هل فعلاً أصبحت الجامعات في أميركا «هي العدو»؟

عام دراسي انطلق بمنع التظاهر وتدريبات إلزامية حول «معاداة السامية»

شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
TT

هل فعلاً أصبحت الجامعات في أميركا «هي العدو»؟

شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)

انطلق العام الدراسي الحالي في جامعة نورثويسترن، حيث كنت أدرّس حتى السنة الماضية، بإعلانات من قبل الإدارة عن قوانين وقواعد جامعية جديدة تم وضعها خلال عطلة الصيف، وتهدف إلى منع تكرار الاحتجاجات الطلابية التي حصلت في الربيع الماضي رفضاً للحرب الإسرائيلية على غزة. وجامعة نورثويسترن جامعة خاصة تقع في ولاية إلينوي وهي من الجامعات الأميركية العريقة. وقد افتتح رئيس الجامعة مايكل تشيل العام الدراسي برسالة إلكترونية إلى أعضاء الهيئة التدريسية والطلاب كتب فيها أن حرية التعبير في الجامعات على أهميّتها «لا يمكن استخدامها حجة لتصرّفات تهدّد جوهر مهمة الجامعة وهو التنوير والمعرفة».

وأعلن الرئيس في رسالته عن تدريبات إلزامية لكل الطلاب، وكذلك الأساتذة والإداريين، حول موضوع «معاداة السامية وأشكال أخرى من الكراهية». ثم أرسلت عميدة الجامعة بدورها رسالة تفصّل فيها القواعد الجديدة، ومنها منع المظاهرات في أوقات انعقاد الصفوف والحلقات الدراسية الليلية، ومنع استعمال مكبّرات الصوت قبل الساعة الخامسة مساء، ومنع الخيم وحصر الملصقات بأماكن معيّنة من حرم الجامعة. وتم توسيع القوانين المتعلّقة بالملكية لتشمل أي مس بأملاك الجامعة. كذلك أدخلت الإدارة تعديلات على ما يعدُّ «تخويفاً أو ترهيباً» ليشمل أي تصرّفات «تؤثر بصورة كبيرة على قدرة أشخاص أو مجموعات على التعلّم، والعمل، أو العيش في بيئة الجامعة».

«كيف نحمي الطلاب من التشدّد في القوانين الجديدة التي تبنّتها جامعات أميركية مختلفة» كان موضع نقاش بين الأساتذة خلال المؤتمر السنوي للجمعية الأميركية للعلوم السياسية في سبتمبر (أيلول) الماضي في فيلادلفيا. واقترح زملاء في جامعة بارنارد في نيويورك مقاطعة تصحيح الامتحانات كنوع من المعارضة ضد التضييق على حرية الطلاب في التعبير.

ضباط شرطة نيويورك عند الأسوار خارج جامعة كولومبيا، السبت 27 أبريل 2024، في نيويورك. بينما يستمر الطلاب المحتجون على الحرب بين إسرائيل وحماس في مواصلة مظاهراتهم في حرم الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة ( ا.ب)

استجواب في الكونغرس

رئيس جامعة نورثويسترن هو واحد من ثلاثة رؤساء جامعات مثلوا في جلسة للكونغرس الأميركي دعتهم إليها لجنة التربية والقوى العاملة برئاسة فيرجينيا فوكس من الحزب الجمهوري عن ولاية كارولاينا الشمالية أواخر شهر مايو (أيار) الماضي. وتلك هي الجلسة الثالثة التي تعقدها اللجنة لاستجواب رؤساء جامعات أميركية حول ما عدته ارتفاعاً في موجة معاداة السامية في حرم الجامعات الأميركية وسوء تعامل هؤلاء الرؤساء معها.

«حصلتِ على علامة F» (أي راسب)، قالت عضوة الكونغرس الجمهورية إليز ستيفانيك التي تمثل ولاية نيويورك، لرئيس جامعة نورثويسترن وقتها. وسبق لرابطة مكافحة التشهير (Anti-Defamation League)، وهي منظمة غير حكومية، مركزها نيويورك، تعنى بمحاربة المعاداة للسامية وتدعم إسرائيل أن منح علامة الرسوب لجامعة نورثويسترن في أبريل (نيسان) الماضي بسبب الاحتجاجات التي شهدتها الجامعة ضد الحرب على غزة، والتي عدتها المنظمة معادية للسامية لما فيها من شعارات تدعم الانتفاضة وتنتقد الصهيونية، وانتهت باتفاق بين إدارة الجامعة والطلاب، وهو ما عدته الرابطة بمثابة «مكافأة» للمحتجين.

ودعت اللجنة كذلك إلى إزالة الرئيس من منصبه. وقالت فوكس في جلسة الاستماع: «وردتنا تقارير عن أعمال عنف مروعة ومضايقات للطلاب اليهود في حرم جامعتكم». وكانت اللجنة بعثت برسالة إلى رئيس الجامعة ورئيس مجلس أمنائها تفصّل فيها الأحداث التي دفعتها إلى إرسال الدعوة للمثول أمامها، وعلى رأسها قبول إدارة الجامعة بتنازلات لإنهاء الاحتجاج بدلاً من استخدام القوة لنزع الخيم التي نصبها الطّلاب المعارضون. وحسب الاتهامات كان موقع الخيم، المعروف بـ«المنطقة المحرّرة»، مسرحاً لجرائم وأحداث معادية للسامية. وارتكزت الأدلّة في الرسالة على تقارير طلاب يهود أفراد عن مواقف عدوها معادية لهم كيهود. فضمن اللائحة مثلاً أن طالباً يهودياً تعرّض لمضايقات عند وقوفه أمام الخيم شارحاً لعميد الطلاب مخاوفه من الاحتجاج. فوقف طالب كان جالساً إلى جانبه وصار يقول له، حسب الرسالة نفسها: «أنت تقرفني. هل تظن أن انزعاجك الصغير من المظاهرة يهمّني؟ هذا هو هدف الاحتجاج، الهدف هو أن تنزعج قليلاً. ثمة آلاف من الناس يموتون في غزة وكل ما يهمك هو بعض من الأبواق في الصباح؟».

