معسكرات أفغانية تثير مخاوف من «عودة القاعدة»

التنظيم يعيد بناء صفوفه في ظل حكم «طالبان»... والخارجية الأميركية لـ«الشرق الأوسط»: التهديد في أدنى مستوياته منذ 1996

مقاتلون مع حركة «طالبان» في ولاية بادخشان شمال البلاد 1 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)
مقاتلون مع حركة «طالبان» في ولاية بادخشان شمال البلاد 1 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)
TT

معسكرات أفغانية تثير مخاوف من «عودة القاعدة»

مقاتلون مع حركة «طالبان» في ولاية بادخشان شمال البلاد 1 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)
مقاتلون مع حركة «طالبان» في ولاية بادخشان شمال البلاد 1 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)

يبدو تنظيم «القاعدة» منذ سنوات كأنَّ صدأً قد أصاب جسده النحيل المتآكل. فقد نجح الأميركيون، ومعهم تحالف دولي واسع، في قتل قادته الكبار، بمن فيهم أسامة بن لادن وخليفته أيمن الظواهري. اعتقلوا مئات آخرين من قادته وعناصره. فككوا خلاياه حول العالم. وإذا كان كل ذلك لا يكفي، فقد ظهر لـ«القاعدة» منافس شرس من وسطه هو تنظيم «داعش» الذي سرق «بريق الإرهاب» من غريمه بسلسلة عمليات في أنحاء المعمورة.

لكنَّ هذه الصورة قد تكون «خادعة» في واقع الأمر. صحيح أن «القاعدة» يبدو عاجزاً عن شن هجمات ضخمة بحجم هجماته ضد الولايات المتحدة في 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وصحيح أنها تبدو أيضاً عاجزة حتى عن الإعلان عن هوية زعيمها الجديد خلفاً للظواهري، رغم مرور أكثر من سنتين على مقتله، إلا أن تقارير أممية حديثة تؤكد أن التنظيم يقوم حالياً بإعادة بناء صفوفه بعدما أقام سلسلة معسكرات تدريب ومدارس دينية في أفغانستان.

وإذا ما صحت هذا التقارير، فإن ذلك يمكن أن يثير مخاوف من أن يعيد التاريخ تكرار نفسه. فهجمات «القاعدة» في 11 سبتمبر تمت انطلاقاً من معسكراتها الأفغانية. وإذا أضفنا إلى ذلك خزّان الغضب الذي تغذيه الحرب الإسرائيلية على غزة، وفشل «طالبان» في توفير الحاجات الأساسية للأفغان، والأزمات الممتدة في عدد من دول الشرق الأوسط، ومتغيرات كصعود اليمين المتطرف في الغرب، تزداد احتمالات ظهور موجة جديدة من التطرف والإرهاب. فهل يمكن أن تتكرر تجربة «القاعدة» الآن في ظل حكم حركة «طالبان» بنسخته الثانية؟

تمر هذه الأيام ذكرى هجمات تنظيم «القاعدة» في نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر (أيلول) 2001. مثّلت تلك الهجمات، بطائرات مدنية مخطوفة، أكبر هجوم إرهابي على الأرض الأميركية منذ الهجوم الياباني على بيرل هاربر بهاواي عام 1941 والذي أدى بالولايات المتحدة إلى دخول الحرب العالمية الثانية.

برجا مركز التجارة في نيويورك قبل سقوطهما (غيتي)

لم تَقُدْ هجمات 11 سبتمبر إلى حرب عالمية ثالثة، بالمفهوم التقليدي للحروب العالمية، لكنها أطلقت حرباً طويلة ضد الإرهاب امتدت عبر قارات العالم. بدأت تلك الحرب بغزو أفغانستان، في أواخر عام 2001، حين تمكن الأميركيون من إطاحة حكم حركة «طالبان» التي وفرت الحماية لمنفذي هجمات «القاعدة»، رافضة تسليمهم.

في صيف عام 2021، حزم الأميركيون حقائبهم وانسحبوا من أفغانستان لتعود مجدداً تحت حكم «طالبان»، بنسختها الثانية. شكّل الانسحاب هزيمة لمشروع أميركا في بناء نظام حليف لها في كابل. إذ سرعان ما انهارت حكومة الرئيس أشرف غني وجيشها الذي أُنفقت مليارات الدولارات على تسليحه، أمام قوات الحركة الإسلامية.

احتفلت «طالبان» أخيراً بمرور ثلاث سنوات على عودتها إلى السلطة. استعرضت جيشاً مزوداً بآليات وطائرات وأسلحة مختلفة تركها وراءهم الأميركيون المنسحبون أو تم الاستيلاء عليها من ثكنات الجيش الأفغاني المنهار.

لم تشكل عودة «طالبان» إلى الحكم، في الواقع، مشكلة لكثير من الدول الغربية. فرغم الملاحظات المرتبطة بتطبيقها المتشدد للشريعة الإسلامية، بما في ذلك منع تعليم الفتيات بعد بلوغهن سناً معينة، فإن هذه الحركة نجحت في الحقيقة في فرض درجة عالية من الأمن في البلاد. قلّصت إلى حد كبير مساحات الأراضي المزروعة بالأفيون، المخدر الذي كان يغزو الأسواق الغربية. حاربت خلايا تنظيم «داعش – خراسان» الذي كان يتمدد في شرق البلاد على وجه الخصوص، ويشكل تهديداً خارجياً أيضاً.

«محاسن» الحركة هذه قابلها، في الحقيقة، قلق متزايد في الغرب من أن تعود أفغانستان، في ظل حكمها الجديد، كما كانت في الماضي: مأوى لخليط من الجماعات الإرهابية أو المتشددة.

شكّل كشف الأميركيين عن وجود أيمن الظواهري في كابل، في صيف عام 2022، أحد المؤشرات العلنية على وجود قلق غربي من عودة «القاعدة» إلى أفغانستان. فخليفة أسامة بن لادن على رأس «القاعدة»، كان يعيش في حي شيربور الراقي بالعاصمة الأفغانية، تحت حماية عناصر من «طالبان». كان من الطبيعي أن تثار شكوك حول أن شخصاً بحجم الظواهري لا يمكن أن يعيش في كابل إلا بمعرفة زعيم «طالبان»، الملا هبة الله أخوندزادة، تماماً كما كان وضع أسامة بن لادن وقادة تنظيمه عندما عاشوا في ظل حكم الملا عمر، زعيم «طالبان» السابق.

