مخيمات الضفة... قطعة من «جحيم غزة»

«الشرق الأوسط» رصدت واقعها مع تصاعد العمليات العسكرية

TT

مخيمات الضفة... قطعة من «جحيم غزة»

نازحون يعودون لتفقد بيوتهم في مخيم جنين بعد انتهاء الاقتحام الإسرائيلي (الشرق الأوسط)
نازحون يعودون لتفقد بيوتهم في مخيم جنين بعد انتهاء الاقتحام الإسرائيلي (الشرق الأوسط)

صباح الثلاثاء 21 مايو (أيار) كان يفترض أن يكون صباحاً عادياً في مدينة جنين. فبعد ليلة لم تعكر صفوها اقتحامات الجيش الإسرائيلي أو عمليات الاغتيال والمداهمات، دبّت الحركة في أرجاء المدينة. سار الموظفون والعمال والطلبة إلى أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم كما يفعلون كل صباح، وشرّعت المحال التجارية أبوابها إيذاناً ببدء يوم جديد. بيد أن الدقائق القليلة التي تلت حملت فصلاً دامياً آخر من فصول المدينة الحزينة.

لا أحد ممن شقوا طريقهم في شوارع جنين ذاك الصباح كان يعلم أن ساعة الصفر لعملية عسكرية إسرائيلية موسعة في المدينة كانت قد دنت، وأن الدقائق القليلة التالية ستحيل الشوارع والطرقات والبنايات المحيطة إلى ساحة حرب مفتوحة. كانت قوة إسرائيلية خاصة قد تسللت داخل سيارة تحمل لوحة فلسطينية، وعمدت بنشر فرق من القناصة فوق عدد من الأبنية والعمارات تمهيداً لتحرك عسكري في المنطقة.

بعد الساعة الثامنة بقليل، شرَعت القوة الخاصة رفقةَ القناصة بإطلاق الرصاص على «كل ما يتحرك أمامها»، بحسب ما روى شهود، فقتلت على الفور 7 من سكان المدينة، بينهم تلميذان ومعلم وطبيب جراح.

محمود خرج لتقديم امتحاناته فقتله قناص قرب مدرسته

أحد التلميذين كان محمود حمادنة (15 عاماً)، طالب في الصف التاسع. غادر بيته في الصباح الباكر رفقة شقيقه التوأم للالتحاق بالمدرسة قرب مخيم جنين، وتقديم امتحانات آخر العام الدراسي. بصوت مختلج وبعينين مثقلتين بألم الفقد، يقول والد محمود المفجوع بخسارة نجله إنه اتصل به فور انطلاق صفارات الإنذار في المخيم، فأجابه أنه وصل المدرسة مع شقيقه. يضيف: «حينها شعرت بالاطمئنان على أنهما بخير».

سكان مخيم جنين يشيعون ضحايا العملية العسكرية الإسرائيلية أواخر مايو الماضي (الشرق الأوسط)

بيد أن الاقتحام الإسرائيلي المفاجئ أحدث إرباكاً كبيراً في مؤسسات المدينة كافة، ما دفع المسؤولين إليها لاتخاذ إجراءات الإخلاء والطلب من الطلاب والموظفين والعاملين العودة إلى منازلهم خشية تفاقم الأوضاع، وتجنباً لسيناريوهات الحصار التي سبق أن تعرضوا لها في اجتياحات سابقة، ما استدعى تدخل «الصليب الأحمر» ومنظمات دولية لإفساح المجال أمام عودة الطلاب إلى منازلهم.

يروي والد الطفل محمود تفاصيل تلك اللحظات الثقيلة، في حديثه مع «الشرق الأوسط»، يقول: «تفاجأت بعودة شقيق محمود وحيداً إلى البيت... حاولت الاتصال به، لكن هاتفه لا يجيب إطلاقاً. كررت الاتصال أكثر من 15 مرة دون رد». كان محمود في الأثناء قد شقّ طريقه عائداً إلى منزله على دراجته الهوائية. وما أن غادر بوابة مدرسته حتى عاجله قناص إسرائيلي اعتلى إحدى البنايات القريبة بـ5 رصاصات اخترقت صدره ورأسه.

«اتصلت مجدداً، فأجاب أحدهم وقال لي إن صاحب الهاتف موجود في المستشفى. لم يعرف اسمه. قال إنه وصل مصاباً»، يستذكر والد محمود التفاصيل بحرقة وألم شديدين، مضيفاً: «فقدت عقلي حين علمت أن ابني قد أصيب... توجهت سريعاً مع زوجتي إلى المستشفى. قدت السيارة بسرعة كبيرة... كانت القوات الخاصة منتشرة في المنطقة حولنا، أطلق قناص النار باتجاهنا... وصلنا المستشفى وأنا أعتقد أن ابني مصاب، فوجدته قد استشهد. لم ألحق به، كان قد فارق الحياة».

إسرائيل تطيل أمد عملياتها داخل الضفة

كانت صافرات الإنذار تدوي في أرجاء مخيم جنين، فيما انتشرت عناصر الكتائب العسكرية الفلسطينية لاتخاذ مواقعها في الشوارع والميادين بعد اكتشاف أمر الوحدة الإسرائيلية الخاصة، فاندلعت اشتباكات عنيفة، ترددت أصداؤها في أرجاء المدينة.

آثار الدمار الذي طال البنى التحتية الرئيسية في مخيم جنين أواخر مايو الماضي (الشرق الأوسط)

في الأثناء، تقدمت أرتال من المركبات العسكرية الإسرائيلية، ترافقها جرافات ثقيلة، وتحوم فوقها طائرات مسيرة، نحو من مداخل المدينة، التي لطالما مثلت معقلاً رئيسياً للعمل الفلسطيني المسلح في الضفة الغربية طيلة عقود مضت، تزامناً مع إعلان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي عن البدء في عملية عسكرية موسعة في جنين بهدف القضاء على مقاتلين فلسطينيين.

لم يحمل بيان الجيش الإسرائيلي تفاصيل حول العملية الجديدة، إذ لم يعلن الجيش هدفاً واضحاً للعملية ولم يضع سقفاً زمنياً محدداً لها أسوة بمرات سابقة. مثّلت العملية وحجم القوات المشاركة فيها - الذي قدّرت بأكثر من ألف جندي، وكذلك تحركاتها وتمركزاتها على الأرض، واحتلالها عدداً من المنازل والبنايات، ناهيك عن فرضها حصاراً محكماً على المخيم - تطوراً في استراتيجية الجيش الإسرائيلي في جنين ومدن شمال الضفة الغربية بشكل عام، وتحولاً في شكل العمليات من الاقتحامات الليلية والمطاردات الساخنة التي تمتد لساعات، إلى عمليات موسعة تمتد لأيام.

شوارع جنين... اشتباكات وانفجارات وسحب سوداء

كان فريق «الشرق الأوسط» ذاك الصباح قد وصل إلى مشارف جنين في مهمة معدة مسبقاً لرصد واقع المدينة بعد أشهر من الحرب الممتدة في غزة. تزامن وصولنا لمداخل المدينة مع بدء العملية العسكرية الإسرائيلية وتصاعد القتال فيها.

خلت الشوارع تماماً إلا من صوت الرصاص ودوي الانفجارات المتتالية التي تخلّفها العبوات الناسفة واستهدافات الجيش وضرباته. غطت سحابة سوداء سماء المدنية التي لم تفارقها الطائرات المسيرة. فيما أغلقت المحال أبوابها، ولاذ السكان إلى بيوتهم. أضحت الشوارع والأزقة والحارات ساحة حرب مفتوحة بين المقاتلين الفلسطينيين ووحدات الجيش المدعومة بالقناصة والمتحصنة في عربات مصفحة.

فلسطيني وسط مدينة جنين خلال اقتحام القوات الإسرائيلية أواخر مايو الماضي (الشرق الأوسط)

فرض الجيش حصاراً على المخيم، أو كما يسميه «عش الدبابير»، ومنع حركة الدخول أو الخروج منه، وقطع إمدادات الكهرباء والاتصالات، حتى بات بقعة معزولة عن العالم الخارجي. مَنعت المركبات العسكرية دخول سيارات الإسعاف لإخلاء الإصابات أو الحالات المرضية، بل أطلقت النار عليها، كما منعت وصول الطواقم الصحافية للمنطقة، فيما شرعت الجرافات العسكرية في تجريف عدد من الشوارع والميادين وهدم بنى تحتية حيوية.

