خافيير ميلي... شعبوي يميني يتصدر سباق الرئاسة الأرجنتينية

مع العد التنازلي ليوم الاقتراع

خافيير ميلي... شعبوي يميني يتصدر سباق الرئاسة الأرجنتينية
TT

خافيير ميلي... شعبوي يميني يتصدر سباق الرئاسة الأرجنتينية

خافيير ميلي... شعبوي يميني يتصدر سباق الرئاسة الأرجنتينية

يذهب الأرجنتينيون نهاية الأسبوع المقبل إلى مراكز الاقتراع لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، في الوقت الذي تفيد آخر الدراسات التي أجرتها اللجنة الاقتصادية لأميركا اللاتينية، التابعة للأمم المتحدة، بأن نسبة الفقراء في الأرجنتين تجاوزت 40 %، أي ما يقارب 19 مليون مواطن، منهم كثيرون يعجزون عن تأمين احتياجاتهم الغذائية في واحد من أهم البلدان الزراعية في العالم، والوحيد الذي تنمو فيه جميع أنواع المحاصيل بفضل تنوع مناخه وتربة مساحاته الشاسعة، فضلاً عن أنه كان في النصف الأول من القرن الفائت قوة اقتصادية بارزة ودائناً لعدد من الدول الأوروبية الغربية. وتستنتج هذه الدراسة أن ارتفاع عدد الفقراء بما يزيد على 4 ملايين خلال السنوات الثماني المنصرمة، والركود الاقتصادي المتواصل منذ بداية العقد الفائت، تسببا في موجة من السخط والغضب العميق لدى المواطنين، انعكست ابتعاداً عن المشاركة في العمليات الانتخابية، أو بالنزوع نحو تأييد خيارات شعبوية متطرفة. هذا المشهد الاجتماعي القاتم يفسّر، بنسبة كبيرة، تصدّر المرشّح اليميني الشعبوي المتطرف خافيير ميلي جميع الاستطلاعات الأخيرة، التي ترجّح فوزه في الجولة الأولى. إلا أنه من غير المتوقع لميلي النجاح في تجاوز العتبة التي تعفيه من خوض الجولة الثانية للوصول إلى رئاسة الجمهورية.

تتعدد التسميات التي تطلقها وسائل الإعلام المحلية والأجنبية على خافيير ميلي، الذي يتزعم حزب «الحرية تتقدّم»، بين «شعبوي» و«يميني متطرف» و«متهوّر» أو «فلتة شوط». غير أن استطلاعات الرأي تضعه في صدارة المرشحين لخلافة الرئيس الأرجنتيني الحالي ألبرتو فرنانديز (يسار الوسط) في حال فوزه على منافسيه الأربعة، وفي طليعتهم مرشح الحزب الحاكم ووزير الاقتصادي الحالي المخضرم سيرجيو ماسّا، ومرشحة اليمين التقليدي باتريسيا بولريتش.

وفي حين تجمع التوقعات على أن ميلي سيحلّ أولاً في الجولة الأولى بحصوله على 35 في المائة من الأصوات، سينحصر التنافس على المرتبة الثانية بين ماسّا الذي نال في الاستطلاعات الأخيرة 30 في المائة وبولريتش التي حلّت ثالثة بنسبة 26 في المائة، لخوض المعركة الأخيرة في الجولة الثانية الحاسمة منتصف الشهر المقبل.

الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري

ميلي... الظاهرة

منذ عام 2021 يحتلّ خافيير ميلي مقعداً في مجلس النواب الأرجنتيني عن مدينة بوينوس آيرس (العاصمة)، بعدما كان أستاذاً لمادة الاقتصاد وشخصية إعلامية اشتهر بعنف انتقاداته للنظام القائم والطبقة الحاكمة وسياساتها الاقتصادية التي يعتبرها «طريقاً إلى الانتحار الاجتماعي» على حد قوله.

