بريس أوليغي نغيما... «جنرال الظل» الغابوني

احتضنه «الأب» وأطاح «الابنَ» بينما كان يُعد «الحفيد» للرئاسة

بريس أوليغي نغيما... «جنرال الظل» الغابوني
TT

بريس أوليغي نغيما... «جنرال الظل» الغابوني

بريس أوليغي نغيما... «جنرال الظل» الغابوني

عندما استيقظ العالم، صباح 30 أغسطس (آب) الماضي، على بيان يعلن الإطاحة بحكم علي بونغو، رئيس الغابون، لم ير أحدٌ وجه ذلك الجنرال القوي الذي قرّر الإطاحة بالرئيس. ربما كان يقف في الظل يرتّب مصير الرئيس وأسرته، ويصدر الأوامر لأولئك الذين سارعوا بالوقوف أمام الكاميرات، فذلك الجنرال الشاب، الذي عرف العالم بعده أن اسمه بريس أوليغي نغيما، كان واحداً ممن اعتادوا البقاء في الظل. رجل يتكلم بهدوء، ولا ينفعل إلا نادراً، إلا أنه فجأةً قرّر التمرد على كل ذلك، فأنهى، في ليلة واحدة، حياته السابقة، وقرّر أن يتصدر المشهد، في واحدة من أغنى البلدان في أفريقيا، وأفقرها شعوباً.

ليلة الانقلاب في الغابون، ظهر رجل البلاد «القوي» الجديد مُنهياً حكم «أسرة بونغو»، الذي استمر نحو 55 سنة، وللعِلم، يمتُّ الجنرال بريس أوليغي نغيما لهذه الأسرة بصلة قرابة... والأهم أنه يَدين لهم بالولاء، وخصوصاً إلى الرئيس عمر بونغو (الأب)، الذي كان نغيما أحد أقرب رجاله وظلّ مرافقاً له حتى لحظات عمره الأخيرة.

بيد أن علي، الرئيس الابن، لم يُكنّ للضابط الصاعد بسرعة على سُلّم الرتب العسكرية والنفوذ، مشاعر الود نفسها، إذ إنه كان قد أبعده لعقد كامل، ثم أعاده فجأة، لتبدأ العلاقة بين الرجلين فصلها الدرامي الأكثر إثارة.

البداية والنشأة

اسم «الجنرال» الكامل بريس كلوتير أوليغي نغيما، وهو من مواليد عام 1975 في مقاطعة أوت أوغوي، في أقصى جنوب شرقي الغابون، على الحدود مع جمهورية الكونغو (الكونغو - برازافيل)، وهي المقاطعة التي ينحدر منها بونغو.

لم يعانِ بريس الفقر والحاجة مثل كثيرين غيره من أطفال الغابون؛ لكون أسرته ميسورة الحال ومقرَّبة من أسرة بونغو، فأمه هي ابنة عم الرئيس المخلوع علي بونغو، ونشأ بوصفه واحداً من أبناء الأسرة الأقوى في البلاد، وسار على خطى والده، وواصل مسيرته المهنية في الجيش.

وفي سن مبكرة، انضم إلى وحدة الحرس الجمهوري، التي هي التنظيم العسكري الأقوى في الغابون، بعدما درس في الأكاديمية العسكرية الملكية المرموقة في مكناس بالمغرب، مُحاطاً بدعم أسرة الرئيس وثقتهم. وتقدّم بسرعة في مساره العسكري، مرتقياً سُلَّم المناصب، حتى أصبح مساعداً للرئيس (الأب) عمر بونغو، الذي حكم الغابون 41 سنة. وطوال الفترة التي أمضاها نغيما من عام 2005، حتى وفاة الرئيس الأب عام 2009 في أحد مستشفيات مدينة برشلونة الإسبانية، كان الضابط الشاب يُعامَل بوصفه أحد أفراد الأسرة الحاكمة.

ولكن في حين كان نغيما ينتظر مكافأة إخلاصه وتفانيه في خدمة الرئيس الأب، فيحقق مزيداً من الصعود في عهد «الوريث الابن» علي، لم يجد الضابط الشاب من الأخير سوى الفتور والإبعاد، ذلك أن الرئيس الجديد أقصاه عن الدائرة الداخلية المقرَّبة منه، وإن اتخذ ذلك الإقصاء شكل الترقية ليصبح ملحقاً عسكرياً في سفارتي الغابون بالمغرب والسنغال. غير أن الرحلة التي طالت لنحو 10 سنوات كانت كافية لأن ينسى الغابونيون - أو على الأقل النخبة الحاكمة فيها - وجه ذلك الضابط الذي اعتاد الجميع رؤيته قريباً من الرئيس التاريخي للبلاد.

