«إيكواس»... حلم أفريقي تهزّه كوابيسُ الانقلابات

أُسست لتحقيق الاندماج الاقتصادي وسط تهديد الأزمات السياسية

مؤيدون للانقلاب يتظاهرون في نيامي عاصمة النيجر (آ ف ب)
مؤيدون للانقلاب يتظاهرون في نيامي عاصمة النيجر (آ ف ب)
TT

«إيكواس»... حلم أفريقي تهزّه كوابيسُ الانقلابات

مؤيدون للانقلاب يتظاهرون في نيامي عاصمة النيجر (آ ف ب)
مؤيدون للانقلاب يتظاهرون في نيامي عاصمة النيجر (آ ف ب)

منذ سيطر العسكريون على الحكم في النيجر، يوم الأربعاء 26 يوليو (تموز) الماضي، و«المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا»، المعروفة اختصاراً باسم «إيكواس ECOWAS»، تفرضُ العقوبات وتتوعد بشن عملية عسكرية للإطاحة بالمجلس العسكري الحاكم، وإعادة الرئيس المنتخب محمد بازوم المحتجز لدى العسكريين. إلا أن كل هذه التهديدات ذهبت - حتى الآن - أدراج الرياح، ويبدو أن هذه المنظمة الإقليمية التي أسست قبل قرابة 5 عقود بدأت تفقدُ أنيابها، ولم يبقَ منها سوى الريش المنفوخ... ولعل انقلاب الغابون الأخير أوضح دليل على ذلك. «إيكواس» كانت قبل سنوات نموذجاً ناجحاً للاندماج الاقتصادي والتجاري، وبدأت تتحول إلى سوق كبيرة يتطلعُ نحوها الجميع، حتى إنها في عام 2017 تلقت طلباً من المغرب بالانضمام إليها، ثم وقعت معها موريتانيا عقد شراكة، لكنها انسحبت منها عام 2000. واليوم نرى أن هذا النموذج مهدّد وجودياً بموجة انقلابات عسكرية تكاد تعصف به. فهل تنجح المنظمة في تجاوز واحد من أصعب الامتحانات في تاريخها، وهي التي كانت قد غيّرت استراتيجيتها غير مرة؟... إذ إنها بعدما أسست لأغراض اقتصادية وتجارية، صارت مع الوقت تهتم بالأمن والاستقرار والديمقراطية في دولها الأعضاء، وشكّلت قوة احتياط عسكرية سبق أن تدخلت عدة مرات لإنهاء انقلابات أو حروب، أو من أجلِ حفظ الأمن والسلم.

تعود فكرة إنشاء «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» (إيكواس) إلى عام 1972، حين اقترحها اثنان من أشهر القادة العسكريين في غرب أفريقيا هما يعقوبو غوون وغناسينغبي إياديما.

في البداية راودت الفكرة الجنرال يعقوبو غوون، الذي تولّى حكم نيجيريا عام 1966 إثر انقلاب عسكري واحتفظ بالسلطة حتى أسقطه انقلاب عسكري آخر عام 1975، ولقد شهد حكمه إنهاء واحدة من أكثر الحروب بشاعة في تاريخ غرب أفريقيا، ألا وهي حرب إقليم بيافرا الغني بالنفط في جنوب شرق نيجيريا.

والواقع أن غوون الذي طالما وصفُه خصومه بأنه «ديكتاتور»، كان يحلم رغم الأزمات التي تحاصره في الداخل، بإنشاء تكتل إقليمي لدول غرب القارة السمراء، يمكّنها من تحقيق حلم «الاندماج الإقليمي»، وكان هدفه الأبرز تسهيل نقل الأفراد والبضائع بين هذه الدول. وحقاً سارع الجنرال النيجيري - البالغ من العمر اليوم 88 سنة، والذي تحوّل إلى شخصية أكاديمية - إلى طرح الفكرة على عسكري آخر هو الجنرال غيناسينبي إياديما، الذي حكم التوغو لقرابة أربعة عقود وانتهى حكمه حين توفي عام 2005 على متن طائرة خاصة كانت تنقله للعلاج في فرنسا. ويومها وافق إياديما المتهم بدوره بالديكتاتورية، بسرعة على فكرة غوون ودافع عنها بشدة.

