دنيس ساسو نغيسو... الزعيم المخضرم للكونغو برازافيل يقاوم «عدوى الانقلابات»

سيتجاوز حكمه الـ40 سنة بنهاية ولايته عام 2026

دنيس ساسو نغيسو... الزعيم المخضرم للكونغو برازافيل يقاوم «عدوى الانقلابات»
TT

دنيس ساسو نغيسو... الزعيم المخضرم للكونغو برازافيل يقاوم «عدوى الانقلابات»

دنيس ساسو نغيسو... الزعيم المخضرم للكونغو برازافيل يقاوم «عدوى الانقلابات»

يبدو أن على رئيس الكونغو برازافيل دينيس ساسو نغيسو أن «يتحسّس حكمه» في ظل عدوى الانقلابات التي تضرب أفريقيا حالياً، ونالت أخيراً من جارته الغابون. فبينما يتأهب نغيسو (79 سنة) لأن يتجاوز 40 سنة في السلطة مع نهاية ولايته الحالية عام 2026، تأتي شائعات الانقلاب لتلاحقه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أثناء وجوده خارج البلاد للمشاركة في نيويورك باجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. التكهنات التي ظهرت بالتزامن مع مغادرة نغيسو العاصمة الكونغولية برازافيل، التي زعمت سيطرة قوات من الجيش على مؤسسات الدولة، نفتها الحكومة ووصفتها بـ«الشائعات الخيالية»، وطالبت الرأي العام بالهدوء، والمواطنين بممارسة نشاطاتهم المعتادة.

قبل بضعة أيام، وحول الوضع في الكونغو برازافيل، كتب تييري مونغالا، وزير الإعلام، في منشور على صفحته الشخصية بمنصة «إكس» («تويتر» سابقاً): «تنفي الحكومة الشائعات، وتؤكد أنه لم يحدث انقلاب عسكري في برازافيل، وتطالب الرأي العام بالهدوء، والمواطنين بممارسة نشاطاتهم المعتادة». كذلك نشرت الرئاسة الكونغولية، في وقت لاحق، شريط فيديو للرئيس لدى وصوله إلى مقر البعثة الكونغولية للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الغابون، الجارة الغربية للكونغو برازافيل، كانت آخر محطة وصل إليها قطار الانقلابات العسكرية الأفريقية، يوم 30 أغسطس (آب) الماضي، بعد كل من النيجر ومالي وبوركينا فاسو وغينيا.

النشأة والمسيرة

ولد دينيس ساسو نغيسو عام 1943 في منطقة في وسط المستعمرة الفرنسية السابقة التي تتجاور مع الغابون وجمهورية أفريقيا الوسطى والكاميرون وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وبحسب نغيسو، فإن والده كان زعيماً للقرية ويقود رابطة للصيادين. وهو، بعد إنهائه دراسته الثانوية في مدرسة لوبومو الثانوية المحلية عام 1961، كان ينوي العمل مدرساً، بيد أنه فشل في الالتحاق بكلية تخرج المعلمين في العاصمة برازافيل، لأن ذلك كان يحتاج إلى علاقات سياسية لم تتوفر لديه ولدى أسرته، فالتحق بالجيش الذي أرسله إلى الجزائر وفرنسا لتلقي الإعداد العسكري. وبعد مسيرة في السلك العسكري، عيّن ساسو نغيسو عام 1963 قائداً للقوات المسلحة في برازافيل، وبحلول أوائل السبعينات من القرن الماضي، كان قد ارتقى إلى رتبة عقيد.

الصعود إلى السلطة

خلال هذا الوقت، لعب ساسو نغيسو دوراً نشطاً في السياسة، إذ انضم إلى حزب العمل الكونغولي الذي اعتنق الآيديولوجية الماركسية اللينينية وأصبح الحزب الحاكم والوحيد في البلاد في عام 1970. وغدا ساسو نغيسو مقرّباً من الرئيس اليساري الراحل ماريان نغوابي الذي تولّى الحكم بين عامي 1968 و1977، وعيّنه الرئيس وزيراً للدفاع عام 1975. غير أنه، بعد اغتيال نغوابي عام 1977، وعلى الرغم من نفوذ ساسو نغيسو الكبير داخل الجيش والحزب الحاكم، وصل يواكيم يومبي أوبانغو، منافسه داخل الحزب، إلى السلطة... بينما عيّن ساسو نغيسو نائباً أول لرئيس الجمهورية. ومع هذا، في ضوء فشل يومبي أوبانغو في فرض سيطرته على الجيش والحزب، أجبرته اللجنة العسكرية للحزب على الاستقالة في فبراير (شباط) 1979، وفي الشهر التالي نصّبت ساسو نغيسو رئيساً للجمهورية ورئيساً للحزب.

