بريس أوليغي نغيما... «جنرال الظل» الغابوني

احتضنه «الأب» وأطاح «الابنَ» بينما كان يُعد «الحفيد» للرئاسة

بريس أوليغي نغيما... «جنرال الظل» الغابوني
TT

بريس أوليغي نغيما... «جنرال الظل» الغابوني

بريس أوليغي نغيما... «جنرال الظل» الغابوني

عندما استيقظ العالم، صباح 30 أغسطس (آب) الماضي، على بيان يعلن الإطاحة بحكم علي بونغو، رئيس الغابون، لم ير أحدٌ وجه ذلك الجنرال القوي الذي قرّر الإطاحة بالرئيس. ربما كان يقف في الظل يرتّب مصير الرئيس وأسرته، ويصدر الأوامر لأولئك الذين سارعوا بالوقوف أمام الكاميرات، فذلك الجنرال الشاب، الذي عرف العالم بعده أن اسمه بريس أوليغي نغيما، كان واحداً ممن اعتادوا البقاء في الظل. رجل يتكلم بهدوء، ولا ينفعل إلا نادراً، إلا أنه فجأةً قرّر التمرد على كل ذلك، فأنهى، في ليلة واحدة، حياته السابقة، وقرّر أن يتصدر المشهد، في واحدة من أغنى البلدان في أفريقيا، وأفقرها شعوباً.

ليلة الانقلاب في الغابون، ظهر رجل البلاد «القوي» الجديد مُنهياً حكم «أسرة بونغو»، الذي استمر نحو 55 سنة، وللعِلم، يمتُّ الجنرال بريس أوليغي نغيما لهذه الأسرة بصلة قرابة... والأهم أنه يَدين لهم بالولاء، وخصوصاً إلى الرئيس عمر بونغو (الأب)، الذي كان نغيما أحد أقرب رجاله وظلّ مرافقاً له حتى لحظات عمره الأخيرة.

بيد أن علي، الرئيس الابن، لم يُكنّ للضابط الصاعد بسرعة على سُلّم الرتب العسكرية والنفوذ، مشاعر الود نفسها، إذ إنه كان قد أبعده لعقد كامل، ثم أعاده فجأة، لتبدأ العلاقة بين الرجلين فصلها الدرامي الأكثر إثارة.

البداية والنشأة

اسم «الجنرال» الكامل بريس كلوتير أوليغي نغيما، وهو من مواليد عام 1975 في مقاطعة أوت أوغوي، في أقصى جنوب شرقي الغابون، على الحدود مع جمهورية الكونغو (الكونغو - برازافيل)، وهي المقاطعة التي ينحدر منها بونغو.

لم يعانِ بريس الفقر والحاجة مثل كثيرين غيره من أطفال الغابون؛ لكون أسرته ميسورة الحال ومقرَّبة من أسرة بونغو، فأمه هي ابنة عم الرئيس المخلوع علي بونغو، ونشأ بوصفه واحداً من أبناء الأسرة الأقوى في البلاد، وسار على خطى والده، وواصل مسيرته المهنية في الجيش.

وفي سن مبكرة، انضم إلى وحدة الحرس الجمهوري، التي هي التنظيم العسكري الأقوى في الغابون، بعدما درس في الأكاديمية العسكرية الملكية المرموقة في مكناس بالمغرب، مُحاطاً بدعم أسرة الرئيس وثقتهم. وتقدّم بسرعة في مساره العسكري، مرتقياً سُلَّم المناصب، حتى أصبح مساعداً للرئيس (الأب) عمر بونغو، الذي حكم الغابون 41 سنة. وطوال الفترة التي أمضاها نغيما من عام 2005، حتى وفاة الرئيس الأب عام 2009 في أحد مستشفيات مدينة برشلونة الإسبانية، كان الضابط الشاب يُعامَل بوصفه أحد أفراد الأسرة الحاكمة.

ولكن في حين كان نغيما ينتظر مكافأة إخلاصه وتفانيه في خدمة الرئيس الأب، فيحقق مزيداً من الصعود في عهد «الوريث الابن» علي، لم يجد الضابط الشاب من الأخير سوى الفتور والإبعاد، ذلك أن الرئيس الجديد أقصاه عن الدائرة الداخلية المقرَّبة منه، وإن اتخذ ذلك الإقصاء شكل الترقية ليصبح ملحقاً عسكرياً في سفارتي الغابون بالمغرب والسنغال. غير أن الرحلة التي طالت لنحو 10 سنوات كانت كافية لأن ينسى الغابونيون - أو على الأقل النخبة الحاكمة فيها - وجه ذلك الضابط الذي اعتاد الجميع رؤيته قريباً من الرئيس التاريخي للبلاد.

