فيفيك راماسوامي صار بين ليلة وضحاها شخصية رئيسية في سباق البيت الأبيض

ملياردير هندي الأصل «يغازل» قاعدة ترمب و«الإيفانجيليين الجدد»

فيفيك راماسوامي صار بين ليلة وضحاها شخصية رئيسية في سباق البيت الأبيض
TT

فيفيك راماسوامي صار بين ليلة وضحاها شخصية رئيسية في سباق البيت الأبيض

فيفيك راماسوامي صار بين ليلة وضحاها شخصية رئيسية في سباق البيت الأبيض

كشفت المناظرة الرئاسية الأولى لمرشحي الحزب الجمهوري الأميركي، التي أجريت في مدينة ميلووكي يوم 23 أغسطس (آب) المنصرم، عن جانب جديد، لكنه «مألوف» في مواسم الانتخابات الرئاسية الأميركية. ومعلوم أنه غالباً ما يحظى الناخبون الأميركيون بفرصة التعرف على شخصيات «مجهولة» ومغمورة، رغم إدراكهم أن مصيرها بعد انتهاء موسم الانتخابات، قد لا يتجاوز محاولة، حجز مقعد أو منصب في الإدارة الجديدة، أو تحقيق شهرة تدفع بأعمالهم التجارية. هكذا وصف فيفيك راماسوامي، المرشح الذي وقف في منتصف المنصة، إلى جانب رون ديسانتيس، حاكم ولاية فلوريدا، وثاني أقوى المرشحين في استطلاعات الجمهوريين. وخلال أقل من 24 ساعة من «مهاراته الكلامية» المستفزة لمنافسيه، كان هناك أكثر من مليون عملية بحث على «غوغل» عن اسمه، ما عدا العمليات التي أخطأت في كتابة اسمه، بحسب وسائل الاعلام الأميركية، التي انشغلت هي الأخرى في البحث عن هوية هذا الوافد الجديد.

شبّه المرشح الجمهوري الشاب فيفيك راماسوامي بـ«ترمب» الصغير. ومع أجوبته السريعة وكلامه الذي لا يتوقف قبل إيصال فكرته، جاء التعليق الأكثر تهكماً، على لسان منافسه الجمهوري كريس كريستي، حاكم ولاية نيوجيرسي السابق؛ إذ خاطب مضيفي المناظرة والجمهور قائلاً: «لقد سئمت من الرجل الذي يبدو مثل «تشات جي بي تي» (برنامج تطبيق الذكاء الاصطناعي)».

وحقاً، كان راماسوامي مفعماً بالحيوية ومزعجاً لمنافسيه. ولقي تصفيقاً حاراً في كل مرة أشاد فيها بالرئيس السابق، بعدما تمكن بطريقة غير متوقعة، من الاستحواذ على انتباه منافسيه على منصة المناظرة.

الشاب اليميني المتشدد المتحدر من أصول هندية، أدلى بآراء مثيرة للجدل، تبدأ من استهجانه «تشويه» سياسات تغير المناخ، وانتهاءً باستعداده لزيارة روسيا والتفاوض مع فلاديمير بوتين، عبر تخلي أوكرانيا عن أراضيها وتحاشي ضمها لحلف الـ«ناتو»، مقابل الوعد بإنهاء تحالفه مع زعيم الصين. وبالفعل، استشاط منافسوه غضباً، وسخروا من تعليقاته وآرائه، مواصلين الخطأ في نطق اسمه «فيفيك». ولكن، بحلول صباح اليوم التالي، أصبح راماسوامي فجأة شخصية رئيسية في السباق الجمهوري.

فمن هو هذا الوافد الجديد إلى عالم السياسة الأميركية، بعدما كان حتى وقت قريب، يصف نفسه بأنه «غير سياسي»؟

دعم ترمب عام 2020

قال راماسوامي إنه صوّت لصالح المرشح الرئاسي للحزب الليبرتاري (يمين متشدد) في عام 2004، لكنه لم يصوّت في الانتخابات الرئاسية في 2008 أو 2012 أو 2016. غير انه عام 2020، عاد فدعم وصوت لدونالد ترمب.

ثم في 2021، سجل نفسه «غير منتسب» للتصويت في ولاية أوهايو، لكنه وصف نفسه بأنه جمهوري. ومع ذلك، قدم تبرّعات لكل من الديمقراطيين والجمهوريين؛ إذ قدم عام 2016 تبرّعاً بمبلغ 2700 دولار لحملة دينا غرايسون، المرشحة الديمقراطية للكونغرس في ولاية فلوريدا. وبين عامي 2020 و2023، تبرّع بمبلغ 30 ألف دولار للحزب الجمهوري في أوهايو، حيث فكّر في الترشح لانتخابات مجلس الشيوخ الأميركي لعام 2022 في الولاية.

