هل فعلاً أصبحت الجامعات في أميركا «هي العدو»؟

عام دراسي انطلق بمنع التظاهر وتدريبات إلزامية حول «معاداة السامية»

شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
TT

هل فعلاً أصبحت الجامعات في أميركا «هي العدو»؟

شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)

انطلق العام الدراسي الحالي في جامعة نورثويسترن، حيث كنت أدرّس حتى السنة الماضية، بإعلانات من قبل الإدارة عن قوانين وقواعد جامعية جديدة تم وضعها خلال عطلة الصيف، وتهدف إلى منع تكرار الاحتجاجات الطلابية التي حصلت في الربيع الماضي رفضاً للحرب الإسرائيلية على غزة. وجامعة نورثويسترن جامعة خاصة تقع في ولاية إلينوي وهي من الجامعات الأميركية العريقة. وقد افتتح رئيس الجامعة مايكل تشيل العام الدراسي برسالة إلكترونية إلى أعضاء الهيئة التدريسية والطلاب كتب فيها أن حرية التعبير في الجامعات على أهميّتها «لا يمكن استخدامها حجة لتصرّفات تهدّد جوهر مهمة الجامعة وهو التنوير والمعرفة».

وأعلن الرئيس في رسالته عن تدريبات إلزامية لكل الطلاب، وكذلك الأساتذة والإداريين، حول موضوع «معاداة السامية وأشكال أخرى من الكراهية». ثم أرسلت عميدة الجامعة بدورها رسالة تفصّل فيها القواعد الجديدة، ومنها منع المظاهرات في أوقات انعقاد الصفوف والحلقات الدراسية الليلية، ومنع استعمال مكبّرات الصوت قبل الساعة الخامسة مساء، ومنع الخيم وحصر الملصقات بأماكن معيّنة من حرم الجامعة. وتم توسيع القوانين المتعلّقة بالملكية لتشمل أي مس بأملاك الجامعة. كذلك أدخلت الإدارة تعديلات على ما يعدُّ «تخويفاً أو ترهيباً» ليشمل أي تصرّفات «تؤثر بصورة كبيرة على قدرة أشخاص أو مجموعات على التعلّم، والعمل، أو العيش في بيئة الجامعة».

«كيف نحمي الطلاب من التشدّد في القوانين الجديدة التي تبنّتها جامعات أميركية مختلفة» كان موضع نقاش بين الأساتذة خلال المؤتمر السنوي للجمعية الأميركية للعلوم السياسية في سبتمبر (أيلول) الماضي في فيلادلفيا. واقترح زملاء في جامعة بارنارد في نيويورك مقاطعة تصحيح الامتحانات كنوع من المعارضة ضد التضييق على حرية الطلاب في التعبير.

ضباط شرطة نيويورك عند الأسوار خارج جامعة كولومبيا، السبت 27 أبريل 2024، في نيويورك. بينما يستمر الطلاب المحتجون على الحرب بين إسرائيل وحماس في مواصلة مظاهراتهم في حرم الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة ( ا.ب)

استجواب في الكونغرس

رئيس جامعة نورثويسترن هو واحد من ثلاثة رؤساء جامعات مثلوا في جلسة للكونغرس الأميركي دعتهم إليها لجنة التربية والقوى العاملة برئاسة فيرجينيا فوكس من الحزب الجمهوري عن ولاية كارولاينا الشمالية أواخر شهر مايو (أيار) الماضي. وتلك هي الجلسة الثالثة التي تعقدها اللجنة لاستجواب رؤساء جامعات أميركية حول ما عدته ارتفاعاً في موجة معاداة السامية في حرم الجامعات الأميركية وسوء تعامل هؤلاء الرؤساء معها.

«حصلتِ على علامة F» (أي راسب)، قالت عضوة الكونغرس الجمهورية إليز ستيفانيك التي تمثل ولاية نيويورك، لرئيس جامعة نورثويسترن وقتها. وسبق لرابطة مكافحة التشهير (Anti-Defamation League)، وهي منظمة غير حكومية، مركزها نيويورك، تعنى بمحاربة المعاداة للسامية وتدعم إسرائيل أن منح علامة الرسوب لجامعة نورثويسترن في أبريل (نيسان) الماضي بسبب الاحتجاجات التي شهدتها الجامعة ضد الحرب على غزة، والتي عدتها المنظمة معادية للسامية لما فيها من شعارات تدعم الانتفاضة وتنتقد الصهيونية، وانتهت باتفاق بين إدارة الجامعة والطلاب، وهو ما عدته الرابطة بمثابة «مكافأة» للمحتجين.

