أكثر من 800 يوم على الحرب... غيّرت شكل الحياة وأنماط الاستهلاك في روسيا

بدائل «صديقة» للمنتجات الغربية من السيارات إلى السينما

جنود ومدنيون يلتقطون صورة تذكارية في «يوم النصر» الذي يقام احتفالاً بالانتصار على النازية وانتهاء الحرب العالمية الثانية في موسكو (رويترز)
جنود ومدنيون يلتقطون صورة تذكارية في «يوم النصر» الذي يقام احتفالاً بالانتصار على النازية وانتهاء الحرب العالمية الثانية في موسكو (رويترز)
TT

أكثر من 800 يوم على الحرب... غيّرت شكل الحياة وأنماط الاستهلاك في روسيا

جنود ومدنيون يلتقطون صورة تذكارية في «يوم النصر» الذي يقام احتفالاً بالانتصار على النازية وانتهاء الحرب العالمية الثانية في موسكو (رويترز)
جنود ومدنيون يلتقطون صورة تذكارية في «يوم النصر» الذي يقام احتفالاً بالانتصار على النازية وانتهاء الحرب العالمية الثانية في موسكو (رويترز)

لم يكن غالبية الروس غداة إعلان الرئيس فلاديمير بوتين انطلاق «العملية العسكرية الخاصة» في أوكرانيا، فجر 24 فبراير (شباط) 2022 يتوقعون أن يطول أمد المواجهة لأكثر من أسبوعين أو ثلاثة.

دار الحديث عن عملية خاطفة وحاسمة، تعيد القيادة الأوكرانية «إلى رشدها» أو تقضي عليها عبر انهيار داخلي كبير، ينهي مظاهر العداء لروسيا في البلد الجار، ويضع الغرب أمام أمر واقع يدشن مرحلة جديدة في آليات التعامل مع المتطلبات الأمنية للكرملين.

لكن «العملية الخاصة» تحولت تدريجياً إلى أكبر مواجهة تخوضها روسيا منذ الحرب العالمية.

سيدة تحمل بعض مقتنياتها وتخرج من منزلها المدمر في قصف أوكراني على مبنى في منطقة بيلوغرود الروسية (رويترز)

وبعد مرور أكثر من 800 يوم على إطلاق الرصاصة الأولى لـ«تحرير دونباس» غدا تعبير «الحرب الشاملة» الأكثر تداولاً، على رغم أن القوانين تحرّم استخدامه، مع كل ما حمل ذلك من تداعيات على حياة الروس اليومية.

هنا، لا يقتصر الأمر على عسكرة الاقتصاد وتسخير مقدرات البلاد لخدمة الجبهة. فالتأثيرات المباشرة لا تقف عند تأقلم عشرات المدن والبلدات الحدودية مع واقع انطلاق صافرات الإنذار يومياً، وحياة الملاجئ خلال هجمات الصواريخ والطائرات المسيرة، التي لم تسلم منها أحياناً، حتى مناطق العمق الروسي أو حتى مراكز صنع القرار السياسي والاقتصادي.

صحيح أن التدابير الواسعة المتخذة نجحت في تجاوز التداعيات الأسوأ لأكبر اختبار تمرّ به البلاد منذ عشرات السنين، لكن الاقتصاد بقي عملياً صامداً متماسكاً، والجبهة الداخلية صلبة للغاية.

أما ملامح الحياة اليومية للروس فقد تغيرت كثيراً.