ويوم 21 فبراير (شباط)، تنحى راماسوامي عن منصبه رئيساً لشركة «رويفانت ساينسز»، للتكنولوجيا الحيوية. وفي برنامج «الليلة» مع تاكر كارلسون على محطة «فوكس نيوز» (غادرها لاحقاً ليؤسس موقعاً إخبارياً على الإنترنت)، أعلن ترشحه عن الحزب الجمهوري لمنصب الرئاسة.

«الديانات العلمانية الجديدة»

بدأ راماسوامي حملته مدعياً أن الولايات المتحدة في «أزمة هوية وطنية»، فاقمتها ما أسماها «الديانات العلمانية الجديدة»، مثل التعامل مع وباء «كوفيد - 19» والمناخ و«الآيديولوجية الجنسانية».

أيضاً، انتقد المبادرات البيئية والاجتماعية ومبادرات حوكمة الشركات. وأصدر علناً إقرارات ضريبة الدخل الخاصة به عن 20 سنة، داعياً منافسيه إلى فعل الشيء نفسه (ترمب الذي لا يزال ممتنعاً عن ذلك). ومع ان أموال حملته جاءت بغالبيتها من أمواله الخاصة، فإنها كانت أقل بكثير عن تلك التي جمعها ترمب ورون ديسانتيس. ومع ذلك، تقدم على معظم المرشحين الجمهوريين الأساسيين الآخرين.

من جهة ثانية، سعى راماسوامي إلى جذب الناخبين اليمينيين المسيحيين الإيفانجيليين («الإنجيليون الجدد») والقوميين المسيحيين، وهؤلاء جزء مهم جداً من القاعدة الجمهورية، ويذكر أن بعضهم متردد أو غير راغب في دعم مرشح غير مسيحي وغير أبيض. ولذا؛ لم يتوانَ خلال حملاته الانتخابية ومقابلاته عن انتقاد العلمانية، قائلاً إن الولايات المتحدة أسست على «القيم المسيحية» أو «القيم اليهودية المسيحية»، وأنه يشارك تلك القيم ويؤمن بإله واحد.

قومي... غير اعتذاري!

كذلك، وصف راماسوامي نفسه، بأنه «قومي أميركي غير اعتذاري» وهاجم كثيراً ديسانتيس. ومع أنه «ينافس» دونالد ترمب، تجنب انتقاده بشكل مباشر... لا، بل دعمه قبل المناظرة وخلالها وبعدها، متراجعاً عن الاتهامات التي ساقها ضده، إثر الهجوم على مبنى الكابيتول في 6 يناير (كانون الثاني) 2021. فقد وصف راماسوامي تصرفات ترمب في ذلك اليوم، بأنها «بغيضة تماماً»، وانتقد مزاعمه عن «الانتخابات المسروقة» في كتابه الثاني «أمة الضحايا». وكتب: «لقد كان يوماً مظلماً للديمقراطية. رفض الخاسر في الانتخابات الأخيرة التنازل عن السباق، وادّعى أن الانتخابات سُرقت، وجمع مئات الملايين من الدولارات من المؤيدين المخلصين، ويفكر في الترشح لمنصب تنفيذي مرة أخرى... أقصد بالطبع دونالد ترمب».

إلا أنه، بعد ذلك، قال: إن حظر حسابات ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، انتهاك للتعديل الدستوري الأول. وبعد توجيه الاتهامات الجنائية الفيدرالية للرئيس السابق هذا العام، وقف راماسوامي معه على الفور، واعداً بالعفو عنه إذا ما انتُخِب رئيساً. وأيضاً وعد بالعفو عن جوليان أسانج وإدوارد سنودن، مقترحاً تسمية روبرت كينيدي «الابن»، المرشح الرئاسي الديمقراطي، مرشحاً محتملاً للجمهوريين لمنصب نائب الرئيس.

الواقع، أنه قد يتوجب على الجمهوريين أن يعتادوا على هذه الظاهرة التي كانت غريبة منذ وقت ليس ببعيد، أي قبل أن يحصل الوافد السياسي الجديد المليونير من جيل الألفية على نتائجه في استطلاعات الرأي.

إذ إن راماسوامي يقترب الآن في استطلاعات الرأي الوطنية من ديسانتيس، الذي تراجعت أرقامه أكثر بعد المناظرة. وهذا بينما تعدّه كثرة من الجمهوريين «دخيلاً آيديولوجياً، وشخصاً يجذب الشعبوية الجديدة عبر الإنترنت.

باختصار، كان بمثابة مغناطيس بشري، سرق المشهد في أول مناظرة بين الجمهوريين.

بطاقة تعريف

ولد فيفيك جاناباثي راماسوامي (38 سنة) يوم 9 أغسطس (آب) 1985، في مدينة سينسيناتي بولاية أوهايو، لأبوين مهاجرين هندوسيين هنديين.

