القوى السياسية العراقية حائرة بين دعم السوداني والخوف منه

وسط الرهان على تحسن المناخ الإقليمي

جانب من قمة جدة (رويترز)
جانب من قمة جدة (رويترز)
TT

القوى السياسية العراقية حائرة بين دعم السوداني والخوف منه

جانب من قمة جدة (رويترز)
جانب من قمة جدة (رويترز)

الأجواء التي تهيمن على المشهد السياسي العراقي بعد نحو 7 أشهر على تشكيل الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، تمضي باتجاهات مختلفة تتناقض أحياناً فيها المواقف والرؤى والتطلعات التي كثيراً ما تتناقض بين دعم السوداني من جهة والخوف منه من جهة أخرى. وبين الموقفين المتباينين حيناً والمتناقضين حيناً آخر يبقى موقف زعيم التيار الصدري غامضاً إلى حد بعيد، لا سيما بعد ظهور جماعة دينية متطرفة مذهبياً، هي جماعة «أصحاب القضية». وفي ما يخص موقف الصدر، الذي كان انسحب من البرلمان العام الماضي مع أنه فاز بأكبر عدد من المقاعد في انتخابات أواخر عام 2021، فإنه يرتبط بمواقف قوى الحراك المدني و«قوى تشرين» التي لا تزال تنتظر ما يمكن أن يصدر من الصدر من موقف حيال ما يجري لكي تحدد مسارها اللاحق. ولكن يتضح من خلال ما يجري، أنه بينما تجنّب السوداني إجراءات التغيير التي أحدثها في مختلف مؤسسات الدولة الكوادر الإدارية التي تنتمي إلى التيار الصدري، فإن الصدر لم يأمر هذه الكوادر، ومن بينهم موظفون كبار في الدولة بالانسحاب من الحكومة، مثلما أمر نوابه الانسحاب من البرلمان.

محمد شياع السوداني خلال القمة (رويترز)

طوال الأشهر السبعة الماضية، وعلى الرغم من المواقف العديدة التي اتخذها السيد مقتدى الصدر حيال قضايا عراقية مختلفة - كانت في الغالب دينية واجتماعية وفكرية وسياسية - فهو، على مستوى أدنى، لم يتبن موقفاً واضحاً من حكومة محمد شياع السوداني لا سلباً ولا إيجاباً، وإن كان أشار غير مرة إلى الفساد والفاسدين، الذين يقصد بهم خصومه من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي... باستثناء السوداني.

واستناداً إلى هذه المؤشرات وسواها الكثير، يبدو السوداني في عجلة من أمره لإحداث تغيير كبير في مختلف الميادين والمجالات طبقاً للبرنامج الحكومي الذي شُكّلت حكومته بموجبه. ومع أن رئيس الحكومة يدرك أنه أمام تحديات كبيرة، لا سيما في ما يتعلق بالانتخابات المقبلة. وللعلم، انتخابات مجالس المحافظات مقرّرة بنهاية العام الحالي، أما انتخابات البرلمان فينتظر أن تُجرىَ في وقت لم يحدد بعد، لكنه قابل للتحديد من قِبل الأطراف السياسية طبقاً لما يرتبط بمصالحها الخاصة.

السوداني، بدا جاداً وصارماً في تطبيق برنامجه الحكومي، الذي بدأ الكثير من مفرداته - خصوصاً بالجانب الخدمي - يرى النور ويتحوّل مصدر قبول لدى المواطن العراقي، إلا أن ما يمكن أن يغدو منجزات بارزة للعيان وملموسة في الشارع ولدى المواطن، قد لا يكون بالضرورة مقبولاً ومرضياً عنه لدى الطبقة السياسية.

إن رئيس الحكومة العراقية الذي يسعى لاستثمار أجواء الهدوء في المنطقة، وبالأخص، بعد التفاهم الأخير بين المملكة العربية السعودية وإيران برعاية الصين، يدرك أن أجواء الهدوء باتت بالنسبة للقوى السياسية سلاحاً ذا حدين. فمن جهة تساعد هذه الأجواء في إمكانية استعادة الثقة بين المواطن والطبقة السياسية؛ وهو ما يمكن أن يعزّز رصيد هذه الطبقة في الشارع. غير أنه في المقابل سيرفع رصيد رئيس الحكومة؛ ما يضع قيد الاختبار تلك القوى السياسية، ولا سيما الشيعية منها، التي تولّت ترشيحه للمنصب بوصفها الكتلة البرلمانية الأكبر عدداً.