اتسعت الدائرة بعد ذلك، ووصلت الفكرة عام 1973 إلى موافقة 12 دولة في غرب أفريقيا. وهكذا أسّس كيان المنظمة بشكل رسمي عام 1975، وهو العام نفسه الذي سقط فيه غوون، صاحب الفكرة و«الأب المؤسس»، واتجه على الأثر إلى بريطانيا حيث تابع دراسته العليا وحصل على الدكتوراه من جامعة ووريك المرموقة. ولكن، ثمة مَن يقول إن غوون لم يأت بالفكرة من فراغ، بل استمدها من «الاتحاد الجمركي في غرب أفريقيا»، الذي أسس عام 1959، وضم خمس دول لم تكن حينها قد حصلت على الاستقلال التام عن فرنسا، هي: مالي وبوركينا فاسو (أعالي الفولتا في حينه)، والنيجر، وبنين (الداهومي في حينه)، وكوت ديفوار. قبل أن تلتحق بها التوغو عام 1961.

كانت روح الاستعمار حاضرة في مختلف التكتلات الإقليمية التي شكّلت في غرب أفريقيا، خلال منتصف القرن العشرين. فالفرنسيون كانوا حاضرين بقوة في رسم معالم هذه الهيئات الإقليمية، بل إنهم كانوا أصحاب القرار الحقيقي؛ لأن شخصية «الدولة» في كيانات غرب أفريقيا آنذاك كانت «صورية»... لا تتمتع بالكثير من الصلابة المؤسسية والوعي البيروقراطي. وهُنا يبني معارضو «إيكواس» حجّتهم للكلام عن موت المنظمة، ويطلقون دعواتهم لإعادة التأسيس، وبالتالي يعارضون جميع قرارات المنظمة. ومن ضمن هؤلاء الدبلوماسي والسفير السابق سوغايو كيغيو، الذي يعتبر أن «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا لم تعد موجودة؛ لأن التكتل الإقليمي الذي تركه لنا الآباء المؤسسون مات. الموجود الآن هو مجموعة من الدُّمى التي تتملّق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهذا أمر لا يهمّ شعوب غرب أفريقيا».

الرئيس الانقلابي النيجري عبد الرحمن تشياني (أ.ف.ب)

الحلم الكبير

الحقيقة أنه رغم تنامي الأصوات المعارضة لمواقف «إيكواس»، خاصة في السنوات الأخيرة حين فرضت عقوبات ضد دول أعضاء بسبب الانقلابات العسكرية، لا يزالُ حلم الاندماج الإقليمي حاضراً. وبالذات في وثيقة «رؤية 2050» التي وضعتها المنظمة عام 2020، تحت شعار «إيكواس الشعوب: السلام والتنمية للجميع»، ولكن هذه الطموحات تواجه تحديات كبيرة. لقد سبق لـ«إيكواس» أن وضعت وثيقة مشابهة عام 2007، وأطلقت عليها يومذاك اسم «رؤية 2020». وكان شعار المرحلة آنذاك إنشاء «منطقة بلا حدود، مستقرة، ومزدهرة، ومتناغمة، يسودها الحكم الرشيد». إلا أنه حين حل الموعد ما كانت غالبية المشاريع الكبرى قد تحققت، بل إن موجة انقلابات عسكرية عصفت بكل ذلك، مع تصاعد وتيرة الإرهاب والجريمة المنظمة.

مع ذلك، لا تزالُ المنطقة تتمتعُ بإمكانيات كبيرة؛ إذ تصلُ مساحة دولها الخمس عشرة إلى أكثر من خمسة ملايين كيلومتر مربع، بينما يزيد عدد السكان على 400 مليون نسمة، تستحوذ نيجيريا وحدها على النصف (206 ملايين نسمة). ثم إن أكثر من 60 في المائة من هؤلاء السكان شباب، فمتوسط العمر في غرب أفريقيا 18 سنة فقط، و65 في المائة من السكان لم يبلغوا بعد 25 سنة.