لكن ليس هناك ما يؤكد، في الحقيقة، أن أخوندزادة أذن باستضافة الظواهري، بل هناك من يؤكد أنه لم يكن يعرف بذلك، رغم أن الذي قدّم المأوى له قياديون في «طالبان». وكما هو معروف، إيواء الظواهري كان يمكن أن يشكل مخالفة لتعهدات قدمتها «طالبان» للأميركيين، في اتفاق الدوحة (عام 2020)، بأنها لن تسمح لأي جهة بأن تستخدم أراضيها للتخطيط لمؤامرات إرهابية إذا انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان.

في أي حال، طويت قضية الظواهري سريعاً. ضربة واحدة من طائرة أميركية بلا طيار كانت كفيلة بالقضاء عليه على شرفة شقته بكابل، فجر 31 يوليو 2022. «طالبان» المحرجة لم تؤكد مقتل الظواهري. فتحت تحقيقاً لم تعلن نتائجه رسمياً حتى اليوم. أما «القاعدة» فقد اختارت الصمت، ربما لتجنب إحراج مضيفيها الأفغان، وربما بناءً على نصيحة منهم.

الظواهري ليس وحيداً

لم يكن الظواهري بالتأكيد القيادي الوحيد من «القاعدة» الذي يعيش في ظل حكم «طالبان»، بنسخته الجديدة. إذ تكشف تقارير عديدة لخبراء من الأمم المتحدة، مختصين بأفغانستان، عن أن هذا البلد عاد مركز جذب لجماعات متشددة، بينها «القاعدة»، رغم أن «طالبان» تسعى إلى إبعاد ضيوفها عن دائرة الضوء، في خطوة من الواضح أنها تهدف إلى تجنب الإحراج أمام أطراف خارجية قادرة على عرقلة مساعيها لنيل اعتراف دولي بحكمها.

دخان يتصاعد في كابل عقب الضربة الأميركية التي أدت إلى مقتل أيمن الظواهري في 31 يوليو 2022 (أ.ف.ب)

يكشف التقرير الأخير لفريق مراقبة العقوبات على أفغانستان التابع للأمم المتحدة، والصادر في يوليو (تموز) 2024، عن أن «طالبان» لجأت إلى فرض «قيود على حركة أفراد (القاعدة) وجماعات مرتبطة به، وأرغمتهم على التقليل من ظهورهم في أفغانستان» رغم أن «العلاقة تبقى وثيقة (بين الطرفين)». ويشير التقرير، في هذا الإطار، إلى معلومات تفيد بأن «(القاعدة) يقوم بجهود مستمرة لإعادة تنظيم صفوفه، وتجنيد (عناصر)، والتدريب في أفغانستان»، لافتاً إلى تسجيل «حركة انتقال خفيفة باتجاه أفغانستان» لأشخاص على علاقة بـ«القاعدة».

يضيف التقرير أن «النية من وراء هذه النشاطات غير واضحة، وليس واضحاً (أيضاً) تبعات ذلك على قدرات (التنظيم). لكنَّ هذه النشاطات هي سبب لقلق كبير. إن عدد الجماعات الإرهابية التي تنشط في أفغانستان لم يتراجع»، مشيراً إلى أن «القاعدة وجماعات مرتبطة بها تعد دولة (أفغانستان) أرضاً صديقة».

صبر استراتيجي

ويتضمن تقرير الخبراء الأمميين المؤلَّف من 26 صفحة، معلومات عن تعاملات «القاعدة» مع مستضيفيها الأفغان. يقول: «تبقى (القاعدة) صبورة استراتيجياً، وتتعاون مع جماعات إرهابية أخرى في أفغانستان، وتعطي الأولوية لعلاقتها المستمرة مع (طالبان). تواصل هذه الجماعة العمل سراً بهدف إظهار صورة أن (طالبان) تلتزم بنود اتفاق الدوحة بخصوص منع استخدام أراضي أفغانستان لأغراض إرهابية».

لكن التقرير يضيف: «رغم الظهور المنخفض، تنشر (القاعدة) دعاية هدفها زيادة التجنيد (في صفوفها) في وقت تعمل فيه على إعادة بناء قدراتها العملياتية. إن قدرة (القاعدة) على شن هجمات ضخمة تبقى محدودة، لكن نيّتها تبقى صلبة، تُعززها قدرات جماعات مرتبطة بها على تنفيذ عمليات خارجية. ليس هناك تغيير (منذ تقرير الفريق الأممي السابق) في وضعية ولا مكان وجود أمير (القاعدة)، كما لم يحصل تغيير في قدرات الجماعة في أفغانستان».

ومعلوم أن التقرير السابق أشار، كما هو معروف، إلى معلومات تفيد بأن «أمير (القاعدة) الفعلي، سيف العدل (المصري محمد صلاح الدين عبد الحليم زيدان)، موجود في إيران، في حين أن هناك قادة آخرين، بينهم عبد الرحمن الغامدي، موجودون في أفغانستان».

يقدم التقرير الجديد، في يوليو الماضي، معلومات عن أدوار تلعبها قيادات «القاعدة» الموجودة في أفغانستان. إذ يقول إن «شخصيات (القاعدة) في أفغانستان تتواصل مع أمراء حرب، مروجي دعايات، مجندين وممولين»، مضيفاً أن «مدربين ذوي خبرة سافروا إلى أفغانستان لتقوية أمن الخلايا المنتشرة هناك. تعطي (القاعدة) الأولويات للتواصل وعمليات التجنيد، خصوصاً في أوساط أولئك الذين عملوا سابقاً إلى جانبها، أو كانوا أعضاء عملانيين، قبل أغسطس (آب) 2021»، وهو تاريخ عودة «طالبان» إلى سدة الحكم في كابل.

ويورد أيضاً معلومات عن مسعى قامت به «القاعدة» لـ«إقامة تعاون مع الحركة الإسلامية لتركستان الشرقية التي تُعرف أيضاً باسم الحزب الإسلامي التركستاني، ومع جماعة أنصار الله، بهدف تكثيف النشاطات وتقوية موقعها ضمن هيكلية (طالبان) العسكرية في الشمال، (تمهيداً) لتنفيذ عمليات مشتركة ونقل مركز النشاط الإرهابي إلى آسيا الوسطى». و«جماعة أنصار الله»، هنا، هي جماعة طاجيكية تُعرف أيضاً بـ«طالبان الطاجيكية»، وتتخذ من ولاية باداخشان بشمال أفغانستان مقراً لها.