لقد بقي الضابط نغيما متنقلاً بين الرباط وداكار، ينعم بسنوات دون أحداث تُذكَر؛ لا في حياته، ولا في تاريخ بلاده، بينما كان الرئيس علي بونغو ينتقل من فترة حكم إلى أخرى، ولا شيء تقريباً يتغير، إلى أن جاءت لحظة العودة مجدداً إلى المشهد، وكان ذلك عام 2018.

العودة إلى الأضواء

في أكتوبر (تشرين الثاني) 2018، استُدعي نغيما إلى الغابون، ليحلّ محل العقيد فريديريك بونغو (الأخ غير الشقيق للرئيس) على رأس «جهاز استخبارات الحرس الجمهوري»، التي تُعرَف رسمياً باسم «المديرية العامة للخدمات الخاصة (DGSS)».

ربما لا يعرف أحد تفاصيل الخلاف الذي وقع بين علي بونغو وأخيه غير الشقيق، لكن المؤكَّد أن الرئيس، الذي تعرَّض، في ذلك العام، لجلطة دماغية عجّلت بنقله إلى المستشفى العسكري في العاصمة المغربية لتلقّي العلاج، بحث في دفاتره القديمة عمّن يمكن الوثوق به في ذلك الموقع الخطير، فبرز اسم بريس نغيما.

من جهة ثانية، لعلَّ الرئيس ظنّ أن 10 سنوات من الابتعاد كافية لأن يدرك الضابط الشاب كثيراً من الحقائق، وقد يشعر بالامتنان للرئيس الذي أعاده مجدداً إلى الأضواء. وحقاً، عاد نيغما جنرالاً متحمساً للعمل، فكرّس حياته للحفاظ على نظام الرئيس علي بونغو، مستعيداً ثقته سريعاً، ومرتقياً بالسرعة نفسها إلى أعلى المواقع العسكرية.

إذ بعد أشهر معدودة على عودة نغيما إلى الغابون، عُيّن رئيساً للحرس الجمهوري، وما إنْ تسلَّم مهامّه حتى عزّز نظام الحماية الخاص بعلي بونغو، إلا أن الإصلاح الأكثر أهمية الذي قام به، كان تطوير «قسم التدخلات الخاصة» (وحدة خاصة وُضعت تحت السلطة المباشرة للرئيس)، التي رفع عدد أفرادها من نحو ثلاثين إلى أكثر من 300 عنصر. ووصل به الأمر إلى أن ألّف نشيداً لهذه الوحدة، يكرِّر الجنود فقراته بحماس، وخصوصاً البيت الذي يقول «سأدافع عن رئيسي بشرف وإخلاص».

مرحلة اتساع النفوذ

في تلك الفترة، اتسع نطاق نفوذ الجنرال القوي، ولم يقتصر على قوات الحرس الجمهوري التي زاد من قوتها وتسليحها، بل عمل - وفق شهادات قدَّمها مقرَّبون من نغيما، لوسائل إعلام غربية؛ منها وكالة «أ.ف.ب» الفرنسية - على مدّ نفوذه إلى بقية قطاعات الجيش، فازدادت شعبيته في صفوف القوات المسلَّحة، بعدما أقنع الرئيس بونغو بتحسين الأحوال المعيشية وظروف العمل للجنود، وذلك بتطوير المنشآت وتمويل مدارس لأبناء الجنود.

لكن نغيما حافظ، حتى ذلك الحين، على موقعه بوصفه «رجل الظل»، الذي يستشعر الجميع سطوته، دون أن يسمعوا صوته. وبعكس الوتيرة التي كانت تسير بها حياة الجنرال نغيما على مدى السنوات العشر التي أمضاها خارج بلاده، سارت السنوات الأخيرة حافلة بالأحداث. وباعتباره حجر الزاوية في جهاز أمن نظام الرئيس بونغو، أخذ يراقب عن كثب ما يجري في نهر السياسة، الذي لا يبعد كثيراً في دولة مثل الغابون عن أعين الجيش والمؤسسات الأمنية.