الرئيس السابق دونالد ترمب يتحدث عن احتجاجات الطلاب في الجامعات الأميركية قبيل دخوله إلى قاعة محكمة مانهاتن الاثنين (رويترز)

وتتضمّن لائحة هذه الجرائم التي أوردتها الرسالة الرسمية أن امرأةً ذات شعر أبيض غير تابعة للجامعة حملت يافطة كتب عليها «المقاومة مسموحة حيث يكون احتلال»، مع هاشتاغ «فيضان الأقصى»، وأن أحد المتظاهرين سرق علماً إسرائيلياً وعلماً أميركياً، وأن رئيس الشرطة التابعة للجامعة رفض الدخول إلى الخيم لاستردادهما، إضافة إلى أن تعليمات أرسلت لمهندسي الجامعة بإطفاء نظام الري الآلي للمساحة الخضراء حيث نصبت الخيم، «في ما يبدو أنه حرص على عدم إزعاج المحتجين».

خيمة رمزية... ومساءلة للاستثمارات

وفي 19 أبريل (نيسان)، وبعد 5 أيام من الاحتجاج، أُبرم اتفاق بين الطلاب والإدارة في نورثويسترن ينص على أن الجامعة ستسمح بالاحتجاجات السلمية شرط أن تبقى خيمة واحدة لا غير. وينص الاتفاق أيضاً على إعادة تشكيل اللجنة الاستشارية حول المسؤولية في الاستثمارات لتجيب عن أسئلة حول استثماراتها الحالية، وعلى استضافة أستاذين فلسطينيين لمدّة سنتين من خلال برنامج استضافة أكاديميين من بلدان النزاع استضاف أساتذة من أوكرانيا في السنتين الماضيتين. وأخيراً ينص الاتفاق على تأسيس بيت للطلاب المسلمين والشرق أوسطيين على غرار البيوت المخصصة لليهود والكاثوليك وغيرهم من الطلاب يستخدمونها في الصلاة ولمناسبات ثقافية واجتماعية.

نشطاء وطلاب يحتجون بالقرب من معسكر في ساحة الجامعة بجامعة جورج واشنطن، حيث انضم الناشطون الطلابيون إلى الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة التي بدأت معسكرات لدعوة جامعاتهم إلى سحب العلاقات المالية من إسرائيل( رويترز)

واتّهم الجمهوريون من أعضاء لجنة الكونغرس، رئيس جامعة نورثويسترن، بأنه استسلم للمتظاهرين وكافأهم بدعوته أساتذة فلسطينيين، وسألته ستيفانيك: «ماذا عن الأساتذة الإسرائيليين، هل ستدعوهم أيضاً؟». ووصفت رئيسة اللجنة فيرجينيا فوكس الاتفاق بـ«الجبان» لأنه رضخ لمطالب المحتجين، وطلبت من رئيس الجامعة التعهد بألا تقاطع الجامعة، إسرائيل، ولا تسحب استثماراتها منها، لأن هذا يعدُّ تسييساً لمسائل ماليّة وتقويضاً لسلطة إدارة الجامعة.

الأساتذة «الليبراليون» متهمون من الطرفين!

من جهة أخرى، رفض عدد من الطلّاب المتظاهرين بدورهم الاتفاق معتبرين أن الإدارة لم تتنازل قط فيما يخص الأمور الأساسية، أي المقاطعة وسحب الاستثمارات. فهي قبلت فقط أن تنشر معلومات حول استثماراتها، وبأن تكون أكثر شفافيةً ولكنها لم تتعهد بسحب أي استثمارات محددة. ورأوا في تأسيس بيت للمسلمين جائزة ترضية لا تستجيب للمطالب السياسية للاحتجاجات. ووصفت إحدى طالباتي، وهي من الهند، وكانت تقود الاحتجاجات، الانقسام بين طلاب حول هذه المسائل، وشرحت أن من صوّتوا لقبول الاتفاق، اعتبروا أنه يجنبهم تدخل قوى الأمن والملاحقة القانونية، كما حصل في جامعات أخرى، ومن رفضوه لم يكونوا من الطلاب الفلسطينيين أو العرب بل من الطلاب الأميركيين.

علم فلسطيني معلق على خيمة في مخيم الاحتجاج في جامعة تافتس بميدفورد بولاية ماساتشوستس... وتعد المظاهرات هي الأكثر شمولاً والأطول أمداً التي تهز حرم الجامعات الأميركية منذ احتجاجات حرب فيتنام في الستينات من القرن الماضي (أ.ف.ب)

ووصف هؤلاء الطلاب الأساتذة المكلّفين التواصل بينهم وبين الإدارة بـ«الليبراليين»، وهي كلمة أصبحت ذات دلالة سلبية لدى «الجيل z»، وعدّوهم «عملاء لإدارة الجامعة». وللعلم، فقد أمضى هؤلاء الأساتذة المدافعون عن حق الطلاب في التظاهر، ليلة طويلة في 19 أبريل الماضي محاولين إقناع طلابهم بقبول الاتفاق تجنباً لاستخدام القوة والعنف ضدهم ولإزالة الخيم في اليوم التالي، كما هددت إدارة الجامعة. وتقول أستاذة زميلة: «اعتبرنا الاتفاق أرضية للانطلاق منها وليس سقفاً نهائياً لعملنا».