ويتضمن التقرير الأممي أيضاً معلومات مفادها أن «خلايا (القاعدة) تعمل في ولايات أفغانية عدة، خصوصاً في جنوب شرقي البلاد»، مشيراً إلى أن المقرات التابعة لهذا التنظيم تتولى على وجه الخصوص «تدريب مقاتلين محليين إلى جانب ناشطين في حركة (طالبان) الباكستانية»، متحدثاً عن «رصد مواقع لقواعد تدريب جديدة وبيوت آمنة في ولايات أفغانية مختلفة، بما في ذلك معسكرات سابقة في جلال آباد، وقندهار، وفي كونار، ونورستان وطاخار».

«القاعدة»... العودة إلى أفغانستان (الشرق الأوسط)

هرمية «القاعدة»

وبالنسبة إلى هرمية «القاعدة» في أفغانستان، يقول التقرير: «تطورت كتيبة عمر الفاروق تحت قيادة أبو إخلاص المصري، مع مجيء دفعة جديدة تضم بعض المقاتلين العرب. أبو إخلاص المصري تم وقفه حمائياً (الاعتقال بهدف الحماية) من المديرية العامة للاستخبارات في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، الأمر الذي عكس قلق (طالبان) من أن أجهزة استخبارات أجنبية كانت تبحث عنه». ويتابع: «عملاء آخرون لـ(القاعدة)، بينهم مهندسا أسلحة، أُخذا أيضاً للاعتقال بهدف الحماية أو تم إخفاؤهما من السلطات الفعلية في كابل».

وحسب التقرير، رُصد «وصول عدد من أعضاء (القاعدة) العرب إلى كونار ونورستان بهدف التدريب وتسهيل الاتصال بين محمد صلاح الدين عبد الحليم زيدان (الملقب سيف العدل) وبين شخصيات (القاعدة) الأساسية، ومع فرع (القاعدة) في شبه الجزيرة الهندية، ومع عناصر محددة من (طالبان). كما سُجّل وجود عبد العظيم بن علي، وهو عضو ليبي في (القاعدة) ينتمي إلى مجلس شورى أبو سليم في درنة، ليخدم في وزارة الداخلية (الأفغانية)، دون أن تكون له وظيفة واضحة، وتم منحه جوازاً أفغانياً باسمَي (عبد العظيم) و(علي موسى بن علي الدرسي)».

ومعلوم أن التقرير السابق لفريق الأمم المتحدة، لشهر يناير (كانون الثاني) 2024، أشار إلى وصول ستة ناشطين جدد من أفراد «القاعدة» إلى شرق أفغانستان للالتحاق بـ«كتيبة عمر الفاروق» التي يقودها أبو إخلاص المصري، كاشفاً عن أن هذا التنظيم أقام ثمانية معسكرات تدريب جديدة في أفغانستان، بما في ذلك في غزني ولغمان وبروان وأوروزغان، بالإضافة إلى قاعدة لتخزين السلاح في وادي بانشير.

ويضيف التقرير أن حكيم المصري، ومركزه في ولاية كونار، مسؤول عن معسكرات التدريب بما في ذلك «تدريب الانتحاريين» لمصلحة جماعة «طالبان» الباكستانية. ويورد التقرير أيضاً أن لـ«القاعدة» خمس مدارس (دينية) في لغمان وكونار وننغرهار ونورستان وبروان.

تعليمات للمقاتلين العرب بتجنب كابل

وكما يبدو، يثير الكشف عن وجود كل هؤلاء القادة الأجانب في أفغانستان قلق سلطات «طالبان» التي بدأت مسعى لتنظيم وجودهم. إذ يكشف تقرير الأمم المتحدة، لشهر يوليو الماضي، أن المديرية 31 في الاستخبارات الأفغانية، وهي المديرية المسؤولة عن التنسيق مع المقاتلين الأجانب، «أبلغت كل المقاتلين العرب بتجنب كابل وإلا واجهوا الاعتقال». وأضاف أن «طالبان» طلبت، رغم تعليماتها هذه، من أعضاء «القاعدة» أن يأتوا إلى العاصمة كي يتم تسجيلهم وأخذ معلومات عنهم وفق تقنية (بيومتريك)، فإن «شخصيات رفيعة من (القاعدة)» لم تأتِ.

في أي حال، يبدو أن قضية انتقال أعضاء من «القاعدة» إلى أفغانستان لم تعد سراً، رغم جهود «طالبان» لإبقاء الأمر بعيداً عن أعين وسائل الإعلام. وكان لافتاً، في هذا الإطار، أن سيف العدل، الذي يوصف بأنه «الأمير الفعلي» للتنظيم منذ مقتل الظواهري، خرج بمقالة نشرتها «مؤسسة السحاب»، الذراع الإعلامية لـ«القاعدة»، داعياً مناصري التنظيم إلى الالتحاق بأفغانستان. حضَّ سيف العدل في مقالته التي تحمل عنوان «هذه غزة: حرب وجود وليست حرب حدود»، المسلمين الراغبين في «التغيير» أن يذهبوا إلى أفغانستان «كي يتعلموا من ظروفها ويستفيدوا من تجربة (طالبان)».

ليست دعوة بريئة بلا شك. فسيف العدل، المقيم في إيران منذ سنوات طويلة، يفكر بالتأكيد في طريقة تسمح لتنظيمه بإعادة بناء نفسه واستقطاب مزيد من المقاتلين، تماماً كما فعلت «القاعدة» في تسعينات القرن الماضي عندما استخدمت أفغانستان قاعدة خلفية للتجنيد والتدريب والتخفي.

وإذا كان تقرير الخبراء الأمميين يشير إلى أن «نية (القاعدة)» لم تتغير وهي التحضير لمزيد من الهجمات الإرهابية انطلاقاً من أفغانستان»، فإن المؤكد أن «طالبان»، في المقابل، ما زالت ملتزمة، حتى الآن، تعهدها بألا تسمح باستخدام أفغانستان منطلقاً لمؤامرات إرهابية في الخارج. لا بد من الإشارة هنا أن التحضير لهجمات «القاعدة» في 11 سبتمبر 2001 أثار جدلاً داخل التنظيم نفسه حول جواز ذلك شرعاً دون إذن حركة «طالبان». فهل يكرر التاريخ نفسه اليوم؟

«درون» مسلحة بصواريخ مشابهة للتي استُخدمت لقتل زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري في كابل (الجيش الأميركي - أ.ب)

تهديد «القاعدة» في «أدنى مستوياته»

رغم القلق من مخاطر عودة «القاعدة» إلى أفغانستان، تبدو الولايات المتحدة مطمئنة إلى أن هذا التنظيم هو الآن في أضعف مراحله منذ انتقاله من السودان إلى أفغانستان عام 1996.