كان الرئيس علي بونغو، الذي تركت الأزمة الصحية التي واجهها قبل سنوات آثاراً واضحة على قدرته على الكلام والحركة، يواجه معارضة متنامية، سواء من الأحزاب أم في الشارع. وتمنَّى كثيرون - ربما بينهم الجنرال نغيما - ألا يترشح لفترة رئاسية ثالثة، وكانوا يأملون أن يوافق على أن يلعب دوراً في تأهيل «وريث» جديد من أسرة بونغو. ووفق موقع «موند أفريك» الفرنسي، جرى تكليف نغيما بمساعدة نجل علي بونغو؛ نور الدين بونغو فالنتان، من أجل الاستعداد لخلافة والده، لكن الرئيس اتخذ قراره بخوض الانتخابات المثيرة للجدل، رغم كل المحاذير، وكان هذا الفصل الأخطر من علاقته الدرامية مع الجنرال الطامح.

محطة مصيرية

أُجريت الانتخابات يوم 26 أغسطس (آب) المنصرم، وأُعلن فوز الرئيس بفترة رئاسية ثالثة ليلة الـ30 من ذلك الشهر. في حينه ربما كان الرئيس يفكر في استدعاء جنراله القوي ورئيس حرسه الجمهوري، ليناقش معه خطط التحضير لحفل تنصيب كبير يغطي به على احتجاجات المعارضة وغضب الشارع والاتهامات بتزوير الانتخابات.

ولكن بعد ساعات من إعلان نتيجة الانتخابات، جاء الجنرال نغيما بلا دعوة، وبوجه غير الذي اعتاد بونغو أن يراه.

في تلك اللحظة لم يكن الجنرالُ الحارسَ المؤتمَن على أمن الرئيس والنظام برُمّته، بل الرجل الذي قرر أن يُنهي 55 سنة من حكم الأسرة التي عاش في كنفها كل سنوات عمره، وحكمت بلاده لأكثر من نصف قرن.

في صباح الأربعاء الباكر، الموافق 30 أغسطس، أعلنت مجموعة من ضباط الجيش الغابوني، عبر التلفزيون الرسمي، الاستيلاء على السلطة، وإلغاء الانتخابات، وإغلاق الحدود حتى إشعار آخر... بعدها بساعات أعلنوا عن إخضاع الرئيس علي بونغو لـ«الإقامة الجبرية»، ثم إحالته لـ«التقاعد».

رغم كل الانتقادات وحملات الهجوم ضد الخطوة التي اتخذها «جنرال الظل الغابوني»، فإنه لم يتراجع. وبعدما ظهر الرئيس في فيديو مسرَّب وهو يستغيث بـ«أصدقاء الغابون» للتحرّك وإنقاذه، كان تحرك الجنرال أسرع، فتوارى الرئيس تماماً عن الأنظار، بينما ظهر رجل بزيٍّ عسكري وقبعة خضراء، وجنود يرفعونه في الهواء وهم يهتفون له.

الجنرال نغيما، الذي اختاره قادة الأجهزة العسكرية والأمنية في الغابون ليكون رئيساً للفترة الانتقالية التي لم تتحدد في البلاد، أكد، في مقابلة مع صحيفة «لوموند» الفرنسية، أن الرئيس بونغو «متقاعد ويتمتع بجميع حقوقه، مثل أي شخص آخر». وعند سؤاله «هل ترى نفسك رئيساً جديداً لدولة الغابون؟» أجاب «لم أعلن نفسي بعدُ، ولا أفكّر في أي شيء في الوقت الراهن». وحول الإعداد لهذا الانقلاب، وما إذا كان قد بدأ قبل فترة طويلة... أم أن نتائج انتخابات 26 أغسطس، وإعلان فوز الرئيس بونغو، هما ما دفع ضباط الجيش للتحرك، قال نغيما «أنتم تعلمون أنه يوجد استياء في الغابون، وبعيداً عن هذا الاستياء، هناك مسألة مرض رئيس الدولة... الجميع يتكلّم عن ذلك الأمر، لكن لا أحد يتحمل المسؤولية... وليس لديه (أي الرئيس) الحق بالبقاء في منصبه لولاية ثالثة. لقد حدث تجاهل للدستور. وطريقة الانتخابات بحد ذاتها لم تكن جيدة، لذا قرّر الجيش طيَّ الصفحة، وأن يرتقي إلى مستوى مسؤولياته».

الوجه الآخر

اللافت أن الجنرال نغيما ورفاقه من قادة الانقلاب لم يبنوا تبريرهم الإطاحة بحكم بونغو، على قضية الانتخابات وحدها، بل سعوا إلى مغازلة الشارع عبر اعتقال عدد من الشخصيات والمسؤولين المتنفّذين في النظام، الذين وُجّه إليهم عدد من التهم؛ من بينها «الخيانة العظمى»، و«اختلاس أموال الدولة».