من كان يتوقع قبل عامين ونيف، أن تهيمن الصين بهذه السرعة، على أكثر من 60 في المائة من سوق السيارات في البلاد؟ وأن تعود سيارة «لادا» التي تذكّر بالحقبة السوفياتية للتجول بكثافة في شوارع المدن الكبرى؟

من كان ينتظر أن تخلو رفوف المتاجر من أنواع الجبنة الفرنسية والمعكرونة الإيطالية والزيت الاسباني الفاخر؟

لا يقف الأمر عند السلع الاستهلاكية، ومنتجات الغذاء والدواء التي تبدلت ملامحها كثيراً، كما تبدل الكود الرقمي للبلدان المنتجة لها. فحتى صناعة السينما تغيرت. غابت هوليوود والإنتاج الغربي عموماً عن الصالات وحلّت ثقافة «البلدان الصديقة» مكانها، لتنافس بذلك الإنتاج المحلي الذي شهد بدوره طفرة غير مسبوقة، سيطر فيها المحتوى الموجه وثقافة الحرب على معايير الجودة والمنافسة.

متسوقون في سوبر ماركت في موسكو (الشرق الأوسط)

من الـ«سوبرماركت» إلى الصيدلية والشوكولاتة

قد تثير رفوف محال البقالة الفارغة الذعر في الدول الغربية. أما في روسيا، وعلى الرغم من رزم العقوبات غير المسبوقة، ليس هناك ما يشير إلى نقص الغذاء. جولة قصيرة على أي متجر في العاصمة موسكو، أو حتى في المناطق البعيدة عنها، والأقل حظاً لجهة القدرة الشرائية للمواطن، تدل مباشرة إلى أن التغييرات التي طرأت، لا تتعلق بنقص المنتجات المطروحة، بل بتبدل منشأها.

كانت مشكلة «الأمن الغذائي» قد طرحت بشكل مبكّر للغاية، منذ أن انهالت رزم العقوبات على روسيا بعد قرار ضم شبه جزيرة القرم في 2014. منذ ذلك الحين، كان الاعتماد على الواردات الغذائية في سلاسل البيع بالتجزئة والأسواق الروسية قد انخفض بشكل كبير. من الثلث تقريباً إلى نحو 10 في المائة فقط حالياً.

لذلك؛ كان هذا القطاع مهيئاً سلفاً لمواجهة تداعيات العقوبات الغربية والمشكلات اللوجيستية المتعلقة بطرق مرور البضائع.

وأظهر استبدال الواردات النتائج الأكثر إثارة للإعجاب في فئة المنتجات مثل اللحوم والدواجن: حيث انخفضت حصة الواردات وفقاً للجهات المختصة من 19.6 إلى 5.4 في المائة. وانخفضت حصة الزيوت الحيوانية والنباتية والسكر والحبوب المستوردة.

وفي ما يتعلق بالفواكه والخضراوات، فإن حصة الواردات تتقلب تبعاً للموسم، ولكن حتى هنا، فإن التقدم واضح. الأكثر صعوبة يكمن في تعويض منتجات من المستحيل استبدالها بمنتج وطني، مثل القهوة والشاي.

هذا لا يعني أن قطاع المواد الغذائية لا يعاني مشكلات جدية؛ إذ لا تزال صناعة الأغذية الروسية تعتمد على المواد الخام وقطع الغيار ومعدات الإنتاج المستوردة.

لم تفرغ رفوف المحال التجارية من المواد الغذائية لكن بلدان المنشأ تغيرت (الشرق الأوسط)

ويؤكد تجار التجزئة أن العمل مع الشركات المصنعة الروسية أكثر ربحية لهم من شراء البضائع المستوردة. وتعمل الشراكات مع الموردين المحليين على تقليل التكاليف: ليست هناك حاجة إلى إنفاق الأموال على الخدمات اللوجيستية أو القلق بشأن المخاطر العالية لانقطاع الإمدادات. لكن حجم حصة البضائع الروسية يبقى محصوراً بقدرة الشركات المصنعة على تذليل عقبات نقص المواد الخام وتحسين القدرة التنافسية.