لميلي عدة مؤلفات في السياسة والاقتصاد، ومشهورة مداخلاته التلفزيونية التي غالباً ما يستخدم فيها عبارات قاسية ضد محاوريه وأسلوباً سوقياً في طرح مواقفه وآرائه. ولذا يجمع المحللون على تصنيفه في خانة اليمين المتطرف، بينما يعرّف هو عن نفسه بأنه «رأسمالي فوضوي» من أتباع المدرسة النمساوية في الاقتصاد التي أسست أواخر القرن التاسع عشر وتقوم على مبدأ الفردية المنهجية، الذي يعتبر أن التحوّلات الاجتماعية ثمرة الدوافع والتصرفات الفردية. وتعارض هذه المدرسة بشدة النظريات الاقتصادية الماركسية، والنقدية والكلاسيكية الجديدة.

من ناحية ثانية، يلفت في سيرة ميلي العائلية أنه قرر قطع علاقاته بشكل نهائي وكامل مع والديه في عام 2010، بسبب «سوء المعاملة» الذي تعرّض له على يديهما طوال سنوات، ولكن تربطه علاقة وثيقة بشقيقته التي يعتبرها مستشارته الأولى.

تولّى ميلي - وهو حارس مرمى سابق لفريق نادي شاكاريتا جونيورز لكرة القدم - مناصب استشارية لدى عدد من المصارف الكبرى، وأيضاً المركز الدولي لتسوية المنازعات الاستثمارية، وغرفة التجارة الدولية والمنتدى الاقتصادي الدولي. وقبل انتخابه نائباً في مجلس النواب، كان يقوم بمهام استشارية لدى عدد من الشركات الأرجنتينية الكبرى وبعض رجال الأعمال البارزين المعروفين بعلاقاتهم الوثيقة مع القيادات العسكرية إبان الحكم الديكتاتوري.

وللعلم، منذ بداية الحملة الانتخابية، والوضع الاقتصادي هو الطبق الرئيسي في كل المهرجانات والمناظرات التي دارت بين المرشحين الخمسة. وانصبّت جميع الانتقادات للسياسات الاقتصادية على مرشح الحكومة سيرجيو ماسّا، الذي يتولّى حقيبة الاقتصاد في حكومة ألبرتو فرنانديز، لا سيما أن نسبة التضخم ارتفعت خلال ولايته إلى 124 في المائة، وتراجع النمو الاقتصادي فيما كانت فوائد الدين العام تمتصّ الأرباح الضئيلة التي كان يسجلها ميزان المدفوعات. وكان من المنتظر، منذ البداية، أن يصبّ ميلي انتقاداته على ماسّا، مدركاً أن هذا الأخير سيكون منافسه في الجولة الثانية نهاية الأسبوع المقبل.

ميلي... بطاقة شخصية

- ولد يوم 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1970، وكان أبوه سائق حافلة تحول إلى التجارة.

- عازب، واقتصادي ونائب في البرلمان عن إحدى دوائر بوينوس آيرس.

- يتحدر من أصل إيطالي، ولعب في سنوات مراهقته كرة القدم، وكان حتى عام 1989 حارس مرمى نادي شاكاريتا جونيورز في العاصمة.

- تلقى تعليمه في مدارس كاثوليكي وفي جامعة بلغرانو ومعهد ديسارولو للدراسات الاقتصادية والاجتماعية وجامعة توركواتو دي تيلا.

من خارج المنظومة

ميلي هو المرشح الوحيد من خارج المنظومة السياسية التي حكمت الأرجنتين خلال العقود الثلاثة الماضية، وهذا رغم علاقاته المهنية الوثيقة بعدد من رموزها. في المقابل، فإنه يتفوق على منافسيه بمعرفته النظرية الواسعة بالوضع الاقتصادي الذي يقضّ مضاجع مواطنيه منذ سنوات ويستحوذ على اهتمامهم اليومي ويؤجج نقمتهم على الطبقة السياسية الحاكمة. ثم إنه أيضاً المرشح الذي طرح أكبر عدد من التدابير والاقتراحات خلال الحملة الانتخابية لمعالجة هذا الوضع، مثل: إلغاء عدد من الوزارات كالصحة والتربية والعلوم والعمل، والتعامل بالدولار الأميركي بدل العملة الوطنية، وإلغاء المصرف المركزي، وخفض الإنفاق العام دون المستوى الذي يطالب به صندوق النقد الدولي، واستحداث نظام القسائم في المدارس الرسمية والخدمات الصحية والاجتماعية للطبقتين الفقيرة والمتوسطة. وهذا، فضلاً عن تأييده حرية حمل السلاح وبيع الأعضاء ومعارضته الإجهاض. وبطبيعة الحال، تعرّض لانتقادات شديدة من منافسيه بسبب هذه الاقتراحات، لكن جميع الاستطلاعات أظهرت أن شعبيته لم تتراجع، بل واصلت الصعود حتى أصبح المرشح الأوفر حظاً لخوض الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية.