كانت هناك انتقادات طالت بونغو بسبب اقتصاد البلاد المتهالك، رغم الثروات التي تزخر بها، فالغابون واحدة من أغنى الدول في أفريقيا من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى عائدات النفط، وقلة عدد السكان البالغ 2.3 مليون نسمة. النفط يشكل 60 في المائة من إيرادات البلاد، وبهذا تُعدّ سابع أكبر منتج له في أفريقيا، كما أنها عضو بمنظمة «أوبك».

في المقابل، يعيش فرد واحد، من أصل كل 3، تحت خط الفقر، وما يقرب من 40 في المائة من الغابونيين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة عاطلون عن العمل، وفقاً لـ«البنك الدولي».

هذه ما كانت المرة الأولى التي يستخدم فيها نغيما قضايا الفساد وسيلة لكسب الشعبية، بل بعد فترة قصيرة من تولّيه رئاسة الحرس الجمهوري، أطلق عملية «الأيدي النظيفة»، الهادفة إلى تعقُّب الفاسدين والمختلسين، ولقيت هذه الحملة ترحيباً شعبياً، ولم يتصور أحد أن الجنرال القويّ الداعي إلى اجتثاث الفساد والفاسدين من الدولة، كان يواجه شخصياً اتهامات جدية باختلاس المال العام. فوفقاً لتحقيق مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد «OCCRP» لعام 2020، فإن الجنرال يمتلك عدداً من العقارات في الولايات المتحدة، وكان قد اشترى نقداً، بين عامي 2015 و2018، 3 منازل في ضواحي العاصمة الأميركية واشنطن بمبلغ يفوق المليون دولار، كما ساعد أيضاً في توسيع أعمال بونغو الخارجية. وعندما سُئل عن هذه التعاملات، قال إنها «شأن خاص».

حجارة «الدومينو»

اليوم، لم يعد بريس أوليغي نغيما مجرد «جنرال ظل» يتكلّم بصوت هادئ، ويسعى دائماً إلى التوافق - كما يصفه مقرَّبون منه - بل غدا واحداً من جنرالات أفريقيا الأقوياء، الذين لم يكتفوا بإثارة عاصفة من التغيير في دولهم، بل سيَّروا موجة أقرب إلى سقوط أحجار «الدومينو» على رقعة النفوذ الدولي في القارة السمراء.

الغابون أضحت الدولة السادسة الناطقة بالفرنسية، التي تقع تحت الحكم العسكري، في السنوات الثلاث الماضية. وبينما يكافح المستعمرون القدامى لتلك الأراضي الشاسعة من أجل الحفاظ على بقايا نفوذ تلتهمه تحركات منافسيهم المتسارعة، تحترق أوراق «أفريقيا الفرنسية» بأيدي جنرالات الحرس الجمهوري.


مقالات ذات صلة

قرضان للمغرب لـ«تحسين الحوكمة الاقتصادية»

شمال افريقيا عزيز أخنوش رئيس الحكومة المغربية (الشرق الأوسط)

قرضان للمغرب لـ«تحسين الحوكمة الاقتصادية»

قال البنك الأفريقي للتنمية، الجمعة، إنه قدّم للمغرب قرضين بقيمة 120 مليون يورو (130 مليون دولار) لكل منهما؛ بهدف تمويل منطقة صناعية.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
يوميات الشرق خبير تونسي يتفقد مزرعة تين شوكي موبوءة بالحشرات القرمزية في صفاقس بتونس في 19 يوليو 2024 (رويترز)

الحشرة القرمزية تصيب محاصيل تونس من التين الشوكي (صور)

الحشرة أصبحت تشكل تهديداً كبيراً لمحصول التين الشوكي لأنها تدمر مساحات واسعة من المزارع وتثير قلقاً اقتصادياً كبيراً منذ اكتشافها في تونس لأول مرة عام 2021.

«الشرق الأوسط» (تونس)
أفريقيا انزلاق للتربة عقب هطول أمطار غزيرة بجنوب إثيوبيا في 22 يوليو 2024 (أ.ف.ب)

انزلاق التربة في جنوب إثيوبيا يتسبب في مقتل نحو 229 شخصاً

لقي قرابة 150 شخصاً حتفهم جراء انزلاق للتربة عقب هطول أمطار غزيرة في جنوب إثيوبيا، وفق ما أفادت به السلطات المحلية، الثلاثاء، محذّرة من أن العدد مرشح للارتفاع.