ودعت اللجنة كذلك إلى إزالة الرئيس من منصبه. وقالت فوكس في جلسة الاستماع: «وردتنا تقارير عن أعمال عنف مروعة ومضايقات للطلاب اليهود في حرم جامعتكم». وكانت اللجنة بعثت برسالة إلى رئيس الجامعة ورئيس مجلس أمنائها تفصّل فيها الأحداث التي دفعتها إلى إرسال الدعوة للمثول أمامها، وعلى رأسها قبول إدارة الجامعة بتنازلات لإنهاء الاحتجاج بدلاً من استخدام القوة لنزع الخيم التي نصبها الطّلاب المعارضون. وحسب الاتهامات كان موقع الخيم، المعروف بـ«المنطقة المحرّرة»، مسرحاً لجرائم وأحداث معادية للسامية. وارتكزت الأدلّة في الرسالة على تقارير طلاب يهود أفراد عن مواقف عدوها معادية لهم كيهود. فضمن اللائحة مثلاً أن طالباً يهودياً تعرّض لمضايقات عند وقوفه أمام الخيم شارحاً لعميد الطلاب مخاوفه من الاحتجاج. فوقف طالب كان جالساً إلى جانبه وصار يقول له، حسب الرسالة نفسها: «أنت تقرفني. هل تظن أن انزعاجك الصغير من المظاهرة يهمّني؟ هذا هو هدف الاحتجاج، الهدف هو أن تنزعج قليلاً. ثمة آلاف من الناس يموتون في غزة وكل ما يهمك هو بعض من الأبواق في الصباح؟».

الرئيس السابق دونالد ترمب يتحدث عن احتجاجات الطلاب في الجامعات الأميركية قبيل دخوله إلى قاعة محكمة مانهاتن الاثنين (رويترز)

وتتضمّن لائحة هذه الجرائم التي أوردتها الرسالة الرسمية أن امرأةً ذات شعر أبيض غير تابعة للجامعة حملت يافطة كتب عليها «المقاومة مسموحة حيث يكون احتلال»، مع هاشتاغ «فيضان الأقصى»، وأن أحد المتظاهرين سرق علماً إسرائيلياً وعلماً أميركياً، وأن رئيس الشرطة التابعة للجامعة رفض الدخول إلى الخيم لاستردادهما، إضافة إلى أن تعليمات أرسلت لمهندسي الجامعة بإطفاء نظام الري الآلي للمساحة الخضراء حيث نصبت الخيم، «في ما يبدو أنه حرص على عدم إزعاج المحتجين».

خيمة رمزية... ومساءلة للاستثمارات

وفي 19 أبريل (نيسان)، وبعد 5 أيام من الاحتجاج، أُبرم اتفاق بين الطلاب والإدارة في نورثويسترن ينص على أن الجامعة ستسمح بالاحتجاجات السلمية شرط أن تبقى خيمة واحدة لا غير. وينص الاتفاق أيضاً على إعادة تشكيل اللجنة الاستشارية حول المسؤولية في الاستثمارات لتجيب عن أسئلة حول استثماراتها الحالية، وعلى استضافة أستاذين فلسطينيين لمدّة سنتين من خلال برنامج استضافة أكاديميين من بلدان النزاع استضاف أساتذة من أوكرانيا في السنتين الماضيتين. وأخيراً ينص الاتفاق على تأسيس بيت للطلاب المسلمين والشرق أوسطيين على غرار البيوت المخصصة لليهود والكاثوليك وغيرهم من الطلاب يستخدمونها في الصلاة ولمناسبات ثقافية واجتماعية.

نشطاء وطلاب يحتجون بالقرب من معسكر في ساحة الجامعة بجامعة جورج واشنطن، حيث انضم الناشطون الطلابيون إلى الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة التي بدأت معسكرات لدعوة جامعاتهم إلى سحب العلاقات المالية من إسرائيل( رويترز)

واتّهم الجمهوريون من أعضاء لجنة الكونغرس، رئيس جامعة نورثويسترن، بأنه استسلم للمتظاهرين وكافأهم بدعوته أساتذة فلسطينيين، وسألته ستيفانيك: «ماذا عن الأساتذة الإسرائيليين، هل ستدعوهم أيضاً؟». ووصفت رئيسة اللجنة فيرجينيا فوكس الاتفاق بـ«الجبان» لأنه رضخ لمطالب المحتجين، وطلبت من رئيس الجامعة التعهد بألا تقاطع الجامعة، إسرائيل، ولا تسحب استثماراتها منها، لأن هذا يعدُّ تسييساً لمسائل ماليّة وتقويضاً لسلطة إدارة الجامعة.