وقالت ناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية رداً على أسئلة «الشرق الأوسط»: «نقيّم أن قدرة (القاعدة) على تهديد الولايات المتحدة من أفغانستان أو باكستان هي ربما عند المستوى الأدنى منذ انتقال الجماعة إلى أفغانستان من السودان عام 1996».

وأضافت أن «الاهتمام الدائم والأكثر أهمية للولايات المتحدة في أفغانستان يتعلق بضمان أن هذا البلد لا يمكن أن يكون مرة ثانية منصة انطلاق لهجمات إرهابية ضد الولايات المتحدة».

وعن مؤشرات عودة «القاعدة» إلى أفغانستان، قالت: «نتعامل انطلاقاً من مقاربة تشمل كل الحكومة الأميركية، وبالتعاون مع الشركاء والحلفاء، من أجل منع عودة ظهور التهديدات الخارجية من أفغانستان»، مضيفةً: «نضغط باستمرار على (حركة) طالبان من أجل التزام تعهداتها في مجال التصدي للإرهاب».

وأرسلت «الشرق الأوسط» إلى وزارة خارجية حكومة «طالبان» أسئلة تتعلق بالمزاعم عن عودة «القاعدة» إلى أفغانستان، لكنها لم تتلقَّ رداً مع نشر هذا التقرير.


مقالات ذات صلة

11 سبتمبر... ماضٍ أدمى العراق وحاضر يهدد أفغانستان

تحقيقات وقضايا فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)

11 سبتمبر... ماضٍ أدمى العراق وحاضر يهدد أفغانستان

فقدت ذكرى هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على الولايات المتحدة، أهميتها مع مرور السنين، لكن آثارها لا تزال حية في منطقة الشرق الأوسط وجوارها.

غسان شربل (لندن) كميل الطويل (لندن)
خاص فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب) play-circle 10:40

خاص بن لادن استقبل مبعوث صدام حسين فارتبط غزو العراق بهجمات 11 سبتمبر

قصة لقاء فاشل استخدمه جورج بوش للربط بين صدام حسين وأسامة بن لادن وتبرير غزو العراق.

غسان شربل (لندن)
آسيا حارس أمن من «طالبان» يقف في ساحة أحمد شاه مسعود بينما يحتفل الناس بالذكرى الثالثة لاستيلاء الحركة على أفغانستان بكابل 14 أغسطس 2024 (أ.ف.ب)

تقرير : «القاعدة» توسّع وجودها في أفغانستان

أقام تنظيم «القاعدة» تسعة معسكرات إرهابية جديدة في أفغانستان في عام 2024، وهو دليل على زيادة تقبل حركة «طالبان» لوجود الجماعات الإرهابية في فنائها الخلفي

أفريقيا حالة استنفار في المستشفى بعد استقبال أكثر من 300 جريح (التلفزيون الحكومي)

200 قتيل في هجوم إرهابي وسط بوركينا فاسو

أعلنت حكومة بوركينا فاسو أنها سترد بحزم على هجوم إرهابي أودى بحياة ما لا يقل عن 200 قتيل، أغلبهم مدنيون يقطنون في قرية بارسالوغو الواقعة وسط البلاد.

الشيخ محمد (نواكشوط)
المشرق العربي مجموعة من الميليشيات التابعة لإيران خلال اشتباك مع قوات «قسد» (المرصد السوري لحقوق الإنسان)

تجدد التصعيد شرقاً وغرباً في سوريا بعد فترة هدوء نسبي

عاد التوتر للتصاعد في سوريا خلال الساعات القليلة الماضية، وتجددت الاشتباكات شرقاً بين ضفتي الفرات بعد فترة هدوء نسبي.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

يحيى السنوار... حكاية «الرقم 1» يرويها «رفاق الزنزانة»

TT

يحيى السنوار... حكاية «الرقم 1» يرويها «رفاق الزنزانة»

يحيى السنوار متحدثاً إلى وسائل الإعلام في غزة 28 أكتوبر 2019 (رويترز)
يحيى السنوار متحدثاً إلى وسائل الإعلام في غزة 28 أكتوبر 2019 (رويترز)

لشهر أكتوبر (تشرين الأول) في فصول حياة يحيى السنوار «أبو إبراهيم»، الذي تم اختياره رئيسا لحركة «حماس»، قصة خاصة. فيه وُلد في أزقة مخيم خان يونس قبل ستة عقود ونيّف ليبدأ رحلة حياة مليئة بالمحطات الصعبة والمثيرة والشائكة، وفيه نال حريته من السجون الإسرائيلية بعد أكثر من عقدين أمضاهما فيها، وفي الشهر ذاته أطلق «الطوفان» نحو غلاف غزة مخلِّفاً وراءه ارتدادات كبرى هزت أرجاء المنطقة والعالم.

نشأ السنوار في مخيمات الصفيح بغزة وبين أزقتها الضيقة بعدما نزحت عائلته من مدينة المجدل عقب «نكبة 48». طاله نصيب من شظف العيش وقسوته. طبعت الظروف القاسية علاماتها على شخصية الطفل الذي وقف شاهداً على «نكسة 67». راكمت السنوات التي تلت رصيداً من الغضب والسخط في صدره، فاقمتها يوميات البؤس في غزة ومخيماتها مخلّفةً «رغبةً ملحّة بالانتقام» لازمته لعقود تلت. كان في حديثه ونظرته للصراع دائم الحديث عن «النكبة» وما تركته من معاناة ممتدة لأهله، كان لديه تطلع دائم لإحداث «صدمة وتغيير في موازين القوى»، كما يقول من عرفه.

تلقَّى يحيى السنوار تعليمه في مدارس مخيم خان يونس وأكمل دراسته بعدها بالجامعة الإسلامية التي تخرج فيها بشهادة في الدراسات العربية. بدأ نشاطه بالعمل الطلابي والتنظيمي حينذاك تحت مظلة «الكتلة الإسلامية» ومنها شق طريقه إلى أدوار أوسع تكللت بتأسيس جهاز «المجد»، الجهاز الأمني الداخلي لـ«حماس» المضطلع بأدوار حساسة أبرزها ملاحقة العملاء والمرتبطين بأجهزة الأمن الإسرائيلية.