تواصلت العملية العسكرية الإسرائيلية 48 ساعة قبل انسحاب القوات منها، لنتمكن بعد ذلك من دخول المخيم وحاراته، ولتتكشف أمامنا آثار المعركة في المدينة ومخيمها.

ترك الرصاص بصمةً واضحةً على جدران المنازل والمتاجر بين الأزقة الضيقة، فيما تركت الحرائق علاماتها على بعض نوافذ البيوت والمساكن المتلاصقة في مساحة ضيقة لا تزيد عن 0.42 كيلومتر مربع، يسكنها نحو 12 ألف نسمة. بدا نصيب بعض البيوت الأخرى أكبر، إذ لحقها دمار كبير بعد أن قامت الوحدات الإسرائيلية بنسفها وتسويتها بالأرض. كذلك ألحقت الجرافات العسكرية دماراً بالشوارع والميادين والبنى التحتية التي طالتها أعمال تجريف لم تتوقف طيلة اليومين الماضيين.

الحاضنة الاجتماعية... هدف للعمليات العسكرية

كان الجيش الإسرائيلي صعّد من عملياته مؤخراً، التي تطول البنى التحتية الحيوية في المدينة والمخيم، إذ باتت هدفاً رئيسياً للاعتداءات الإسرائيلية، في مسعى، كما يرى السكان هنا، للضغط على الحاضنة الشعبية للكتائب المسلحة ومعاقبتها. ويرى جمال حويل، عضو «المجلس الثوري» لحركة «فتح» والمقاتل السابق إبّان معركة جنين عام 2002، في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن إسرائيل تسعى عبر سياسات التدمير والتجريف لضرب الحاضنة وربط دعمها للعمل المسلح بمشاهد الدمار والخراب.

آثار الدمار الذي طال البيوت في مخيم جنين أواخر مايو الماضي (الشرق الأوسط)

يقول: «نحن ندرك من تجربة طويلة جداً منذ عام 2002 حين دخل الاحتلال إلى مخيم جنين في أكبر معركة بعد عام 1967، ودمّر 1200 بيت وقتل العشرات في المخيم، أن الاحتلال يركز على الانتصار على الوعي الفلسطيني. وبالتالي يركز على الحاضنة الاجتماعية حتى تصبح المعادلة أمامها، المقاومة تقابل الخراب»، مضيفاً: «لكن هذه الحاضنة الشعبية تدرك أن المقاومة هي من تحضر العزة والكرامة والحرية، رغم الدمار الذي يحدثه هذا العدو».

ضحايا جنين... الأعلى في الضفة الغربية

منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول)، كثّف الجيش الإسرائيلي من عملياته العسكرية في جنين ومدن الضفة الغربية. ونفذ الجيش أكثر من 70 اقتحاماً لجنين منذ اندلاع الحرب في غزة، قتل خلالها أكثر من 142 فلسطينياً، ما يمثل الحصيلة العليا لعدد الضحايا في الضفة الغربية، الذي تجاوز 540 قتيلاً، فيما بلغت أعداد الجرحى 5200، كما اعتقل الجيش أكثر من 8000 فلسطيني.

الطواقم الطبية تنقل إصابات خلال اقتحام الجيش الإسرائيلي لمدينة جنين في مايو الماضي (الشرق الأوسط)

كما دفع الجيش بالطيران الحربي لميدان حربه في جنين لأول مرة منذ الانتفاضة الثانية، إذ شنّ عدداً من الغارات على أهداف في المدينة ومخيمها، طالت عدداً من المقاتلين في «كتبة جنين» التابعة لـ«سرايا القدس» الجناح العسكري لـ«حركة الجهاد الإسلامي».

الضفة... جبهة خارج حسابات الهدنة

تظل جبهة الضفة الغربية ساحة غير مشمولة بحسابات ومفاوضات الهدنة وترتيبات وقف إطلاق النار المرتقبة في غزة، ما يثير مخاوف عميقة لدى الفلسطينيين بأن الفترة المقبلة قد تحمل مزيداً من فصول التصعيد. هذه المخاوف تعززها تصريحات الوزيرين في حكومة نتنياهو، بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، التي توعدا فيها بنقل مجريات الحرب في غزة إلى الضفة الغربية.

فور انتهاء معركة الساعات الثماني والأربعين الأخيرة، وانسحاب القوات الإسرائيلية، تحدثت «الشرق الأوسط» مع مقاتلي كتيبة جنين. قال لنا أحد قادتها إن هذه المعركة جاءت مختلفة عن سابقاتها، إذ شهدت «تكتيكاً عالياً ودقيقاً» من مقاتلي الكتيبة الذين باتوا يلجأون أكثر من السابق، في مواجهة القوات الإسرائيلية، للكمائن والعبوات الناسفة المزروعة، التي أظهرت تطوراً في فاعليتها، مقارنة بالمراحل السابقة. الأمر الذي أثار قلقاً عميقاً لدى الدوائر العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وصعّد من وتيرة المداهمات والاستهدافات للبنية التحتية للكتائب المسلحة ومعامل العبوات والمتفجرات.

مسلحون من "كتيبة جنين" خلال تشييع جثامين ضحايا العملية العسكرية الإسرائيلية في مايو الماضي (الشرق الأوسط)

وأضاف أن الكتيبة لم تتلقَّ خسائر في صفوفها خلال هذه الجولة، مشيراً إلى أن «جميع الشهداء الذين سقطوا كانوا من المدنيين، ولم يفلح المحتل في قتل أو إصابة أي من عناصر الكتيبة»، ما يعكس تحولاً في عمل المقاتلين على الأرض خلال الاقتحامات الإسرائيلية وتكيفاً مع معطيات القتال، الذي يعتمد فيه الجيش على الوحدات الخاصة والقناصة، وكذلك على الغطاء الجوي.

وأشار الشاب إلى أن الحرب الدائرة في المخيم امتدادٌ للحرب في غزة ولعملية «طوفان الأقصى»، موضحاً أن المواجهة مع الجيش الإسرائيلي ارتفعت وتيرتها منذ 7 أكتوبر. ويضيف أن وحدات من الجيش كانت قاتلت في غزة، باتت تقاتل اليوم في جنين: «هذا باعترافهم وشهادات جنودهم بأن بعض قوات الجيش التي كانت تقاتل في غزة، واكتسبت خبرة هناك، تم استدعاؤها للدخول لمخيم جنين. والفرق بين ما قبل 7 أكتوبر وبعده هو عدد القوات التي تدخل إلى المخيم، ناهيك عن تصاعد ضربات الطيران والقصف وأعداد الآليات».

عمليات الجيش... من «جزّ العشب» إلى «الحسم الشامل»

تكاد العمليات التي تمتد لأيام تكون جولات «استطلاعية» لعمليات أوسع وأطول أمداً، تهدف من خلالها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية إلى بسط سيطرتها الأمنية بشكل أوسع على الضفة الغربية، وتضييق الخناق على الفصائل المسلحة التي تنشط في المدن والبلدات والمخيمات. وشرعت القوات الإسرائيلية مؤخراً في تصعيد مداهماتها وضرباتها على البنى التحتية للكتائب، وكذلك على بعض مصادر تمويلها. كما شنَّ الجيش سلسلةً من المداهمات لمحال الصرافة وتحويل الأموال، ونفّذ اعتقالات بحقّ بعض العاملين فيها، وزاد من وتيرة استهدافاته لمعامل تصنيع العبوات الناسفة. وتواصل جرافاته إزالة «الخطوط الدفاعية» على مداخل المخيمات من سواتر ترابية وأحجار إسمنتية لتأمين دخول وحدات الجيش لمناطق أعمق داخل المخيم.

