذكر أن الصراع في كشمير، الذي يعود بجذوره إلى تقسيم الهند وباكستان عام 1947، مستعر منذ أكثر من سبعة عقود. ولذا بدا مشهد طابور المقترعين عَصياً على التصديق، بالنظر إلى تاريخ منطقة كشمير الطبيعية العنيف لأكثر عن ثلاثة عقود. ويُذكر أن كلاً من الهند وباكستان تدعي أحقيتها بالسيادة الكاملة على كشمير الطبيعية، إلا أن كلاً منهما تسيطر على جزء من الإقليم، في عداء مستحكم زاد عمره على 75 سنة شهد توتراً ومجابهات عسكرية بين الجارتين النوويتين، منذ استقلالهما عن الحكم الاستعماري البريطاني عام 1947.

كانت أول انتخابات برلمانية في جامو وكشمير قد أجريت مارس (آذار) ويونيو (حزيران) 1957، ودار التنافس حينذاك على 75 مقعداً، بموجب الدستور الخاص بالإقليم. أما الانتخابات التشريعية الحالية، فتُعدّ الأولى منذ إلغاء حكومة ناريندرا مودي، الهندية اليمينية المتشددة، المادة 370 عام 2019، وخفض الوضع القانوني لما كان ولاية جامو وكشمير – وهو أعلى التقسيمات الإدارية في الهند – إلى مجرد «إقليم اتحادي» ووضعه تحت الحكم المباشر من العاصمة دلهي. ومعروف أن وضع «الولاية» أعطى جامو وكشمير دستورها وقوانينها وخدماتها الإدارية الخاصة... لكن اليمين القوي الهندوسي لا يريد ذلك.

تحوّل عند المقاطعين؟

تفيد جهات محسوبة على حكومة مودي بأن الناخبين الذين قاطعوا الانتخابات طوال السنوات الـ34 الماضية، أظهروا «تحولاً لافتاً» نحو الديمقراطية التشاركية، وتوجّهوا إلى صناديق الاقتراع لخوض تجربة التصويت الأولى لهم، ولم يكن هناك خوف من العنف المسلح أو الإكراه من أي جانب.

وتاريخياً، لطالما كانت مشاركة الناخبين في كشمير ضعيفة بسبب قوة النزعة الاستقلالية. إلا أنه للمرة الأولى منذ 30 سنة، لم تسجل هذه المرة دعوة لمقاطعة الانتخابات من قِبل الاستقلاليين، الذين أقبل بعضهم على الترشح للانتخابات بالوكالة. وبينما بدا التغيير واضحاً للبعض، فإن هذا لا يعني أن الإقليم تحوّل فردوس سلام، وأن القلق تلاشى إلى الأبد؛ إذ لا تزال الأرضية السياسية مضطربة جراء التغييرات الحاسمة التي شهدها العقد الماضي.

في هذا الصدد، علق المحلل السياسي والصحافي الكشميري المخضرم زاهور مالك، قائلاً: «لحسن الحظ، يجري نقل الجدال إلى صناديق الاقتراع وسط مشاركة جماهيرية. وما سيخرج من هذا التفويض يحمل أهم ختم داخل دولة ديمقراطية: إرادة الشعب». وأردف: «تشكل هذه الانتخابات الاختبار الرئيسي للتحولات السياسية بالمنطقة بعد انتهاء الوضع الخاص لجامو وكشمير، وهي ستكون مؤشراً رئيسياً على المزاج السياسي في منطقة شهدت تغييرات جذرية على امتداد العقد الماضي».

الاستقلاليون والانتخابات

كما سبقت الإشارة، لأول مرة، شارك عدد كبير من الاستقلاليين السابقين إلى الانتخابات، بما في ذلك أعضاء سابقون في جماعات محظورة. من بين هذه الشخصيات سرجان أحمد واغاي، وهو رجل دين بارز كانت له مواقف معادية للهند. لكن واغاي يترشح اليوم، من داخل السجن في دائرتين انتخابيتين بوسط كشمير، هما غاندربال وبيرواه.

وهناك أيضاً حافظ محمد سكندر مالك، القيادي المتمرد، الذي كان أول من تقدّم بأوراق ترشحه مرشحاً مستقلاً، مع أنه لا يزال مصفّداً بجهاز تتّبع في رجليه يعمل بتكنولوجيا «جي بي إس». وكان مالك قد اعتقل عام 2019، وجرى احتجازه مرتين بموجب قانون السلامة العامة.

كذلك، سيار أحمد ريشي (42 سنة) زعيم «الجماعة الإسلامية» المحظورة السابق والمرشح المستقل اليوم، الذي كان يروّج لآيديولوجية انفصالية، ارتأى على ما يبدو أن الاقتراع أفضل من الرصاص لمواجهة الظلم، وهو يتولى تنظيم حملته الانتخابية عبر التنقّل والتفاعل مع الناخبين من باب إلى باب. وللعلم، كانت «الجماعة الإسلامية» من مكوّنات «مؤتمر الحريات»، الذي هو مزيج من الأحزاب السياسية الاستقلالية في كشمير، وقد سبق له دعم دعوات مقاطعة الانتخابات بعد عام 1987.