والسؤال الأكثر تردداً خلال جلسة الاستماع في الكونغرس هو لماذا لم تطرد الجامعات الثلاث طلاباً أكثر وأساتذة أكثر. وكان هو السؤال الذي افتتحت به فوكس الجلسة. وأكّد الرؤساء أنّ عدداً من الطلّاب هم قيد التحقيق، وأنّ أشكال العقاب متنوّعة.

ووصف نائب جمهوري، أحد الأساتذة المدافعين عن المنطقة المحررة في جامعة نورثويسترن، دالاً عليه في صورة للمشهد عرضت خلال الجلسة، بأنّه «بلطجي». والأستاذ، هو ستيفن ثراشر، أستاذ الإعلام، ولم يعد إلى التعليم هذا الفصل، لأن الجامعة علّقت عمله إلى أن ينتهي التحقيق معه. وفي مقابلة له الشهر الماضي مع برنامج «Demcoracy Now» اليساري، قال ثراشر إنّ مبادئ العدالة الاجتماعية نفسها التي كان يطبّقها في ما يتعلّق بقضايا كالعنصرية والكوفيد والمثليين والإيدز، وكانت مصدر إشادة له، ممنوع عليه تطبيقها في ما يتعلّق بفلسطين.

وكذلك افتتحت جامعة كورنيل في نيويورك العام الدراسي بتعليق طالب دكتوراه من بريطانيا، وهو مسلم وأصله من غامبيا. أما جامعة موهلنبرغ في بنسلفانيا فأقالت أستاذة أنثروبولوجيا في شهر مايو (أيار) في أول إقالة لأستاذ من ملاك التعليم الجامعي بسبب دعم فلسطين.

مقاربة مارتن لوثر

في وقت اختتمت فوكس جلسة الكونغرس قائلة لرؤساء الجامعات إنها «متفاجئة بدرجة الازدراء التي عبّرتم عنها حيال اللجنة والطلاب اليهود»، ذكّر النائب الديمقراطي عن ولاية فرجينيا بوبي سكوت بمقاربة مارتن لوثر كينغ للنشاط السياسي، وهي مقاربة استوحاها كينغ من المهاتما غاندي وتقوم على ارتكاب مخالفات للقانون، ومن ثمّ القبول بعواقب ذلك، وهي بذلك تعدُّ مقاربة سلميّة. وأوضح سكوت أنها المقاربة نفسها التي تبنّاها الطلّاب في الجامعات. وقد وصفت طالبتي كيف أن المحتجين في نورثويسترن وزّعوا أنفسهم طوعاً إلى مجموعات مستعدة للتعرض للاعتقال ومجموعات أخرى من طلاب لا يسعون للمواجهة، واتفقوا على لون يرمز لكل مجموعة، وعلى لقب لكم منهم. وكانوا قد استوحوا هذا النوع من التنظيم من الطلاب في جامعة كولومبيا الذين شاركوا زملاءهم في كافة الجامعات الأميركية ملفات تفسّر طرق العمل التنظيمي.

جانب من الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأميركية (أ.ب)

وكان ترمب وصف حملة شرطة نيويورك على طلاب جامعة كولومبيا بأنّها «مشهد جميل»، وتعهّد بترحيل الطلاب الأجانب عند انتخابه. أمّا جيه دي فانس، الذي اختاره ترمب نائباً له في حملة ترشيحه للرئاسة، فكان قال خلال خطابه أمام مؤتمر الجمهوريين في يوليو (تمّوز) الماضي، «أنّ الأساتذة هم العدو»، وذلك نقلاً عن الرئيس الجمهوري الأسبق ريشارد نيكسون.

وكانت مجموعات طلّابيّة ومتموّلون ومراكز دراسات ومثقفون محافظون بدأوا بالتحرك رداً على تناقص قوّتهم بعد الحركات الاحتجاجية اليسارية المدافعة عن حقوق السود أواخر الستّينات. وتعاظم شأن هذا التيار مع وصول ترمب للسلطة رداً أيضاً على حركة «حياة السود مهمة» التي بدأت سنة 2020. وهذه المجموعات تتهم الجامعات، هي أيضاً، بـ«الليبرالية» وتعدُّ أنها تفتقر إلى تمثيل كافٍ من الأساتذة اليمينيين وأصحاب الأفكار المحافظة. وبدأت بالفعل بتمويل كليات مهنية كالطب والحقوق وإدارة الأعمال وأصبحت ترسخ نفوذها في الجامعات.

استثمارات الجامعات تصب في الأسلحة

أما استثمارات الجامعات فهي تصب، كاستثمارات منظمات عديدة أخرى في الولايات المتحدة، في شركات كـ«بوينغ» و«بلاكستون» و«جينيرال ديناميكس»، وهي شركات تمد إسرائيل بالأسلحة وبأشكال أخرى من الدعم. وتدار هذه الاستثمارات من خلال مكتب مخصص لها ومن خلال مجلس الأمناء ومجلس الأمناء هو الذي يعيّن رئيس الجامعة. فيصير رئيس الجامعة بذلك محكوماً باعتبارات مالية فيما هو أيضاً يدير الأهداف التعليمية للجامعة.