وعلى الصعيد الاقتصادي، يُقدّر الناتج المحلي الخام لدول «إيكواس» بنحو 700 مليار دولار أميركي، إلا أن 36 في المائة من السكان يعيشون تحت خط الفقر، أي بأقل من دولارين في اليوم الواحد، وفق إحصائيات 2019. وهذا، في وقت تتوافر فيه المنطقة على موارد معدنية هائلة جداً من الذهب واليورانيوم والألماس والنفط والغاز والفوسفات، ومعظمها ما زال في باطن الأرض ويُسيل لعاب قوى العالم.

من جهة ثانية، تسعى «إيكواس» في خططها إلى أن تصبح دولها سوقاً واحدة، عبر إلغاء الحدود وتوحيد التعرفة الجمركية، وسكّ عملة موحّدة اختير لها اسم «إيكو»، وتنفيذ مشاريع بنية تحتية تكاملية، من شأنها أن تسهل حركة الأفراد والبضائع. بيد أنه بسبب موجة انقلابات عصفت بالمنطقة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، راجعت خططها مطلع التسعينات، وأضافت إلى أهدافها ضمان الأمن والسلم، وتعزيز الديمقراطية، انطلاقاً من فكرة الارتباط العضوي بين التنمية والأمن... وها هي تجد نفسها بعد مرور ثلاثة عقود أمام موجة جديدة من الانقلابات.

الرئيس النيجيري السابق يعقوبو غوون (أ ف ب)

أزمة الديمقراطية

يقول سيد أعمر ولد شيخنا، وهو باحث موريتاني مختص في العلوم السياسية والتاريخ ومدير المركز الإقليمي للدراسات والاستشارات، إن «الديمقراطية في منطقة الإيكواس، وفي عموم أفريقيا، تعيش في المنطقة الرمادية... فلا هي ديمقراطية راسخة، ولا هي تسلطية خالصة، بل بقيت دائماً هجينة. ومع أنها راكمت بعض التقاليد الديمقراطية، فإنها تعيش تهديداً مستمراً بالانتكاسة إلى مربع الانقلابات والحروب الأهلية، بسبب ضعف الدولة، وهشاشة الأوضاع الاقتصادية، والعجز عن إدارة الاختلاف والتنوعات العرقية، إلى جانب تحديات الإرهاب والتدخلات الدولية». ويضيف ولد شيخنا، في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن المنظمة «عانت من الانقلابات العسكرية لعقود، وبالتالي، فهي تحاولُ تشجيع الديمقراطية، باعتبار ذلك هو الطريق إلى الاستقرار والتنمية. وهذا دور معروف في أدبيات الانتقال الديمقراطي بالمشروطية السياسية والاقتصادية، وكان في السابق تقوم به منظمات دولية، وأصبح - لحسن الحظ - تقليداً لدى بعض المنظمات الإقليمية». وفي السياق ذاته، يقول الصحافي السنغالي داود صاو، في حديث مع «الشرق الأوسط»، إن أزمة الديمقراطية في غرب أفريقيا «تتجلى في أن الشعوب لا تجد ذاتها في حُكّامها، كما أن مواطني هذه الدول لا يرون أن البرلمانات تمثلهم أو تدافع عن مصالحهم... فهناك بالفعل أزمة ثقة واضحة بين المواطن والحكومة».