استقرار نسبي ثم سقوط وحرب

تمتعت البلاد في البداية بفترة من الاستقرار النسبي في عهد الرئيس الجديد، وأعاد الحزب انتخابه للرئاسة في عام 1984، ومرة ثالثة في عام 1989. وخلال تلك الفترة نجح ساسو نغيسو في التخلص من منافسيه وخصومه السياسيين في الحزب والجيش، ونجح في تقوية دعائم حكمه مستفيداً من اكتشاف احتياطات النفط في بلاده، ورواج الآيديولوجيا الماركسية في بلاده والقارة الأفريقية بمساندة الاتحاد السوفياتي والصين له. وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من التوجه اليساري للبلاد، ساعدته الاستثمارات الفرنسية في مجال النفط على تحقيق استقرار اقتصادي لا بأس له. غير أن انخفاض أسعار النفط في الثمانينات أدى إلى تعثر الاقتصاد الكونغولي، ما نجم عنه تآكل شعبية ساسو نغيسو وتزايد السخط الشعبي، وبالفعل، تصاعدت المطالبة بالديمقراطية وتنامت الاحتجاجات الشعبية، كما أجهض الرئيس انقلاباً عسكرياً ضد حكمه عام 1987، وتبنّى سياسات عنفية وقمعية ضد خصومه.

ومن ثم، وسط الأوضاع الاقتصادية السيئة وتراجع شعبية الرئيس، تخلى الحزب الحاكم رسمياً عن سياساته الماركسية اللينينية عام 1990. وهذه الخطوة ما كانت تبشر بالخير لساسو نغيسو، إذ تلاها إجراء أول انتخابات متعددة الأحزاب في البلاد خلال أغسطس 1992. وجرى إقصاء ساسو نغيسو في الجولة الأولى من التصويت بعدما حل ثالثاً، وانتُخب باسكال ليسوبا من حزب الاتحاد الأفريقي للتنمية الاجتماعية رئيساً.

عودة جديدة... بالقوة على الأثر، شكّل حزب ساسو نغيسو تحالف معارضة نظّم احتجاجات وعصياناً مدنياً ضد إدارة ليسوبا. ثم في عام 1993، اشتبكت الميليشيات الداعمة لساسو نغيسو مع القوات الحكومية، واستمر العنف المتصاعد في العام التالي وسقط جراءه عدد كبير من الضحايا. وبعد فترة هدوء نسبي عاد العنف ليستعر بين الجانبين في الأشهر التي سبقت الانتخابات الرئاسية والتشريعية عام 1997، ما أدى إلى اندلاع حرب أهلية طالت لمدة سنتين، سقط فيها آلاف القتلى ونزح مئات الآلاف.

وبعد الحرب، في خريف عام 1997، أُجبر ليسوبا على مغادرة البلاد، وأُعلن ساسو نغيسو رئيساً للبلاد مرة أخرى. وعلى الرغم من إعلان وقف إطلاق النار خلال عام 1999، واجه الرئيس العائد أعمال عنف لبعض الوقت في بعض مناطق البلاد. وبالإضافة إلى ذلك، واجه مشكلات اقتصادية مستمرة ومزاعم بالفساد داخل الحكومة.

انتخابات ... بلا منافسين

أعيد انتخاب ساسو نغيسو عام 2002 في انتخابات شابها الجدل. وقاطع بعض مرشحي المعارضة السباق الانتخابي، زاعمين أن الإصلاح الديمقراطي لا يزال غائباً وأن الانتخابات لن تكون حرة ونزيهة. ونتيجة لذلك، لم يواجه الرئيس أي منافسة حقيقية، في حين شككت المعارضة في شرعية فوزه الساحق. وبعدها أعيد انتخابه في ظروف مشابهة عام 2009، ومجدداً، قاطع مرشحو المعارضة الأساسيون الانتخابات، وأُعيد انتخاب ساسو نغيسو بفارق كبير. لكن، على الرغم من ادعاء المعارضة وبعض المنظمات وقوع حوادث تزوير وترهيب، اعتبر المراقبون الدوليون من الاتحاد الأفريقي أن الانتخابات كانت حرة ونزيهة.