عائلته من البراهمة الهندوس الناطقين باللغة التاميلية في ولاية كيرالا بأقصى جنوب الهند. ووالده، خريج المعهد الوطني للتكنولوجيا في مدينة كاليكوت، عمل مهندساً ومحامي براءات اختراع لشركة «جنرال إلكتريك»، أما والدته فطبيبة نفسانية لكبار السن وخريجة كلية ميسور الهندية الطبية ومعهد الأبحاث. وهو متزوج وأب لولدين.

نشأ فيفيك الصغير في ولاية أوهايو، وغالباً ما كان يرتاد المعبد الهندوسي المحلي في مدينة دايتون مع عائلته، كما أمضى الكثير من إجازاته الصيفية في الهند مع والديه. ووفق سيرته، أثّر كثيراً على آرائه الاجتماعية مدرّس البيانو المسيحي المحافظ، الذي أعطاه دروساً خاصة من المرحلة الابتدائية حتى المدرسة الثانوية.

بعدها التحق راماسوامي بالمدارس العامة حتى الصف الثامن. ثم التحق بمدرسة سانت كزافييه الثانوية في سينسيناتي، وهي مدرسة كاثوليكية تابعة للرهبنة اليسوعية، وتخرج منها بتفوّق في عام 2003.

في عام 2007، تخرّج راماسوامي من جامعة هارفارد بدرجة بكالوريوس بامتياز مع مرتبة الشرف في علم الأحياء، واكتسب فيها سمعة بوصفه تحررياً جريئاً وواثقاً من نفسه. كذلك، كان عضواً في اتحاد هارفارد السياسي، وأصبح رئيساً له. وفي لقاء مع صحيفة «هارفارد كريمسون» الجامعية قال إنه يعدّ نفسه مجادلاً يحب المناظرات. أما عملياً، فقد تدرب في صندوق التحوّط «امارانث ادفايزر» وبنك الاستثمار «غولدمان ساكس»، وكتب أطروحته العليا حول الأسئلة الأخلاقية التي أثيرت بعد خلق خلايا بشرية - حيوانية، وحصل على جائزة بودوين العلمية.

"أكثر من مليون عملية بحث عن اسمه على «غوغل» في غضون 24 ساعة..."

15 مليون دولار ... قبل تخرجه

في عام 2011، حصل راماسوامي على منحة دراسات العليا للدراسة في كلية الحقوق المرموقة في جامعة ييل، وحصل منها على الإجازة في الحقوق عام 2013. وخلال مقابلة عام 2023، قال إنه كان عضواً في جمعية المناقشة الفكرية اليهودية «شبتاي» في ييل عندما كان طالب حقوق. وللعلم، بحلول الوقت الذي التحق فيه بجامعة ييل، كان راماسوامي ثرياً بالفعل من خلال مشاركته في الصناعات المالية والأدوية والتكنولوجيا الحيوية. ولقد ذكر في عام 2023 أن ثروته الصافية بلغت قبل تخرّجه في كلية الحقوق، نحو 15 مليون دولار.

قبل ذلك، في عام 2007، شارك راماسوامي مع ترافيس ماي في تأسيس شبكة للتواصل الاجتماعي، لطلاب الجامعات الذين يطمحون إلى إطلاق مشروع تجاري. وبيعت الشركة في عام 2009 إلى مؤسسة «إوينغ ماريون كوفمان». وبين عامي 2007 و2014، كان شريكاً في شركة لإدارة محفظة استثمارات التكنولوجيا الحيوية، وامتلك حصصاً في الكثير من شركات الأدوية الحيوية.

وفي عام 2014، أسس راماسوامي شركته الخاصة «رويفانت ساينسز» للتكنولوجيا الحيوية، في جزيرة برمودا، وهي ملاذ ضريبي، وحصلت على ما يقرب من 100 مليون دولار من رأس المال المبدئي من شركات ومستثمرين آخرين. ولقد تمثلت استراتيجية الشركة في شراء براءات الاختراع من شركات الأدوية الكبرى للأدوية التي لم تكن قد طوّرت بنجاح بعد، ومن ثم طرحها في السوق. وبعدها أنشأت الشركة الكثير من الشركات التابعة، بما في ذلك شركة «شينوفانت» و«سيتوفانت» ومقرّهما الصين، وتركزان على السوق الآسيوية.