الرؤية التي تنطلق منها هذه القوى، التي تنضوي تحت تسمية قوى «الإطار التنسيقي الشيعي»، أن رصيد السوداني الجماهيري لن يؤثر على المكوّنين السني والكردي من منطلق أن السوداني الذي يتزعم تياراً ناشئاً اسمه «تيار الفراتين» حاز مقعدين في الانتخابات الماضية، لكنه سيأكل كثيراً من جرف هذه القوى في المناطق والمحافظات الشيعية.

واستناداً إلى هذه الرؤية، فإن التأييد الوطني الذي سيحظى به السوداني في مختلف محافظات العراق سينعكس عليها سلباً، لا سيما أن السوداني في حال شارك في أي انتخابات سيحصل على مقاعد كثيرة. وهذا أمر لا يقلق السنّة والكرد، لكنه يقلق حلفاءه الشيعة.

«الدبلوماسية المُنتجة»

في الحقيقة، منذ تولّى محمد شياع السوداني رئاسة الحكومة، لوحظ أنه رسم طريقاً في التعامل مع المحيط العربي والإقليمي والدولي عبر ما أسماه «الدبلوماسية المنتجة». وهي دبلوماسية تقوم على أساس استثمار الأجواء العامة في المنطقة والعالم بطريقة تجعل من أي تحرك يبنى على قاعدة من التفاهمات الصحيحة التي تؤدي في النهاية إلى مُخرجات سليمة.

وبناءً عليه؛ في ضوء تنامي العلاقة بين المملكة العربية السعودية وإيران بعد توقيع الاتفاق بينهما الذي كان لبغداد دور بارز، أكد السوداني عبر اتصال هاتفي مع ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان، على أهمية استثمار أجواء الهدوء السياسي الذي تمر به المنطقة، والذي يسمح بإمكانية طرح مشاريع كبرى. وهذا بالضبط ما فعله أثناء مشاركته في «قمة جدة» أخيراً، حين دعا إلى تشكيل تكتل اقتصادي عربي. وكذلك دعا في جدة إلى تطبيق ما أسماه «طريق الحرير»، الذي جرى بالفعل الإعلان عنه الأسبوع الماضي عبر مؤتمر لوزراء النقل لدول الخليج العربي ودول الجوار الجغرافي للعراق.

بشأن مدى ما يمكن أن تحققه الدبلوماسية المنتجة من نتائج إيجابية للعراق والمنطقة، حاورت «الشرق الأوسط» الأكاديمي العراقي الدكتور إحسان الشمّري، رئيس مركز التفكير السياسي. وممّا قاله الشمري أن «دبلوماسية الهاتف تأتي في إطار تنسيق المواقف بين العراق من جهة والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى، خصوصاً أن العراق بات يستشعر الاستقرار في المنطقة نتيجة المصالحة ما بين السعودية وإيران... المملكة العربية السعودية تقدم حزم مبادرات من أجل استقرار المنطقة، وهذا يصب في مصلحة العراق بشكل مباشر وغير مباشر، من منطلق أن استقرار المنطقة سيساهم على استقرار داخلي في العراق على كل المستويات».

وأضاف الشمّري «هناك أمر آخر يؤكد مواصلة العراق العمل على بناء علاقات جيدة مع المنظومة العربية، وبالذات مع المملكة العربية السعودية كدولة ضامنة. إذ لا بد للعراق أن يعتبر السعودية دولة ضامنة يمكن أن تكون مساهمة بفاعلية في إزالة الأزمات وتفكيك الأزمات الاقتصادية في الداخل العراقي».

أما أستاذ الإعلام الدولي الدكتور غالب الدعمي، فقال في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إن «هناك هدوءاً كبيراً في المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط؛ وهو ما يساعد العراق على لعب دور في سياق استثمار هذا الهدوء عبر بناء علاقات متوازنة». وأردف الدعمي «في هذا الوقت، بالذات، يمثل العراق نقطة اللقاء بين المنطقة العربية وإيران... ذلك أنه يملك علاقات جيدة مع إيران، وكذلك لديه علاقات بدأت تتحسن مع الدول العربية، ولا سيما الدول الخليجية منها. وبالتالي، فإن الطريق الأقرب لنمو هذه العلاقات تمر عبر العراق، ومن ثم، فهدوء العراق واستقراره إنما هما جزء من هذا الهدوء».

