«إيكواس»... حلم أفريقي تهزّه كوابيسُ الانقلابات

أُسست لتحقيق الاندماج الاقتصادي وسط تهديد الأزمات السياسية

مؤيدون للانقلاب يتظاهرون في نيامي عاصمة النيجر (آ ف ب)
مؤيدون للانقلاب يتظاهرون في نيامي عاصمة النيجر (آ ف ب)
TT

«إيكواس»... حلم أفريقي تهزّه كوابيسُ الانقلابات

مؤيدون للانقلاب يتظاهرون في نيامي عاصمة النيجر (آ ف ب)
مؤيدون للانقلاب يتظاهرون في نيامي عاصمة النيجر (آ ف ب)

منذ سيطر العسكريون على الحكم في النيجر، يوم الأربعاء 26 يوليو (تموز) الماضي، و«المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا»، المعروفة اختصاراً باسم «إيكواس ECOWAS»، تفرضُ العقوبات وتتوعد بشن عملية عسكرية للإطاحة بالمجلس العسكري الحاكم، وإعادة الرئيس المنتخب محمد بازوم المحتجز لدى العسكريين. إلا أن كل هذه التهديدات ذهبت - حتى الآن - أدراج الرياح، ويبدو أن هذه المنظمة الإقليمية التي أسست قبل قرابة 5 عقود بدأت تفقدُ أنيابها، ولم يبقَ منها سوى الريش المنفوخ... ولعل انقلاب الغابون الأخير أوضح دليل على ذلك. «إيكواس» كانت قبل سنوات نموذجاً ناجحاً للاندماج الاقتصادي والتجاري، وبدأت تتحول إلى سوق كبيرة يتطلعُ نحوها الجميع، حتى إنها في عام 2017 تلقت طلباً من المغرب بالانضمام إليها، ثم وقعت معها موريتانيا عقد شراكة، لكنها انسحبت منها عام 2000. واليوم نرى أن هذا النموذج مهدّد وجودياً بموجة انقلابات عسكرية تكاد تعصف به. فهل تنجح المنظمة في تجاوز واحد من أصعب الامتحانات في تاريخها، وهي التي كانت قد غيّرت استراتيجيتها غير مرة؟... إذ إنها بعدما أسست لأغراض اقتصادية وتجارية، صارت مع الوقت تهتم بالأمن والاستقرار والديمقراطية في دولها الأعضاء، وشكّلت قوة احتياط عسكرية سبق أن تدخلت عدة مرات لإنهاء انقلابات أو حروب، أو من أجلِ حفظ الأمن والسلم.

تعود فكرة إنشاء «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» (إيكواس) إلى عام 1972، حين اقترحها اثنان من أشهر القادة العسكريين في غرب أفريقيا هما يعقوبو غوون وغناسينغبي إياديما.

في البداية راودت الفكرة الجنرال يعقوبو غوون، الذي تولّى حكم نيجيريا عام 1966 إثر انقلاب عسكري واحتفظ بالسلطة حتى أسقطه انقلاب عسكري آخر عام 1975، ولقد شهد حكمه إنهاء واحدة من أكثر الحروب بشاعة في تاريخ غرب أفريقيا، ألا وهي حرب إقليم بيافرا الغني بالنفط في جنوب شرق نيجيريا.

والواقع أن غوون الذي طالما وصفُه خصومه بأنه «ديكتاتور»، كان يحلم رغم الأزمات التي تحاصره في الداخل، بإنشاء تكتل إقليمي لدول غرب القارة السمراء، يمكّنها من تحقيق حلم «الاندماج الإقليمي»، وكان هدفه الأبرز تسهيل نقل الأفراد والبضائع بين هذه الدول. وحقاً سارع الجنرال النيجيري - البالغ من العمر اليوم 88 سنة، والذي تحوّل إلى شخصية أكاديمية - إلى طرح الفكرة على عسكري آخر هو الجنرال غيناسينبي إياديما، الذي حكم التوغو لقرابة أربعة عقود وانتهى حكمه حين توفي عام 2005 على متن طائرة خاصة كانت تنقله للعلاج في فرنسا. ويومها وافق إياديما المتهم بدوره بالديكتاتورية، بسرعة على فكرة غوون ودافع عنها بشدة.