الأساتذة «الليبراليون» متهمون من الطرفين!

من جهة أخرى، رفض عدد من الطلّاب المتظاهرين بدورهم الاتفاق معتبرين أن الإدارة لم تتنازل قط فيما يخص الأمور الأساسية، أي المقاطعة وسحب الاستثمارات. فهي قبلت فقط أن تنشر معلومات حول استثماراتها، وبأن تكون أكثر شفافيةً ولكنها لم تتعهد بسحب أي استثمارات محددة. ورأوا في تأسيس بيت للمسلمين جائزة ترضية لا تستجيب للمطالب السياسية للاحتجاجات. ووصفت إحدى طالباتي، وهي من الهند، وكانت تقود الاحتجاجات، الانقسام بين طلاب حول هذه المسائل، وشرحت أن من صوّتوا لقبول الاتفاق، اعتبروا أنه يجنبهم تدخل قوى الأمن والملاحقة القانونية، كما حصل في جامعات أخرى، ومن رفضوه لم يكونوا من الطلاب الفلسطينيين أو العرب بل من الطلاب الأميركيين.

علم فلسطيني معلق على خيمة في مخيم الاحتجاج في جامعة تافتس بميدفورد بولاية ماساتشوستس... وتعد المظاهرات هي الأكثر شمولاً والأطول أمداً التي تهز حرم الجامعات الأميركية منذ احتجاجات حرب فيتنام في الستينات من القرن الماضي (أ.ف.ب)

ووصف هؤلاء الطلاب الأساتذة المكلّفين التواصل بينهم وبين الإدارة بـ«الليبراليين»، وهي كلمة أصبحت ذات دلالة سلبية لدى «الجيل z»، وعدّوهم «عملاء لإدارة الجامعة». وللعلم، فقد أمضى هؤلاء الأساتذة المدافعون عن حق الطلاب في التظاهر، ليلة طويلة في 19 أبريل الماضي محاولين إقناع طلابهم بقبول الاتفاق تجنباً لاستخدام القوة والعنف ضدهم ولإزالة الخيم في اليوم التالي، كما هددت إدارة الجامعة. وتقول أستاذة زميلة: «اعتبرنا الاتفاق أرضية للانطلاق منها وليس سقفاً نهائياً لعملنا».

والسؤال الأكثر تردداً خلال جلسة الاستماع في الكونغرس هو لماذا لم تطرد الجامعات الثلاث طلاباً أكثر وأساتذة أكثر. وكان هو السؤال الذي افتتحت به فوكس الجلسة. وأكّد الرؤساء أنّ عدداً من الطلّاب هم قيد التحقيق، وأنّ أشكال العقاب متنوّعة.

ووصف نائب جمهوري، أحد الأساتذة المدافعين عن المنطقة المحررة في جامعة نورثويسترن، دالاً عليه في صورة للمشهد عرضت خلال الجلسة، بأنّه «بلطجي». والأستاذ، هو ستيفن ثراشر، أستاذ الإعلام، ولم يعد إلى التعليم هذا الفصل، لأن الجامعة علّقت عمله إلى أن ينتهي التحقيق معه. وفي مقابلة له الشهر الماضي مع برنامج «Demcoracy Now» اليساري، قال ثراشر إنّ مبادئ العدالة الاجتماعية نفسها التي كان يطبّقها في ما يتعلّق بقضايا كالعنصرية والكوفيد والمثليين والإيدز، وكانت مصدر إشادة له، ممنوع عليه تطبيقها في ما يتعلّق بفلسطين.

وكذلك افتتحت جامعة كورنيل في نيويورك العام الدراسي بتعليق طالب دكتوراه من بريطانيا، وهو مسلم وأصله من غامبيا. أما جامعة موهلنبرغ في بنسلفانيا فأقالت أستاذة أنثروبولوجيا في شهر مايو (أيار) في أول إقالة لأستاذ من ملاك التعليم الجامعي بسبب دعم فلسطين.