وأشارت يوليا كرامايكوفا، رئيسة قسم التفاعل مع الهيئات الحكومية في سلسلة متاجر «ماغنيت»، إلى أن استراتيجية العمل مع الشركة المصنعة الروسية هي التي ساعدت على النجاة من الأزمة في العام الماضي. لكنها تقول إن مجرد وضع المنتج على الرف ليس كافياً. وتقول «نحن في حاجة إلى مساعدة المصنّعين الروس على التنافس بنجاح مع أولئك الذين يشغلون حالياً حصة كبيرة على الرف». للقيام بذلك؛ عليك أن تخبر المشتري لماذا يستحق هذا المنتج الشراء. إذا لم تقم بإجراء حملات تسويقية نشطة، فسيظل المنتج ببساطة على الرف ويتم شطبه في النهاية. مسألة الترويج والتسويق لها الأولوية».

محل بتسمية «ماغ» يعرض ألبسة من سلسلة «زارا» بعد إغلاق الأخير متاجره في روسيا إثر العقوبات الدولية (غيتي)

تكتسب هذه العبارة أهمية خاصة، خصوصاً على خلفية أن كثيرين من منتجي السلع الغربية المنشأ وجدوا آليات لتعويض خسائرهم بعد مغادرة أسواق روسيا. وتم ذلك عبر الاعتماد على «وسطاء» ساعدوا على الالتفاف على العقوبات المفروضة. هذا الأمر حظي بتشجيع واسع من جانب السلطات؛ لأنه يخفف من المشكلات الناشئة في القطاع.

لذلك؛ عاد العديد من منتجات الاتحاد الأوروبي إلى رفوف المتاجر بعد أشهر من الغياب. وكما يوضح المستوردون أنفسهم، فقد استغرق الأمر بعض الوقت لإعادة بناء الخدمات اللوجيستية.

ولكن من الواضح أن تنوع الواردات الأوروبية الذي كان موجوداً قبل تبادل العقوبات لم يعد موجوداً. وسرعان ما تم استبدال المنتجات الأوروبية بمنتجات منافسة من الدول العربية والبرازيل والأرجنتين وتركيا والصين وبلدان آسيا الوسطى وخصوصاً كازاخستان.

المشهد العام المباشر، يتحدث عن نفسه. فإذا كانت في السابق مجموعة واسعة من زيوت الزيتون متاحة في سوق واحدة وجميعها تقريباً من اليونان وإيطاليا وإسبانيا، فقد أصبح هامش الاختيار الآن أضيق وأقل جودة.

والمعكرونة الإيطالية غدت باهظة الثمن بالمقارنة مع المنتجات المماثلة القادمة من السوق الروسية الداخلية أو من «البلدان الصديقة».

وتوجد منتجات من الخضراوات المعلبة الأوروبية على الرفوف، لكنها ليست كثيرة. على سبيل المثال، ارتفعت أسعار المعلبات الهنغارية أضعافاً عدة، وباتت البازلاء البولندية نادرة وغالية الثمن، وأنواع الأجبان الفرنسية التي كانت تملأ رفوف المتاجر الكبرى تقلصت كثيراً وتم استبدال الجزء الأعظم منها بمنتجات بيلاروسية وكازاخية، ومنتجات تحمل العلامات التجارية لبلدان بعيدة.

بطبيعة الحال، لا يوجد حالياً، شيء مستورد من أوكرانيا في المتاجر، غابت الشوكولاتة الفاخرة التي كانت تهدى في المناسبات، وهي بالمناسبة من إنتاج مصانع الرئيس السابق بيترو باروشينكو صاحب العلامة التجارية الشهيرة «روشن» والذي كان يلقب «ملك الشوكولاتة» وغدا العدو اللدود حالياً للكرملين. كما غاب معها كل أنواع المنتجات الأخرى التي حملت سابقاً العلامة التجارية للبلد الجار.

يكاد الأمر نفسه، ينسحب على سوق الأدوية، على رغم أن هذا القطاع ليس مشمولاً بشكل رسمي في لوائح العقوبات الغربية. لكن المنتجات الغربية باتت مفقودة في الصيدليات، بالدرجة الأولى بسبب الصعوبات اللوجيستية لنقلها.