مع هذا، تبقى نقطة الضعف الرئيسية عند ميلي، وغير المألوفة لدى المرشحين لمنصب رئاسة الجمهورية في الأرجنتين، هي أنه لم يسبق له من قبل تولي أي مناصب أو مهام رسمية، كما أنه يفتقر لمثل هذه الخبرة التي تعتبر حيوية في بلد موصوف بتعقيد مشهده السياسي وتقاطع العلاقات بين مكوّناته. وبالفعل، اضطر ميلي خلال حملته الانتخابية لتبسيط خطابه الاقتصادي وتفادي الخوض في التفاصيل التقنية الدقيقة التي تستعصي على غالبية الناخبين. وليس واضحاً ما إذا كان ذلك سيكون في مصلحته أو العكس غداً عند الاقتراع.

بعض الناخبين عبّروا عن استيائهم من أسلوبه الخشن في انتقاده منافسيه ولجوئه إلى الشتائم في التخاطب السياسي. إلا أن كثيرين، في المقابل، يرون في ذلك تعبيراً صادقاً عن النقمة التي يشعرون بها تجاه الطبقة الحاكمة التي يحمّلونها مسؤولية تدهور قدرتهم الشرائية. ولذا، يتطلعون إلى أن يكون وصوله إلى الرئاسة سبيلاً إلى تحقيق وعده بإقصاء الفاسدين عن الحكم وملاحقتهم أمام القضاء.

أيضاً، يتفوق ميلي أيضاً على منافسيه في مجال الحملة الرقمية، إذ إنه يعتمد على «جيش إلكتروني» من الشباب الذين ينشرون أفضل تصريحاته ومداخلاته وأنشطته على وسائل التواصل الاجتماعي. بيد أن المواقف والتصريحات التي أدلى بها ميلي في الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية كانت صادمة ومؤذية بعض الشيء. إذ أدت دعواته المتكررة إلى المواطنين للتخلّص من مدخراتهم بالعملة الوطنية «البيزو»، بحجة أنها أصبحت «عديمة القيمة» - على حد قوله - أدت إلى انهيار العملة في السوق السوداء، التي تعكس عادة عافية الوضع الاقتصادي. وتجاوزت للمرة الأولى منذ سنوات عتبة الألف بيزو مقابل الدولار الأميركي الواحد، وهو ما عاد إلى الأذهان أحلك الحقب التي مرّ بها الاقتصاد الأرجنتيني. وبالمناسبة، كانت العملة الأرجنتينية قد شهدت انخفاضاً حاداً في قيمتها زاد على 18 في المائة في أغسطس (آب) الفائت عند إعلان فوز ميلي في الانتخابات الأولية، وفشلت الحكومة يومها في وقف انهياره بسبب نقص الاحتياط اللازم في المصرف المركزي، واكتفت برفع أسعار الفائدة حتى بلغت 118 في المائة.

سيرجبو ماسّا

هزة مالية وسجالات

هذه التصريحات استنهضت انتقادات قاسية، ليس فحسب من منافسيه الأربعة في حملة الانتخابات الرئيسة، بل أيضاً من أوساط رجال الأعمال والمحللين الاقتصاديين الذين وصفوها بالـ«لامسؤولة» والمتهورة، وبأنها لا تستند إلى أي معايير علمية، إلى جانب أن من شأنها إغراق البلاد في حال من الفوضى الاجتماعية. بل اتهمه منافسه الأبرز سيرجيو ماسّا، وزير الاقتصاد، بأنه «يشعل النار في هشيم الوضع الاجتماعي المتوتر من أجل كسب بعض الأصوات».