تعديل الدستور

من جهة ثانية، على الرغم من أن الدستور يمنع ساسو نغيسو من الترشح لولاية أخرى للرئاسة، اتُّخِذت خطوات للتغلب على هذا القيد. وجرى طرح اقتراح لتعديل الدستور لإلغاء حدود الولاية ورفع الحد الأقصى لسن المرشح الرئاسي - وهي من التغييرات التي من شأنها السماح للرئيس بالترشح لفترة رئاسية أخرى - للاستفتاء في أكتوبر (تشرين الأول) 2015. ومرة أخرى، قاطعت المعارضة الاستفتاء في حين ذكرت السلطات الرسمية أن 3 أرباع الناخبين المسجلين أدلوا بأصواتهم، بنسبة تأييد للتعديلات المقترحة وصلت إلى 92 في المائة.

وبعد التعديلات، رُشّح ساسو نغيسو مرشحاً رسمياً عن حزب العمل الحاكم في الانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم 20 مارس (آذار) 2016، وسط انقطاع للاتصالات، ما أثار انتقادات شديدة. ومن ثم، أعلن فوز الرئيس بالانتخابات، وادعى المسؤولون أنه فاز بحوالي 60 في المائة من الأصوات، الأمر الذي اعترضت عليه المعارضة، وأدى إلى نشوب أعمال عنف احتوتها السلطات الأمنية. وفي انتخابات مارس 2021، أُعيد انتخابه، وورد رسمياً أنه حصل على أكثر من 88 في المائة من الأصوات، وهذا على الرغم من تكرار الظروف نفسها التي حدثت عام 2016، حين قاطعت المعارضة الرئيسة الانتخابات، وعُطّلت خدمة الإنترنت في البلاد، وكانت النتيجة محل نزاع، وسط تكرار المزاعم بتزوير الانتخابات.

في هذا السياق، كتب فافا تامبا، الباحث الكونغولي في الشؤون الأفريقية، في مقال نشر في صحيفة «الغارديان» البريطانية بعد انتخابات عام 2021، إن ساسو نغيسو «حريص على إجراء الانتخابات الشكلية لأنها تمنحه شكلاً من الشرعية، حتى لو كانت مزوّرة ومعيبة بشكل صارخ وتشبه ارتداء الإمبراطور لملابسه الجديدة».

وتابع أن ساسو نغيسو «أمير الحرب الذي أطاح باسكال ليسوبا، المنتخب ديمقراطياً، ليعيد تنصيب نفسه رئيساً عبر حرب أهلية خلّفت آلافاً من القتلى وظلت جرحاً مفتوحاً في البلاد، يريد سلطة غير محدودة طوال حياته. إلا أنه يريد أيضاً الحصول على موافقة من القوى الدولية على ذلك».

اتهامات بالفساد

ما يستحق الذكر أن ساسو نغيسو اتهم عدة مرات بالاختلاس وإساءة استخدام الأموال العامة وغسل الأموال. وفي مايو (أيار) 2009، أعلنت محكمة فرنسية إجراء تحقيق في ما إذا كان الرئيس الكونغولي، ومعه زعيمان أفريقيان هما عمر بونغو رئيس الغابون (آنذاك)، وتيودورو أوبيانغ نغويما مباسوغو رئيس غينيا الاستوائية، نهبوا خزائن دولهم لشراء منازل وسيارات فاخرة في فرنسا.

أيضاً، اتُّهم نجل ساسو نغيسو، دينيس كريستيل، وكان وقتها عضواً في المجلس التشريعي الوطني ووزير التعاون الدولي في الحكومة، بتلقي 50 مليون دولار أميركي من الخزانة الوطنية بشكل فاسد. وكذلك اتُّهمت ابنته كلوديا ليمبومبا، عضو المجلس التشريعي الوطني ورئيسة مكتب الاتصالات الرئاسية، باستخدام 20 مليون دولار من أموال الحكومة لشراء شقة في أبراج ترمب في مدينة نيويورك، واتُّهمت ابنة ثانية هي جوليان بغسل الأموال.