ويتابع الصحافي السنغالي: «من السهل أن نعيد الانقلابات إلى التدخل الخارجي، إلا أنني لستُ متفقاً مع هذه النظرية؛ لأنه بدل إلقاء اللوم على الآخرين، يجبُ علينا البحث عن الخلل في سياساتنا؛ إذ حين نرجع إلى الدول التي وقعت فيها انقلابات سنجد أنها تعاني من أزمة حكم، فهي دول غنية بالموارد الطبيعية مثل الذهب واليورانيوم والنفط، ولكن معظم سكانها يعيشون تحت خط الفقر، وهم محرومون من الماء والكهرباء وأبسط مقومات الحياة الكريمة... وفي المقابل هناك ثلة تزداد ثراءً يوماً بعد يوم. هذا يوضح أننا فشلنا في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، وأنه ليس هنالك توزيع عادل للثروة، مثل هذه المشاكل تقود إلى وضعيات تمهد بدورها للانقلابات العسكرية».

أما الكاتب الصحافي الموريتاني سيدي المختار ولد سيدي، فيرى في حديث مع «الشرق الأوسط» أن «الانقلابات الأخيرة لم تكن تستهدف تقويض التجارب الديمقراطية، بل انطلقت من معطيات تتعلق بمشروعية الانتخابات والظروف التي وصل فيها الرؤساء للحكم، بالإضافة لعوامل أخرى مرتبطة بالتحديات الأمنية والتحالفات الجيوستراتيجية، بالإضافة إلى الطموح الذاتي لبعض العسكريين».

تجاهل الأسباب

في أي حال، الاتفاقيات الموقعة بين الدول الأعضاء في «إيكواس»، تمنح المنظمة الحق في فرض عقوبات قد تصل للتدخل العسكري من أجل منع أي استيلاء على السلطة بالقوة، لكنها رغم ذلك لم تنجح في إفشال انقلابات مالي وبوركينا فاسو وغينيا، وها هي اليوم في موقف صعب تجاه النيجر. وهنا، يرجع سيدي المختار ولد سيدي هذا الفشل إلى أن المنظمة «لا تهتم بما يحدث في دولها قبل وقوع الانقلابات، فهي لا تتكلّم عن أوضاع حقوق الإنسان، ولا عن تعزيز الديمقراطية ومحاربة الفساد... وبالتالي فهي تتدخل كردة فعل على حدوث الانقلابات، بدل العمل من أجل تحصين الديمقراطية».

وجهة النظر ذاتها يعرضها الصحافي السنغالي داود صاو، ملاحظاً أن «إيكواس بدلاً من أن تفكر في الأسباب ظلت تركّز على مواجهة النتائج، أي الانقلابات العسكرية... وهذا موقف مفهوم لأنه يتماشى مع مبادئ المنظمة الإقليمية التي ظلت وفية لمنطقها، وهي تصارع أشكالاً مختلفة من السيطرة على الحكم بطريقة غير دستورية». غير أنه يستطرد مضيفاً أن «الخطأ الذي ترتكبه (إيكواس) هو أنها تتجاهل الأسباب التي هيأت الظرفية للانقلاب، وتتجه مباشرة نحو العقوبات بدل البحث عن أسباب لجوء العسكريين للانقلاب... هذا المنطق هو الذي أدخل المنطقة في موجة من الانقلابات؛ لأن التجربة أثبتت أن العقوبات لم تضعف عزيمة العسكريين». غير أن ولد سيدي يشدد على أنه «لا يجوز التعويل كثيراً على (إيكواس) وتحميلها ما لا طاقة لها به، فهي في النهاية لا تمتلك الكثير من الأدوات الفعالة والمستقلة عن الحكومات والقادرة على الضغط عليها عند الضرورة».

التنافس الدولي

في خضم كل ما سبق، من العبث تجاهل التنافس الدولي المحتدم في غرب أفريقيا، ما بين الكتلة الدولية الغربية من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى. وهو تنافس له تأثيره المباشر على الوضعية الصعبة التي تمرُّ بها مجموعة «إيكواس». وهو ما يؤكده سيد أعمر ولد شيخنا، في تصريحه لـ«الشرق الأوسط»؛ إذ يوضح أن «إيكواس فضاء اقتصادي وبشري مهم وكبير، وموضع تنافس القوى الدولية.