قاد نشاطُه الأمني إسرائيل لاعتقاله أواخر الثمانينات. اتهمته السلطات الإسرائيلية بقتل أربعة «متعاونين» فحكمت عليه بأربعة أحكام مدى الحياة. تنقّل بين السجون الإسرائيلية شمالاً وجنوباً وقضى فترات طويلة في غرف العزل.

صورة توضيحية لمخطط «حماس» اقتحام سجن عسقلان وتحرير أسرى محتجزين

قاد «حماس» داخل السجون، وحمَل «هاجسه الأمني» معه. أتقن اللغة العبرية، ودرّس النحو الصرف لرفاقه، وقاد إضرابات ومفاوضات، وربح جولات وخسر أخرى. بدا الوقت ثقيلاً داخل السجن فيما دارت عجلة الصراع خارج أسواره؛ انتفاضات وحروباً وسرابات سلام. أكثر من عقدين في الأسر لم ينالا من قناعة الرجل بقرب نيل حريته. خطف شقيقه جندياً إسرائيلياً وبادلته «حماس» بألفِ أسير فلسطيني. كان يحيى على رأسهم. خرج ليلعب أدواراً بارزة شكّلت معالم جديدة للصراع.

في أعقاب السابع من أكتوبر، ملأ اسم السنوار الدنيا وشغل كثيراً من دوائر الأمن والسياسية في إسرائيل وخارجها. أثار الرجل عاصفةً من التساؤلات حول شخصيته وأفكاره ورؤيته للصراع وكذلك الدوافع وراء قراراته وحسابات تكاليفها، لا سيما لما أحدثته من انعكاسات وما خلَّفته من تبعات كبيرة وثقيلة.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى «رفاق القيد» ممن عاشوا معه وعرفوه واقتربوا منه خلال سنوات الأسر في السجون الإسرائيلية. يرسم الأسرى السابقون من مشارب سياسية وفكرية متنوعة «صورةً طبَقيّة» عن «العقل المدبر» لـ7 أكتوبر وأفكاره وقيادته لحركته داخل السجون وعلاقته مع الفصائل الأخرى وصولاً إلى الدوافع التي أوصلته إلى ساعة الصفر صبيحة السابع من أكتوبر، وحسابات الحرب الممتدة ومآلاتها.

اللقاءات الأولى

يسرد عصمت منصور، أسير سابق كان ينتمي لـ«الجبهة الديمقراطية» وأمضى سنوات في السجون الإسرائيلية التقى خلالها السنوار، جانباً عن انطباعاته الأولى بعد لقائه في سجن عسقلان أواخر تسعينات القرن الماضي: «حينما تلتقي السنوار ترى إنساناً عادياً، بسيطاً ومتديناً»، بيد أنه يحمل أيضاً «صفات القسوة والحِدّة في التعامل. هو رجل متدين لكنه ليس خطيباً ولا منظِّراً. تحضر الخلفية الدينية في تشكيل علاقاته، ولا يمكن أن يتعامل معك بمعزل عن موقفه المسبق».

يحيى السنوار لدى وصوله إلى احتفالية إحياء «يوم القدس» في غزة 14 أبريل 2023 (غيتي)

تَظهر تجربة السنوار في صغره قبل دخوله السجن مبكراً وقضائه فترة طويلة فيه، جليّة في سلوكه ونظرته لما حوله وتعامله مع الآخرين. يقول منصور إن طفولته القاسية رسمت معالم «حقده» وصاغت توجهاته السياسية، مضيفاً: «هو لا يقبل المساومة، ولا يرى إمكانية للحلول أو إمكانية للتوصل إلى صيغ واتفاقيات إلا في إطار التكتيك».

عبد الفتاح دولة، أسير سابق ينتمي لحركة «فتح» أمضى سنوات في السجون الإسرائيلية، كان قد التقى السنوار أول مرة عام 2006. سبقت انطباعاته عن الرجل اللقاء معه، إذ تناقل الأسرى «صيت السنوار» من سجن إلى آخر ورسموا صورة عن رجل «حاد الطباع وصاحب قرار».

تلك الانطباعات عززها اللقاء الأول الذي جمعهما في سجن بئر السبع الصحراوي. يقول دولة: «يحيى السنوار الشخص الاجتماعي الإنساني يختلف عن القيادي الحمساوي. يحيى السنوار الذي تتناقش معه في قضايا عامة يختلف عن الذي تخوض معه في قضايا فصائلية. هنا يكون اجتماعياً وهناك يكون متعصباً، تشعر كأن الرجل بشخصيتين».

أما صلاح الدين طالب، أسير سابق ينتمي لحركة «حماس» وكان قد قضى سنوات في السجون مع السنوار وأُفرج عنه مع السنوار ضمن صفقة التبادل، يستذكر لقاءه الأول مع «أبو إبراهيم» فيقول: «يلفتك تواضعه، وعلاقته المرحة مع الشباب». بيد أن رفيق الأسر يلفت إلى أن طبيعة القيادي الحمساوي الأمنية جعلته مختلفاً عن قيادات الحركة الآخرين، فهو «ليس داعيةً، هو مؤسس جهاز (مجد) الأمني وهذا ينعكس إلى حد كبير على شخصيته. فرغم علاقاته الاجتماعية القوية فإنه في الجانب الأمني كان شديداً وقاسياً».

يحيى السنوار متحدثاً إلى وسائل الإعلام في غزة 28 أكتوبر 2019 (رويترز)

«هوس أمني» في السجون

داخل السجون كما خارجها، ظل السنوار رجل الأمن الأول. أواسط التسعينات تلقَّت حركة «حماس» وخلاياها في الضفة والقطاع ضربات موجعة متتالية تمثلت في اغتيال أجهزة الأمن الإسرائيلية عدداً من قادتها كان أبرزهم يحيى عياش وعماد عقل، وتنفيذ عمليات اعتقال واسعة لنشطاء الحركة، وإحباط عدد كبير من الخلايا العسكرية. أحدثت هذه التطورات هزات كبيرة داخل أركان الحركة وبعثت بارتدادات عمَّقت المخاوف من اختراقات أمنية واسعة. ألقى هذا بظلال ثقيلة وقاتمة على أحوال الحركة داخل السجون ودشن «مرحلة الهوس الأمني» في تاريخها. كان السنوار محرك هذه المرحلة وضابط إيقاعها.