مقاربة مارتن لوثر

في وقت اختتمت فوكس جلسة الكونغرس قائلة لرؤساء الجامعات إنها «متفاجئة بدرجة الازدراء التي عبّرتم عنها حيال اللجنة والطلاب اليهود»، ذكّر النائب الديمقراطي عن ولاية فرجينيا بوبي سكوت بمقاربة مارتن لوثر كينغ للنشاط السياسي، وهي مقاربة استوحاها كينغ من المهاتما غاندي وتقوم على ارتكاب مخالفات للقانون، ومن ثمّ القبول بعواقب ذلك، وهي بذلك تعدُّ مقاربة سلميّة. وأوضح سكوت أنها المقاربة نفسها التي تبنّاها الطلّاب في الجامعات. وقد وصفت طالبتي كيف أن المحتجين في نورثويسترن وزّعوا أنفسهم طوعاً إلى مجموعات مستعدة للتعرض للاعتقال ومجموعات أخرى من طلاب لا يسعون للمواجهة، واتفقوا على لون يرمز لكل مجموعة، وعلى لقب لكم منهم. وكانوا قد استوحوا هذا النوع من التنظيم من الطلاب في جامعة كولومبيا الذين شاركوا زملاءهم في كافة الجامعات الأميركية ملفات تفسّر طرق العمل التنظيمي.

جانب من الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأميركية (أ.ب)

وكان ترمب وصف حملة شرطة نيويورك على طلاب جامعة كولومبيا بأنّها «مشهد جميل»، وتعهّد بترحيل الطلاب الأجانب عند انتخابه. أمّا جيه دي فانس، الذي اختاره ترمب نائباً له في حملة ترشيحه للرئاسة، فكان قال خلال خطابه أمام مؤتمر الجمهوريين في يوليو (تمّوز) الماضي، «أنّ الأساتذة هم العدو»، وذلك نقلاً عن الرئيس الجمهوري الأسبق ريشارد نيكسون.

وكانت مجموعات طلّابيّة ومتموّلون ومراكز دراسات ومثقفون محافظون بدأوا بالتحرك رداً على تناقص قوّتهم بعد الحركات الاحتجاجية اليسارية المدافعة عن حقوق السود أواخر الستّينات. وتعاظم شأن هذا التيار مع وصول ترمب للسلطة رداً أيضاً على حركة «حياة السود مهمة» التي بدأت سنة 2020. وهذه المجموعات تتهم الجامعات، هي أيضاً، بـ«الليبرالية» وتعدُّ أنها تفتقر إلى تمثيل كافٍ من الأساتذة اليمينيين وأصحاب الأفكار المحافظة. وبدأت بالفعل بتمويل كليات مهنية كالطب والحقوق وإدارة الأعمال وأصبحت ترسخ نفوذها في الجامعات.

استثمارات الجامعات تصب في الأسلحة

أما استثمارات الجامعات فهي تصب، كاستثمارات منظمات عديدة أخرى في الولايات المتحدة، في شركات كـ«بوينغ» و«بلاكستون» و«جينيرال ديناميكس»، وهي شركات تمد إسرائيل بالأسلحة وبأشكال أخرى من الدعم. وتدار هذه الاستثمارات من خلال مكتب مخصص لها ومن خلال مجلس الأمناء ومجلس الأمناء هو الذي يعيّن رئيس الجامعة. فيصير رئيس الجامعة بذلك محكوماً باعتبارات مالية فيما هو أيضاً يدير الأهداف التعليمية للجامعة.

وقالت النائبة الديمقراطية عن ولاية ميشيغان، هايلي ستيفنز، خلال مداخلتها في جلسة الكونغرس: «إننا نعرف تكلفة الدخول إلى جامعاتكم، هي تكلفة لا تصدق. هذا ما علينا التركيز عليه، وليس هذا الجدل المصطنع عن العدالة بينما أنتم فعلياً تدّعونها فقط»، مشيرةً إلى موقف الجمهوريين في لجنة التربية العام الماضي حيال الموارد المخصصة لقضايا الصحة النفسية، وكيف صّوتوا جميعهم على حرمان الطلاب المثليين منها.

وفيما تستفيد الجامعات الحكومية في الولايات المتحدة من التمويل من الحكومة الفيدرالية، ومن الولاية نفسها، تستفيد الجامعات الخاصة كنورثويسترن، مثلها مثل الجامعات الحكومية، من تمويل تحت برنامج «Title VI»، وهو برنامج نشأ كجزء من قانون الحقوق المدنية سنة 1964، ويمنع التمييز في التعليم ويمنح دعماً لبرامج دراسة اللغات ولأقسام في علوم الإنسانيات تعنى بدراسة المناطق والثقافات حول العالم. وهذا البرنامج هو ما ذكره أعضاء الكونغرس كأساس لمحاسبتهم رؤساء الجامعات حول استخدامهم الأموال المحصلة من الضرائب التي يدفعها المواطنون الأميركيون وحول امتثالهم لقوانين منع التمييز على أساس الديانة.