اتسعت الدائرة بعد ذلك، ووصلت الفكرة عام 1973 إلى موافقة 12 دولة في غرب أفريقيا. وهكذا أسّس كيان المنظمة بشكل رسمي عام 1975، وهو العام نفسه الذي سقط فيه غوون، صاحب الفكرة و«الأب المؤسس»، واتجه على الأثر إلى بريطانيا حيث تابع دراسته العليا وحصل على الدكتوراه من جامعة ووريك المرموقة. ولكن، ثمة مَن يقول إن غوون لم يأت بالفكرة من فراغ، بل استمدها من «الاتحاد الجمركي في غرب أفريقيا»، الذي أسس عام 1959، وضم خمس دول لم تكن حينها قد حصلت على الاستقلال التام عن فرنسا، هي: مالي وبوركينا فاسو (أعالي الفولتا في حينه)، والنيجر، وبنين (الداهومي في حينه)، وكوت ديفوار. قبل أن تلتحق بها التوغو عام 1961.

كانت روح الاستعمار حاضرة في مختلف التكتلات الإقليمية التي شكّلت في غرب أفريقيا، خلال منتصف القرن العشرين. فالفرنسيون كانوا حاضرين بقوة في رسم معالم هذه الهيئات الإقليمية، بل إنهم كانوا أصحاب القرار الحقيقي؛ لأن شخصية «الدولة» في كيانات غرب أفريقيا آنذاك كانت «صورية»... لا تتمتع بالكثير من الصلابة المؤسسية والوعي البيروقراطي. وهُنا يبني معارضو «إيكواس» حجّتهم للكلام عن موت المنظمة، ويطلقون دعواتهم لإعادة التأسيس، وبالتالي يعارضون جميع قرارات المنظمة. ومن ضمن هؤلاء الدبلوماسي والسفير السابق سوغايو كيغيو، الذي يعتبر أن «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا لم تعد موجودة؛ لأن التكتل الإقليمي الذي تركه لنا الآباء المؤسسون مات. الموجود الآن هو مجموعة من الدُّمى التي تتملّق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهذا أمر لا يهمّ شعوب غرب أفريقيا».

الرئيس الانقلابي النيجري عبد الرحمن تشياني (أ.ف.ب)

الحلم الكبير

الحقيقة أنه رغم تنامي الأصوات المعارضة لمواقف «إيكواس»، خاصة في السنوات الأخيرة حين فرضت عقوبات ضد دول أعضاء بسبب الانقلابات العسكرية، لا يزالُ حلم الاندماج الإقليمي حاضراً. وبالذات في وثيقة «رؤية 2050» التي وضعتها المنظمة عام 2020، تحت شعار «إيكواس الشعوب: السلام والتنمية للجميع»، ولكن هذه الطموحات تواجه تحديات كبيرة. لقد سبق لـ«إيكواس» أن وضعت وثيقة مشابهة عام 2007، وأطلقت عليها يومذاك اسم «رؤية 2020». وكان شعار المرحلة آنذاك إنشاء «منطقة بلا حدود، مستقرة، ومزدهرة، ومتناغمة، يسودها الحكم الرشيد». إلا أنه حين حل الموعد ما كانت غالبية المشاريع الكبرى قد تحققت، بل إن موجة انقلابات عسكرية عصفت بكل ذلك، مع تصاعد وتيرة الإرهاب والجريمة المنظمة.

مع ذلك، لا تزالُ المنطقة تتمتعُ بإمكانيات كبيرة؛ إذ تصلُ مساحة دولها الخمس عشرة إلى أكثر من خمسة ملايين كيلومتر مربع، بينما يزيد عدد السكان على 400 مليون نسمة، تستحوذ نيجيريا وحدها على النصف (206 ملايين نسمة). ثم إن أكثر من 60 في المائة من هؤلاء السكان شباب، فمتوسط العمر في غرب أفريقيا 18 سنة فقط، و65 في المائة من السكان لم يبلغوا بعد 25 سنة.