وأيضاً التحق القيادي الاستقلالي السابق سليم جيلاني بركب المشاركين بعد 35 سنة من العمل الدؤوب في جبهة الاستقلاليين. وبرّر الرجل تغييره موقفه برغبته «في إنجاز التنمية الاقتصادية لكشمير، وحلّ وضع كشمير داخل الهند... ثم كيف يمكنني أن أنكر حقيقة أنني أحمل جواز سفر هندياً وأستخدم العملة الهندية؟».

سرّ التحول المفاجئ

المحلل السياسي مزمّل مقبول، يرى أن كثيرين ممّن عارضوا لفترة طويلة اندماج كشمير مع الهند غيّروا مواقفهم منذ إلغاء صفة الحكم الذاتي الخاص بالإقليم عام 2019. وبالمثل، قال الصحافي إشفاق سلام، الذي عمل على الأرض في كشمير على مدى العقدين الماضيين: «إن نجاح الزعيم الاستقلالي الشيخ عبد الرشيد، الذي فاز بمقعد في البرلمان أثناء الانتخابات الوطنية في وقت سابق من العام، بينما هو يقبع داخل سجن تيهار في نيودلهي، أعاد ثقة الناس في نزاهة الانتخابات. وجاء نجاحه بمثابة تعبير عن إحباط الناخبين تجاه الأحزاب السياسية القائمة، علاوة على كون ذلك بمثابة تصويت ضد نيودلهي». ويُذكر أن عبد الرشيد خرج من السجن بكفالة مؤقتة، وهو يتولّى حالياً تنظيم حملة قوية لصالح مرشحي حزبه السياسي البالغ عددهم 34 مرشحاً. وقد ألهم العديد من الاستقلاليين للانضمام إلى المعركة؛ ما أدى إلى زيادة المشاركة العامة في المؤتمرات الانتخابية.

انزعاج الأحزاب الرئيسية

من جهة ثانية، أثار العدد الكبير من المرشحين الذين خاضوا هذه الانتخابات من المرتبطين سابقاً بالتيارات الاستقلالية، القلق والشكوك في صفوف أقوى حزبين سياسيين تقليديين في كشمير، أي «المؤتمر الوطني» و«حزب الشعب الديمقراطي».

وفي هذا السياق، تساءل عمر عبد الله، رئيس وزراء جامو وكشمير السابق، الذي تعرّض للهزيمة أمام عبد الرشيد، عن مصدر الأموال التي يحصل عليها هؤلاء المرشحون - الذين صنّفتهم نيودلهي فيما مضى باعتبارهم «مسلحين» - ما مكّنهم من خوض الانتخابات، وأيضاً «السر» وراء التغيير المفاجئ في آرائهم. واتهم عمر هؤلاء بأنهم «فريق مرشحي الاحتياط» لحزب «بهاراتيا جاناتا» اليميني الحاكم بزعامة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي.

وهنا نشير إلى أنه من الناحية الرسمية ليس لحزب «بهاراتيا جاناتا» (هندوسي قومي متشدد) أي وجود يذكر في إقليم كشمير ذي الغالبية المسلمة. فنظراً لتوقعه الخسارة، لم يدفع الحزب الحاكم في الهند تحت اسمه بأي مرشح في الانتخابات الوطنية بالإقليم في وقت سابق من 2024، وهذا رغم ادعائه أنه عزّز هيكله ورفع عضويته إلى 700 ألف داخل الإقليم، على امتداد العقد الماضي.

أهمية الانتخابات

يقول مراقبون إن انتخابات كشمير هذه ذات أهمية خاصة لأكثر من سبب، أبرزها أنها أول انتخابات تشريعية بعد إلغاء حكومة مودي المادة 370. وبجانب ذلك، يظهر أن لحكومة مودي وحزبه «بهاراتيا جاناتا»، مع هذه الانتخابات ما يشكّل «لحظة حساب». وحقاً، يُعد إلغاء المادة 370، التي منحت وضعاً خاصاً لجامو وكشمير، أخطر خطوة اتخذتها أي حكومة هندية منذ عام 1952. وترى الحكومة الهندية أن تغيير الوضع السابق يساعدها في تشكيل الحكومة بمفردها داخل جامو وكشمير، وأن هذا سيكون كافياً لمحو جميع أخطائها السابق. للمرة الأولى منذ 30 سنة لم تسجل هذه المرة دعوة لمقاطعة الانتخابات من قِبل الاستقلاليين الذين أقبل بعضهم على الترشح للانتخابات بالوكالة