وقالت النائبة الديمقراطية عن ولاية ميشيغان، هايلي ستيفنز، خلال مداخلتها في جلسة الكونغرس: «إننا نعرف تكلفة الدخول إلى جامعاتكم، هي تكلفة لا تصدق. هذا ما علينا التركيز عليه، وليس هذا الجدل المصطنع عن العدالة بينما أنتم فعلياً تدّعونها فقط»، مشيرةً إلى موقف الجمهوريين في لجنة التربية العام الماضي حيال الموارد المخصصة لقضايا الصحة النفسية، وكيف صّوتوا جميعهم على حرمان الطلاب المثليين منها.

وفيما تستفيد الجامعات الحكومية في الولايات المتحدة من التمويل من الحكومة الفيدرالية، ومن الولاية نفسها، تستفيد الجامعات الخاصة كنورثويسترن، مثلها مثل الجامعات الحكومية، من تمويل تحت برنامج «Title VI»، وهو برنامج نشأ كجزء من قانون الحقوق المدنية سنة 1964، ويمنع التمييز في التعليم ويمنح دعماً لبرامج دراسة اللغات ولأقسام في علوم الإنسانيات تعنى بدراسة المناطق والثقافات حول العالم. وهذا البرنامج هو ما ذكره أعضاء الكونغرس كأساس لمحاسبتهم رؤساء الجامعات حول استخدامهم الأموال المحصلة من الضرائب التي يدفعها المواطنون الأميركيون وحول امتثالهم لقوانين منع التمييز على أساس الديانة.

الأساتذة يرفضون قمع الحريات

وجه فرع نورثويسترن للجمعية الأميركية للأساتذة الجامعيين رسالة للإدارة رفضاً للتغيير الذي أدخله رئيسها على قواعد سلوك الطلاب عقب بدء الحركة الاحتجاجية، عاداً في ذلك «تصعيداً دراماتيكياً في قمع حرية التعبير والبيئة الأكاديمية»، فيما دافع رئيس الجامعة تشيل عن سياسته ووصفها بـ«الحيادية». وحسب الأساتذة الموقعين على الرسالة لم يستشر الرئيس ممثلي الأساتذة واللجنة الاستشارية حول حرية التعبير والخطاب المؤسسي، والذي كان الرئيس نفسه شكّلها في شهر فبراير (شباط). وأتى تشكيل هذه اللجنة على أثر بدء تحقيق لجنة الكونغرس الأميركي في أحداث معاداة السامية. واعترض حوالي مائتي أستاذ على تركيزه على معاداة السامية دون ذكر ما يتعرض له الطلاب المسلمون والفلسطينيون والعرب من تنكيل أو ذكر العنف التي ترتكبه إسرائيل في غزة، وكانوا قد وجهوا رسالة إليه بهذا الصدد في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي.

وإثر دعوة رابطة مكافحة التشهير إلى إزاحة رئيس الجامعة من منصبه، وقّع الأساتذة في أوّل شهر مايو (أيار) رسالة أخرى رفعوها إلى أمناء الجامعة يعبرون فيها عن رفضهم تعيين رئيس جديد قد يتعامل مع الطلاب بعنف أكبر. وعدّت الجمعية الأميركية للأساتذة الجامعيين أنه يجب عدم إقالة أي رئيس جامعة من دون تصويت ممثلي الأساتذة.

وأصدر رئيس الجمعية بياناً في شهر أغسطس (آب) أدان فيه مشروع ترمب وفانس الذي يقضي بالتضييق على حرية التعبير في الجامعات وتقويض استقلاليتها، عاداً أنّ اللحظة الحالية حاسمة في ما يتعلّق بمستقبل التعليم العالي الذي يشكل أساس الديمقراطية الأميركية. الجامعات ليست العدو، العدو هم الفاشيون، يقول البيان ويضيف، حان وقت النضال.


مقالات ذات صلة

ماذا يحصل في غزة المنسية؟!

المشرق العربي مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - رويترز)

ماذا يحصل في غزة المنسية؟!

في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بأسره بالحرب على لبنان، وُضِعت قضية غزة على الرف برغم أن معاناتها مستمرة وتتفاقم.

نظير مجلي (تل أبيب)
العالم العربي إصابة سفينتين في هجومين قبالة سواحل اليمن تبناهما المتمردون الحوثيون (إ.ب.أ)

إصابة سفينتين قبالة اليمن في هجومين تبناهما الحوثيون

أفادت وكالة أمن بحري بريطانية بإصابة سفينتين في هجومين، الثلاثاء، قبالة سواحل اليمن، تبناهما المتمردون الحوثيون، مع تصاعد التوتر الإقليمي.

«الشرق الأوسط» (دبي)
المشرق العربي فلسطيني يحمل طفلة أصيبت بجروح خطيرة بعدما قصفت إسرائيل مخيماً للنازحين في خان يونس الثلاثاء (أ.ف.ب)

​عشرات الضحايا بغارات إسرائيلية على غزة

تواصلت المجازر الإسرائيلية في غزة حيث أودت غارات جوية بحياة عشرات الفلسطينيين.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
المشرق العربي أطفال وعائلات نازحة من الجنوب والضاحية يُقيمون عند أحد شواطئ بيروت (رويترز)

الأمم المتحدة تحذّر من «انهيار كارثي» في لبنان

قتلت الغارات الجويّة الإسرائيلية على لبنان، في يوم واحد، 23 سبتمبر (أيلول)، 569 شخصاً، وأصابت 1850 آخرين، فيهم 50 طفلاً و94 امرأة.