قادة عسكريون من كتائب «عز الدين القسام» يستقبلون يحيى السنوار في غزة 30 أبريل 2022 (أ.ف.ب)

يستذكر طالب هذه «المرحلة الصعبة» التي اضطلع خلالها بأدوار أمنية برفقة السنوار داخل المعتقلات. اتسعت رقعة «الهوس» وطالت تنظيم «حماس» في كل السجون، «كان هناك تحقيقات واستجوابات، كانت الملفات الأمنية تنتقل بين السجون ومنها إلى الخارج. خلّف ذلك حالة هوس أمني فكانت هناك اختراقات واغتيالات واعتقالات ولم تكن الحركة جاهزة أمنياً أو لديها تجربة ناضجة للتعامل مع ذلك بطريقة مثالية».

تحوّلت غرف حركة «حماس» لمراكز للاستجواب والتحقيق. طالت الاتهامات بالعمالة الكثيرين. يقول طالب إن بعضهم «ثبتت عمالته» بيد أن كثيرين وقعوا ضحية لـ«فوبيا الأمن»، مضيفاً: «كانت مرحلة صعبة لم يخرج منها أحد بسلام».

ويشير عبد الفتاح دولة إلى أن عمليات التحقيق كانت تجري مع «كل من تدور حوله أي شكوك»، ما خلّف تبعات مأساوية، «أشرف السنوار على عديد من عمليات التحقيق الداخلي. ربما كان يفلح بالوصول إلى بعض المتساقطين هنا أو هناك، لكن البعض قُتل تحت التعذيب وتبين لاحقاً أنهم من أفضل أبناء الحركة».

السنوار و«القسّام»

كان السنوار داخل السجون الإسرائيلية مطلع التسعينات حين برزت إلى الواجهة «كتائب القسام»، الجناح العسكري لحركة «حماس»، وشرعت بتنفيذ سلسلة من العمليات ضد أهداف للجيش الإسرائيلي والمستوطنين. ورغم أن السنوار كان منخرطاً في الجانب الأمني فإنه اعتُقل مبكراً بينما كان العمل العسكري في طور الإعداد والتطوير. بدأت علاقة السنوار مع شخصيات من الجناح العسكري لـ«حماس» تنشأ وتتطور أكثر داخل السجون، إذ بدأ عدد من الأسماء البارزة بالوصول إلى السجون والمعتقلات.

يحيى السنوار يعتلي المنصة مع مقاتلين من كتائب «عز الدين القسّام» لإحياء ذكرى مَن سقطوا في المعارك مع إسرائيل مايو 2021

يقول منصور: «السنوار من البداية ذهنُه وعقليته أمنية؛ عنده هوس أمني ونظرة أمنية للمحيط ويعيش هذا الهاجس كل الوقت. حتى قراءاته عن إسرائيل غالبيتها أمنية وعن تركيبة الجيش والمخابرات. لذلك هو لديه هذه الخلفية والقابلية للانخراط مع الجناح العسكري».

هذه العلاقة التي تشكلت ونضجت مع الجناح العسكري دخلت لاحقاً فصلاً جديدة بعد إتمام «صفقة شاليط» وخروج «أبو إبراهيم» ورفاقه من السجن عام 2011. كان محمد السنوار، شقيق يحيى الأصغر، مسؤولاً بارزاً في الجناح العسكري ومشاركاً في عملية أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط والاحتفاظ به لسنوات قبل إطلاق سراحه بموجب صفقة التبادل. أسهم شقيق السنوار وكذلك رفاقه الذي خرجوا معه من السجون، ناهيك بـ«رصيده» الذي يحظى به بالحركة، في فتح أبواب الجناح العسكري أمام القادم الجديد. يقول منصور إن هذه العوامل جعلت من السهل على السنوار «الاندماج في محيط العسكريين وإيجاد نفسه فيه».

شاليط والصفقة

قلبت عملية أسر الجندي الإسرائيلي شاليط والمفاوضات التي أعقبتها حول صفقة التبادل معطيات عديدة لدى السنوار وغيَّرت مصيره ومصير رفاقه. كان السنوار على رأس قائمة الأسماء التي طالبت «حماس» بالإفراج عنها. عززت التحولات التي خلّفها ملف شاليط مكانة السنوار داخل السجون وخارجها، إذ شرع بلعب أدوار متقدمة في ملف التفاوض.

يقول منصور: «السنوار بعد 2006 غير السنوار قبلها. بات يمثل مفتاحاً ومركز تجمع قوة كبيرة بسبب شاليط وبسبب سيطرة حماس على غزة بعدها. حماس أضحت نظاماً يحكم منطقة وتمتلك قوة وفي قبضتها أسير، وهذا الأسير بيد شقيق السنوار».

متظاهر يرفع لافتة تحمل صور الرهائن الإسرائيليين لدى «حماس» ويحيى السنوار وبنيامين نتياهو وكتب عليها «ليسوا لعبة... أوقفوا الحرب... لن يكون هناك رابح» (غيتي)

يشير منصور إلى أن قضية شاليط أعطت السنوار داخل السجون «قوة غير مسبوقة لم يسبق لأي قائد من حماس أن امتلكها سوى أحمد ياسين وصلاح شحادة اللذين كانا من الجيل الأول في السجون».

أصبح السنوار حينها عنوان الصفقة القادمة ومفتاحها. بات يمارس هذه القوة التي وقعت بين يديه لتعزيز مكانته وسلطته وقدرته على صناعة القرار داخل السجون وخارجها. يقول منصور: «بات يتصرف كشخص يقول للأسرى: (أنا باقدر أروّحك من السجن وباقدر أخلّيك). وهذا مارسه ليس لأسباب شخصية فحسب بل كانت لديه معايير مختلفة لها علاقة بمشروعهم وتفكيرهم وأولوياتهم».

كانت مفاوضات الصفقة بين إسرائيل و«حماس» قد قطعت شوطاً كبيراً حين دخل السنوار على خطها ورفض مخرجاتها وبدأ مساراً جديداً. يستذكر دولة أن مسؤول ملف التفاوض الإسرائيلي في قضية شاليط «حضر إلى السجون وتفاوض بشكل مباشر مع يحيى السنوار الذي ظهر أنه سيكون صاحب تأثير كبير».

ورم في الرأس وإنقاذ بمروحية خاصة

بينما كانت المفاوضات بشأن تبادل الأسرى تزداد زخماً وتقترب من نهاياتها، تعرَّض السنوار لوعكة صحية كادت تودي بحياته. أربك ذلك الحسابات وأضاء إشارات القلق لا سيما لدى الجانب الإسرائيلي. كان السنوار اللاعب الأول فيها. تفاقم وضعه الصحي ما حدا برفاقه في زنازين العزل بسجن السبع جنوب إسرائيل لحثه على الذهاب لعيادة السجن. يقول دولة: «كان السنوار عنيداً، كان يرفض دائماً الاستعانة بإدارة السجون». ازداد وضعه سوءاً وخطورة وفقد وعيه، مما اضطر رفاقه في السجن إلى نقله إلى العيادة، «حين بات الوضع صعباً، أجبروه على الذهاب»، يقول دولة.