وعلى الصعيد الاقتصادي، يُقدّر الناتج المحلي الخام لدول «إيكواس» بنحو 700 مليار دولار أميركي، إلا أن 36 في المائة من السكان يعيشون تحت خط الفقر، أي بأقل من دولارين في اليوم الواحد، وفق إحصائيات 2019. وهذا، في وقت تتوافر فيه المنطقة على موارد معدنية هائلة جداً من الذهب واليورانيوم والألماس والنفط والغاز والفوسفات، ومعظمها ما زال في باطن الأرض ويُسيل لعاب قوى العالم.

من جهة ثانية، تسعى «إيكواس» في خططها إلى أن تصبح دولها سوقاً واحدة، عبر إلغاء الحدود وتوحيد التعرفة الجمركية، وسكّ عملة موحّدة اختير لها اسم «إيكو»، وتنفيذ مشاريع بنية تحتية تكاملية، من شأنها أن تسهل حركة الأفراد والبضائع. بيد أنه بسبب موجة انقلابات عصفت بالمنطقة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، راجعت خططها مطلع التسعينات، وأضافت إلى أهدافها ضمان الأمن والسلم، وتعزيز الديمقراطية، انطلاقاً من فكرة الارتباط العضوي بين التنمية والأمن... وها هي تجد نفسها بعد مرور ثلاثة عقود أمام موجة جديدة من الانقلابات.

الرئيس النيجيري السابق يعقوبو غوون (أ ف ب)

أزمة الديمقراطية

يقول سيد أعمر ولد شيخنا، وهو باحث موريتاني مختص في العلوم السياسية والتاريخ ومدير المركز الإقليمي للدراسات والاستشارات، إن «الديمقراطية في منطقة الإيكواس، وفي عموم أفريقيا، تعيش في المنطقة الرمادية... فلا هي ديمقراطية راسخة، ولا هي تسلطية خالصة، بل بقيت دائماً هجينة. ومع أنها راكمت بعض التقاليد الديمقراطية، فإنها تعيش تهديداً مستمراً بالانتكاسة إلى مربع الانقلابات والحروب الأهلية، بسبب ضعف الدولة، وهشاشة الأوضاع الاقتصادية، والعجز عن إدارة الاختلاف والتنوعات العرقية، إلى جانب تحديات الإرهاب والتدخلات الدولية». ويضيف ولد شيخنا، في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن المنظمة «عانت من الانقلابات العسكرية لعقود، وبالتالي، فهي تحاولُ تشجيع الديمقراطية، باعتبار ذلك هو الطريق إلى الاستقرار والتنمية. وهذا دور معروف في أدبيات الانتقال الديمقراطي بالمشروطية السياسية والاقتصادية، وكان في السابق تقوم به منظمات دولية، وأصبح - لحسن الحظ - تقليداً لدى بعض المنظمات الإقليمية». وفي السياق ذاته، يقول الصحافي السنغالي داود صاو، في حديث مع «الشرق الأوسط»، إن أزمة الديمقراطية في غرب أفريقيا «تتجلى في أن الشعوب لا تجد ذاتها في حُكّامها، كما أن مواطني هذه الدول لا يرون أن البرلمانات تمثلهم أو تدافع عن مصالحهم... فهناك بالفعل أزمة ثقة واضحة بين المواطن والحكومة».

ويتابع الصحافي السنغالي: «من السهل أن نعيد الانقلابات إلى التدخل الخارجي، إلا أنني لستُ متفقاً مع هذه النظرية؛ لأنه بدل إلقاء اللوم على الآخرين، يجبُ علينا البحث عن الخلل في سياساتنا؛ إذ حين نرجع إلى الدول التي وقعت فيها انقلابات سنجد أنها تعاني من أزمة حكم، فهي دول غنية بالموارد الطبيعية مثل الذهب واليورانيوم والنفط، ولكن معظم سكانها يعيشون تحت خط الفقر، وهم محرومون من الماء والكهرباء وأبسط مقومات الحياة الكريمة... وفي المقابل هناك ثلة تزداد ثراءً يوماً بعد يوم. هذا يوضح أننا فشلنا في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، وأنه ليس هنالك توزيع عادل للثروة، مثل هذه المشاكل تقود إلى وضعيات تمهد بدورها للانقلابات العسكرية».