شؤون إقليمية رجل يسير بالقرب من المباني المتضررة في أعقاب الضربات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت (رويترز)

الجيش الإسرائيلي يطلب من سكان جنوب لبنان إخلاء نحو 30 بلدة

طلب الجيش الإسرائيلي، الثلاثاء، من سكان جنوب لبنان إخلاء نحو ثلاثين بلدة، وفقاً لما ذكره المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)

بن لادن استقبل مبعوث صدام حسين فارتبط غزو العراق بهجمات 11 سبتمبر

TT

بن لادن استقبل مبعوث صدام حسين فارتبط غزو العراق بهجمات 11 سبتمبر

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)
فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)

ما أخطر مهمة يمكن أن يقوم بها إنسان؟ إنها لقاء يعقده مبعوث رجل صعب اسمه صدام حسين مع رجل صعب مقيم في السودان اسمه أسامة بن لادن، وأن تعرف أجهزة جورج بوش الابن أن اللقاء قد عُقد.

لا مبالغة في القول إن ذلك اللقاء كان الذريعة الأهم التي استخدمتها واشنطن في تبرير غزو العراق مستفيدةً من المناخات التي سادت أميركا بعد الهجمات التي شنتها «القاعدة» بزعامة بن لادن في 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على واشنطن ونيويورك.

لم يكن هناك أصلاً أي مبرر كي يؤثر بن لادن على مصير صدام حسين. ينتمي الرجلان إلى قاموسين متباعدين. ثم إن صدام رئيس دولة عريقة في المنطقة وليس زعيم فصيل. وهو ابن حزب علماني، مما جعله يختار طارق عزيز المسيحي وزيراً لخارجية البلاد، الأمر الذي تعذر في أماكن أخرى. ثم إنه ليس من عادة صدام أن يتنازل للانخراط في لعبة لا يكون صاحب القرار فيها.

لكن خطأ القبول بموعد في الخرطوم جعل صدام يدفع ثمن الاتصال بأسامة بن لادن رغم أن اللقاء انتهى إلى فشل. ويقول أحد الذين عملوا في المخابرات العراقية في تلك الفترة إن القوات الأميركية التي غزت العراق استولت على وثيقة أعدَّتها المخابرات وتقول فيها إن المبعوث العراقي نصح بصرف النظر عن فكرة التعاون مع بن لادن، وهو ما حدث.

صدام مجتمعاً بأركان نظامه غداة اتهام جورج بوش له بالتعاون مع «القاعدة» (غيتي)

والواقع أن التسعينات السودانية كانت شديدة الخطورة. ارتكب فيها نظام الرئيس عمر البشير ثلاثة أخطاء كبيرة هي: استضافة زعيم «القاعدة»، واستضافة أشهر مطلوب دولي آنذاك وهو كارلوس الفنزويلي منفِّذ عملية احتجاز وزراء «أوبك»، وتداخل مع الخطأين ارتكاب كبير تمثَّل في ضلوع الرجل الثاني في النظام علي عثمان طه في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا.

لم يتوقف بن لادن طويلاً عند ما حدث في الخرطوم في أغسطس (آب) 1994. ففي ذلك الشهر جاءت وحدة كوماندوز فرنسية واعتقلت كارلوس واقتادته إلى فرنسا حيث يهرم الآن في سجنه. ولم يكن هناك ما يسمح بقيام تعاون بين كارلوس وبن لادن حتى ولو جمعهما العداء للغرب. جاء كارلوس من ينابيع مختلفة. من مناخات الحزب الشيوعي الفنزويلي وأطل على العالم على يد الدكتور وديع حداد، مسؤول «المجال الخارجي» في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». ولا مبالغة في القول إن حداد حوّل كارلوس نجماً ورمزاً قبل أن يفترق الرجلان في بداية 1976. نفَّذ كارلوس بعد ذلك التاريخ هجمات، لكن زمن لمعانه انقضى بعد مغادرته عباءة حداد.

أغلب الظن أن بن لادن لم يشعر بالقلق من احتمال أن يواجه مصير كارلوس. فهو جاء إلى السودان مع ثروته. ثم إن سلوكه الشخصي مختلف عن سلوك كارلوس الذي تستهويه مناخات الليالي الصاخبة حتى في مدينة محافظة. لكن بن لادن لم يتنبه إلى أن نظام عمر البشير وحسن الترابي قد يرضخ أيضاً للضغوط وينصحه ذات لحظة بالمغادرة.

بن لادن «مستثمراً»

ما قصة بن لادن مع السودان؟ سألت صديقاً مطلعاً أن يروي، فقال: «جاء أسامة بن لادن إلى السودان مرتين. كانت الأولى على ما أذكر في نهاية أغسطس (آب) 1988. كان السودان قد تعرض في تلك الفترة لسيول وفيضانات خلَّفت ضحايا وأضراراً واسعة في بلد معروف الإمكانات. كنت في زيارة شخصية رفيعة حين دخل شابان هما أسامة بن لادن وأخوه الأصغر».

صورة نادرة للبشير وبن لادن في سنوات السودان

يتذكر الرجل أن أسامة «قدم نفسه بوصفه صاحب شركة إنشاءات وتحدث بلغة هادئة. تطرق إلى ما أحدثته السيول معبِّراً عن تعاطفه مع البلد. شدد على أهمية أن تكون في بلاد واسعة كالسودان شبكة طرق جيدة نظراً لما لذلك من فوائد اقتصادية وتنموية، ولأن هذه الشبكة تسهل عمليات الإغاثة في حال حصول كوارث طبيعية. وأعرب في اللقاء عن استعداد المؤسسة التي يديرها للمساهمة في شق الطرق وفي بعض عمليات الإغاثة. تحدث الرجل بصورة طبيعية ولم يكن اسمه آنذاك معروفاً إلا في سياق المشاركة في الجهاد الأفغاني ضد السوفيات».