دوريات إسرائيلية في شوارع جنين مايو الماضي (الشرق الأوسط)

وتعكس مجريات العمليات الإسرائيلية تبدلاً في سياسة «جز العشب» التي أطلقها الجيش الإسرائيلي قبل عامين بهدف ملاحقة المجموعات المسلحة واغتيال أو اعتقال قادتها وعناصرها، إلى التوجه اليوم نحو استراتيجية تحمل مؤشرات بالمضي لـ«الحسم الشامل».

كانت الضفة الغربية شهدت أكثر من 460 عملية إطلاق نار واشتباك منذ بداية العام الحالي، استهدفت قوات الجيش والمستوطنين، وأوقعت 13 قتيلاً وعشرات الإصابات.

مخيم نور شمس... محاكاة للتدمير في غزة

بات السكان في مخيم نور شمس للاجئين في مدينة طولكرم، شمال الضفة الغربية، يطلقون عليه اسم «غزة الصغرى»، إذ يشهد المخيم الواقع شرق المدينة تصعيداً عسكرياً إسرائيلياً، ارتفعت وتيرتُه مع اندلاع الحرب في غزة، كثّفت خلاله إسرائيل من هجماتها عليه خلال الشهور الماضية، مخلفة دماراً كبيراً في أحيائه وأزقته الضيقة.

وما أن وصلنا مدخل المخيم حتى بدأت تتكشف مشاهد الدمار. لحق الدمار والخراب بواجهات البيوت والمحال التجارية المطلة على الشارع الرئيسي المقابل للمخيم، والواصل بين مدينتي طولكرم ونابلس. داخل المخيم، سلكنا طريقاً ترابية وعرة خلّفتها أعمال التجريف نحو حارة المنشية وسط المخيم. بدت بيوت الحارة وبناياتها أثراً بعد عين. حفرت الجرافات الإسرائيلية في قلب المخيم بقعة ترابية واسعة تكسوها أكوام من الركام وجدران البيوت المهدمة، فاقتلعت هنا مربعات سكنية كاملة، وهجَّرت سكانها، في استدعاء لسياسة التدمير الواسع في غزة.

تقول نهاية الجندي، إحدى سكان المخيم وعضو لجنة الخدمات الشعبية، لـ«الشرق الأوسط»، بينما وقفت وسط بقعة ترابية فارغة على أنقاض بيوت حارة المنشيّة، التي سوّتها الجرافات الإسرائيلية بالأرض، وأحالت مجمعات سكنية كانت تأوي 40 أسرة إلى ركام، إن حال مخيم نور شمس «شبيه بحال غزة، وأطلق عليه اسم غزة الصغرى، وذلك بسبب تدمير مجمعات سكنية كاملة».

وتضيف الجندي: «الفرق بيننا وبين غزة هو وجود جثث تحت الأنقاض. نخشى أن يتم تدمير البيوت هنا على رؤوس ساكنيها. فنحن أمام نفس الحال ونفس الوجع ونفس الفقدان، ونفس المأساة ونفس التدمير وتفجير البنيان... هذه غزة رقم 2».

آثار الدمار الذي طال البيوت والمتاجر في مخيم جنين (الشرق الأوسط)

في أبريل (نيسان) الماضي، في عملية عسكرية امتدت 3 أيام، حاصرت القوات الإسرائيلية المخيم وقطعت عنه إمدادات المياه والكهرباء والاتصالات ، وشرعت الجرافات العسكرية من طراز «D-9» و«D-10» في قضم بيوت حارة المنشية المتراصة وتسويتها بالأرض، بينما كان بعض سكانها داخل بيوتهم، فشقّت شارعاً واسعاً لدخول الآليات العسكرية والجنود فوق أنقاض البيوت.

وتلاحق إسرائيل «كتيبة طولكرم» التي تنشط في المخيم، وتضم عناصر من «سرايا القدس» الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي»، وكذلك «كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس»، وكذلك «كتائب شهداء الأقصى» التابعة لحركة «فتح».

وتصاعدت في الآونة الأخيرة أعمال التجريف التي ترافق الاجتياحات الإسرائيلية، التي يقول الجيش عنها إن هدفها إبطال العبوات المزروعة على جنبات الطرق والأزقة وهدم التحصينات البدائية للكتائب الفلسطينية، بيد أن حجم الدمار والخراب التي تخلّفه أعمال التجريف التي تطول البنى التحتية الحيوية والمنشآت المدنية من بيوت ومدارس وغيرها، تعكس سياسة عقاب جماعي تطول سكان المخيمات.

تشير الأرقام الرسمية الفلسطينية وأرقام وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «أونروا» إلى أن نحو 2000 بيت في المخيم لحقَ بها دمار كليّ أو جزئي، ما يمثل نحو نصف عدد البيوت في المخيم. واضطر سكان البيوت المدمرة، ولا سيما تلك التي سوّتها الجرافات بالأرض، إلى النزوح خارج المخيم واللجوء لمساكن مؤقتة لحين إعادة إعمار بيوتهم، وهو ما يبدو الأفق أمامه غير واضح المعالم، في ضوء التحديات المالية التي تواجه «أونروا»، وكذلك السلطة الفلسطينية، في ظل استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية وأعمال الهدم والتجريف التي طالت سابقاً بيوتاً جرى ترميمها وإصلاحها، ما يجعل مسار إعادة الإعمار معقداً وشائكاً ورهناً بتطورات الأوضاع على الأرض.

شبح التهجير يقفز للواجهة

تدفع هذه التطورات في المخيمات بشبح التهجير إلى الواجهة، إذ تخشى أوساط فلسطينية واسعة من اتساع رقعة العمليات العسكرية والإسرائيلية وتصاعد وتيرة الهدم والتدمير والتجريف للبيوت والمنشآت، ما قد يخلق مشاهد من النزوح القسري، ويمثل شروعاً فعلياً بتنفيذ سياسة اقتلاع المخيمات وإفراغها من السكان. يترافق ذلك مع سياسات توسيع الاستيطان في الضفة وتسريع مخططات الضم، كما يتوافق مع «خطة الحسم» الذي وضعها وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش، إذ يدعم كثير من الشواهد الملموسة على الأرض هذه المخاوف من تصاعد حدة الهجمات الإسرائيلية في المخيمات، وخلق واقع جديد فيها لصالح مشاريع الاستيطان والتوسع.

وتشير الأرقام الفلسطينية إلى أن عدد المنشآت التي تم هدمها في الضفة الغربية منذ عام 2023 تجاوز 1100 منشأة، ما أسفر عن تشريد أكثر من 4300 شخص، وهو ما يمثل زيادة بنحو 5 أضعاف، مقارنة بعام 2022 الذي بلغ فيه عدد المهجرين 700 شخص.

أبو رامي من سكان حارة المنشية بمخيم نور شمس يتفقد منزله الذي هدمته الجرافات الإسرائيلية في مايو الماضي. (الشرق الأوسط)

ويروى أبو رامي، من سكان حارة المنشيّة المدمرة، لـ«الشرق الأوسط»، اللحظات الصعبة التي عاشها هو وعائلته حين تقدمت الجرافات الإسرائيلية نحو بيته الذي تسكنه 3 عائلات وشرعت بعمليات الهدم والتجريف، بينما كان السكان بالداخل. يقول: «لو بقينا داخل البيت لسقطت جدرانه علينا. دخلت الجرافات وشرعت بهدم هذا الجزء من البناية التي تسكنها 3 عائلات»، مشيراً بيده نحو غرف البيت الذي قضمته الجرافات وأحالته خراباً.