أحدث وصول السنوار إلى عيادة سجن بئر السبع ذاك النهار إرباكاً كبيراً لدى إدارة السجون التي أعلنت حالة الطوارئ في السجن على الفور وأغلقت القسم الذي يقيم فيه السنوار. يسرد دولة تفاصيل تلك اللحظات التي رافقت الانتكاسة الصحية: «جاء ممثل عن إدارة سجن السبع وأخبرنا بأن المؤشرات تشير إلى أن السنوار يعاني وضعاً صعباً».

في تلك الأثناء حطّت مروحية في مهبط السجن، حسب دولة، وأقلّت السنوار على وجه السرعة إلى مستشفى «سوروكا» ليدخل بشكل عاجل إلى غرفة العمليات. وجد الأطباء ورماً حميداً في الرأس سارعوا إلى استئصاله. خضع السنوار لعملية «معقدة جداً وخطيرة» كاد يفقد حياته خلالها.

مثّل دخول المروحية على خط عملية الإنقاذ حدثاً استثنائياً وخلّف روايات متضاربة لدى الأسرى الثلاثة. يقول دولة إن «حالة السنوار كانت الأولى حسب تجربتي» بينما أشار منصور إلى أنه لا يتذكرها جيداً، فيما نفى طالب ذلك، موضحاً أن كل الإجراءات التي اتخذتها سلطات السجون حينذاك «كانت في الإطار العادي جداً».

يقول منصور إن الإسرائيليين حتى اليوم «يعيّرون» السنوار بعلاجه، مضيفاً أن مديرة مصلحة السجون ومديرة استخبارات السجون في حينها عبّرت في أكثر من مناسبة مؤخراً عن «عمق ندمها على إنقاذ حياة السنوار».

وعكس التعاطي الإسرائيلي مع مرض السنوار حالة من الإرباك الكبير لديها خلّفتها الخشية العميقة من أن يُلقي وضع السنوار الصحي بظلال ثقيلة على مسار صفقة شاليط في مراحلها الأخيرة. يلفت منصور إلى أن «لا أحد كان سيصدق في العالم أنهم لم يغتالوا السنوار أو يصفّوه وهو ما كان سيُلقي بانعكاسات كبيرة على الصفقة».

السنوار والبرغوثي وسعدات تحت سقف واحد

جمع سجن «هداريم» المركزي شمال إسرائيل السنوار بقيادات فلسطينية بارزة على رأسهم مروان البرغوثي وأحمد سعادات. بدأت العلاقة بين الثلاثة الكبار تتشكل داخل قسم العزل الجماعي هناك. «كان بينهم احترام كبير واستطاعوا أن يجدوا لغة مشتركة». يستذكر منصور: «هذا لا يجعلهم متطابقين في وجهات النظر لكن أتصور أن بينهم حالة ثقة واحترام تُمكّنهم من العمل معاً وتعطي تصوراً للعلاقة مستقبلاً».

عمل الثلاثة معاً، فخاضوا إضرابات داخل السجون وصاغوا مبادرات ورسائل للخارج أبرزها «ميثاق الأسرى للوفاق الوطني» ربيع عام 2006 الذي مثّل محاولة لرأب الصدع الواسع بين نقيضي المشهد السياسي الفلسطيني، حركتي «فتح» و«حماس».

عقب التوقيع على «وثيقة الوفاق»، يسرد دولة أنه نقل رسالة من سجن «هداريم» على لسان توفيق أبو نعيم، المقرب من السنوار، إلى سجن «بئر السبع»: «قال لي بالحرف: أبلغ عباس السيد والإخوة الذين شاركوا في التوقيع على (وثيقة الوفاق) أنهم سيندمون على اليوم الذي وقّعوا فيه عليها»، يستذكر دولة. خلّف ذلك انطباعاً لديه أن السنوار كان معارضاً للوثيقة. بيد أن منصور يرى أن أي موافقة من «حماس» داخل السجون «ما كانت لتتم دون مصادقة (أبو إبراهيم)».

يضيف منصور في قراءة سيناريوهات ما بعد الحرب، أن «إطلاق سراح الأسرى وبينهم مروان البرغوثي يأتي في سياق البحث عن شريك في (فتح) والمنظمة يكون السنوار قادراً على العمل معه».

«القسام» بعد 2011

بعد إطلاق سراحه من السجون بموجب صفقة التبادل عام 2011، مضى السنوار إلى تعزيز حضوره داخل صفوف حركته وتدعيم دوره داخل جناحيها لا سيما العسكري. عام 2012 انتُخب عضواً في المكتب السياسي للحركة وعلى الفور تولّى ملف التواصل مع الجناح العسكري. شرع السنوار خلال هذه المرحلة بلعب أدوار أوسع متكئاً على علاقته المتينة بالعسكريين وصولاً إلى انتخابات عام 2017 التي خرج منها على رأس المكتب السياسي للحركة في غزة مطيحاً بأسماء وازنة أبرزهم إسماعيل هنية. كان توجه السنوار فور خروجه من السجون إلى «أن يسيطر ويحكم وأن يكون الرقم (1) في صياغة الأمور في غزة»، كما يرى منصور.

خليل الحية وإسماعيل هنية ويحيى السنوار من حركة «حماس» خلال زيارة لمعبر رفح في 19 سبتمبر 2017 (رويترز)

ظل السنوار على رأس الحركة في غزة، وصولاً إلى استحقاق انتخابي جديد سبق السابع من أكتوبر بعامين. خرج منه مرة أخرى زعيماً لـ«حماس» في غزة. بدت المنافسة هذه المرة شرسة للغاية بين السنوار وشخصيات وازنة في الحركة. أعاد مسؤولو الانتخابات الداخلية التصويت «ثلاث أو أربع مرات» لضمان فوز السنوار. يقول منصور إن ذلك جاء تحضيراً لـ«لحظة 7 أكتوبر»، مضيفاً: «كان واضحاً أن لدى السنوار و(القسام) مخططاتهم».

لعب زعيم «حماس» أدواراً بارزة خلال هذه الفترة واهتمّ «بوتيرة غير مسبوقة في تاريخ الحركة» بتطوير العمل العسكري. يقول طالب: «الصوت الأعلى هو للعمل العسكري ومن دونه لكان السنوار شخصاً رمادياً مثل الآخرين».