وفي سياق متصل، اعتبر الدعمي أن تحسن العلاقات بين دول الخليج العربي إيران ينعكس إيجاباً بالعراق. وقال إنه «عندما يتحقق الاستقرار يبدأ الاستثمار... حيث تنطلق المشاريع الصناعية والزراعية وغيرها من المشاريع الكبرى. ونحن في العراق بأمس الحاجة إلى ذلك... وعلى وجه الخصوص، في مناطق البصرة والمثنى ونينوى وديالى وصلاح الدين، وغيرها من المناطق والمحافظات في العراق».

التنمية «طريق حرير» عراقية الهوية

على صعيد ثانٍ، في بغداد، لبّت عشر دول عربية وشرق أوسطية ممثلة بوزراء النقل فيها، هي دول الخليج العربي الست، ودول «الجوار الجغرافي» للعراق - أي سوريا والأردن وإيران وتركيا - الدعوة التي أطلقها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني.

السوداني كان قد أطلق في جدة، من خلال كلمته أمام «القمة العربية» الأخيرة، دعوة إلى عقد مؤتمر لوزراء النقل في هذه الدول الخليجية و«الجوارية» العشر؛ وذلك بهدف إطلاق ما أسماه مشروع «طريق التنمية» أو القناة الجافة. وهذه الطريق - أو القناة الجافة - التي تمتد على مسافة 1200كم من ميناء الفاو الكبير بمحافظة البصرة في أقصى الجنوب العراقي إلى أقصى الشمال العراقي من جهة محافظة نينوى. ومن محافظة نينوى إلى تركيا ومن إلى أوروبا.

وتشمل هذه «الطريق - القناة» خط سكك حديدية وطريقاً برّية لنقل البضائع تضاهي إلى حد كبير مبادرة «الحزام والطريق» الصينية... ولكن بنسخة عراقية. ومما ذكره السوداني خلال كلمته في قمة جدة أن «العراق سيستضيف مؤتمرات عدةً، منها مؤتمر (بغداد 2023) للتكامل الاقتصادي والاستقرار الإقليمي». وذلك قبل أن يدعو القادة العرب جميعاً، إلى عقد القمة العربية لعام 2025 في بغداد، «التي تتطلع إلى احتضان الأشقّاء العرب في بلاد الرافدين».

رئيس الحكومة العراقي أورد في مقاله الذي نشرته «الشرق الأوسط» قبل يومين من عقد القمة العربية، القول «... بدأنا العملَ على مشروع طريق التنمية الاستراتيجي لربط ميناء الفاو مع الحدود التركية، ومنها إلى أوروبا. وتستعد بغدادُ لاحتضان اجتماع يضمُّ وزراءَ نقلِ دول مجلس التعاون الخليجي وإيران وتركيا وسوريا والأردن أواخر هذا الشهر؛ لبحث هذا المشروع الاستراتيجي وتنفيذه لما فيه من ترسيخ لآفاق التعاونِ الاقتصادي الإقليمي، وخدمةٍ لمصالحِ هذه البلدان وشعوبها». وبيّن أن «كل هذا التعاون الاقتصادي والسياسي والرياضي مع محيطنا العربي يدلُّ على رغبةِ العراق الصادقة في الالتحام مع أشقائه العرب، بما يضمن السلامَ والرخاء لنا جميعاً، ولشعوبنا التواقة للاستظلالِ بمظلة واحدة تجمعها من جديد».

مؤتمر المستثمرين...

أيضاً، قبل بضعة أسابيع أكد السوداني خلال مؤتمر للمستثمرين العرب والأجانب أن «الحكومة تعمل بشكل جادّ لتحرير العراق من الاقتصاد الأحادي، من خلال تفعيل باقي القطاعات، لا سيما الزراعة والصناعة لدعم الاقتصاد». إلا أنه أشار في الوقت ذاته إلى أن الحكومة «لن تلجأ إلى خصخصة تجلب آثاراً اجتماعية وسياسية، ولن تثقل كاهل المستثمر بسبب العمالة المتوفرة». وشدد رئيس الحكومة على أولوية «الإصلاح الاقتصادي»؛ إذ قال «لا يمكن أن نبقى أسرى للاقتصاد الأحادي الذي يعتمد على إيرادات النفط، ولا بدّ أن نفكر في قطاعات أخرى، وأهمها الصناعة والزراعة... لأن العراق بلد صناعي تتوفر فيه البنى التحتية والموارد الطبيعية غير المستغلة».