«الشرق الأوسط» (أديس أبابا)
شمال افريقيا المرشح الرئاسي المعارض لطفي المرايحي (موقع حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري)

السجن لمرشح رئاسي ومنعه من الترشح مدى الحياة في تونس

أصدرت محكمة تونسية، اليوم الجمعة، حكماً بسجن المرشح الرئاسي المعارض، لطفي المرايحي، 8 أشهر ومنعه من الترشح في الانتخابات الرئاسية مدى الحياة.

«الشرق الأوسط» (تونس)
شمال افريقيا المرشح المعارض بيرام الداه ولد أعبيد (الشرق الأوسط)

مرشح معارض يرفض نتائج انتخابات موريتانيا

دعا المرشح الرئاسي المعارض في موريتانيا، بيرام ولد الداه ولد أعبيد، اليوم الخميس، سلطات البلاد إلى الحوار لنزع فتيل الأزمة السياسية.

«الشرق الأوسط» (نواكشوط)

الأردن على طريق الانتخابات النيابية المقبلة

صورة لداخل مجلس النواب الأردني (الديوان الملكي)
صورة لداخل مجلس النواب الأردني (الديوان الملكي)
TT

الأردن على طريق الانتخابات النيابية المقبلة

صورة لداخل مجلس النواب الأردني (الديوان الملكي)
صورة لداخل مجلس النواب الأردني (الديوان الملكي)

يتوجه الأردنيون في العاشر من سبتمبر (أيلول) المقبل لاختيار مجلسهم النيابي العشرين، الذي خصص من مقاعده 41 مقعداً للأحزاب من أصل 138 مقعداً، في تجربة هي الأولى من نوعها سيشهدها الأردن تحت شعار «تحديث المنظومة السياسية» في المملكة. ويذكر أنه على مدى العامين السابقين دخلت المملكة في حالة جدال نخبوي حاد، حول مدى مساهمة قانون الانتخاب الجديد في تجويد الأداء البرلماني، ولا سيما، بعد تراجع اقتناع الرأي العام بأداء المجالس النيابية التي سجلت نسباً متدنية من الثقة عند الرأي العام بعد استطلاعات رأي تحدث بعضها عن ما نسبته 17 في المائة فقط يثقون بمجلس النواب. وبالتالي، من المرجح أن يصدر العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، خلال الأيام القليلة المقبلة مرسوماً يقضي بحل مجلس النواب التاسع عشر؛ تمهيداً لفتح باب الترشح للانتخابات النيابية، وبهذا القرار يتوقع أن يبدأ الحراك الانتخابي ويزداد سخونة مع قرب موعد يوم الاقتراع، لكن تبقى جملة من المحددات قد تؤثر على تحقيق أهداف التحديث البرلماني المنشود. إذ ستبدأ مرحلة الترشح للانتخابات المقبلة في الثلاثين من الشهر الحالي، وسط حراك حزبي يسعى لإثبات وجوده في السلطة التشريعية، التي هي ركن أساسي في معادلة الحكم، لكن الكلام عن استخدام المال لجذب القواعد الانتخابية فتح باب التخوف من إحباط التجربة الحزبية البرلمانية في نسختها الأولى، فعلى ثلاثة مواسم انتخابية سترتفع نسبة التمثيل الحزبي في البرلمان من 30 في المائة إلى 65 في المائة في انتخابات عام 2032.

سمير الرفاعي

يبلغ متوسط نسب الاقتراع في الانتخابات النيابية الأردنية للمواسم الانتخابية الثلاثة الماضية نحو 32 في المائة. وإذا كانت هذه النسبة متدنية، ففي أفضل الحالات لم تتخطَّ نسب المشاركة حاجز الـ40 في المائة طوال السنوات الـ25 الماضية، أضف إلى ذلك أن الحافز العشائري يُعدّ من أهم روافع المشاركة والإقبال، في وقت تتراجع نسب الاقتراع في العاصمة عمّان ومراكز الثقل السكاني في محافظتي إربد والزرقاء.

وعلى الرغم من الجهود المؤسسية المبذولة لتحفيز المواطنين على المشاركة، يظل المزاج العام شديد التأثر بالسلبية عند مراجعة أداء البرلمانات في السنوات الأخيرة. وكل الضجيج الذي يسمعه الناس في خطابات النواب لم يأتِ بأي قرار يخالف التوجّهات الحكومية، بل عادة ما يجيء التصويت بعكس الموقف الذي يعلنه نائب أو كتلة نيابية.