ويدرك ماسّا أن انهيار قيمة «البيزو» يكشف هشاشته وضعف سياسات الحكومة الاقتصادية، كما ينال من حظوظه في الوصول إلى الجولة الثانية من الانتخابات أواسط الشهر المقبل. أما المرشحة المحافظة باتريسيا بولريتش، فتعتبر أن انهيار العملة الوطنية بسبب تصريحات ميلي، تعطيها فرصة لمهاجمة خصميها من أجل تجاوز أحدهما وبلوغ الجولة الثانية إذا فشل أحد المرشحين في الحصول على 45 في المائة من الأصوات أو تجاوز 40 في المائة بفارق عشر نقاط عن المرشح التالي.

في المقابل، يدرك ميلي أنه - في حال فوزه - سيتسلم بلاداً على شفير الهاوية، واقتصاداً يرزح تحت أعباء التضخم الجامح والدين الخارجي ونضوب خزائن الاحتياط في المصرف المركزي. لكن سهام بولريتش، التي تحلّ ثالثة في الاستطلاعات، لم تكن موجهة ضد ميلي وتصريحاته بقدر ما ركّزت على منافسه المباشر وزير الاقتصاد الذي حمّلته المسؤولية الكبرى عن تردّي الأوضاع الاقتصادية. وبالأخص، أنها تدرك استحالة تجاوزها ميلي، الذي رغم كل الانتقادات التي استدعتها تصريحاته من كل الجهات، ما زال الأوفر حظاً للفوز في الجولة الأولى.

ووسط الجدل، انضمّ ميلي نفسه إلى منتقدي وزير الاقتصاد، معتبراً أن حكومة ألبرتو فرنانديز ونائبته الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر وسيرجيو ماسّا هم الذين يتحملون مسؤولية هذا الانهيار الاقتصادي. واتهمهم بطبع كميات ضخمة من العملة الوطنية «من غير ضابط»، لتمويل الإنفاق العام «بلا حساب»، وتوزيع المنافع على أنصارهم وشركائهم من رجال الأعمال.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن ميلي كرّر في تصريحاته الأخيرة عزمه الثابت - في حال فوزه في الانتخابات - على التعامل رسمياً بالدولار الأميركي من أجل «إفناء التضخم» وفق تعبيره، مع أنه ليس من الواضح بعد كيف سيتمكن من تحقيق هذا الهدف في بلد أوصدت في وجهه أبواب الاقتراض من أسواق المال الدولية، ولا يملك احتياطياً بالدولار في المصرف المركزي.

قائمة الوعود التي أطلقها خافيير ميلي طوال حملته الانتخابية في المهرجانات الحاشدة وأمام عدسات التلفزيون لا نهاية لها، ولا سوابق لها في التاريخ السياسي الأرجنتيني. لكن ما يثير القلق عند من يتذكرون أنظمة الاستبداد التي شهدتها الأرجنتين، هو وعده بأن تصبح الأرجنتين مثل ألمانيا في غضون عشرين سنة تحت حكمه، وفي غضون ثلاثين مثل الولايات المتحدة. وهذا الأمر يدلّ على أنه في حال وصوله إلى الرئاسة لن يكون في وارد التخلي عنها بسهولة وضمن المواعيد الدستورية المحددة.

وعندما سئل يوماً من باب الدعابة: أيهما يفضلّ... الدولة أو المافيا؟ فأجاب من دون تردد: المافيا، لأن لها قواعدها وهي تطبّق هذه القواعد.

باتريسيا بولريتش

 


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها
TT

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية الحبيسة، بفضل نموذجها الديمقراطي النادر في قارتها، وأدائها الاقتصادي الصاعد.

قد يكون هذا الإعجاب سجل خفوتاً في مؤشراته، خصوصاً مع موجة ركود وبطالة اجتاحت البلاد منذ سنوات قليلة، إلا أنه يبحث عن استعادة البريق مع رئيس جديد منتخب ديمقراطياً.

على عكس الكثير من دول «القارة السمراء»، لم تودّع بوتسوانا حقبة الاستعمار عام 1966 بمتوالية ديكتاتوريات وانقلابات عسكرية، بل اختارت صندوق الاقتراع ليفرز برلماناً تختار أغلبيته الرئيس. وأظهر أربعة من زعماء بوتسوانا التزاماً نادراً بالتنحي عن السلطة بمجرد استكمال مدّد ولايتهم المنصوص عليها دستورياً، بدءاً من كيتوميلي ماسيري، الذي خلف «السير» سيريتسي خاما عند وفاته في منصبه بصفته أول رئيس لبوتسوانا. وهذا التقليد الذي يصفه «مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية» بأنه «مثير للإعجاب»، جنت بوتسوانا ثماره أخيراً بانتقال سلمي للسلطة إلى الحقوقي والمحامي اليساري المعارض دوما بوكو.