وعن قدرات العراق الصناعية وثرواته الطبيعية التي يجب أن تستثمر، قال إن البلاد هي «الأولى على مستوى احتياطي الكبريت، والثاني على مستوى الفوسفات، ثم أن السيليكا متوافرة بنقاوة 98 في المائة»، قبل أن يذكّر الحضور والمستمعين بأن العراق يزخر بـ«كفاءات وخبرات وموارد طبيعية وبشرية تجعله قادراً على خلق صناعة وطنية متطورة».

الحائرون بين الدعم والخوف

وسط هذا كله، غير مرة خاضت القوى السياسية والبرلمانية مع السوداني «اختبار قوة» بهدف معرفة أين يمكن أن يصل في مجال المضي بتنفيذ ما كان قد طرحه من برنامج حكومي طموح. والمعروف، أن القوى السياسية العراقية اعتادت في الماضي على برامج حكومية تبدو مماثلة من حيث المفردات والخطط، لكنها غالباً تبقى مجرد كلام إنشائي لا يُنفَّذ منه شيء. أما السبب خلف تعذّر التنفيذ، فغالباً ما يتعلق بمبّررات مثل قوى الإرهاب مرة والمؤامرات الداخلية والخارجية مرة أخرى، ومعها الذريعة المتكررة التي هي «قلة التخصيصات»، ناهيك من الغول الدائم... أي الفساد المالي والإداري في البلاد.

في أي حال، يبدو أن طُموح السوداني الطَّموح جداً يدفعه للتعامل مع مفردات البرنامج الحكومي بطريقة تختلف عن المرات السابقة. وهكذا، بات رئيس الحكومة، بالإضافة إلى طرحه رؤى مستقبلية تبدو قابلة للتطبيق، باشر حقاً في تنفيذ العديد من المشاريع الخدمية التي بدأ المواطن يلمسها بشكل واضح في عموم المناطق، وبالأخص، المناطق والأحياء الشعبية.

وفي ضوء هذا الواقع، انقسمت القوى السياسية العراقية بين فئتين:

- الفئة الأولى، التي تريد الاستمرار بدعمه من منطلق أنها هي التي رشحته، وبالتالي فإن نجاحه يُحسب لها.

- الفئة الأخرى، التي تضم القوى الأخرى، لعلها الغالبية، التي تعتقد - أو يعتقد بعضها - أن مواصلة دعمه من دون شروط موضوعة على السوداني ستجعله يتمرد تماماً، خصوصاً أن الناس تؤيد «الحاكم القوي» القادر على تحقيق منجزات ومتابعة ما يجري بدقة وحزم.

والواقع، أن السوداني أعلن - مثلاً - نيته إجراء تعديل وزاري، وقبلها إعادة النظر بالمديرين العامين في دوائر الدولة. وبالفعل، أقال اكثر من 60 مديراً عاماً بعد ثبوت تقصيرهم، بينما ينتظر الوزراء والمحافظون إعادة النظر بهم، وهذا الأمر يحصل للمرة الأولى. ولعل الأهم هنا، أنه سبق لرئيس الحكومة أن أطلق تصريحات تعهّد فيها بألا يجامل أي زعيم أو حزب بالتعديل الوزاري... «ومن يريد أن يرفض فليرفض». وبالتالي، بينما تستمر حيرة القوى السياسية بين دعم السوداني من جهة والخوف منه من جهة أخرى، يُربك الاتفاق على إجراء انتخابات مجالس المحافظات بنهاية العام الحالي المشهد السياسي وخريطة التحالفات السياسية.

السيد مقتدى الصدر (أ.ف.ب)

من ملامح ارتباك المشهد السياسي العراقي

> من أبرز ملامح الارتباك في المشهد السياسي العراقي هو الكيفية التي ستخوض بموجبها مختلف الكتل انتخابات مجالس المحافظات (الانتخابات المحلية) المرتقبة. وبسبب الغموض الواضح يتوقع المتابعون فتح البعض معارك تبدو جانبية لأول وهلة، لكنها سرعان ما تتحول إحدى العلامات الفارقة في خريطة التحالفات والتحولات السياسية.