وصحيحٌ أن فرنسا لها تأثير وصلات قوية، وصحيحٌ أيضاً أن إيكواس تدفع نسبياً ثمن الموقف الشعبي المتصاعد ضد فرنسا، لكن فرنسا تبقى في النهاية شريكاً موثوقاً لدول المنظمة، وليس هناك أي استعداد للخضوع للابتزاز الروسي عبر الانقلابات، أو الاستجارة من الرمضاء بالنار». ويتابع ولد شيخنا أن التنافس يحتدم بشكل غير مسبوق، مشيراً إلى أن «ثمة استراتيجية الصين الناعمة القائمة على التعاون الاقتصادي، عبر القروض والمقاولات ومشاريع البنية التحتية مع تحاشي التدخل في الشؤون الداخلية، بل التعامل مع الأوضاع القائمة بغض النظر عن الديمقراطية والشرعية الانتخابية. وفي المقابل هناك مشروع روسي يعتمد القوة الخشنة، عبر الانقلابات العسكرية وشركة (فاغنر) والدعم العسكري، وهو يحاول طرد النفوذ الفرنسي ووراثته، ولذلك يوجد ارتباط بالحرب الأوكرانية ومشاريع الغاز الأفريقي البديل للغاز الروسي». أما من جانب الغرب، فيقول الباحث إن «الاستراتيجية الأميركية تترجم في التعاون الاقتصادي والعسكري والأمني لمحاربة الإرهاب، والاستفادة من الموارد، ورفض ترك المجال للقوى الأوراسية، أي الصين وروسيا، مع إدراك التراجع الفرنسي. ومن ثم، تبقى الاستراتيجية الفرنسية تقليدية، وتخضع حالياً لامتحان عسير، وهي مرغمة على انتهاج خيارات بديلة».

في هذه الأثناء، يقول الصحافي السنغالي صاو إن «السياسات الفرنسية تجاه غرب أفريقيا ظلت جامدة ولم تتغير، في حين نجد أن طبقة من الشباب الأفريقي لم تعد تقبل هذا الوضع، بل ترى في السياسات الفرنسية تجاه بلدانهم نوعاً من الاستعمار الجديد... إنها ليست طبقة معادية لفرنسا أو للثقافة الفرنسية، لكنا ترى أن فرنسا ذات عقلية أبوية، وتمارس الوصاية تجاه دولهم».

«حزام انقلابي» ناري قسم «إيكواس» إلى قسمين

لدى إلقاء نظرة على خارطة "إيكواس"، يتضح أنه في غضون ثلاث سنوات فقط، تشكل "حزام ناري" يقسم المنظمة الإقليمية إلى جزئين منفصلين. إنه "الحزام الانقلابي" الذي يضم مالي وبوركينا فاسو وغينيا والنيجر، وهي أربع دول جمّدت المنظمة عضويتها وفرضت عليها حصارًا اقتصاديًا، فكانت خنجرًا مغروسًا في خاصرة المنظمة التي أسست من أجل "الاندماج".

الكاتب الصحافي الموريتاني سيدي المختار ولد سيدي يعتقد أن المنظمة "مهدّدة اليوم أكثر من أي وقت مضى بالتشظي والانقسام"، في حين يذهبُ الصحافي السنغالي داوود صاو إلى أن على المنظمة "مراجعة أهدافها، لكي تضع في صدارتها الاستجابة لتطلعات شعوب المنطقة... يكفي أن نعرف أن الشعوب اليوم تصف المنظمة بأنها نادي الرؤساء، كونهم يرونها مجرّد تجمّع هدفه الوحيد هو حماية الرؤساء الموجودين في الحكم". ويضيف صاو أن "إيكواس بحاجة إلى الكثير من الحكمة لتجاوز هذه المرحلة الصعبة"، ويشير إلى أن تعامل "إيكواس انقلاب النيجر كان مفتقراً إلى الحكمة حين لوّحت منذ الوهلة الأولى بالتدخل العسكري، ثم تراجعت عنه لتمنح الأولوية للحل الدبلوماسي، ثم عادت بعد ذلك وأكدت أن الخيار العسكري ما يزال مطروحاً... كل هذا التذبذب كان سببه غياب الحكمة".