لقد بقي الضابط نغيما متنقلاً بين الرباط وداكار، ينعم بسنوات دون أحداث تُذكَر؛ لا في حياته، ولا في تاريخ بلاده، بينما كان الرئيس علي بونغو ينتقل من فترة حكم إلى أخرى، ولا شيء تقريباً يتغير، إلى أن جاءت لحظة العودة مجدداً إلى المشهد، وكان ذلك عام 2018.

العودة إلى الأضواء

في أكتوبر (تشرين الثاني) 2018، استُدعي نغيما إلى الغابون، ليحلّ محل العقيد فريديريك بونغو (الأخ غير الشقيق للرئيس) على رأس «جهاز استخبارات الحرس الجمهوري»، التي تُعرَف رسمياً باسم «المديرية العامة للخدمات الخاصة (DGSS)».

ربما لا يعرف أحد تفاصيل الخلاف الذي وقع بين علي بونغو وأخيه غير الشقيق، لكن المؤكَّد أن الرئيس، الذي تعرَّض، في ذلك العام، لجلطة دماغية عجّلت بنقله إلى المستشفى العسكري في العاصمة المغربية لتلقّي العلاج، بحث في دفاتره القديمة عمّن يمكن الوثوق به في ذلك الموقع الخطير، فبرز اسم بريس نغيما.

من جهة ثانية، لعلَّ الرئيس ظنّ أن 10 سنوات من الابتعاد كافية لأن يدرك الضابط الشاب كثيراً من الحقائق، وقد يشعر بالامتنان للرئيس الذي أعاده مجدداً إلى الأضواء. وحقاً، عاد نيغما جنرالاً متحمساً للعمل، فكرّس حياته للحفاظ على نظام الرئيس علي بونغو، مستعيداً ثقته سريعاً، ومرتقياً بالسرعة نفسها إلى أعلى المواقع العسكرية.

إذ بعد أشهر معدودة على عودة نغيما إلى الغابون، عُيّن رئيساً للحرس الجمهوري، وما إنْ تسلَّم مهامّه حتى عزّز نظام الحماية الخاص بعلي بونغو، إلا أن الإصلاح الأكثر أهمية الذي قام به، كان تطوير «قسم التدخلات الخاصة» (وحدة خاصة وُضعت تحت السلطة المباشرة للرئيس)، التي رفع عدد أفرادها من نحو ثلاثين إلى أكثر من 300 عنصر. ووصل به الأمر إلى أن ألّف نشيداً لهذه الوحدة، يكرِّر الجنود فقراته بحماس، وخصوصاً البيت الذي يقول «سأدافع عن رئيسي بشرف وإخلاص».

مرحلة اتساع النفوذ

في تلك الفترة، اتسع نطاق نفوذ الجنرال القوي، ولم يقتصر على قوات الحرس الجمهوري التي زاد من قوتها وتسليحها، بل عمل - وفق شهادات قدَّمها مقرَّبون من نغيما، لوسائل إعلام غربية؛ منها وكالة «أ.ف.ب» الفرنسية - على مدّ نفوذه إلى بقية قطاعات الجيش، فازدادت شعبيته في صفوف القوات المسلَّحة، بعدما أقنع الرئيس بونغو بتحسين الأحوال المعيشية وظروف العمل للجنود، وذلك بتطوير المنشآت وتمويل مدارس لأبناء الجنود.

لكن نغيما حافظ، حتى ذلك الحين، على موقعه بوصفه «رجل الظل»، الذي يستشعر الجميع سطوته، دون أن يسمعوا صوته. وبعكس الوتيرة التي كانت تسير بها حياة الجنرال نغيما على مدى السنوات العشر التي أمضاها خارج بلاده، سارت السنوات الأخيرة حافلة بالأحداث. وباعتباره حجر الزاوية في جهاز أمن نظام الرئيس بونغو، أخذ يراقب عن كثب ما يجري في نهر السياسة، الذي لا يبعد كثيراً في دولة مثل الغابون عن أعين الجيش والمؤسسات الأمنية.

كان الرئيس علي بونغو، الذي تركت الأزمة الصحية التي واجهها قبل سنوات آثاراً واضحة على قدرته على الكلام والحركة، يواجه معارضة متنامية، سواء من الأحزاب أم في الشارع. وتمنَّى كثيرون - ربما بينهم الجنرال نغيما - ألا يترشح لفترة رئاسية ثالثة، وكانوا يأملون أن يوافق على أن يلعب دوراً في تأهيل «وريث» جديد من أسرة بونغو. ووفق موقع «موند أفريك» الفرنسي، جرى تكليف نغيما بمساعدة نجل علي بونغو؛ نور الدين بونغو فالنتان، من أجل الاستعداد لخلافة والده، لكن الرئيس اتخذ قراره بخوض الانتخابات المثيرة للجدل، رغم كل المحاذير، وكان هذا الفصل الأخطر من علاقته الدرامية مع الجنرال الطامح.