أما الكاتب الصحافي الموريتاني سيدي المختار ولد سيدي، فيرى في حديث مع «الشرق الأوسط» أن «الانقلابات الأخيرة لم تكن تستهدف تقويض التجارب الديمقراطية، بل انطلقت من معطيات تتعلق بمشروعية الانتخابات والظروف التي وصل فيها الرؤساء للحكم، بالإضافة لعوامل أخرى مرتبطة بالتحديات الأمنية والتحالفات الجيوستراتيجية، بالإضافة إلى الطموح الذاتي لبعض العسكريين».

تجاهل الأسباب

في أي حال، الاتفاقيات الموقعة بين الدول الأعضاء في «إيكواس»، تمنح المنظمة الحق في فرض عقوبات قد تصل للتدخل العسكري من أجل منع أي استيلاء على السلطة بالقوة، لكنها رغم ذلك لم تنجح في إفشال انقلابات مالي وبوركينا فاسو وغينيا، وها هي اليوم في موقف صعب تجاه النيجر. وهنا، يرجع سيدي المختار ولد سيدي هذا الفشل إلى أن المنظمة «لا تهتم بما يحدث في دولها قبل وقوع الانقلابات، فهي لا تتكلّم عن أوضاع حقوق الإنسان، ولا عن تعزيز الديمقراطية ومحاربة الفساد... وبالتالي فهي تتدخل كردة فعل على حدوث الانقلابات، بدل العمل من أجل تحصين الديمقراطية».

وجهة النظر ذاتها يعرضها الصحافي السنغالي داود صاو، ملاحظاً أن «إيكواس بدلاً من أن تفكر في الأسباب ظلت تركّز على مواجهة النتائج، أي الانقلابات العسكرية... وهذا موقف مفهوم لأنه يتماشى مع مبادئ المنظمة الإقليمية التي ظلت وفية لمنطقها، وهي تصارع أشكالاً مختلفة من السيطرة على الحكم بطريقة غير دستورية». غير أنه يستطرد مضيفاً أن «الخطأ الذي ترتكبه (إيكواس) هو أنها تتجاهل الأسباب التي هيأت الظرفية للانقلاب، وتتجه مباشرة نحو العقوبات بدل البحث عن أسباب لجوء العسكريين للانقلاب... هذا المنطق هو الذي أدخل المنطقة في موجة من الانقلابات؛ لأن التجربة أثبتت أن العقوبات لم تضعف عزيمة العسكريين». غير أن ولد سيدي يشدد على أنه «لا يجوز التعويل كثيراً على (إيكواس) وتحميلها ما لا طاقة لها به، فهي في النهاية لا تمتلك الكثير من الأدوات الفعالة والمستقلة عن الحكومات والقادرة على الضغط عليها عند الضرورة».

التنافس الدولي

في خضم كل ما سبق، من العبث تجاهل التنافس الدولي المحتدم في غرب أفريقيا، ما بين الكتلة الدولية الغربية من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى. وهو تنافس له تأثيره المباشر على الوضعية الصعبة التي تمرُّ بها مجموعة «إيكواس». وهو ما يؤكده سيد أعمر ولد شيخنا، في تصريحه لـ«الشرق الأوسط»؛ إذ يوضح أن «إيكواس فضاء اقتصادي وبشري مهم وكبير، وموضع تنافس القوى الدولية.