بيد ان الصحافي السنغالي يخلص إلى القول أن الكلام عن إمكانية تشرذم المنظمة الإقليمية "لا يخلو من مبالغة وتشاؤم"، متابعاً أن "موقف المنظمة الإقليمية الصارم تجاه الانقلابات العسكرية مطلوب وجيد، وتنصّ عليه قوانين ومواثيق وقعّت عليها جميع الدول الأعضاء، إنها مواقف من صميم اختصاص المنظمة".

واختتم "لا خلاف على مبدأ رفض الانقلابات وضرورة مواجهتها، ولكن يتوجب ايضاً على قادة المنظمة أن يكونوا أكثر حكمة، وأن تتوافر لديهم القدرة على اتخاذ قرارات استراتيجية، والبحث عن حلول أفريقية للمشاكل الأفريقية... حلول نابعة من صميم ثقافتنا المحلية".



عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
TT

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» عن مواصلة العمل لتحقيق حلمه. إذ تفتحت عينا «عرّو» في مدينة هرجيسا، عاصمة إقليم «أرض الصومال» وكبرى مدنه، يوم 29 أبريل (نيسان) 1955، على نداءات للاستقلال عن الاستعمار البريطاني، وتحقّق ذلك وعمره نحو 5 سنوات... وهو الآن يأمل باعتراف دولي للإقليم - الذي كان يُعرف سابقاً بـ«الصومال البريطاني» - وهو يترأسه بعمر الـ69 كسادس رئيس منذ انفصاله عن الجمهورية الصومالية عام 1991.

عاش عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» حياته بين دهاليز الدبلوماسية وسنوات غربة وتقلبات السياسة، وسجل أرقاماً قياسية، أبرزها أنه كان أطول رؤساء مجلس نواب إقليم «أرض الصومال» (صوماليلاند) عهداً مسجّلاً 12 سنة.

وجاء إعلان انتخابه رئيساً للإقليم في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) المودّع، في ظرف تاريخي وتوقيت مصيري يواجهان بلاده وسط توترات حادة، أبرزها مع الحكومة الصومالية الفيدرالية - التي لا تعترف بانفصاله - وترفض اتفاقاً مبدئياً أقرّه سلفه موسى بيحي عبدي مطلع 2024 مع إثيوبيا اعتبرت أنه يهدّد سيادة البلاد.

المولد والنشأة

وُلد عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» وفق مصادر «الشرق الأوسط»، في عائلة مكوّنة من 7 فتيات و3 أولاد، وهو حالياً متزوج ولديه 5 أبناء.

بدأ تعليمه الابتدائي في مدينة بربرة، ثاني كبرى مدن الإقليم وميناؤه الرئيس. وتابع تعليمه الثانوي في هرجيسا، منتقلاً إلى المدرسة الثانوية عام 1977. وبعد ذلك، انتقل إلى العاصمة الصومالية الفيدرالية مقديشو، حيث التحق بكلية سيدام ومنها حصل على درجة البكالوريوس في المحاسبة، وتضم شهاداته أيضاً درجة الماجستير في إدارة الأعمال ودبلوماً في حل النزاعات.

بين عامي 1978 و1981، عمل «عرّو» في منظمة معنية بالتنمية الاجتماعية في مقديشو. وبين عامي 1981 و1988 شغل منصباً دبلوماسياً في وزارة الخارجية الصومالية بإدارة التعاون الاقتصادي. ومن مايو (أيار) 1988 إلى عام 1996، قبل أن يعمل مستشاراً للسفارة الصومالية في موسكو ثم نائب السفير والقائم بالأعمال.

العيش في الخارج

بعد انهيار الحكومة الصومالية، انتقل «عرّو» عام 1996 إلى فنلندا، التي كانت عائلته تقيم فيها منذ سنوات عدة وحصل على جنسيتها وظل مقيماً فيها حتى عام 1999.