مشاجرات وفصل نوابمن جهة ثانية، مشاهد المشاجرات والعنف، بالإضافة إلى تسجيل مجلس النواب الحالي عدداً من حالات الفصل وتجميد العضوية لعدد من النواب سوابق لم تحدث في مجالس نيابية سابقة. فلقد قرّر المجلس الحالي فصل نائبين وتجميد عضوية نائبين آخرين، ورُفعت الحصانة على نائب ما زال يَمثُل أمام محكمة أمن الدولة (قضاء عسكري) بتهمة تهريب السلاح إلى إسرائيل، وهذا بلا شك ساهم في العزوف عن متابعة أداء السلطة التشريعية.

وثمة مشاهد كثيرة أخرى ربما أدت أيضاً إلى صرف الناخبين عن المشاركة، منها ممارسات حزبية وُلدت من رحم برنامج التحديث السياسي وسبّبت حالة إحباط لدى الرأي العام، وبخاصة، أن تلك الأحزاب قدّمت نفسها على أنها «أحزاب الدولة»، ولكن مارس بعضها سلوكيات ساهمت في التشويه والتشويش على التجربة الحزبية الجديدة في البلاد. وكان آخرها إحالة أمين عام أحد الأحزاب إلى النائب العام بتهمة طلبه مبلغاً مالياً من مرشح مفترض أن يكون في صدارة قائمته للانتخابات المقبلة.

وطبعاً، يضاف إلى كل ذلك أن الضغوط الاقتصادية المعيشية المُصاحبة لحالة المواطن الأردني ساهمت بـ«حالة من قلة الاكتراث» - وفق مراقبين - بمجمل المشهد السياسي، ومنه الانتخابي على وجه الخصوص؛ بسبب الاقتناع المتجذر بعجز البرلمانات عن حل الأزمة الاقتصادية المتراكمة منذ أزمة جائحة «كوفيد - 19» التي شلّت وأغلقت قطاعات خدمية حيوية وصناعية؛ ما تسبب في تسريح عاملين يقفون اليوم في طوابير البطالة التي يختلف المتخصصون على نسبتها.

تأثير الحرب على غزة

وعلى صعيد موازٍ، هناك أسباب تتعلق بالتخوف الرسمي من نسب المشاركة في الانتخابات. فاستمرار الحرب على قطاع غزة، تركت انسحابات على الشارع الأردني المتصل بالقضية الفلسطينية جغرافياً وديموغرافياً. وهذه الانسحابات أدخلت الرأي العام في حالة من الإحباط بعد غياب آفاق وقف الحرب في المدى المنظور، وبالتلازم مع هذا الإحباط توجد مخاوف رسمية من استفراد الحركة الإسلامية في الأردن بحصة الأسد من أصوات المقترعين، المشحونين بعاطفة الانتصار للمقاومة الإسلامية في غزة. واستطراداً، يبقى لغز ضعف نسب المشاركة في الأوساط الأردنية من أصول فلسطينية، حالة محيرة لمركز القرار، الذي نفّذ دراسة اجتماعية مسكوت عنها لم تصل إلى نتائج حاسمة في تعريف المشكلة على طريق صناعة الحلول.

نخب تقليدية بمواجهة طامحين

في هذه الأثناء ظهرت مساحات من الصراع بين تيارين: التيار الأول، تيار النخب التقليدية الذي يحمل موقفاً سلبياً من القفزات التي جاءت في قانوني الأحزاب والانتخاب، وأساس سلبيته شعوره بـ«تغييبه» عن مراكز القرار كواعظين وناصحين، بعد فترة ازدحمت بإطلاق الأوصاف بحقهم كـ«الحرس القديم» و«النخب المحافظة» و«قوى الشد العكسي» و«قوى الوضع القائم». والتيار الآخر يتمثل بأعضاء من اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، الذين بشّروا بانطلاق مرحلة التحول الديمقراطي بالتزامن مع دخول المملكة مئويتها الثانية... والصراع هنا كان وقوده الرأي العام الذي انقسم بين التيارين المتعارضين، في حالة عزّزت من مشاعر «قلة الاكتراث» بالانتخابات النيابية في نسختها الحالية.

وعلى مدى السنتين الماضيتين أنتجت مرحلة التحديث السياسي - بعد إقرار قانوني الأحزاب والانتخاب، والتعديلات على الدستور - 38 حزباً، بعدما كان عدد الأحزاب 56 حزباً. إلا أن هذا المشهد لم يختصر الكم الحزبي، كما لم يأتِ بالنوع المتفرد. إذ انقسم المشهد على ثلاثة تيارات تقليدية، هي:

- تيار اليسار والقوميين، الذي يعاني أزمة انتشار بسبب التشبث بخطابه التقليدي ويعاني تراجع دعم المؤازرين له.