وصحيحٌ أن فرنسا لها تأثير وصلات قوية، وصحيحٌ أيضاً أن إيكواس تدفع نسبياً ثمن الموقف الشعبي المتصاعد ضد فرنسا، لكن فرنسا تبقى في النهاية شريكاً موثوقاً لدول المنظمة، وليس هناك أي استعداد للخضوع للابتزاز الروسي عبر الانقلابات، أو الاستجارة من الرمضاء بالنار». ويتابع ولد شيخنا أن التنافس يحتدم بشكل غير مسبوق، مشيراً إلى أن «ثمة استراتيجية الصين الناعمة القائمة على التعاون الاقتصادي، عبر القروض والمقاولات ومشاريع البنية التحتية مع تحاشي التدخل في الشؤون الداخلية، بل التعامل مع الأوضاع القائمة بغض النظر عن الديمقراطية والشرعية الانتخابية. وفي المقابل هناك مشروع روسي يعتمد القوة الخشنة، عبر الانقلابات العسكرية وشركة (فاغنر) والدعم العسكري، وهو يحاول طرد النفوذ الفرنسي ووراثته، ولذلك يوجد ارتباط بالحرب الأوكرانية ومشاريع الغاز الأفريقي البديل للغاز الروسي». أما من جانب الغرب، فيقول الباحث إن «الاستراتيجية الأميركية تترجم في التعاون الاقتصادي والعسكري والأمني لمحاربة الإرهاب، والاستفادة من الموارد، ورفض ترك المجال للقوى الأوراسية، أي الصين وروسيا، مع إدراك التراجع الفرنسي. ومن ثم، تبقى الاستراتيجية الفرنسية تقليدية، وتخضع حالياً لامتحان عسير، وهي مرغمة على انتهاج خيارات بديلة».

في هذه الأثناء، يقول الصحافي السنغالي صاو إن «السياسات الفرنسية تجاه غرب أفريقيا ظلت جامدة ولم تتغير، في حين نجد أن طبقة من الشباب الأفريقي لم تعد تقبل هذا الوضع، بل ترى في السياسات الفرنسية تجاه بلدانهم نوعاً من الاستعمار الجديد... إنها ليست طبقة معادية لفرنسا أو للثقافة الفرنسية، لكنا ترى أن فرنسا ذات عقلية أبوية، وتمارس الوصاية تجاه دولهم».

«حزام انقلابي» ناري قسم «إيكواس» إلى قسمين

لدى إلقاء نظرة على خارطة "إيكواس"، يتضح أنه في غضون ثلاث سنوات فقط، تشكل "حزام ناري" يقسم المنظمة الإقليمية إلى جزئين منفصلين. إنه "الحزام الانقلابي" الذي يضم مالي وبوركينا فاسو وغينيا والنيجر، وهي أربع دول جمّدت المنظمة عضويتها وفرضت عليها حصارًا اقتصاديًا، فكانت خنجرًا مغروسًا في خاصرة المنظمة التي أسست من أجل "الاندماج".

الكاتب الصحافي الموريتاني سيدي المختار ولد سيدي يعتقد أن المنظمة "مهدّدة اليوم أكثر من أي وقت مضى بالتشظي والانقسام"، في حين يذهبُ الصحافي السنغالي داوود صاو إلى أن على المنظمة "مراجعة أهدافها، لكي تضع في صدارتها الاستجابة لتطلعات شعوب المنطقة... يكفي أن نعرف أن الشعوب اليوم تصف المنظمة بأنها نادي الرؤساء، كونهم يرونها مجرّد تجمّع هدفه الوحيد هو حماية الرؤساء الموجودين في الحكم". ويضيف صاو أن "إيكواس بحاجة إلى الكثير من الحكمة لتجاوز هذه المرحلة الصعبة"، ويشير إلى أن تعامل "إيكواس انقلاب النيجر كان مفتقراً إلى الحكمة حين لوّحت منذ الوهلة الأولى بالتدخل العسكري، ثم تراجعت عنه لتمنح الأولوية للحل الدبلوماسي، ثم عادت بعد ذلك وأكدت أن الخيار العسكري ما يزال مطروحاً... كل هذا التذبذب كان سببه غياب الحكمة".

بيد ان الصحافي السنغالي يخلص إلى القول أن الكلام عن إمكانية تشرذم المنظمة الإقليمية "لا يخلو من مبالغة وتشاؤم"، متابعاً أن "موقف المنظمة الإقليمية الصارم تجاه الانقلابات العسكرية مطلوب وجيد، وتنصّ عليه قوانين ومواثيق وقعّت عليها جميع الدول الأعضاء، إنها مواقف من صميم اختصاص المنظمة".