للعلم، خلال عامي 1997 و1998 كان مساعد المنظمة الدولية للهجرة في فنلندا. بيد أنه عاد إلى إقليم أرض الصومال عام 1999، وبعد أقل من سنتين، أصبح «عرّو» أحد مؤسسي «حزب العدالة والتنمية» UCID - حزب المعارضة البارز - مع فيصل علي وارابي منافسه في الانتخابات الرئاسية هذا العام، وحينذاك شغل منصب نائب الأمين العام للحزب.

إقليم أرض الصومال شهد انتخابات لمجلس النواب، المكوّن من 82 نائباً، يوم 29 سبتمبر (أيلول) 2005. وكانت تلك أول انتخابات برلمانية متعددة الأحزاب تنظَّم في الإقليم منذ انفصاله عن جمهورية الصومال (الصومال الإيطالي سابقاً) عام 1991. ولقد انتخب «عرو» نائباً عن منطقة ساحل بربرة، وانتُخب لاحقاً رئيساً للبرلمان (مجلس النواب)، وإبّان فترة ولايته سُنّت معظم قوانين الإقليم وتشريعاته.

لكن، بعد نحو 6 سنوات، وإثر خلاف تفجّر مع وارابي، أسّس «عرّو» الذي يتكلم اللغات الإنجليزية والعربية والروسية، «الحزب الوطني» - أو حزب «وداني» (الوطني) - المعارض الذي يميل إلى اليسار المعتدل ويحمل رؤية تقدمية في قضايا الأقليات والحريات كما يدعم المزيد من اللامركزية.

يوم 2 أغسطس (آب) 2017، استقال «عرّو» من رئاسة البرلمان بعدما شغل المنصب لمدة 12 سنة، وهي أطول فترة لرئيس برلمان بتاريخ الإقليم، معلناً أنه يتهيأ لدور أكثر أهمية كرئيس لأرض الصومال. غير أن آماله تحطمت على صخرة موسى بيحي عبدي، مرشح «حزب السلام والوحدة والتنمية» في المرة الأولى.

لكنه حقق مراده بعدما أعاد الكرَّة وترشح في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت يوم 13 نوفمبر 2024، وحصل فيها على 63.92 في المائة من الأصوات متغلباً على عبدي الذي حل ثانياً بـ34.81 في المائة، لجنة الانتخابات الوطنية الرسمية بالإقليم.

الرئيس السادسانتخابات عام 2024 هي الانتخابات المباشرة الرابعة منذ عام 2003، ومع فوز «عرّو» غدا الرئيس الرابع حسب الانتخابات الرئاسية المباشرة لفترة تمتد إلى 5 سنوات، وكذلك أصبح الرئيس السادس في المجمل منذ انفصال الإقليم 18 مايو 1991. ويذكر أنه عقب إعلان انفصال إقليم أرض الصومال، انتخب السفير عبد الرحمن أحمد علي، رئيس الحركة الوطنية بالبلاد حينها، ليكون أول رئيس للإقليم عبر انتخابات غير مباشرة. وفي 1993 انتخب السياسي محمد إبراهيم عقال رئيساً، وفي عام 1997 وجدّد له لفترة ثانية.

وبعد وفاة عقال عام 2002 أثناء رحلة علاج في جنوب أفريقيا، انتًخب نائبه طاهر ريالي كاهن؛ رئيساً للبلاد لتكملة الفترة الانتقالية. ثم في عام 2003، أجريت أول انتخابات رئاسية مباشرة في الإقليم، أسفرت عن فوز حزب «اتحاد الأمة» بقيادة الرئيس طاهر ريالي كاهن على السياسي أحمد محمد سيلانيو.

وفي يونيو (حزيران) 2010، أُجريت ثاني انتخابات رئاسية مباشرة، وتمكن سيلانيو من الفوز بالرئاسة لفترة خمس سنوات. وانتهت الانتخابات الثالثة التي أجريت في 13 نوفمبر 2017، بفوز موسى بيحي عبدي، الذي حصل على 55 في المائة من الأصوات.