- التيار الوسطي الذي يحاول إعادة إنتاج نفسه متمسكاً بأدبياته نفسها، ومكتفياً بتغيير قياداته التي جاءت بدعم من مراكز قرار.

- التيار الثالث... وهو اليمين الإسلامي، الذي احتكر تمثيله حزب «جبهة العمل الإسلامي» الذراع الحزبية لجماعة «الإخوان المسلمين» غير المرخصة في الأردن.

تحدٍ رسمي يراهن على نسب مشاركة كبيرة رغم الإحباطات الكثيرة

 المشهد السابق دفع برئيس اللجنة الملكية، رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي، إلى ممارسة النقد الذاتي لتجربة التوافق على مخرجات لجنته. لكنه لم ينتقد التوافق في حد ذاته، بل بعض الممارسات الحزبية التي اختطفت التجربة لتعيدها وتختصرها في شخوص من أسسوا أحزاباً جديدة، تاركين الفكرة في مهب التشكيك والتشويه. وهنا برز عدد من المريدين لإلقاء المسؤولية بعيداً عنهم، وتحميل تخبّط النسخة الأولى من التجربة لمؤسسات وجهات مدنية وأمنية. وأيضاً، هاجم بعض هؤلاء الهيئة المستقلة للانتخاب التي حمّلوها مسؤولية التقصير في دورها ومتابعة شؤون الأحزاب ومدى تطبيقها شروط القانون وأحكامه. لكن «المستقلة للانتخاب» ردّت بإجراءات على الأرض أسفرت عن إحالات للادعاء العام بشبهة استخدام المال في ارتكاب جرائم انتخابية بقصد التأثير على إرادة الناخبين من جهة، وطلب مبالغ مالية من مرشحين من جهة أخرى لحملهم نحو مقاعد مجلس النواب الجديد.

في هذه الأثناء، الطامحون بخوض التجربة الحزبية في الانتخابات المقبلة يعتقدون أن ولادة الحكومة البرلمانية اقتربت، إلا أن الرفاعي في محاضرته الأخيرة أكد أن خريطة التحديث لم تقلّ عن إنتاج حكومات حزبية بالمعنى التقليدي في المدى المنظور، لكن من شأن تراكم الحضور الحزبي أن يوصل إلى حكومات برلمانية تقابلها معارضة حزبية في سباق لكسب تأييد الناخب الأردني ضمن مفاهيم التعددية السياسية وتداول السلطة.

كذلك، بدا سمير الرفاعي وكأنه يُذكّر بأن الجمع بين مقعدي النيابة والوزارة أمر بات منتهياً في ظل حظر الدستور، بموجب التعديلات الأخيرة مطلع عام 2022، الجمع بين الموقعين تكريساً لمبدأ الفصل بين السلطتين، وتأكيداً بأن الثقة البرلمانية بالحكومات ستأتي حتماً بشخصيات حزبية ليست من أعضاء مجلس النواب. وهكذا، حرّك كلام الرفاعي المياه الراكدة، وأيقظ طامحين منبهاً إياهم بضرورة الكف عن الترويج لمفاهيم غير موجودة على خريطة الإصلاح البرلماني التي جاءت في وثيقة التحديث الملكي لمئوية جديدة، تحاكي المستقبل وتغادر الحاضر المشبع بتحديات الثقة والسلبية السائدة - وخصوصاً خلال السنوات الخمس عشرة الماضية.

خروج أقطاب يمهّد لوجوه جديدةمن جهة أخرى، لم يكن من المتوقع من بعض الأقطاب من النواب إعلانهم باكراً العزوف عن الترشح لهذا الموسم الانتخابي. ولكن هذا ما حدث، بعد إعلان المحامي عبد الكريم الدغمي، البرلماني المخضرم الذي لم يغب عن مجالس النواب منذ عام 1989 وحتى اليوم، وترأس المجلس في دورتين متباعدتين، واعتُبر عرَّاب التشريعات. وبعده تبعه النائب خليل عطية الذي قرر العزوف عن خوض الانتخابات التي داوم على حضورها منذ عام 1997، وتلاه أيمن المجالي، ورئيس مجلس النواب الأسبق عبد المنعم العودات، والنائب الاقتصادي خير أبو صعيليك.