واختتم "لا خلاف على مبدأ رفض الانقلابات وضرورة مواجهتها، ولكن يتوجب ايضاً على قادة المنظمة أن يكونوا أكثر حكمة، وأن تتوافر لديهم القدرة على اتخاذ قرارات استراتيجية، والبحث عن حلول أفريقية للمشاكل الأفريقية... حلول نابعة من صميم ثقافتنا المحلية".



روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
TT

روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)

مطلع الشهر الماضي ذهب الأوروبيون إلى صناديق الاقتراع لتجديد عضوية البرلمان الأوروبي، فيما أجمعت الآراء على وصفها بأنها أهمّ انتخابات في تاريخ الاتحاد، الذي منذ أكثر من سنتين تشتعل حرب على تخومه وتهدد باتساع دائرتها وإيقاظ أشباح الماضي الذي قام المشروع الأوروبي بهدف وأده، وهذا بينما تتنامى داخل حدوده القوى التي منذ ثمانية عقود أفرزت أقسى الحروب التي شهدتها القارة في الأزمنة الحديثة. ولقد جاءت النتائج لتؤكد الصعود المطّرد للموجة اليمينية المتطرفة التي كانت قد أمسكت بزمام الحكم منذ سنتين في إحدى الدول الأعضاء الكبرى المؤسسة، إيطاليا، وأصبحت قاب قوسين من الوصول إلى سدّة الرئاسة الفرنسية... فيما بدت جذورها راسخة في العديد من البلدان الأعضاء الأخرى. ولكن، على الرغم من الصاعقة التي ضربت الصرح السياسي الفرنسي، ظل صعود هذه الموجة دون منسوب الطوفان الذي كانت تنذر به الاستطلاعات ويهدد - وفقاً لأفضل الاحتمالات - بجنوح المركب الأوروبي عن مساره التأسيسي. أمام هذا المشهد المعقد، كان القرار الأول الذي اتخذه البرلمان الجديد في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الفائت بعد انتخاب رئيسة له، تأكيد الدعم لأوكرانيا وترسيخ الانقسام الحاد بين الكتل السياسية الذي لم يشهد له مثيلاً منذ تأسيسه في عام 1979.

صور بارديلا مرفوعة خلال حملة الانتخابات الفرنسية (إيبا/شاترستوك)

يتّسم البرلمان الأوروبي الجديد الذي افتتح ولايته الاشتراعية العاشرة هذا الأسبوع في العاصمة البلجيكية بروكسل بكونه الأكثر تشرذماً، على صعيد الكتل التي تشكلت داخله بعد انتخابات التاسع من الشهر الماضي، والأكثر جنوحاً نحو اليمين. إذ أصبح أكثر من نصف أعضائه ينضوون تحت الرايات اليمينية المحافظة واليمينية المتطرفة. بيد أن عجز القوى المتطرفة عن الانصهار ضمن كتلة واحدة، أدّى إلى تشكيل 8 كتل سياسية، للمرة الأولى منذ عشرين سنة، تتصدرها كتلة الحزب الشعبي الأوروبي الذي يضمّ 26 في المائة من الأعضاء. وحقاً، ينذر هذا التشرذم بولاية يتخلّلها المزيد من النقاش الحاد، يصعب فيها التوازن عند الاستحقاقات الحسّاسة ويتعذّر الاتفاق، ذلك أن القوى المعتدلة التي كانت تشكل مجتمعة 70 في المائة من أعضاء البرلمان الأول عام 1979، ما عادت تمثّل اليوم أكثر من 45 في المائة فقط.

أهمية الاستقرار السياسي

تعدّ هذه الولاية على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للاستقرار السياسي داخل الاتحاد، خاصةً بعد صعود اليمين المتطرف والزلزال الذي نجم عن الانتخابات الأخيرة في فرنسا، حيث لا يزال المخاض مستمراً لتشكيل حكومة جديدة. وفي حين تجهد القوى المعتدلة للتأكيد بأنها تمكّنت من صدّ الموجة اليمينية المتطرفة - مع خشية كثيرين من أن تكون هذه آخر فرصة لقطع الطريق أمام الانقلاب السياسي الكبير - تكثّف هذه القوى مساعيها لفرض حظر على التعامل مع بعض القوى اليمينية المتطرفة التي تصنّفها قريبة من روسيا، وتعمل على منعها من تولّي مناصب حساسة في المؤسسات الأوروبية.