نزح الرجل الستيني مع عائلته وأبنائه خارج المخيم لحين تأمين عودتهم. يتحسر على ما حلّ ببيته وحارته، قائلاً: «نرجو الله أن تنفرج الأمور، وألا نبقى مشتتين هنا وهناك... فبعد خسارة البيت، ما قيمة حياتنا؟»


مقالات ذات صلة

لماذا يُثير حصول ترمب على «جائزة فيفا للسلام» جدلاً؟

الولايات المتحدة​ ترمب وإنفانتينو في حديث سابق حول المونديال (أ.ف.ب)

لماذا يُثير حصول ترمب على «جائزة فيفا للسلام» جدلاً؟

يُتوقع أن يُسلم رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) جياني إنفانتينو، للرئيس الأميركي دونالد ترمب "جائزة الفيفا للسلام" عند إجراء قرعة كأس العالم يوم الجمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن )
المشرق العربي جنود إسرائيليون خلال عملية في بلدة القلقيلة في الضفة الغربية الخميس (د.ب.أ)

إسرائيل: إقرار موازنة تخدم الاستيطان بالضفة

طلبت وزارة الدفاع الإسرائيلية 144 مليار شيقل وحصلت على 112 بما يزيد بنحو 20 ملياراً على ميزانية العام الحالي 2025.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي السفير الأميركي لدى تركيا والمبعوث الخاص لسوريا توماس براك خلال مقابلة مع وكالة «رويترز» في بيروت - لبنان - 22 يوليو 2025 (رويترز)

براك: على لبنان أن يناقش مع إسرائيل مسألة «حزب الله»

قال المبعوث الأميركي توم براك، اليوم (الجمعة)، إنه ينبغي للبنان أن يناقش مع إسرائيل مسألة «حزب الله»، معبّراً عن أمله في ألا توسع إسرائيل هجماتها على لبنان.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (رويترز)

إسرائيل ترسل وفداً إلى القاهرة لبحث إعادة رفات آخر رهينة في غزة

أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الخميس، أن وفداً يضم ممثلين للجيش وأجهزة أمنية، زار مصر للبحث في إعادة رفات آخر الرهائن المحتجزين بقطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
خاص المبنى المتضرر من الهجوم الإسرائيلي على قادة «حماس» في الدوحة سبتمبر الماضي (رويترز) play-circle

خاص إجراءات أمنية جديدة في «حماس» خشية اغتيال قادتها بالخارج

باتت حركة «حماس» تتحسب لعملية اغتيال إسرائيلية جديدة، محتملة لبعض قياداتها في خارج الأراضي الفلسطينية، وتحدثت مصادر كبيرة عن قلق من حدوثها في دولة غير عربية.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
TT

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

فوجئ الغزيون منذ أشهر قليلة، بإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي لمؤسسة غامضة اسمها «المجد أوروبا»، تحفزهم على الهجرة وتعدهم بالوصول إلى أوروبا.

ورغم كثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، لم يتوانَ البعض عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم. وبالفعل، سيّرت المؤسسة 3 رحلات جوية لنحو 300 فلسطيني خرجوا من القطاع في ظروف استثنائية ورحلة يكتنفها الكتمان والسرية. لكن الوجهة لم تكن بلدان أوروبا الموعودة؛ وإنما جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

«الشرق الأوسط» تحدثت إلى إحدى المسافرات على متن تلك الرحلات، وتعقبت تفاصيل تسجيل الأسماء والمبالغ المدفوعة، ورصدت انطلاق الركاب بحافلات صغيرة من دير البلح، تحميها مسيّرات حتى لحظة الوصول إلى مطار رامون الإسرائيلي، ومن هناك تقلع الطائرات نحو نيروبي، ثم جوهانسبرغ، لتترك المسافرين أمام مصير مجهول.

وبين اتهامات دولية بأن المؤسسة تنفذ خطة إسرائيلية - أميركية لإفراغ غزة من سكانها، ورغبة المدنيين بالفرار من جحيم الحرب والجوع، تستمر الإعلانات على وسائل التواصل، ويستمر كثيرون في محاولات النجاة بأي ثمن.


رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

TT

رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)
طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)

لأشهر عديدة استمرت جنين (ب)، من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، تتواصل مع قائمين على إعلان ممول عبر «السوشيال ميديا»، يهدف لاستقطاب الغزيين للهجرة إلى الخارج. وعمد الإعلان إلى تحديد الوجهة «إلى أوروبا» لتحفيزهم بشكل أكبر، باستغلال الحرب الدامية في القطاع.

الإعلان الممول عبر «فيسبوك» حمل اسم مؤسسة «المجد أوروبا»، التي يسمع بها الغزيون داخل القطاع للمرة الأولى، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، إلا أن البعض لم يتوانَ عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم، أو بصيص أمل يمنحهم حياة مختلفة بعيداً عن أصوات القصف وأهواله التي لم تتوقف على مدار عامين.

 

رحلة محفوفة بالكتمان

لم يكن الوصول إلى أحد الغزيين الذين استقلوا تلك الرحلات بالأمر اليسير؛ ففضلاً عن السرية المطبقة التي أحاطت وتحيط بخروجهم من القطاع وسط ظروف أمنية وإنسانية سيئة للغاية، فإن ظروفهم الحالية وأوضاعهم القانونية لم تتثبت بعدُ في البلدان التي وصلوا إليها. ومن قريب إلى آخر، وبشبكة ثقة عبر أفراد الأسرة المقربين، تواصلنا عبر «واتساب» مع جنين التي تحدثت إلينا بعد تردد كثير، وفضّلت عدم ذكر هويتها كاملة، خشية الملاحقة من الدولة الموجودة فيها حالياً.

صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

وتقول جنين لـ«الشرق الأوسط» إنها للوهلة الأولى كانت مترددة جداً في التواصل مع الرقم الذي وضعته المؤسسة في إعلانها، ثم قررت المجازفة والتواصل، وبعد التأكد من أنها تتحدث مع أشخاص يستعملون أرقاماً إسرائيلية، قررت وضع اسمها وزوجها وثلاثة من أبنائها، ضمن من قرروا الهجرة من غزة، بحثاً عن حياة آمنة.

تشير جنين إلى أنها كانت تخشى أن تقع ضحية عملية نصب كما جرى مع الكثير من الغزيين خلال وقبيل الحرب، إلا أنها تلقت تطمينات ممن كانوا يتحدثون معها بأن دفع المال بالنسبة لهم يأتي كـ«خطوة أخيرة ولا يهتمون به»، وهذا ما شجعها على استكمال خطواتها نحو البحث عن أمل جديد لها ولعائلتها التي عانت كثيراً خلال الحرب.

وكشفت السيدة أن الإجراء بدأ بإرسال معلومات تفصيلية عنها وعن أفراد عائلتها الراغبين في السفر، مثل الاسم الرباعي ورقم الهوية ورقم جواز السفر، ومعلومات شخصية متكاملة، ثم قالت إنه طُلب منها مبلغ 1500 دولار عن كل فرد بمن فيهم الأطفال، وإنها أبدت استعدادها لدفع المبلغ عند اكتمال الإجراءات.

تدقيق أمني في الأسماء

وبقيت جنين تتواصل بين الفينة والأخرى مع القائمين على المؤسسة لمعرفة تفاصيل عن مواعيد السفر، مشيرةً إلى أنها كانت تتلقى «تطمينات بأن العملية مستمرة وفق الخطوات المطلوبة»، ولافتةً إلى أن المؤسسة أوضحت لها أن «هناك إجراءات فحص أمني مشددة تجري حول كل شخص» سيخرج من القطاع، حتى لا يكون «بينهم عناصر من (حماس) أو أي فصيل فلسطيني آخر يوصف بأنه إرهابي».

وذكرت أنه بعد 3 أشهر ونصف الشهر تلقت رسالة مفاجئة على هاتفها الجوال، وكذلك هاتف زوجها، تبلغهم بالاستعداد خلال 6 ساعات للتجهّز، وألا يجلبوا إلا الأوراق الثبوتية اللازمة، مشيرةً إلى أنه تم تحويل الأموال المطلوبة للسفر قبل ذلك بأيام عبر حسابات تتعامل بشكل أساسي مع العملات المشفرة، وعبر التطبيقات الإلكترونية للمحافظ الخاصة بالعملات الأجنبية.

من دير البلح عبر مطار رامون

وبحسب جنين، خرجت العائلة بحافلة صغيرة من مكان قرب دير البلح وسط قطاع غزة، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، حملتها وعائلتها مع نحو 40 شخصاً آخرين، وتوجهوا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وصولاً إلى نقطة عسكرية في ما يبدو أنها شرق خان يونس أو رفح، ومنها نُقلوا إلى داخل معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون الإسرائيلي في النقب، ومن هناك سافروا إلى جنوب أفريقيا. ولفتت جنين إلى أنه كان هناك عدد آخر من سكان القطاع وصلوا قبلهم من خان يونس.

ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الحافلة حتى وصولها للموقع الإسرائيلي ما بين خان يونس ورفح، حلقت طائرتان مسيّرتان فوق الحافلة ورافقتاها حتى وصولها لنقطة العبور إلى الداخل الإسرائيلي.

فلسطينيون يمرون قرب عربة عسكرية إسرائيلية مدمرة في مدينة غزة الخميس (أ.ب)

وكانت جنين (ب) وأفراد عائلتها جزءاً من الرحلة الأولى التي تنظمها مؤسسة «المجد أوروبا»، وتمت عملية وصولها ودخولها إلى جنوب أفريقيا عبر دولة أخرى، أسهل بكثير مما واجهه فلسطينيون آخرون احتُجزوا ساعات طويلة في طائرة أقلّتهم من نيروبي بعد أن اكتشفت السلطات أنهم لا يمتلكون أوراقاً كاملة، منها تذاكر عودة، وكذلك ختم جوازات سفرهم من قبل إسرائيل، كما كان في الرحلة التي على متنها جنين (ب).

 

رحلات «المجد أوروبا»

 

وتظهر بعض الشهادات لفلسطينيين أن مؤسسة «المجد أوروبا» نجحت في تسيير 3 رحلات جوية لفلسطينيين من داخل قطاع غزة، من مايو (أيار) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2025، وكانت الأولى وجهتها إندونيسيا، وعلى متنها 57 من سكان القطاع، بعد أن هبط من كانوا على متنها في بودابست، انطلاقاً من مطار رامون نفسه، في حين كانت الرحلة الثانية في أكتوبر الماضي للانتقال من مطار رامون باتجاه نيروبي، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهي الحال ذاتها مع الرحلة الأخيرة خلال الشهر الماضي.

وأثارت هذه الرحلات العديد من التساؤلات حول مؤسسة «المجد أوروبا»، التي تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها «منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، متخصصة في تقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع والحروب».

عرب في إسرائيل خلال مظاهرة ضد تهجير الغزيين في 8 فبراير من العام الحالي (أ.ف.ب)

وأشارت المؤسسة إلى أن مقرها الرئيسي في القدس، وتحديداً حي الشيخ جراح، لكن زيارة صحافيين فلسطينيين في القدس إلى الموقع المذكور كشفت أنه لا يوجد أثر فعلي للمؤسسة، وأن المقر الذي وضعته تبيّن أنه لمبنى مهجور.

وتزعم المؤسسة أنها منذ العام الماضي تركز جهودها بشكل أساسي على دعم أهل غزة، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، بما يشمل تسهيل وصول المرضى إلى الرعاية الطبية الحرجة، وتأمين السفر إلى الخارج للعلاج، وضمان مرافقة ذويهم لهم طوال فترة العلاج.

هل «الصحة العالمية» متورطة؟

يفتح هذا الأمر تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مؤسسة «المجد أوروبا» هي مَن أدارت وتدير فعلياً عمليات خروج بعض الجرحى ومرافقيهم من داخل قطاع غزة، تحت ستار التنسيق مع «منظمة الصحة العالمية»، للعلاج في الخارج، ومن ثم مغادرتهم لدول أوروبية وغيرها.

وتفيد مصادر أمنية من غزة لـ«الشرق الأوسط» بأنه في الحقيقة كان هناك العديد من الرحلات التي تم تسييرها من داخل القطاع في خضم الحرب، وكان هناك استغلال واضح للظروف الأمنية وملاحقة رجال الأمن والمقاتلين وغيرهم، الأمر الذي سهّل عمليات السفر بهذه الطريقة المشبوهة.

وصول عائلات فلسطينية من غزة إلى مطار جنيف لتلقي العلاج في مستشفيات سويسرية بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (إي بي أي)

وتشير المصادر إلى أن هناك عائلات خرجت بذريعة المرض والحاجة للعلاج، وهناك أيضاً مرضى فعليون سافروا إلى دول عربية وأوروبية للعلاج، وذلك من خلال آلية رسمية وعبر منظمة الصحة العالمية التي كانت جهزت قوائم للمرضى ذوي الأولوية، ومنهم جرحى الحرب.

بالعودة إلى مؤسسة «المجد أوروبا»، فإنه عند فتح موقعها الإلكتروني تظهر تنويهات، منها وضع أرقام شخصين حملا اسم «عدنان» و«مؤيد»، وأحدهما يحمل رقماً فلسطينياً والآخر إسرائيلياً، في حين وُضع رقمان آخران من إسرائيل للمؤسسة للتواصل عبر «واتساب»، داعيةً في التنويه من يدخل الموقع إلى ضمان سير إجراءات التنسيق بشكل سليم، ودفع الرسوم عبر الأرقام التي وُضعت، وعدم التعامل مع أي أرقام أخرى. كذلك تحذّر المؤسسة في تنويه آخر من التعامل مع أي وسيط خارجي، مؤكدةً أنه لا يوجد وساطة في عملية التسجيل، أو تسريع الحصول على تصريح أمني للسفر، أو تفضيل شخص على آخر، في طريقة تهدف إلى تنبيه من يسجل للسفر من الوقوع في الاحتيال أو النصب.

تنفيذ لخطة إسرائيلية

ذهب البعض في قطاع غزة وخارجه إلى التأكيد أن المؤسسة تتبع بشكل مباشر جهات رسمية إسرائيلية، وتأتي في إطار تشجيع الهجرة من غزة لتفريغها. وبالإضافة للأخطاء الإملائية الكثيرة التي ترد في تعريفها بنفسها، وحتى في اسمها، فإن الأرقام المستخدمة إسرائيلية، والأهم أن المؤسسة تقوم بالحصول على موافقات أمنية للسفر إلى الخارج، ما يؤكد أنها على صلة وثيقة بالسلطات الإسرائيلية، وتنطلق رحلاتها من مطار إسرائيلي، ونشاطاتها بدأت تبرز بشكل أساسي بعد سيطرة إسرائيل بشكل أكبر أمنياً على القطاع .

وأكثر من ذلك، كشف مختصون في التكنولوجيا، بينهم فلسطينيون وعرب، أن الموقع التابع للمؤسسة تم إنشاؤه في الثاني من فبراير (شباط) من العام الجاري، وتم تسجيله في آيسلندا.

وأقرت مصادر إسرائيلية في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية بأن مؤسسة «المجد أوروبا» سلّمت الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية قوائم مسبقة تتضمن بيانات الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والذين سجلوا أنفسهم عبر الموقع الإلكتروني أو بالتواصل مع القائمين على المؤسسة.

وبحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن مؤسسة «المجد أوروبا» مرتبطة بشركة «تالنت غلوبس»، وهي شركة مسجلة في إستونيا، ومؤسسها تومر جانار ليند، وهو إسرائيلي - إستوني. وأشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة تنسق مع إدارة في وزارة الدفاع الإسرائيلية أُنشئت بدورها في فبراير من العام الجاري، بهدف «تسهيل الهجرة الطوعية» للغزيين، وقد تم استحداثها بشكل أساسي في أعقاب اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح باب الهجرة الطوعية لسكان القطاع.

أب وطفله يصلان إلى مطار جنيف في سويسرا ضمن رحلة علاجية شملت 13 طفلاً و51 عائلة فلسطينية خرجت من غزة بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (أ.ف.ب)

في الثامن عشر من نوفمبر من العام الجاري أصدرت المؤسسة بياناً أكدت فيه أنها تتعرض لحملة تشويه وتشهير كبيرة، بهدف تجريد سكان غزة من حريتهم في اختيارهم وتقرير مكان عيشهم، وإجبارهم على البقاء تحت خطر مباشر ومعاناة يومية، وحرمانهم من أي فرصة لإنقاذ حياتهم أو تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، مؤكدةً أنه لا علاقة لها بإسرائيل سوى تنسيق عمليات الخروج معها، ومشددةً على أنه لا علاقة لها بـ«الموساد» أو أي جهة استخباراتية.

 

تبادل اتهامات ومصاير مجهولة

واتهمت المؤسسة دبلوماسيين يتبعون السلطة الفلسطينية باستدعاء المسافرين الذين غادروا من خلالها للاستجواب والتهديد.