ويضيف الراوي: «بعد تحرير الكويت على يد تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة غادر بن لادن السعودية إلى السودان في 1991، وأعتقد أن ملفه صار هذه المرة في عهدة الأمن. اصطحب بن لادن معه إحدى زوجاته وأقام في محلة الرياض في الخرطوم في فيلا يملكها مغترب سوداني كان يعيش في السعودية اسمه عثمان سلمان. وكان سلمان مديراً لمصنع الشفاء الذي قصفته القوات الأميركية في 1998 في عهد الرئيس بيل كلينتون».

«الأفغان العرب» في السودان

طلب بن لادن من الجهات التي تتولى العلاقة معه السماح له باستقدام أفراد من مجموعته. في محلة سوبا الحلة التي تبعد 25 كيلومتراً عن الخرطوم. اشترى مزرعة كمزارع الباقير التي تبعد 60 كيلومتراً عن العاصمة والتي كانت تحتوي على عدد من العنابر. في محلة الرياض كان مع بن لادن سوري أصبح إماماً للمسجد القريب الذي كان بن لادن قليلاً ما يظهر فيه، وقد اعتُقل السوري المشار إليه لاحقاً في ألمانيا. في محلة سوبا الحلة لاحظ سكان أن شباناً بملامح غير أفريقية يركضون صباحاً في ما يشبه التدريبات وتبين لاحقاً أن هؤلاء من «الأفغان العرب».

منزل بن لادن في السودان (أرشيفية - الشرق الأوسط)

كانت لدى بن لادن شركة اسمها «وادي العقيق» تولت بناء مطار في بورتسودان وشق أكثر من طريق، بينها طريق الخرطوم-العيلفون. وعلاوة على ذلك كان بن لادن مولعاً بتربية الخيول التي كانت أيضاً محط اهتمام عدد من أبناء كبار الشخصيات البارزة، وبينهم عصام نجل الدكتور حسن الترابي.

كان سلوك أسامة بن لادن أقرب إلى الانطواء. لم يكن يظهر في مناسبات عامة. لكنَّ وجود «الأفغان العرب» بدأ يثير بعض الإشكالات. كان هناك مثلاً إسلامي ليبي اسمه محمد عبد الله الخليفي يدخل مع جماعة «أنصار السنة» في جدالات حادة. في فبراير (شباط) 1994، ذهب الخليفي إلى مسجد الشيخ أبو زيد في الخرطوم وسحب رشاشه وقتل 20 شخصاً من «أنصار السنة». توجه بعدها مع رفاق له إلى منزل بن لادن وتبادل إطلاق النار مع حراس المنزل. بعد اعتقاله تبين أنه كان ينوي أيضاً اغتيال بن لادن والدكتور الترابي.

زار الراوي بن لادن وسأله إن كان يعرف هؤلاء فقال إنه كان يتعرف عليهم في مرحلة الجهاد ضد السوفيات في أفغانستان. وأضاف بابتسامة أن هؤلاء كانوا مولعين بمسألة التكفير. يُكفِّرون الحاكم ثم الجماعة ويُكفِّرون حتى أنفسهم.

كان أسامة بن لادن مستقراً في السودان. تردد لاحقاً وعلى لسان مسؤولين بارزين بينهم الترابي أن جهاز الأمن السوداني عرض ذات يوم على الجانب الأميركي تسليمه بن لادن لكنه رفض بسبب عدم وجود أسباب لمحاكمته في الولايات المتحدة. لكنَّ زلزالاً مفاجئاً سيغير المشهد السوداني لجهة علاقته بـ«الأفغان العرب».

محاولة اغتيال مبارك

في 26 يونيو (حزيران) 1995، نجا الرئيس حسني مبارك من محاولة اغتيال استهدفته في أديس أبابا خلال مشاركته في القمة الأفريقية. أثار الحادث ردود فعل عربية وإسلامية ودولية خصوصاً بعدما ألمح مبارك نفسه إلى احتمال علاقة «الجبهة الإسلامية» التي يتزعمها الترابي بالحادث.

سيارة المسلحين الذين حاولوا اغتيال مبارك في أديس أبابا (أ.ف.ب)

وقع فشل المحاولة كالصاعقة على النظام السوداني بعدما لاحت في الأفق بوادر عقوبات دولية عليه. الرجل الذي أُصيب بالذعر هو الرجل الثاني في النظام، أي نائب الرئيس، علي عثمان طه، وهو كان «الرجل القوي» في عهد البشير. كان الرجل ضالعاً في المحاولة مع كبار المسؤولين في جهاز الأمن. وقد أوكل التنفيذ إلى «الجماعة الإسلامية» المصرية بزعامة مصطفى حمزة الذي نجح في الفرار من السودان بعد الهجوم الذي أدى إلى مقتل خمسة من المهاجمين.

خروج بن لادن

لم يكن أمام النظام غير السعي إلى محاولة خفض الأضرار والأخطار. أقال البشير كبار مسؤولي جهاز الأمن وتقرر تسفير «الأفغان العرب». وذات يوم جاء البشير ونائبه إلى مكتب الترابي وأبلغاه بأن ترتيبات مغادرة أسامة بن لادن قد أُنجزت. وزار الرجلان بن لادن في مقر إقامته، ثم تولت طائرة عسكرية نقله إلى أفغانستان.