كتلة الحزب الشعبي الأوروبي تضم اليوم في البرلمان الجديد 188 عضواً، تليها كتلة الحزب الاشتراكي التي تتكوّن من 136 عضواً لا يتجاوزون نسبة 20 في المائة من المجموع للمرة الأولى منذ انطلاق البرلمان. وتأتي في المرتبة الثالثة كتلة «وطنيون من أجل أوروبا» اليمينية المتطرفة بـ84 عضواً، التي يقودها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وزعيمة «التجمّع الوطني» الفرنسي مارين لوبان، ثم تأتي في المرتبة الرابعة الكتلة اليمينية الأخرى التي تتزعمها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني وتضمّ 87 عضواً تحت شعار «المحافظون والديمقراطيون من أجل أوروبا»... التي فشلت حتى الآن كل محاولات ضمّها إلى كتلة الحزب الشعبي الأوروبي. أما الكتلة الأخيرة التي تتجاوز بقليل 10 في المائة من مجموع أعضاء البرلمان، فهي الكتلة الليبرالية الوسطية، التي كانت أكبر الخاسرين في الانتخابات الأخيرة بعدما فقدت المرتبة الثالثة التي كانت تحتلها عادةً بين الكتل السياسية في البرلمان الأوروبي.

"تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان"

البرلمان الأكثر جنوحاً نحو اليمين

بذلك يكون هذا البرلمان الجديد الأكثر جنوحاً نحو اليمين في تاريخ الاتحاد الأوروبي. ويبقى الذكور يشكلون فيه أكثرية الأعضاء (60 في المائة)، مع أن بعض البلدان، مثل قبرص، لم تنتخب أي رجل للبرلمان الجديد، بينما تشكّل النساء ثلث الأعضاء المنتخبين في كلٍ من ألمانيا وإيطاليا.

من ناحية أخرى، كان التطور اللافت والمفاجئ في المعسكر اليميني المتطرف نجاح رئيس الوزراء المجري أوربان في لمّ شمل القوى اليمينية المتطرفة القريبة من موسكو ضمن كتلة برلمانية جديدة «وطنيون من أجل أوروبا». ولقد قامت هذه الكتلة على أنقاض كتلة «الهوية والديمقراطية»، وتضمّ كلاً من الحزب الليبرالي النمساوي و«التحالف المدني» الذي يقوده رئيس الوزراء التشيكي السابق أندريه بابيس، إلى جانب حزب «فوكس» الإسباني، وحزب «الرابطة» الإيطالي بزعامة ماتّيو سالفيني، واليمين الهولندي المتطرف، وحزب «التجمع الوطني» الفرنسي بزعامة مارين لوبان.

ويعود الفضل في تشكيل هذه الكتلة الجديدة، التي تعمّدت تهميش رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، إلى أوربان وحلفائه في أوروبا الشرقية. ويهدف هذا التجمع الجديد إلى التأثير في سياسات البرلمان الأوروبي وعرقلة مشروع الاندماج الذي يتجه نحو توسعة جديدة للاتحاد تشمل دول البلقان وبعض بلدان القوقاز، إلى جانب أوكرانيا.

رئيس الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني (رويترز)

دور فيكتور أوربان

وتأتي هذه الخطوة أيضاً، وسط تزايد القلق بين الشركاء الأوروبيين من الدور الذي يلعبه فيكتور أوربان في الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد، وجولاته على كييف وموسكو وبكين في «مهمة سلام» لم تكلفه بها الدول الأعضاء التي وجهت إليه انتقادات شديدة واتهمته بخدمة مصالح الكرملين، وبدأت أخيراً بمقاطعة الاجتماعات الوزارية التي تنظمها الرئاسة المجرية.