وراهناً، تبدو احتمالات عودة نواب حاليين ضعيفة أمام ما ترسخه الأعراف العشائرية في الانتخابات النيابية من عملية (الدور) في الترشح، والقائمة على منح فرص متساوية لأبناء العشائر في التقدم نحو المناصب القيادية. وهذا غالباً ما يحدث في الدوائر الانتخابية البعيدة عن مراكز المدن الرئيسية الثلاث (عمان، وإربد، والزرقاء)، فدوائر الأطراف تُسجل عادة نسباً عالية في المشاركة، ومنافسة ساخنة في بعض المواسم السابقة.

للعلم، تعدّ العشيرة في الأردن حزباً اجتماعياً نافذاً ومتجذراً، ولها في العملية السياسية مساحة فاعلة. وهي عادة ما تمثّل درجة الحسم في كثير من مستويات المشاركة السياسية، وتعتبر من أهم روافع الأمن والاستقرار، نتيجة الاستجابة للمصلحة العامة، من دون أن تقايض بمواقفها في الملفات المهمة. بيد أن ما ذهبت إليه فكرة «الدائرة العامة المخصصة للأحزاب»، وبحصة متصاعدة في ثلاثة مواسم انتخابية، أسهم في كسر الحدود الإدارية بين الدوائر الانتخابية، وصولاً إلى فكرة الدائرة الوطنية الواحدة، التي قد تساهم في تجاوز التمثيل الأضيق على حساب التمثيل الأوسع... وهكذا، يذهب الناخب لاختيار من يمثّله على اتساع الرقعة الجغرافية الكاملة للمملكة؛ ما يساهم في صهر المجتمع، وتجاوز الفوارق التنموية والديموغرافية.

وللتذكير، تُجرى الانتخابات النيابية المقبلة وفق قانون انتخاب جديد أدخل حزمة من الإجراءات الجديدة، على رأسها إنشاء دائرة عامة على مستوى الوطن بـ41 مقعداً مخصصة للأحزاب، و18 دائرة محلية لها 97 مقعداً. ونص القانون أيضاً على «درجة الحسم» (العتبة) شرطاً للتنافس على المقاعد الحزبية بنسبة 2.5 في المائة والمحلية بنسبة 7 في المائة، في حين جاء القانون بفرص زيادة تمثيل المرأة بواقع تخصيص مقعد امرأة لكل دائرة انتخابية، ومقعدين من أول ستة مترشحين في القائمة الحزبية، مع حرية اختيار مسار «التنافس الحصصي» أو «الكوتا». وهي الفرص ذاتها التي مُنحت للشركس والمسيحيين، مع ضمان تمثيل الحد الأدنى لهم ضمن «كوتات» لعضوية المجلس المقبل.

عبدالكريم الدغمي

 

لمحة تاريخية عن المجالس النيابية الأردنية خلال 35 سنة

> دخل الأردن مرحلة التحوّل الديمقراطي عام 1989، بعد أحداث ما عرف بـ«هبّة نيسان» (أبريل)، ولم تنقطع الحياة البرلمانية خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، فأجريت الانتخابات في السنوات 1989 و1993 و1997. وفي مطلع الألفية الجديدة تعطل البرلمان لمدة سنتين بسبب تداعيات «الانتفاضة (الفلسطينية) الثانية»، وما رافقها من تداعيات على الساحة المحلية، وأجريت الانتخابات في عام 2003 بعد ثلاثة أشهر من احتلال بغداد، وعاش ذلك المجلس لمدة أطول من مدته الدستورية. في نهاية عام 2007 أجريت الانتخابات الشهيرة في الأردن، التي شهدت عمليات تزوير اعترف بها الرسميون، وأغضبت العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، ليدعو إلى إجراء انتخابات مبكرة عام 2010. لكن هذه أيضاً شهدت تدخلات رسمية، ساهمت في فقدان الثقة بالعملية الديمقراطية أردنياً. وعلى الأثر، حل البرلمان وتعطلت الحياة البرلمانية لمدة سنة. وكانت جميع تلك الانتخابات قد أجريت وفق أحكام قانون الصوت الواحد الذائع الصيت الذي انتقدته تيارات سياسية عريضة في البلاد. بعد «الربيع الأردني» دُعي إلى انتخابات نيابية بعد إنشاء هيئة مستقلة للانتخاب، وأجريت الانتخابات في مطلع عام 2013. ومنذ ذلك التاريخ لم تنقطع الحياة النيابية ولم يحدث فراغ تشريعي، بعدما أكملت المجالس مدتها الدستورية بواقع أربع سنوات شمسية؛ إذ يُحّل المجلس قبلها بأربعة أشهر لإجراء الانتخابات بموعدها.