الأساتذة يرفضون قمع الحريات

وجه فرع نورثويسترن للجمعية الأميركية للأساتذة الجامعيين رسالة للإدارة رفضاً للتغيير الذي أدخله رئيسها على قواعد سلوك الطلاب عقب بدء الحركة الاحتجاجية، عاداً في ذلك «تصعيداً دراماتيكياً في قمع حرية التعبير والبيئة الأكاديمية»، فيما دافع رئيس الجامعة تشيل عن سياسته ووصفها بـ«الحيادية». وحسب الأساتذة الموقعين على الرسالة لم يستشر الرئيس ممثلي الأساتذة واللجنة الاستشارية حول حرية التعبير والخطاب المؤسسي، والذي كان الرئيس نفسه شكّلها في شهر فبراير (شباط). وأتى تشكيل هذه اللجنة على أثر بدء تحقيق لجنة الكونغرس الأميركي في أحداث معاداة السامية. واعترض حوالي مائتي أستاذ على تركيزه على معاداة السامية دون ذكر ما يتعرض له الطلاب المسلمون والفلسطينيون والعرب من تنكيل أو ذكر العنف التي ترتكبه إسرائيل في غزة، وكانوا قد وجهوا رسالة إليه بهذا الصدد في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي.

وإثر دعوة رابطة مكافحة التشهير إلى إزاحة رئيس الجامعة من منصبه، وقّع الأساتذة في أوّل شهر مايو (أيار) رسالة أخرى رفعوها إلى أمناء الجامعة يعبرون فيها عن رفضهم تعيين رئيس جديد قد يتعامل مع الطلاب بعنف أكبر. وعدّت الجمعية الأميركية للأساتذة الجامعيين أنه يجب عدم إقالة أي رئيس جامعة من دون تصويت ممثلي الأساتذة.

وأصدر رئيس الجمعية بياناً في شهر أغسطس (آب) أدان فيه مشروع ترمب وفانس الذي يقضي بالتضييق على حرية التعبير في الجامعات وتقويض استقلاليتها، عاداً أنّ اللحظة الحالية حاسمة في ما يتعلّق بمستقبل التعليم العالي الذي يشكل أساس الديمقراطية الأميركية. الجامعات ليست العدو، العدو هم الفاشيون، يقول البيان ويضيف، حان وقت النضال.


مقالات ذات صلة

الشتاء يضرب غزة... ووفاة رضيعة بسبب البرد القارس

المشرق العربي الرضيعة عائشة عدنان سفيان القصاص التي توفيت في غزة (المركز الفلسطيني للإعلام)

الشتاء يضرب غزة... ووفاة رضيعة بسبب البرد القارس

يضرب البرد القارس الفلسطينيين، البالغ عددهم نحو مليونَي شخص، الذين نزحوا؛ بسبب الحرب الإسرائيلية، في حين توفيت رضيعة من البرد.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
المشرق العربي رجل أمام جثمان أحد ضحايا الغارات الإسرائيلية على منزل في دير البلح بوسط غزة اليوم (رويترز)

مقتل 17 فلسطينياً في غارات إسرائيلية على غزة

قال مسعفون إن ضربات نفذها الجيش الإسرائيلي على أنحاء قطاع غزة أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 17 فلسطينياً منهم 8 قتلوا في مدرسة تؤوي عائلات نازحة بمدينة غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية خدمات الطوارئ الإسرائيلية جنوب تل أبيب في موقع سقوط صاروخ حوثي أطلق على إسرائيل فجر السبت (رويترز)

إسرائيل تدرس خيارات الرد على الحوثيين

تجاوز صاروخ أطلقه الحوثيون الدفاعات الإسرائيلية التي فشلت في اعتراضه وسقط في تل أبيب أمس. وقال مسعفون إنَّ 16 شخصاً أصيبوا بجروح طفيفة نتيجة شظايا الزجاج،

علي ربيع (عدن) كفاح زبون (رام الله)
المشرق العربي إسماعيل هنية ويحيى السنوار (لقطة من فيديو لـ«كتائب القسام»)

لأول مرة... «القسام» تنشر فيديو يجمع هنية والسنوار والعاروري

نشرت «كتائب القسام»، الجناح العسكري لحركة «حماس»، (السبت)، فيديو يُظهِر عدداً من قادتها الراحلين لمصانع ومخارط تصنيع الصواريخ.

أحمد سمير يوسف (القاهرة)
المشرق العربي فلسطيني يحمل طفلاً في موقع غارة إسرائيلية على مخيم النصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مقتل 5 في غارة جوية على منزل بمخيم النصيرات وسط غزة

قال مسعفون لـ«رويترز»، اليوم السبت، إن خمسة أشخاص، بينهم طفلان، قتلوا في غارة جوية إسرائيلية على منزل بمخيم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.