وفي هذا الإطار، يتهم الباحث الكونغولي تامبا القوى الغربية بالصمت حيال الفساد وتزوير الانتخابات في برازافيل، لافتاً إلى أن نصف الشعب يعيش في فقر مدقع، رغم غنى وثراء البلاد. ويعدّ تامبا أن الدولة محكومة بالفساد، وأن أي معارضة حقيقية «يُصار إلى قمعها بالقوة، ويجري استهداف المعارضين بالسجن والنفي وغيرهما من أشكال العنف». كذلك يرى تامبا أن الكونغو لم تتخلص بعد من الاستعمار بسبب حكم ساسو نغيسو وعائلته، مشيراً إلى أنه «بحلول نهاية عام 2026، سيكون ساسو نغيسو قد أمضى في السلطة فترة أطول من فترة حكم جوزيف ستالين وديكتاتور جمهورية أفريقيا الوسطى جان بيديل بوكاسا مجتمعين». ومن ثم، يضيف أنه «منذ عهد الاتحاد السوفياتي، لم تكن الكونغو برازافيل، الدولة التي يبلغ عدد سكانها 5.5 مليون نسمة، ومتوسط العمر فيها 17 سنة، ديمقراطية أو جمهورية من الناحية الليبرالية. بل يحكمها ساسو بقبضة من حديد».

ثم يشير إلى الحالة الاقتصادية السيئة المزمنة التي تعيشها البلاد حيث «يمضي موظفو الخدمة المدنية شهوراً من دون أجور ومعاشات تقاعدية. وتمر على المستشفيات أشهر من دون توفير الأدوية الأساسية».

أزمة انتقال السلطة في أفريقيا

أخيراً، ترى أماني الطويل، الباحثة المصرية في الشؤون الأفريقية، في حالة الرئيس ساسو نغيسو في الكونغو برازافيل، «تمثيلاً لمأساة كثير من الدول الأفريقية في ما يتعلق بالتحايل على عملية انتقال السلطة بشكل قانوني، وذلك عبر انتخابات شكلية مزورة والفساد واضطهاد المعارضين والمنافسين وإقصائهم أو عن طريق العنف المتمثل في الحروب الأهلية أو الانقلابات العسكرية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، رأت الطويل أن سيطرة رؤساء على السلطة بشكل غير قانوني يساهم في انعدام الاستقرار والأمن، وقد يؤدي إلى مزيد من الانقلابات العسكرية والحروب في أنحاء مختلفة من القارة. وتابعت: «على الاتحاد الأفريقي والقوى والمنظمات الدولية تبني مقاربات جديدة فاعلة تدعم عمليات تحوّل حقيقي للديمقراطية في القارة، والكفّ عن غض الطرف عن الانتخابات المزوّرة والفساد بكل أشكاله... لأن انعدام الأمن والاستقرار في أفريقيا يهدد الأمن العالمي».


مقالات ذات صلة

«كوب 29» يسدل ستاره بالاتفاق على تمويل مناخي بـ300 مليار دولار

الاقتصاد رئيس «كوب 29» مختار باباييف يصفق خلال الجلسة العامة الختامية لقمة الأمم المتحدة للمناخ (أ.ب)

«كوب 29» يسدل ستاره بالاتفاق على تمويل مناخي بـ300 مليار دولار

اتفقت دول العالم، بعد أسبوعين من المفاوضات الشاقة، على هدف تمويل سنوي بقيمة 300 مليار دولار لمساعدة الدول الأكثر فقراً على مواجهة آثار تغير المناخ.

«الشرق الأوسط» (باكو)
صحتك طفل مصاب بجدري القردة يتلقى الرعاية الصحية (أ.ب)

«الصحة العالمية»: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة

قالت منظمة الصحة العالمية، اليوم الجمعة، إن تفشي جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
رياضة عالمية منتخب سيدات المغرب من المرشحات لجائزة الأفضل في القارة الأفريقية (الشرق الأوسط)

«كاف» يعلن قوائم المرشحات للفوز بجوائز السيدات 

أعلن الاتحاد الأفريقي لكرة القدم (كاف)، اليوم (الأربعاء)، القوائم المرشحة للحصول على جوائزه لعام 2024 في فئة السيدات.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
رياضة عالمية كولر مدرب الأهلي المصري ينافس 4 مدربين لمنتخبات على الأفضل في أفريقيا (أ.ف.ب)

«كاف»: 5 مرشحين لجائزة أفضل مدرب في أفريقيا

أعلن الاتحاد الأفريقي لكرة القدم (كاف) عن القائمة النهائية للمرشحين لجائزة أفضل مدرب في القارة السمراء في عام 2024.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
رياضة عالمية أشرف حكيمي (أ.ب)

حكيمي يتصدر قائمة المرشحين لجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

ينافس المغربي الدولي أشرف حكيمي بقوة على جائزة أفضل لاعب في أفريقيا للعام الثاني على التوالي بعد دخوله القائمة المختصرة للمرشحين، التي أعلنها الاتحاد الأفريقي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».