ويقول أحمد (غ) البالغ من العمر (33 عاماً)، مفضّلاً عدم ذكر هويته، والذي غادر عبر الرحلة الثانية لمؤسسة «المجد أوروبا»، إنه لم يتلقَّ أي تهديدات من أي جهة فلسطينية عقب مغادرته قطاع غزة. لكنه أشار في المقابل إلى أنه تلقى تحذيرات من بعض العاملين في إحدى السفارات الفلسطينية من التعامل مع هذه المؤسسة، وأنه تم الاستفسار منه عن آلية التسجيل والخروج، والأشخاص الذين قابلهم في مطار رامون، بحسب ما أوضح لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح أحمد أن رحلته انطلقت من مطار رامون إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، مشيراً إلى أنه «كان سعيداً جداً بالهجرة مع زوجته ومغادرة قطاع غزة»، وإن اصطدم بواقع حياتي صعب نسبياً.

صورة مقتطعة من فيديو لطائرة ركاب تحمل فلسطينيين من غزة هبطت في مطار جوهانسبرغ ورفضت السلطات إدخال المسافرين القادمين على متنها (وسائل تواصل)

ويلفت الشاب إلى أنه بعد مغادرتهم مطار نيروبي لم يعد أحد من المؤسسة يتابع ظروفهم، وبقي مصيرهم مجهولاً، دون أن يكون هناك من ينتظرهم في جنوب أفريقيا، مشيراً إلى أن وفداً من المؤسسة استقبلهم فقط في مطار رامون، وفي مطار نيروبي، وبعد مغادرتهم الأخيرة لم يكن أحد برفقتهم على متن الطائرة أو في مطار «أو آر تامبو» في جوهانسبرغ. وقال: «تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا بعدما نقلتنا مركبات كانت تنتظرنا أمام المطار إلى بيوت ضيافة بسيطة وعلى نفقتنا الشخصية». علماً إن السلطات في جنوب أفريقيا اعلنت رفضها استقبال مزيد من الوافدين الفلسطينيين على متن هذه الرحلات خوفاً من أن تكون فعلاً تنفيذ لمخطط إسرائيلي بإفراغ غزة والقطاع من السكان.

ولكن على الرغم من كل ذلك كله، ما زال أحمد وزوجته سعيدين بخروجهما من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان في قطاع غزة، كما قال.

 

بين «حماس» والسلطة

تقول المصادر الأمنية بغزة، وهي من حكومة «حماس»، إنها لم تكن تعلم بحقيقة تلك الرحلات والجهة التي تقف خلفها، وكان الاعتقاد السائد أنهم من المرضى، أو ممن لديهم أقارب في أوروبا، ويتم تسهيل سفرهم عبر سفارات تلك الدول للمّ الشمل.

وأكدت المصادر أنها لم تستجوب أو تتواصل مع أي من المسافرين للحصول على المعلومات اللازمة لهم، ولكنها تعمل حالياً لمنع محاولات جديدة من السفر.

العمليات الإسرائيلية تسببت في تهجير 40 ألف فلسطيني حتى الآن بشمال الضفة الغربية (رويترز)

وبينما لم يصدر تعقيب رسمي من السلطة الفلسطينية على الأحداث أو الاتهامات التي وُجهت إليها من مؤسسة «المجد أوروبا»، اكتفت «الخارجية الفلسطينية» بإصدار بيان حذرت فيه من «الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير»، مؤكدة عزمها على ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.

وكانت سفارة فلسطين لدى جنوب أفريقيا أصدرت في الرابع عشر من نوفمبر من العام الجاري تحذيراً شديد اللهجة من استغلال جهة «مضللة ومشبوهة»، كما وصفتها، الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، وخداعهم لتنظيم عملية سفرهم بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة. كما قالت في أعقاب أزمة الرحلة الأخيرة التي وصلت إلى جوهانسبرغ، مؤكدةً أن تلك الجهة حاولت التنصل من أي مسؤولية بمجرد ظهور التعقيدات والإجراءات الروتينية عند وصول المسافرين إلى الدولة المحددة لهم للسفر إليها.

وتقول مصادر أمنية من حكومة «حماس» إنه بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ورغم أن الظروف الأمنية غير مستقرة وتحاول إسرائيل رصد أي تحركات، فإنها ستسعى لمنع مثل هذه الرحلات المشبوهة، وإنها ستتصدى لمثل هذه المحاولات، لكنها لن تعترض أي رحلات هدفها سفر المواطنين للعلاج أو حالات إنسانية، لكن مثل هذه العمليات التي تقف خلفها جهات مشبوهة ستتصدى لها وستعمل على منعها، لمنع تنفيذ الخطة الإسرائيلية - الأميركية، الهادفة إلى تهجير السكان.

الملاحقة والاستمرارية

ويبدو أن المؤسسة تعاني من ملاحقة حقيقية، وتتعرض لحملات إلكترونية مثل الاختراق، ولإجراءات قانونية تُتخذ ضدها من قبل بعض الجهات، الأمر الذي دفع تطبيق «واتساب» لحظر أرقامها المعلنة عبر وسائل التواصل وعبر موقعها الإلكتروني.

فلسطينيون يحملون لافتات كُتب عليها: «لا للتهجير» و«غزة تموت» خلال احتجاج في مخيم النصيرات بغزة (د.ب.أ)

واتهمت المؤسسة في منشور لها عبر «فيسبوك» جهات لم تسمها بأن عملية حظر أرقامها جاءت كجزء من «الهجمة» الموجهة ضد نشاطاتها، مؤكدةً الاستمرار في عملها، وأنها تعمل على معالجة هذه القضية وترتيب أرقام جديدة للتواصل، وأنها ستتواصل مع متابعيها من أرقام بديلة عند جهوزيتها.

وعلى الرغم من كل هذا الضجيج حول المؤسسة وعملها، فإنها ما زالت تواصل استقبال طلبات المسافرين من سكان قطاع غزة، كما يظهر على موقعها الإلكتروني، ومن خلال صفحتها على «فيسبوك»، إلى جانب استمرار الإعلانات الممولة التي تظهر للغزيين عبر شبكات التواصل.

الغزي نادر (ع)، من سكان مدينة غزة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو يبلغ من العمر (41 عاماً)، ومتزوج ولديه 4 أطفال، كان أحد من تسابقوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة، منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، وما زال في عملية تواصل مستمر مع الأرقام التي وضعتها المؤسسة.

غروب شمس خريفية في غزة (رويترز)

ويقول نادر إن الظروف الحياتية الصعبة أجبرته على التفكير في الهجرة، والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله أن تنجح مساعيه في السفر، وأن يحالفه الحظ كما حالف آخرين.

وأضاف: «كل ما أريده أن أخرج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومنها سأغادر إلى أي جهة كانت... ما يهمني أن أرتاح من حياة الخيام، وأن أبحث عن حياة آمنة لي ولزوجتي وأطفالي».


فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
TT

فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)

فاز محمد الحلبوسي، أحد أكثر الفاعلين السنة في العراق تعقيداً، بعشرة مقاعد برلمانية عن بغداد، و35 مقعداً من أصل 329، عن عموم البلاد في الانتخابات التي أُجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

تبدو هذه الأرقام استثنائية لرجل أُقيل في مثل هذه الأيام قبل عامين من منصبه رئيساً للبرلمان، وهو أعلى موقع خصصه العرف السياسي للعرب السنة بعد الرئيس الراحل صدام حسين.

ما الذي جرى في مسيرة رئيس حزب «تقدم» خلال فترة كانت مزدحمة بالعواصف منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟ بينما كانت فصول عنيفة تُطوى في الشرق الأوسط، كان عراقيون يزورون محافظة الأنبار، مسقط رأس الحلبوسي غرب العراق، يلتقطون الصور لشوارع معبّدة وملاعب وأبنية جديدة، ويتساءلون: «أليست هذه نفسها صحراء الرجل الذي عاقبته إيران؟».