هذه الانتخابات لمجالس المحافظات ستكون إلى حد كبير بديلاً عن الانتخابات البرلمانية التي يبدو أنها لن تنظّم قبل نهاية الدورة الحكومية الحالية (ثلاث سنوات ونصف السنة على الأقل).

ولذا؛ فإن القوى السياسية البرلمانية؛ من أجل المحافظة على أوزانها، والتحضير من خلال عدد مقاعدها في مجالس المحافظات المقبلة لأي انتخابات برلمانية مقبلة، ستعمل على التأهب للمعركة الانتخابية من زوايا مختلفة.

واحدة من هذه الزوايا المعركة داخل البرلمان بشأن الميزانية. إذ على الرغم من الخلافات المعروفة داخل البرلمان بشأن الميزانية سواءً لجهة العجز أو سعر صرف الدولار أو أسعار النفط أو كونها ثلاثية (للسنوات الثلاث المقبلة)، ثمة خلافات تتعلق بالمناقلات بين الوزارات والمحافظات؛ وهو ما يعني حاجة القوى السياسية من كل الأطراف والأطياف إلى الحصول مبكراً على أموال إضافية لهذه المحافظة أو تلك تخضيراً لتلك الانتخابات.

جانب آخر يمثل خطورة قائمة بحد ذاتها، هو ما أعلنه زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر أخيراً عن أن الخلاف بينه وبين خصومه «انتقل من الشق السياسي إلى العقائدي». ولعل ما يقصده الصدر بهذا الكلام هو أن الذين يلقَّبون بـ«أصحاب القضية» - الذين يصرّون رغم تكفيرهم من قِبله على أنه هو «المهدي المنتظر» - يهدفون إلى إبعاده عن المشهد السياسي في حال فكر بالعودة إليه ثانية، وذلك عبر الانشغال العقائدي بقضية خطيرة عند الشيعة. وللعلم، يعتبر الصدر أن هؤلاء مدفوعون من قِبل خصومه في بعض الفصائل المسلحة التي يسميها هو «الميليشيات الوقحة»، ولكن من دون أن يحدد هويتها بالضبط. ومع أن الصدر كرّر مراراً أنه ليس مرجعاً ولا مجتهداً ولا معصوماً، لم ينفعه كل هذا في دحض ما يدعيه هؤلاء بين فترة وأخرى بأنه هو «المهدي المنتظر».

منذ تولّى محمد شياع السوداني رئاسة الحكومة لوحظ أنه رسم طريقاً في التعامل مع المحيط العربي والإقليمي والدولي عبر ما سمّاه «الدبلوماسية المنتجة»


مقالات ذات صلة

العراق: مساعٍ لتطوير المؤسسة العسكرية

المشرق العربي جنديان عراقيان مع آلية يقفان عند نقطة حراسة على الحدود العراقية - السورية 5 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

العراق: مساعٍ لتطوير المؤسسة العسكرية

كشفت لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي عن الحاجة لتطويع عشرات الآلاف بالجيش وسط تحديات أمنية إقليمية.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي تحذيرات عراقية من عودة «داعش»

تحذيرات عراقية من عودة «داعش»

تخشى بغداد أن يعيد «داعش» تنظيم صفوفه بعدما استولى على كميات من الأسلحة نتيجة انهيار الجيش السوري.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي رئيس وزراء العراقي محمد شياع السوداني (د.ب.أ)

السوداني يعلن استئناف عمل بعثة العراق الدبلوماسية في دمشق

أعلن رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني مساء الخميس أن البعثة الدبلوماسية العراقية «فتحت أبوابها وباشرت مهامها في دمشق».

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي صورة متداولة لحافلات سورية وصلت إلى الحدود العراقية لنقل الجنود

بغداد تعيد المئات من الجنود السوريين إلى بلادهم بالتنسيق مع دمشق

أعلنت السلطات العراقية، اليوم الخميس، أنها باشرت إعادة المئات من الجنود السوريين إلى بلادهم.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي اهتمام لافت باستقبال ولي العهد السعودي لرئيس الوزراء العراقي في الخيمة

بغداد تواصل مساعيها لتطويق تداعيات الأزمة السورية

يتحرك العراق داخلياً وخارجياً من أجل تطويق الأزمة السورية وتداعياتها.

حمزة مصطفى (بغداد)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.