محطة مصيرية

أُجريت الانتخابات يوم 26 أغسطس (آب) المنصرم، وأُعلن فوز الرئيس بفترة رئاسية ثالثة ليلة الـ30 من ذلك الشهر. في حينه ربما كان الرئيس يفكر في استدعاء جنراله القوي ورئيس حرسه الجمهوري، ليناقش معه خطط التحضير لحفل تنصيب كبير يغطي به على احتجاجات المعارضة وغضب الشارع والاتهامات بتزوير الانتخابات.

ولكن بعد ساعات من إعلان نتيجة الانتخابات، جاء الجنرال نغيما بلا دعوة، وبوجه غير الذي اعتاد بونغو أن يراه.

في تلك اللحظة لم يكن الجنرالُ الحارسَ المؤتمَن على أمن الرئيس والنظام برُمّته، بل الرجل الذي قرر أن يُنهي 55 سنة من حكم الأسرة التي عاش في كنفها كل سنوات عمره، وحكمت بلاده لأكثر من نصف قرن.

في صباح الأربعاء الباكر، الموافق 30 أغسطس، أعلنت مجموعة من ضباط الجيش الغابوني، عبر التلفزيون الرسمي، الاستيلاء على السلطة، وإلغاء الانتخابات، وإغلاق الحدود حتى إشعار آخر... بعدها بساعات أعلنوا عن إخضاع الرئيس علي بونغو لـ«الإقامة الجبرية»، ثم إحالته لـ«التقاعد».

رغم كل الانتقادات وحملات الهجوم ضد الخطوة التي اتخذها «جنرال الظل الغابوني»، فإنه لم يتراجع. وبعدما ظهر الرئيس في فيديو مسرَّب وهو يستغيث بـ«أصدقاء الغابون» للتحرّك وإنقاذه، كان تحرك الجنرال أسرع، فتوارى الرئيس تماماً عن الأنظار، بينما ظهر رجل بزيٍّ عسكري وقبعة خضراء، وجنود يرفعونه في الهواء وهم يهتفون له.

الجنرال نغيما، الذي اختاره قادة الأجهزة العسكرية والأمنية في الغابون ليكون رئيساً للفترة الانتقالية التي لم تتحدد في البلاد، أكد، في مقابلة مع صحيفة «لوموند» الفرنسية، أن الرئيس بونغو «متقاعد ويتمتع بجميع حقوقه، مثل أي شخص آخر». وعند سؤاله «هل ترى نفسك رئيساً جديداً لدولة الغابون؟» أجاب «لم أعلن نفسي بعدُ، ولا أفكّر في أي شيء في الوقت الراهن». وحول الإعداد لهذا الانقلاب، وما إذا كان قد بدأ قبل فترة طويلة... أم أن نتائج انتخابات 26 أغسطس، وإعلان فوز الرئيس بونغو، هما ما دفع ضباط الجيش للتحرك، قال نغيما «أنتم تعلمون أنه يوجد استياء في الغابون، وبعيداً عن هذا الاستياء، هناك مسألة مرض رئيس الدولة... الجميع يتكلّم عن ذلك الأمر، لكن لا أحد يتحمل المسؤولية... وليس لديه (أي الرئيس) الحق بالبقاء في منصبه لولاية ثالثة. لقد حدث تجاهل للدستور. وطريقة الانتخابات بحد ذاتها لم تكن جيدة، لذا قرّر الجيش طيَّ الصفحة، وأن يرتقي إلى مستوى مسؤولياته».

الوجه الآخر

اللافت أن الجنرال نغيما ورفاقه من قادة الانقلاب لم يبنوا تبريرهم الإطاحة بحكم بونغو، على قضية الانتخابات وحدها، بل سعوا إلى مغازلة الشارع عبر اعتقال عدد من الشخصيات والمسؤولين المتنفّذين في النظام، الذين وُجّه إليهم عدد من التهم؛ من بينها «الخيانة العظمى»، و«اختلاس أموال الدولة».

كانت هناك انتقادات طالت بونغو بسبب اقتصاد البلاد المتهالك، رغم الثروات التي تزخر بها، فالغابون واحدة من أغنى الدول في أفريقيا من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى عائدات النفط، وقلة عدد السكان البالغ 2.3 مليون نسمة. النفط يشكل 60 في المائة من إيرادات البلاد، وبهذا تُعدّ سابع أكبر منتج له في أفريقيا، كما أنها عضو بمنظمة «أوبك».