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات، أن الحلبوسي الذي تنافس للمرة الأولى على أصوات الناخبين في بغداد قد تفوق فيها بنحو 72 ألف صوت على نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون» الذي جمع أصواتاً أقل بنحو 20 ألفاً. في المشهد الحزبي، فاز «تقدم» منفرداً بفارق 8 مقاعد على الحزب الديمقراطي الكردستاني الخبير في لعبة الاقتراع منذ 3 عقود.

تشكل عودة الحلبوسي نموذجاً فريداً لعلاقات القوة بين الجماعات الطائفية في العراق، وكيفية النجاة من أشدّ معاركها ضراوة. ومثلما تثير العودة أسئلة حول كيفية التعامل أو التعايش مع النفوذ الإيراني في البلاد، تسلط الضوء على نموذج حزبي صارم يتنامى في مجتمع سني لم يعهد خبرة في العمل السياسي، لكنه يستعيد شيئاً من التقاليد الكلاسيكية في احتكار النفوذ وتصفية المنافسين.

الحلبوسي مهندس مدني في منتصف عقده الرابع من بلدة «الكرمة» بمحافظة الأنبار. ومن شركة كانت تُنفذ مشاريع محدودة للبنى التحتية في الفلوجة، وجد طريقه إلى استثمار أشد صعوبة وتعقيداً في السياسة، تتقاطع عنده جماعات شيعية وسنية، تتنافس تحت ظلال إيرانية.

دخل الحلبوسي البرلمان عام 2014. انتقل من لجنة «حقوق الإنسان» التي همّشتها الحياة السياسية، مباشرة إلى المعركة الأساسية؛ صار عضواً في لجنة المال عام 2015 ورئيسها عام 2016. هناك تعرّف على وسطاء الموازنة، إذ يمثلون شبكات الولاء مقابل المنفعة، والخطأ فيها قاتل في لمح البصر.

لم ينتبه اللاعبون الأساسيون يومها إلى شاب سني بلحية خفيفة وتسريحة حديثة، لم يبد لهم أنه قد يثير القلق. الحلبوسي نفسه لم يكن قد اكتشف بعد أين ستقوده أحلامه، لكنه سرعان ما بدأ يعبر عن نفسه. بعد سنوات وجدته قوى شيعية مرتابة وسنية ناقمة، على حد سواء، خطراً عليها. وتم وصفه على نطاق واسع برأس تلعب فيه شياطين «الزعامة»، فلعب معها.

محاولات دامية

بعد 2003 عاد الحلبوسي إلى جامعته في بغداد لإكمال دراسته العليا. كان العرب السنة خارج مطبخ السياسة في أعقاب الغزو الأميركي. تسرد وقائع عديدة على مدى العقدين الماضيين كيف قادت محاولات نخب سنية لدخول الحياة العامة إلى نهايات مميتة، سُفكت فيها دماء.

في يونيو (حزيران) 2005 توسعت لجنة كتابة الدستور لتضم 15 ممثلاً عن العرب السنة الذين كانوا بعيدين عن أهم نقاشات حول مستقبل البلاد. التوسع شمل مجبل الشيخ عيسى وضامن حسين عليوي وعزيز إبراهيم، الذين انخرطوا فوراً في معارضة صياغة بنود في الدستور. في يوليو (تموز) من العام نفسه، كان الثلاثة يتناولون وجبة غداء في أحد المطاعم وسط بغداد، قبل أن يفتح مسلحون النار على سيارتهم، ويُقتلوا في الحال.

على طريق مزدحم بحي الداوودي غرب العاصمة، كان عصام الراوي، وهو أستاذ علوم الأرض في جامعة بغداد، في طريقه إلى مكان عمله حين قتله مسلحون في أكتوبر 2006. كان الرجل، في أعقاب تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، قد قطع الطريق راجلاً إلى مرقد «الكاظم» المقدس لدى الشيعة، ليصلي، في محاولة لإطفاء فتنة تتفجر في كل مكان. يقول كثيرون إن جماعة أصولية عاقبته على ذلك.

في العام نفسه، قتل شاكر وهيب، القيادي في تنظيم «القاعدة»، زعيمَ قبيلة كبيرة في محافظة الأنبار كان يدعو إلى إشراك السكان المحليين في الحياة السياسية، وانخراطهم في مؤسسات الأمن بالتزامن مع انسحاب كان مأمولاً للقوات الأميركية.

في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2009، شنّ تنظيم «القاعدة» هجوماً على مبنى حكومة الأنبار، أسفر عن مقتل نحو 30 مسؤولاً وعنصر أمن وإصابة العشرات. من بين الجرحى المحافظ قاسم الفهداوي الذي اقترب منه انتحاري خمسة أمتار.

وشاهد سكان الرمادي يومها مروحيتين فوق سطح مستشفى المحافظة لنقل الفهداوي إلى منشأة طبية أكثر تخصصاً، لعلاج إصابات خطيرة في القدم والساق.

نجا الفهداوي وانتكست المدينة خلال محاولتها التعايش مع النظام الجديد.

الطريق بين الكرمة وبغداد

خلال تلك الأيام الدامية، كان الحلبوسي يتنقل بين مسرحين قاتلين، بغداد والكرمة. الطريق الذي يُقطع براً بينهما بساعة ونصف يربط بين ملعبين لانتحاريين وأحزمة ناسفة وميليشيات، ومئات الآلاف من الضحايا من كل الطوائف.

غادر الحلبوسي بغداد عام 2010 ناجياً بشهادة ماجستير في الهندسة إلى مدينة ينشط فيها سياسيون من «الإخوان المسلمين» والقوميين العرب وبقايا من «حزب البعث». كانوا جميعاً محبطين، يقدمون أجندة سياسية قائمة على المظلومية، ويفتقدون الفاعلية. كانت قائمة «العراقية» بقيادة إياد علاوي التي راهنوا عليها «سنياً»، قد تلقت ضربة موجعة بإعلانها الفائز الخاسر في انتخابات 2010.

مع هؤلاء، جاءت أخطر 6 أشهر في تاريخ السنة خلال العقدين الماضيين. ففي 30 ديسمبر 2013، أمر نوري المالكي، رئيس الحكومة آنذاك، باستخدام القوة لفض اعتصام في الأنبار كان امتداداً لاحتجاجات متفرقة في مدن وسط البلاد وجنوبها، لكن المالكي عدّ السنة «متمردين». اعتقلت قوة حكومية سياسيين سُنة بعد اشتباكات، من بينهم أحمد العلواني، أبرز معارضي المالكي، اقتيد إلى محاكمته بتهم إرهاب، وقُتل شقيقه ببشاعة.

في 30 أبريل (نيسان) 2014 انتخب العراقيون البرلمان الثالث. يومها وقعت هجمات انتحارية قرب مراكز اقتراع في الرمادي وبعقوبة وتكريت وكركوك، وقُتل موظفون في «مفوضية الانتخابات» وضباط كانوا يحمونهم، كما شغّلت الأحزاب السُنية دعايتها سراً بسبب المخاوف. وحصل الحلبوسي على مقعد بأصوات ناجين، بشكل ما، من الموت.

بعد شهر، في 29 يونيو 2014، أعلن «داعش» قيام دولته. اضطرت الحكومة، بضغط من التحالف الدولي، إلى تجنيد شبان من العرب السنة لمقاتلة التنظيم، وكانت القبائل في الأنبار تجرب التحالف مجدداً مع القوات النظامية مع مجيء حيدر العبادي إلى رئاسة الحكومة في محاولة لنسيان جراح فتحها المالكي وتركها مفتوحة.

رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي خلال زيارته طهران في سبتمبر 2013 (إيرنا)

«نادي العجز» السياسي

كانت الكتلة السنية «متحدون للإصلاح» بزعامة أسامة النجيفي الخيار السني الوحيد الذي وجد «حزب الحل» الذي ترشح عنه الحلبوسي الشاب إلى البرلمان عام 2014. رغم أن الكتلة كانت أقرب إلى نادٍ مغلق يخفي عجزاً بنيوياً عن إنتاج السياسات، لكن الجمهور السني صوّت لها في محاولة لتحدي قوى شيعية تتفرد بالسلطة، وتنظيمات إرهابية تمنعهم من التعامل معها والانخراط فيها. كان ذلك تكليفاً بمهمة شبه مستحيلة.