انتصار بوكو جاء بعد معركة شرسة مع الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه الحزب الديمقراطي... الذي حكم البلاد لمدة قاربت ستة عقود.

ويبدو أن تجربة تأسيس الحزب الديمقراطي من زعماء قبائل ونُخَب أوروبية كانت العلامة الأهم في رسم المسار الديمقراطي لبوتسوانا، عبر ما يعرف بـ«الإدماج الناعم» لهؤلاء الزعماء القبليين في بنية الدولة. لكن المفارقة كانت «الدور الإيجابي للاستعمار في هذا الشأن»، وفق كلام كايلو موليفي مُستشار الديمقراطية في مكتب رئيس بوتسوانا السابق للإذاعة السويسرية. وتكمن كلمة السر هنا في «كغوتلا»، فبحسب موليفي، اختار البريطانيون الحُكم غير المُباشر، عبر تَرك السلطة للقادة القبليين لتسيير شؤون شعبهم، من دون التدخل بهياكل الحكم التقليدية القائمة.

نظام «كغوتلا» يقوم على «مجلس اجتماعي»، ويحق بموجبه لكل فرد التعبير عن نفسه، بينما يناط إلى زعيم القبيلة مسؤولية التوصل إلى القرارات المُجتمعية بتوافق الآراء. ووفق هذا التقدير، قاد التحالف البلاد إلى استقرار سياسي، مع أنه تعيش في بوتسوانا 4 قبائل أكبرها «التسوانا» - التي تشكل 80 في المائة من السكان وهي التي أعطت البلاد اسمها -، بجانب «الكالانغا» و«الباسار» و«الهرو».

وإلى جانب البنية الديمقراطية ودور القبيلة، كان للنشأة الحديثة للجيش البوتسواني في حضن الديمقراطية دور مؤثر في قطع الطريق أمام شهوة السلطة ورغباتها الانقلابية، بفضل تأسيسه في عام 1977 وإفلاته من صراعات مع الجيران في جنوب أفريقيا وزيمبابوي وناميبيا.

على الصعيد الاقتصادي، كان الاستعمار البريطاني سخياً – على نحو غير مقصود – مع بوتسوانا في تجربة الحكم، إلا أنه تركها 1966 سابع أفقر دولة بناتج محلي ضئيل وبنية تحتية متهالكة، أو قل شبه معدومة في بعض القطاعات.

مع هذا، انعكس التأسيس الديمقراطي، وفق محللين، على تجربة رئيسها الأول «السير» سيريتسي خاما؛ إذ مضى عكس اتجاه الرياح الأفريقية، منتهجاً نظام «رأسمالية الدولة»، واقتصاد السوق، إلى جانب حرب شنَّها ضد الفساد الإداري.

على صعيد موازٍ، أنعشت التجربة البوتسوانية تصدير اللحوم، كما عزّز اكتشاف احتياطيات مهمة من المعادن - لا سيما النحاس والماس - الاقتصاد البوتسواني؛ إذ تحتضن بلدة أورابا أكبر منجم للماس في العالم.

ثم إنه، خلال العقدين الأخيرين، جنت بوتسوانا - التي تغطي صحرء كالاهاري 70 في المائة من أرضها - ثمار سياسات اقتصادية واعدة؛ إذ قفز متوسط الدخل السنوي للمواطن البوتسواني إلى 16 ألف دولار أميركي مقابل 20 دولاراً، بإجمالي ناتج محلي بلغ 19.3 مليار دولار، وفق أرقام البنك الدولي. كذلك حازت مراكز متقدمة في محاربة الفساد بشهادة «منظمة الشفافية العالمية». ومع أن الرئيس البوتسواني المنتخب تسلم مهام منصبه هذا الأسبوع في ظل مستويات بطالة مرتفعة، وانكماش النشاط الاقتصادي المدفوع بانخفاض الطلب الخارجي على الماس، إلا أن رهان المتابعين يبقى قائماً على استعادة الماسة البوتسوانية بريقها.