في المقابل، يعيش فرد واحد، من أصل كل 3، تحت خط الفقر، وما يقرب من 40 في المائة من الغابونيين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة عاطلون عن العمل، وفقاً لـ«البنك الدولي».

هذه ما كانت المرة الأولى التي يستخدم فيها نغيما قضايا الفساد وسيلة لكسب الشعبية، بل بعد فترة قصيرة من تولّيه رئاسة الحرس الجمهوري، أطلق عملية «الأيدي النظيفة»، الهادفة إلى تعقُّب الفاسدين والمختلسين، ولقيت هذه الحملة ترحيباً شعبياً، ولم يتصور أحد أن الجنرال القويّ الداعي إلى اجتثاث الفساد والفاسدين من الدولة، كان يواجه شخصياً اتهامات جدية باختلاس المال العام. فوفقاً لتحقيق مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد «OCCRP» لعام 2020، فإن الجنرال يمتلك عدداً من العقارات في الولايات المتحدة، وكان قد اشترى نقداً، بين عامي 2015 و2018، 3 منازل في ضواحي العاصمة الأميركية واشنطن بمبلغ يفوق المليون دولار، كما ساعد أيضاً في توسيع أعمال بونغو الخارجية. وعندما سُئل عن هذه التعاملات، قال إنها «شأن خاص».

حجارة «الدومينو»

اليوم، لم يعد بريس أوليغي نغيما مجرد «جنرال ظل» يتكلّم بصوت هادئ، ويسعى دائماً إلى التوافق - كما يصفه مقرَّبون منه - بل غدا واحداً من جنرالات أفريقيا الأقوياء، الذين لم يكتفوا بإثارة عاصفة من التغيير في دولهم، بل سيَّروا موجة أقرب إلى سقوط أحجار «الدومينو» على رقعة النفوذ الدولي في القارة السمراء.

الغابون أضحت الدولة السادسة الناطقة بالفرنسية، التي تقع تحت الحكم العسكري، في السنوات الثلاث الماضية. وبينما يكافح المستعمرون القدامى لتلك الأراضي الشاسعة من أجل الحفاظ على بقايا نفوذ تلتهمه تحركات منافسيهم المتسارعة، تحترق أوراق «أفريقيا الفرنسية» بأيدي جنرالات الحرس الجمهوري.


مقالات ذات صلة

قائد الجيش المصري يتفقد جاهزية الوحدات العسكرية «المخطط إشراكها بإحدى مهام الاتحاد الأفريقي»

شمال افريقيا عبد المجيد صقر القائد العام للقوات المسلحة المصرية وزير الدفاع والإنتاج الحربي (متداولة)

قائد الجيش المصري يتفقد جاهزية الوحدات العسكرية «المخطط إشراكها بإحدى مهام الاتحاد الأفريقي»

قال بيان للمتحدث العسكري باسم القوات المسلحة المصرية، إن قائد الجيش المصري تفقد جاهزية الوحدات العسكرية «المخطط إشراكها بإحدى مهام الاتحاد الأفريقي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الاقتصاد رئيس «كوب 29» مختار باباييف يصفق خلال الجلسة العامة الختامية لقمة الأمم المتحدة للمناخ (أ.ب)

«كوب 29» يسدل ستاره بالاتفاق على تمويل مناخي بـ300 مليار دولار

اتفقت دول العالم، بعد أسبوعين من المفاوضات الشاقة، على هدف تمويل سنوي بقيمة 300 مليار دولار لمساعدة الدول الأكثر فقراً على مواجهة آثار تغير المناخ.

«الشرق الأوسط» (باكو)
صحتك طفل مصاب بجدري القردة يتلقى الرعاية الصحية (أ.ب)

«الصحة العالمية»: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة

قالت منظمة الصحة العالمية، اليوم الجمعة، إن تفشي جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
رياضة عالمية منتخب سيدات المغرب من المرشحات لجائزة الأفضل في القارة الأفريقية (الشرق الأوسط)

«كاف» يعلن قوائم المرشحات للفوز بجوائز السيدات 

أعلن الاتحاد الأفريقي لكرة القدم (كاف)، اليوم (الأربعاء)، القوائم المرشحة للحصول على جوائزه لعام 2024 في فئة السيدات.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
رياضة عالمية كولر مدرب الأهلي المصري ينافس 4 مدربين لمنتخبات على الأفضل في أفريقيا (أ.ف.ب)

«كاف»: 5 مرشحين لجائزة أفضل مدرب في أفريقيا

أعلن الاتحاد الأفريقي لكرة القدم (كاف) عن القائمة النهائية للمرشحين لجائزة أفضل مدرب في القارة السمراء في عام 2024.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.