النجيفي، الذي ترأس برلمان الدورة الثانية حتى 2014، وآخرون من أمثال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية حتى ديسمبر 2013، ورافع العيساوي وزير المال حتى مارس (آذار) 2013، كانوا آخر من وُضعوا في فوهة المدفع أمام المالكي، وسقطوا من دون خطط بديلة للعودة، وبكثير من الشكوى والعزلة.

سرعان ما انقلب الحلبوسي على هذه المقاربة في «إدارة التهميش»، كان يريد التحرك إلى قلب النظام وليس البقاء في هامشه، معارضاً معزولاً.

عثر الحلبوسي على مقعده في البرلمان. واحتل «داعش» ثلث العراق. سرعان ما اجتذبت معارك التحرير تشكيلات عسكرية مختلفة، وأخرجت النفوذ الإيراني من الكواليس إلى العلن. وانتشر مستشارو «الحرس الثوري» الإيراني مع فصائل في «الحشد الشعبي»، تحت كل سماء حلّقت فيها مقاتلات الجيش الأميركي.

بعد 3 سنوات من القتال تراجع «داعش» عن مساحات شاسعة واستعادت بغداد أراضيها في الموصل والرمادي، وبدأت معركة نفوذ جديدة. كان الحلبوسي يعود إلى الكرمة في إجازته عبر نقاط تفتيش نصبتها فصائل منتصرة.

نسخة سياسية جديدة

لقد أمضى الآن 3 سنوات في البرلمان، تجربة وضعته بين «أسماك قرش» تتعاظم على أيديهم إمبراطوريات مال وسلاح، وامتد شيء منها إلى مساحات محررة من «داعش». قالت فصائل مسلحة إنها «صاحبة الفضل» في التحرير، ولها الحق في حماية الأمن في كل مكان رسمته دماء مقاتليها. حينها أصبح الحلبوسي محافظاً يحلم بإمبراطورية. كان ذلك في أغسطس (آب) 2017.

تزامن التعاظم المضطرد للنفوذ الإيراني في العراق مع ظهور نسخة جديدة من السياسية السنية. بينما كانت القوى الشيعية بحاجة إلى وسطاء سنة لتوطيد سلطتها، بدا أن الحلبوسي كان يريد ما هو أكثر، بتقاسم النفوذ. أصبح الآن رئيساً للبرلمان، وأزاح عن وجهه قناع الشاب الطموح وسحب كرسياً من الصفوف الخلفية إلى المائدة الرئيسية.

يرى أحد المسؤولين الحكوميين الذين عرفوا الحلبوسي عن قرب أن «ظاهرة الرجل نشأت من تفاعل الحاجة الاجتماعية داخل البيئة السنية بعد انهيار نموذج (الزعيم المنقذ)؛ ثم التوقيت والتمركز الصحيحين بأداء واقعي». يقول سياسي معارض للحلبوسي إنه «مشروع ديكتاتور جديد».

انتبه خصوم الحلبوسي إلى تحالفاته الواسعة بين جماعات متنافسة في العراق (د.ب.أ)

«أكثر من اللازم»

قاد الحلبوسي البرلمان منذ 2018... سرعان ما تعرضت المنظومة الشيعية إلى الاهتزاز بفعل التنافس على تمثيل المكون الأكبر، وأمام احتجاج شعبي في أكتوبر 2019 سقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وغاب عن المطبخ قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري».

لم يمنع الحلبوسي نفسه من التعبير عن النسخة الحديثة من السياسة السنية. ديناميكيته سمحت له بالتنقّل بين الجبهات لبناء تحالفات واسعة. يقول ذلك سياسيون شاهدوا كيف «قدم الحلبوسي نفسه عرّاباً أمام بيئة الاحتجاج بينما كانت الأحزاب الشيعية تفقد المبادرة». ويقول مقربون منه، إن «فاعليته تلك الأيام تعبير عن حضوره في النظام، بوصفه شريكاً».

انتبهت المنظومة الشيعية إلى الحلبوسي كأنها لم تعرفه من قبل. قرر الجميع إخراجه من اللعبة. بالنسبة لمنافسين سنة وشيعة، فإن الحد المسموح للحلبوسي هو الاستفادة من التوازن دون التحول «أكثر من اللازم إلى سمكة قرش»، على حد تعبير قيادي شيعي.

الحال أن الحلبوسي أُقيل من رئاسة البرلمان وشُطبت عضويته في نوفمبر 2023. في اليوم التالي خرج أمام الصحافيين ملوّحاً بنسخة من الدستور لـ«تصحيح خطأ» وقعت فيه المحكمة الاتحادية. كان هذا فعلاً سياسياً غير مسبوق على المستوى السني.

قيل على نطاق واسع إن خصوم الحلبوسي من العرب السنة اشتكوا لدى حلفاء شيعة من فائض قوته، وإن إيران في النهاية قررت إعادة التوازن. يقول سياسي عراقي إن فريق رئيس حزب «تقدم» تعامل مع القرار بوصفه «محطة فاصلة لإعادة إنتاج المشروع، دون الخوض في السياق السياسي للأزمة». كان هذا أمراً غير معهود في الحياة السياسية للسنة العرب.

بعد شهر واحد، خاض الحلبوسي انتخابات مجالس المحافظات في اختبار حاسم لقدرته وهو معاقَبٌ من دون منصب، وفاز بـ21 مقعداً. يقول قيادي من حزب «تقدم» إن شطب العضوية تحول إلى وقود لإشعال نيران الحملة الانتخابية، ونجح الأمر.

أصبح الحلبوسي الآن أكثر شراسة، بل أقل تساهلاً مع الثغرات في مشروعه، وأظهر ميلاً للصرامة الحزبية. كان على استعداد لتصفية أقرب المقرّبين. في يوليو 2024 تفاقمت شكوكه حول ذراعه اليمنى في حزب «تقدم» بالأنبار، المحافظ السابق علي فرحان، من حيث إنه منفتح ربما على خيارات سياسية مختلفة. حوكم الرجل بتهم إساءة استخدام المنصب، وقضى فترة في السجن.

في أبريل 2025، برأ القضاء الحلبوسي من تهمة التزوير التي أُقيل بموجبها. بعد شهر سيقضي القاضي جاسم العميري، الذي أقاله، إجازة التقاعد مغادراً المحكمة الاتحادية.

بدأ ثقل الحلبوسي السياسي من مناطق غرب العراق (إكس)

حصانة غير مضمونة

ثمة انقسام حول تفسير «ظاهرة الحلبوسي». يقول خصوم إن خصاله الشخصية لم تكن تكفيه لتحقيق هذه المكاسب، وإنه «حاصل الجمع بين شبكة تؤهل الزعامات ولحظة سنية سمحت له بالظهور».

لكن كثيرين من السنة في بغداد، بعد سنوات من العنف والانقسام، وجدوا في الحلبوسي الشخص الذي يشبع حاجتهم إلى الزعامة. لقد استمعوا إليه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يقول «شعارات» حادة: «نحن السنة نقرر ما نريد (...) لن نسمح للآخر (الشيعة والكرد) بأن يقرر نيابة عنا».

بعد إعلان النتائج الأخيرة، قال قيادي شيعي إن «الحلبوسي بموقعه الوسطي بين تيارات سائدة في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث أكتوبر 2023، بين إيران التي تحاول التقاط أنفاسها، وتركيا المتفوقة في سوريا، سيلعب دوراً متقدماً في ضبط التوازنات العراقية».

تبدو هذه المهمة واعدة، إذ تمنح الحلبوسي «جدار حماية» إضافياً في منطقة متقلبة، لكنه لا يزال يبحث عن «حصانة» أكبر. تدرك دائرته المقربة أن «الضمانات في هذه اللعبة غير متوفرة، ولا أحد يقدمها. النظام هش ويتغير بسرعة، كل ما يشغلهم الآن هو الاستعداد للضربة المقبلة: من أين؟ ومن يسددها؟». هذا النوع من «الاستعداد» يتحول الآن إلى أحد أهم فنون البقاء في العملية السياسية العراقية.