طموح الرقم (1)

كثيرة هي المحطات في حياة السنوار التي يظهر فيها الرجل الطموح لاعباً بارزاً أو منفرداً يدير مجرياتها وتفاصيلها ويجني ثمارها نفوذاً وسلطة. يرى دولة أن السنوار «لا يقبل بأن يكون مرؤوساً. هو لا يقبل إلا أن يكون الرجل رقم (1) في الحركة. هو مصاب بالطموح حتى لا نقول الغرور، الذي كان يدفعه وهو داخل السجن لأن يكون دائماً الرجل الأول في الحركة».

خلال العقدين الماضيين، كثفت إسرائيل من ملاحقاتها واغتيالاتها لقادة «حماس» فأخرجت من المشهد قادة الصف الأول مما دفع بشخصيات جديدة في الحركة إلى الواجهة. يقول دولة: «لا يشعر السنوار بأن من حق أيٍّ من القادة الحاليين أن يكون رئيساً عليه، ولا يقبل بذلك أبداً».

مؤشرات مبكرة على «الطوفان»

يشير دولة إلى أن انطباعاً لطالماً أحاط بالسنوار أنه «لفعلٍ كبير»، عززته خطاباته والرسائل التي أطلقها أكثر من مرة للأسرى في السجون، موضحاً أن «صفقة شاليط تركت العديد من عناصر حركة (حماس) وقيادات (القسام) الأوائل بالسجون، ولذلك شعرت الحركة بأنها قصّرت». يقول دولة إن حالة من الانزعاج طالت أسرى «حماس» بعد الصفقة، ووجَّهوا رسائل ناقدة وغاضبة إلى القيادة، مشيراً: «ربما شعر السنوار بأن عليه التزاماً أخلاقياً تجاه تصحيح ما لم تتمكن صفقة شاليط من تنفيذه».

لوحة إعلانية في أحد شوارع القدس تحمل صورة يحيى السنوار وحسن نصر الله وكُتب عليها بالعبرية «من يستفيد من فُرقتنا؟ الوحدة الآن» (أ.ف.ب)

يستذكر طالب خطاب السنوار الأول بعد الإفراج أمام الجماهير في ساحة الكتيبة وسط غزة: «كنت حاضراً على المنصة حين قال: (اليوم نغزوهم ولا يغزوننا). رأى أن صفقة التبادل كسرة لإسرائيل ويمكن أن يَبني عليها كسرات أخرى».

يرى منصور أن عوامل عدة التقت لدى السنوار قبل «7 أكتوبر» ورجحت كفّة «الجانب العقائدي» في قراءته الصراع، «جرًب السنوار مصالحة مع السلّطة وفشلت، جرّب التوصل إلى صفقة تبادل للجنود مع إسرائيل وفشلت. جرب رفع الحصار، جرب كل الطرق لإيجاد مخرج لوضع غزة ويحرر الأسرى وفشل، فلم يبقَ أمامه سوى هذا الخيار». يستدرك منصور: «لو كان هناك خيارات أخرى، «7 أكتوبر» ما كان ليحصل».

إسرائيل و«رمز الحرب»

منذ بداية الحرب على غزة، أضحى السنوار عنواناً رئيسياً للحملة العسكرية على القطاع وصورة لشكل الانتصار الذي تطارده المؤسستان العسكرية والسياسية في إسرائيل. يرى منصور أن إسرائيل حوّلته «رمزاً» لهذه المواجهة، وحمَّلته المسؤولية الكاملة عمّا جرى، «إسرائيل بدأت تبحث عن صورة واسم يلصق في ذهن العالم ويصبح مثل هتلر وصدام والقذافي وتشاوشيسكو والديكتاتوريين في العالم. جاء ذلك محاولة لاختزال كل (حماس) وكل الذي يحدث وكل القضية الفلسطينية في شخص وشيطنته».

يرى منصور أن شكل نهاية الحرب في ذهن الإسرائيليين مرتبط بمصير السنوار، «هذا إمَّا بإخراجه؛ فيصبح إخراج السنوار كفرد أو مجموعة أشخاص كأنه فعلاً إخراج لـ(حماس) من غزة، أو اعتقاله، أو تصفيته، أو بقائه مطلوباً ومطارداً، ليكون ذلك مسوغاً للاستمرار في عمليات الملاحقة ويتحول مثل الأشخاص الذين يديرون حركة من داخل نفق»، مضيفاً: «لكن كلما أصبحت سيطرة إسرائيل على الأرض أكبر، أصبحت مهمة السنوار أصعب، وصار الذهاب إلى الخيارات الأخرى أقرب».

قادة «حماس» الذين جرت تصفيتهم... يحيى السنوار في مرمى النيران (تصوير: الشبكات العربية)

السنوار «البراغماتي»؟

يرى من عرفوا السنوار أنه أدار في بعض مراحل الأَسْر سياسة «براغماتية». يقول منصور: «ربما يُفاجأ البعض أنه شخص يعقد صفقات. عقَد صفقات في مراحل سابقة مع الإسرائيليين، وهو قادر على التوصل لحلول وسط ومساومات في مراحل معينة لكن ضمن توجهاته».

لكن، اليوم وبينما باتت إسرائيل تصف السنوار بالرجل «الحي الميّت» وتكثّف من عمليات البحث عنه فوق الأرض وتحتها في أرجاء القطاع الممدد تحت النار والدمار، يرى منصور أن أي زعيم إسرائيلي الآن أو مستقبلاً لن يكون قادراً على التعايش مع بقاء السنوار في قطاع غزة، «حجم الحقد والتحريض والاتهامات والمسؤوليات التي أُلقيت عليه، والتعبئة التي قامت بها إسرائيل للشارع والإعلام وعلى مستوى العالم لا تُمكّن إسرائيل من الرجوع خطوة للوراء أو عقد صفقة معه تُبقيه في غزة في وضع طبيعي». مضيفاً: «لا يمكن لإسرائيل أن تسلّم ببقائه حياً».

إلا أنه وبعد نحو 10 أشهر من الحرب وما خلَّفته من خسائر ودمار، لا يرى طالب أي نافذة للمرونة لدى زعيم «حماس»، مشيراً: «لا أتوقع منه تقديم أي مرونة بعد هذا الثمن الكبير الذي دفعه. أعتقد أن خطته وتوقعاته للحرب أنها مستمرة إن لم يكن لأشهر مقبلة، فلسنوات».