البشير ونائبه أمام القضاء بعد إطاحتهما (أ.ف.ب)

احتضنت حركة «طالبان» زعيم «القاعدة» ووفَّرت له الملجأ الآمن. لم يكن الملا عمر يتوقع أن يكون هذا الزائر سبباً في سقوط نظامه. في أواخر التسعينات كان السؤال عن بن لادن طبيعياً حين يلتقي صحافي مسؤولاً سودانياً. سألت الرئيس عمر البشير فأجاب: «جاء بن لادن إلى السودان في أعقاب الحرب الأفغانية من مدخل الاستثمار في مجال الطرق والمطارات والزراعة، وهي مجالات ظل يعمل فيها وتعمل فيها شركات تابعة لأسرته منذ أمد طويل، وليس له أتباع أو شبكات تنبت بهذا المعنى في السودان سوى مجموعة قليلة من مساعديه ظلت دائماً حوله. ظل هؤلاء بعيدين عن الإعلام وأجهزته على أي مستوى، بل لم يشاركوا حتى في مناسبات ونشاط المجتمع العادي. لكنَّ أميركا جعلت منه بعبعاً ترى صورته في كل مكان وحتى بعد أن خرج من السودان وهي تعلم جيداً أنه يعيش في شبه عزلة في بلد بعيد، لكنَّ هواجسها تغلب معلوماتها».

كلام البشير لا يُلغي أنه التقى الرجل مرات عدة في أثناء وجوده في الخرطوم ويصعب الاعتقاد أن الرئيس كان غير مطلع على علاقة حلقة في جهاز الأمن السوداني ببن لادن و«مزارعه».

وكان من الطبيعي أن أسأل الترابي نفسه، فقال: «نعم، قام بيني وبينه حوار محدود، فهو كان يبني في السودان طرقاً ومطارات وهو من أسرة تعمل في هذا المجال. لم يكن رجلاً يدخل في الساحات الفكرية والصحافية، ولم يُكتب عنه في الصحافة ولم يُرَ يوماً فيها. تحدثت معه عن أفغانستان وعن أننا كنا نخشى أن يترك الروس وراءهم بعد خروجهم منها أناساً ثوريين تمرَّسوا في تخريب (الباطل والاستبداد الأجنبي) ولكنهم لم يتمرنوا على أي شيء آخر فيحدث لهم ما حدث للثورة الفرنسية وكل الثورات الأخرى. قلت له إنني كنت أتحدث مع الإخوة في أفغانستان قبل سقوط كابل وكيف يجب أن يُحضِّروا لما بعد تحرير البلاد. وحدَّثته أن كابل سقطت قبل أن يتهيأوا لذلك ولم يكن لديهم بعد استعداد لإقامة مجتمع مسلم على مثالهم».

حسن الترابي (أ.ف.ب)

ورداً على سؤال عن الجهات التي طالبت بخروج بن لادن من السودان، قال الترابي: «جاء خروجه بطلب من البريطانيين نيابةً عن الأميركيين. المملكة العربية السعودية لم توجه ضغطاً مباشراً على السودان وهي لطيفة أصلاً. هو شعر بأن وجوده يُحرج العلاقات بين السودان والسعودية، والبَلدان تربطهما علاقات وثيقة جداً. العلاقات طيبة جداً ومن السودانيين نحو نصف مليون مواطن يعملون في السعودية ولم يطردوا واحداً منهم، وبن لادن لم يكن يريد أن يُحرج هذه العلاقات».

أفغانستان والمرحلة الأخطر

عاد أسامة بن لادن إلى أفغانستان لتبدأ المرحلة الأخطر في تجربته. بعد شهور من عودته سيطرت حركة «طالبان» على أفغانستان وعدّته ضيفاً عليها. بعد عامين فقط دوت تفجيرات في سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا، ووجهت واشنطن أصابع الاتهام إلى زعيم «القاعدة» المتحصن في أفغانستان، وتكرر الأمر نفسه بعد الهجوم الذي استهدف المدمرة «كول» الراسية في ميناء عدن. أصدر بن لادن في تلك الفترة بيانات توحي بأنه أطلق الحرب على الولايات المتحدة، لكن لم يتوقع أحد أن ينقل الحرب إلى أراضيها، وهو ما حدث في 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

حين حاول الرئيس جورج بوش الابن تبرير قراره بغزو العراق، أورد جملة اتهامات ضد نظام صدام تشمل أسلحة الدمار الشامل والقمع والمقابر الجماعية وانتهاك القرارات الدولية. لكنَّ التهمة التي استوقفت كثيرين كانت كلام بوش عن تعاون نظام صدام مع «القاعدة». لم تقدم الإدارة الأميركية دليلاً على تعاون من هذا النوع وظل الحديث عن علاقة بين نظام صدام و«القاعدة» مجرد تهمة لم يتقدم مَن يثبتها أو يقدم الدليل عليها.

قصة محاولات التواصل

أسوةً بصحافيين كثيرين أثار موضوع الاتصال بين صدام وبن لادن فضولي، فرُحتُ أسأل عنه. لم أعثر على جواب لدى معارضي صدام ولا لدى بعض الذين عملوا معه آنذاك. وكان لا بد من محاولة الوصول إلى «الصندوق الأسود» الحقيقي، أي إلى ذاكرة المخابرات العراقية في تلك الفترة. وافق رئيس شعبة أميركا في المخابرات، سالم الجميلي، على التحدث، وشاءت الصدفة أن يكون وراء المحاولة الأولى للاتصال بزعيم «القاعدة».