 

طموح لا يُحد

في عام 2015، جمع راماسوامي 360 مليون دولار لصالح شركة «إكسوفانت ساينسيز» التابعة لشركته الأم، في محاولة لتسويق عقار «الإنتبيردين» لمرض ألزهايمر، الذي اشترى براءة اختراعه مقابل 5 ملايين دولار، من شركة «غلاكسو سميث كلاين» في ديسمبر (كانون الأول) 2014. وفي عام 2015، ظهر راماسوامي على غلاف مجلة «فوربس»، وصرح بأن شركته «ستحقق أعلى عائد استثماري على الإطلاق في صناعة الأدوية». وقبل بدء التجارب السريرية الجديدة للدواء، صمم طرح اكتتاب عام أولي، ويومها جذبت شركته اهتمام بورصة «وول ستريت»، وجمعت 315 مليون دولار.

في البداية، ارتفعت القيمة السوقية للشركة إلى ما يقرب من 3 مليارات دولار، على الرغم من أنها في ذلك الوقت، كانت صغيرة لديها ثمانية موظفين فقط، بينهم شقيقه ووالدته. وبعدما حقق أكثر من 37 مليون دولار من المكاسب الرأسمالية من شركته، قال إنها ستكون مثل شركة «بيركشاير هاثاواي» لتطوير الأدوية، واصفاً الدواء بأنه فرصة «هائلة» «يمكن أن تساعد الملايين» من المرضى.

ولكن، بعد أربع تجارب سريرية، أعلنت الشركة في 2017، أن «الإنتبيردين» فشل، وتخلت عنه، لتنخفض قيمة الشركة وتخسر في يوم واحد 75 في المائة من قيمتها، من دون أن يخسر شخصياً لاحتفاظه بحصته في شركته الأم. ولكن كان بين المساهمين الذين خسروا أموالهم الكثير من المستثمرين المؤسسيين، مثل صندوق تقاعد المعلمين في ولاية كاليفورنيا.

راماسوامي، الشاب الطامح دائماً إلى القمة، خاض الكثير من الشراكات والمغامرات التجارية، محققا أرباحاً طائلة؛ إذ قدّرت مجلة «فوربس» ثروته بنحو مليار دولار هذا العام. وأثناء حملته الانتخابية للرئاسة، أطلق على نفسه لقب «العالِم» وتباهى: «لقد طوّرت عدداً من الأدوية». لكن الحقيقة أنه حصل على شهادته الجامعية في علم الأحياء، ولم يكن «عالماً» أبداً، بل نشط في مجال صناعة التكنولوجيا الحيوية، مموِّلاً ورجل أعمال.

 


مقالات ذات صلة

الاقتصاد الألماني ينكمش للعام الثاني على التوالي في 2024

الاقتصاد ميدان في توبنغن بألمانيا (رويترز)

الاقتصاد الألماني ينكمش للعام الثاني على التوالي في 2024

انكمش الاقتصاد الألماني، أكبر اقتصاد في أوروبا، للعام الثاني على التوالي في عام 2024، وفقاً للأرقام الأولية الرسمية الصادرة يوم الأربعاء.

«الشرق الأوسط» (برلين)
العالم الملياردير الأميركي إيلون ماسك (د.ب.أ)

ماسك يصف المفوض الأوروبي السابق بروتون بأنه «طاغية أوروبا»

وصف إيلون ماسك، السبت، المفوض الأوروبي السابق للشؤون الرقمية بأنه «طاغية أوروبا»، في رسائل متوترة جديدة بين الرجلين بشأن دعم ماسك لليمين المتطرف في ألمانيا.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
أميركا اللاتينية الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو يحيّي أنصاره لدى وصوله إلى الجمعية الوطنية لأداء اليمين الدستورية لولاية ثالثة في كاراكاس 10 يناير 2025 (رويترز)

أميركا تندد بتنصيب مادورو رئيساً... وتفرض عقوبات جديدة على فنزويلا

ندّدت الولايات المتحدة، اليوم الجمعة، بـ«مهزلة» تنصيب نيكولاس مادورو رئيساً لفنزويلا لولاية ثالثة، وفرضت عقوبات جديدة على كاراكاس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أميركا اللاتينية غلق جسر أتاناسيو غيرادوت الدولي بأوامر من رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو (أ.ف.ب)

فنزويلا تغلق حدودها مع كولومبيا قبل تنصيب مادورو

أغلقت فنزويلا حدودها مع كولومبيا متحدثة عن «مؤامرة دولية» قبل ساعات من تنصيب الرئيس نيكولاس مادورو لولاية ثالثة من 6 سنوات.

«الشرق الأوسط» (كراكاس)
أميركا اللاتينية الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو يصل إلى مقر الجمعية الوطنية لحضور حفل تنصيبه (أ.ف.ب)

تنصيب نيكولاس مادورو لولاية رئاسية ثالثة في فنزويلا

أدى الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو اليمين لولاية ثالثة تستمر 6 أعوام، الجمعة، ليبقى في السلطة على الرغم من نزاع استمر 6 أشهر بشأن نتائج انتخابات الرئاسة.

«الشرق الأوسط» «الشرق الأوسط» (كاراكاس)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.