وكان من المقرر أن تُجرى انتخابات الرئاسة الرابعة في الإقليم عام 2022، لكن لجنة الانتخابات الوطنية أجّلتها إلى 2023 ثم إلى نوفمبر 2024 بعد تمديد نيابي لولاية الرئيس عبدي الذي يتولى الرئاسة منذ 2017. وأرجعت اللجنة التأجيلات إلى «قيود زمنية وتقنية ومالية»، وسط انتقادات من المعارضة، قبل أن يفوز «عرّو».

التزامات وتحديات

جاء انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال، لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا مطلع 2024، تسمح للأخيرة بمنفذ بحري على سواحل البحر الأحمر لأغراض تجارية وعسكرية، مقابل الاعتراف بالإقليم بصفته دولةً مستقلة، الأمر الذي عدّته الحكومة الصومالية «اعتداءً على سيادتها وأراضيها».

إذ بجانب تحدّي الميناء، يشكّل الملف الداخلي تحدّياً ثانياً - بالذات - في أبعاده الأمنية والاقتصادية والعشائرية. كذلك تعدّ العلاقات الخارجية، وبخاصة مع إثيوبيا، تحدياً ثالثاً. ويضاف إلى ما سبق تحديان آخران، الرابع يتصل بملف المفاوضات المعلّقة مع الحكومة الصومالية الفيدرالية، والخامس بملف «حركة الشباب» الإرهابية المتطرفة.

هذه التحديات الخمسة، تقابلها التزامات أكّدها الرئيس المنتخب أثناء حملاته الانتخابية، منها التزامه بإعادة فتح وتنفيذ الحوار بين الإقليم والحكومة الفيدرالية الصومالية، وفق ما ذكرته إذاعة «صوت أميركا» باللغة الصومالية عقب مقابلة معه. وخلال حملاته الانتخابية أيضاً، قال «عرّو» إن حزبه سيراجع «مذكرة التفاهم» مع إثيوبيا، من دون أن يرفضها. في حين نقلت «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) عن محمود آدم، الناطق باسم حزب «عرّو»، أن «الاتفاقية لم تُعرض على الحزب أثناء العملية، وأن الحزب لم يراجعها منذ ذلك الحين». وأردف: «بشكل عام، نرحب بأي تعاون عادل ومفيد مع جيراننا. ولقد كانت إثيوبيا على وجه الخصوص صديقاً عظيماً على مرّ السنين. وعندما نتولّى السلطة، سنقيّم ما فعلته الحكومة السابقة».

لكن سبق هذه التعهدات والتحديات برنامج سياسي لحزب «وداني» تضمن خطوطاً عريضة متعلقة بالسياسة الخارجية لانتخاب الرئيس «عرّو» في عام 2024، أبرزها أن تكون الإجراءات القانونية والدبلوماسية لأرض الصومال مبنية على المصالح الوطنية ولا تتورط في نزاعات سياسية واقتصادية مع دول أخرى.

وتتضمن النقاط نقطتي:

- العمل على انضمام أرض الصومال إلى المنظمات الدولية الرئيسة، كالاتحاد الأفريقي، والأمم المتحدة، والكومنولث، والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية، وغيرها.

- وإجراء مراجعة سنوية للسياسة الخارجية، لتعكس التطورات العالمية وتضمن التوافق مع المصالح الوطنية.

خبراء حاورتهم «الشرق الأوسط»، قالوا إنه من الصعب التكهن حالياً بتداعيات فوز مرشح المعارضة على مسار مذكرة التفاهم مع إثيوبيا، لكنهم اعتبروا أن الرئيس المنتخب سيسلك استراتيجية أخرى لنيل الاعتراف الدولي، تقوم على تهدئة الخطاب السياسي تجاه مقديشو، وإرسال رسائل تطمينية لها؛ بغية حثّها على الاعتراف بـ«أرض الصومال» دولةً مستقلة، مقابل الوصول لصيغة قانونية جديدة معترف بها دولياً تحكم العلاقة بين المنطقتين، كصيغة الاتحاد الفيدرالي مثلاً.