قبل الغزو العراقي للكويت كانت العلاقات بين العراق والسعودية طبيعية وإيجابية. وقَّع البلدان اتفاقية أمنية تحظر التدخل في الشؤون الداخلية وتوقف نشاطات الأجهزة الاستخباراتية على أرض الدولة الأخرى إلا في حدود النشاط العادي للسفارات. وكان صدام حسين يتحدث بإيجابية عن السعودية ووقوفها إلى جانب العراق في الأيام الصعبة وكان يشيد بالملك فهد بن عبد العزيز واحترامه الروابط بين البلدين وعدم امتناعه عن تقديم أي دعم ممكن إبان الحرب العراقية - الإيرانية. وروى أحد الذين عملوا في قصر الرئاسة العراقي أن الملك فهد بذل جهوداً حثيثة في الساعات التي أعقبت بدء الغزو لتدارك الموقف وإعادة الأمر إلى طاولة المفاوضات، لكنَّ صدام كان ذهب بعيداً.

أدت الأزمة عملياً إلى سقوط الاتفاقية الأمنية والتزاماتها. حين بدأت تتوارد أخبار عن اتصالات تُجريها المعارضة العراقية مع السعودية، كتبت المخابرات إلى الرئيس تقترح إلغاء الاتفاقية الأمنية مع السعودية لكنه رفض. وعندما كررت المخابرات حديثاً عن الاتصالات بين المعارضة العراقية والرياض، طلب صدام تزويده بتقرير شهري عن هذا الموضوع. وفي وقت لاحق استنتج صدام أن السعودية بدأت تدعم فكرة تغيير نظامه فأصدر توجيهاً إلى المخابرات بـ«العمل بكل قوة خصوصاً لتقويض الوجود العسكري الأميركي في السعودية».

سالم الجميلي (الشرق الأوسط)

قال الجميلي: «حين يصدر توجيه من هذا النوع من الرئيس شخصياً، فعلى كل الأجهزة الأمنية أن تبحث عن كل الأوراق التي يمكن أن تسهم في تنفيذه. كنت في ذلك الوقت مسؤولاً عن شعبة سوريا في الجهاز، وكانت لدينا علاقات مع جماعة الإخوان المسلمين في سوريا - جناح عدنان عقلة. أرسل عبد الملك شقيق عدنان أن لدى الإخوان علاقات مع بن لادن وأنهم على استعداد لإيصال رسالتنا إليه. استدعيته واستقبلته في أحد فنادق بغداد فأكد استعداده للقيام بهذا الدور. حمّلته رسالة شفوية فحواها أن لدينا الآن هدفاً مشتركاً وهو إخراج القوات الأميركية من المنطقة، وأننا يمكن أن نتعاون في هذا المضمار. أعطيناه نفقات السفر وكانت في حدود 10 آلاف دولار».

وأضاف: «عاد الرجل بعد شهر أو أكثر قليلاً. أبلغنا بأن موقف بن لادن كان متشدداً جداً وأنه كرر مرات عدة أن النظام في العراق كافر وهو الذي تسبب في مجيء القوات الأميركية إلى المنطقة، وأنْ لا مجال لأي لقاء مع ممثليه أو التعاون معه. نحن نتحدث عن السنوات الأولى من التسعينات ولم تكن هناك عمليات لتنظيم (القاعدة) من قماشة 11 سبتمبر. وسمعت يومها من مدير (العمليات الخارجية) في الجهاز فاروق حجازي أن رداً مشابهاً من بن لادن جاء عبر قناة أخرى».

لقاء بن لادن ومسؤول مخابرات صدام

فهم الجميلي لاحقاً أن حجازي زار الخرطوم والتقى بن لادن بعد وساطة قام بها سياسي ورجل دين سوداني هو الدكتور حسن الترابي. ويقول: «أطلع حجازي الرئيس على ما جرى ولم يحدث أي تعاون مع (القاعدة). وهذا ما قصده جورج بوش الابن حين قال إن الرئيس أرسل مبعوثاً إلى بن لادن. أعتقد أنه كان يعرف أنه لم يحصل أي تعاون، لكنه امتنع عن ذكر ذلك لتبرير الغزو».

مصدر آخر رفض الكشف عن اسمه قال إن بن لادن أظهر في لقائه مع حجازي «شيئاً من المرونة بالنسبة إلى موقفه من نظام البعث العراقي». وأضاف أن بن لادن «طالب في حال التعاون أن تكون له معسكرات تقام تماماً خارج سلطة الدولة العراقية، وأن يمتلك حرية تحديد الأهداف والتوقيت». وأشار إلى أن «صدام سأل حجازي عن موقفه فردَّ بأن إدارة جماعة بن لادن لن تكون سهلة، وأن ثمن التعاون معه سيكون بالغ الخطورة. فطلب صدام من حجازي طي الموضوع نهائياً».

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)

نهاية المعنيين بذلك الموعد الخطر معروفة. التفَّ حبل الإعدام حول عنق صدام حسين. وأعدمت السلطات العراقية فاروق حجازي الذي لجأ إلى سوريا بعد سقوط نظام صدام لكنه أُرغم على التوجه إلى الحدود السورية - العراقية، حيث اعتُقل. وطاردت القوات الأميركية أسامة بن لادن حتى تمكنت منه وقتلته في باكستان.

تقع المدن أحياناً في إغراء التهور وتكلِّف نفسها على يد مغامرين ما يفوق طاقتها ثم ترتطم بالواقع وبالعالم. دفعت الخرطوم ثمن استقبال المطلوبين وعوقبت قبل أن تحاول خفض الأضرار وتغيير اتجاه البوصلة. هناك من يقول إن خرطوم البشير حلمت أن تكون عاصمة أعداء الغرب، وإن الترابي حلم بأن يكون مرجع حركات الإسلام السياسي في تكرار لتجربة الخميني. كلّف الرجلان السودان ما يفوق طاقته.