هذا، وكان «التجمّع الوطني» الفرنسي الذي تقوده لوبان، والذي يشكّل القوة الرئيسية في هذه الكتلة الجديدة بعد حصوله على 30 مقعداً في انتخابات الشهر الماضي، قد تريّث في الإعلان عن انضمامه إلى الكتلة في انتظار نتائج الدورة الثانية من الانتخابات الاشتراعية الفرنسية التي كان يأمل أن يحصل فيها على الغالبية المطلقة ويكلّف نجمه الصاعد الشاب جوردان بارديلا تشكيل الحكومة الجديدة. إلا أنه بعد ظهور النتائج النهائية للانتخابات الفرنسية وتراجع «التجمع الوطني» إلى المرتبة الثالثة، صرّح بارديلا - الذي كان قد انتُخب عضواً في البرلمان الأوروبي – بـ«أن أعضاء (التجمع الوطني) في البرلمان الأوروبي الجديد سيلعبون دورهم كاملاً ضمن كتلة كبيرة سيكون لها تأثير واضح على موازين السلطة ومعادلاتها في أوروبا». وتعهّد بارديلا، بالتالي، مواصلة العمل من أجل «منع إغراق بلدان الاتحاد بالمهاجرين، ورفض السياسات البيئية المتطرفة، ومصادرة السيادة الوطنية».

وما يُذكر أنه على الرغم من تغيّب بارديلا عن الاجتماع التأسيسي للكتلة الجديدة، فإنه انتُخب رئيساً لها بالإجماع، يعاونه ستة نواب للرئيس، تبرز من بينهم المجرية كينغا غال كنائبة أولى.

تشكيك بإمكانية توحيد اليمين

في أي حال، تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة هذه الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان الجديد، وتستبعد نجاحها في العمل بتوجيهات موحدة في ضوء اختلاف مصالحها وأهدافها الخاصة. وكانت الكتلة السابقة «الهوية والديمقراطية»، التي قامت على أنقاضها الكتلة الجديدة، وكان ينتمي إليها حزب «البديل من أجل ألمانيا» - الذي طُرد منها بسبب التصريحات النازية لزعيمه - دائماً معزولة من القوى البرلمانية الأخرى، بما فيها الكتلة التي تتزعمها ميلوني. وهنا نشير إلى أنه رغم الانسجام العريض بين مواقف ميلوني ومواقف أوربان من معظم الملفات الأوروبية، فإن الزعيمين يختلفان بوضوح حول الحرب الدائرة في أوكرانيا؛ إذ تصطف ميلوني ضمن الموقف الرسمي للاتحاد، بعكس حليفها اللدود في الائتلاف الحكومي الذي ينافسها على زعامة المعسكر اليميني المتطرف في إيطاليا، زعيم حزب «الرابطة» ماتيو سالفيني.

جدير بالذكر، أن البرلمان الأوروبي الجديد انتخب في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الماضي المالطية روبرتا متسولا، من الحزب الشعبي، رئيسة لنصف الولاية الاشتراعية حتى مطلع عام 2027. ونالت متسولا، التي كانت ترأس البرلمان السابق منذ وفاة الإيطالي دافيد ساسولي، 562 صوتاً من أصل 720، وهذا رقم قياسي لم يحصل عليه أي من الرؤساء السابقين؛ الأمر الذي يدلّ على أنها حصلت أيضاً على تأييد عدد من نواب اليمين المتطرف بجانب تأييد الكتلتين الكبريين اللتين تتوافقان عادة على توزيع المناصب القيادية في مؤسسات الاتحاد.

ولقد قالت متسولا في كلمتها قبل البدء بالاقتراع السري: «أدعوكم إلى التمسك والالتزام بمبادئنا وقيمنا التأسيسية، والدفاع عن سيادة القانون، وعن الإنسانية في الشرق الأوسط ورفض اجتياح أوكرانيا». وشددت، كما فعلت عند انتخابها للمرة الأولى، على إعطاء البرلمان الأوروبي صلاحية اقتراح التشريعات المقصورة حالياً على المفوضية.