اعتماد شبه كلي على الصناعات الدوائية والطبية المحلية الروسية (الشرق الأوسط)

لا ورق لإصدار فواتير

لا ترتبط مشكلة الإنتاج المحلي للأدوية فقط بفتح المنصات الضرورية والقيود المفروضة على القيمة المضافة التي تقلل الربحية، ولكن أيضاً باستيراد المكونات الأساسية وعناصر الصناعة الكيماوية.

وهناك مشكلة أخرى لم تكن لتخطر على بال، برزت مع الحرب والعقوبات الكبرى المفروضة على روسيا. مَن كان يتصور أن تفتقد المتاجر الكبرى والصيدليات للورق اللازم لإصدار فواتير البيع والشراء على سبيل المثال؟

يقول مستوردون إن الزيادة في تكلفة هذه المنتجات زادت بنسبة 3.6 ضِعف خلال العام الأول للحرب. وتستهلك الصيدليات في منطقة موسكو وحدها نحو 45 ألف لفة من الورق المخصص لإصدار الفواتير يومياً. ووفقاً للمدير العام للشركة الروسية المصنعة لورق الفواتير فيتالي سيناتوف، والمدير العام لسلسلة صيدليات «ريغلا» ألكسندر فيليبوف، فإن النقص الحاد في هذه المنتجات الحيوية لعمل المتاجر والصيدليات حدث على خلفية توقف إمدادات المواد الخام، وارتفاع أسعار الصرف، وتعطل سلاسل التوريد. وفي وقت سابق، أبلغ أحد أكبر منتجي الورق في روسيا، وهو مصنع «أرخانغيلسك» عن نقصٍ حاد في المواد الكيماوية المستوردة. وانعكس ذلك حتى على قدرة شرطة السير من إصدار مخالفات خطية لسائقي السيارات.

عاملة توضب معاطف فرو معدة للتصدير إلى روسيا في محل للبيع بالجملة في ريتان الصينية (أ.ف.ب)

عودة «لادا» وسيارات «بلدان صديقة»

التحولات الكبرى في الحياة اليومية لملايين الروس، تظهر بوضوح عند أول جولة في شوارع العاصمة الروسية ومدن كثيرة أخرى. والروس الذين نافسوا في السابق أغلى مدن العالم في اقتناء السيارات الغربية الفاخرة، باتوا يواجهون صعوبات جدية في العثور على قطع غيار لسياراتهم، فضلاً عن غياب معظم ماركات السيارات الحديثة عن معارض البيع. طبعاً هنا أيضاً مثل كل القِطاعات الأخرى، وجد المستوردون طرقاً لإدخال بضائع عبر بلدان ثالثة. لكن المشكلة الكبرى في ارتفاع الاسعار وفقدان ميزات خدمات ما بعد البيع.

وهنا كان من الطبيعي أن تدخل الصين بقوة على الخط، لتعويض النقص الحاصل وإطلاق أوسع حملات لترويج بضاعتها، بالتزامن مع عودة ازدهار صناعة السيارات المحلية من طراز «لادا» التي نادراً ما كانت تتجول على الطرقات قبل سنوات قليلة إلا في الأرياف والمناطق البعيدة.

سيارات صينية ومن بلدان «صديقة» تجوب شوارع موسكو (الشرق الأوسط)

في مارس (آذار) الماضي وحده تم بيع 146.5 ألف سيارة جديدة في روسيا، وهذه النتيجة هي الأعلى شهرياً منذ مايو (أيار) 2021، عندما عادت مبيعات سيارات الركاب إلى مستويات ما قبل الأزمة.

تدل معطيات إلى أن الشركة الرائدة في السوق حالياً هي «لادا»، التي بلغت مبيعاتها في مارس 39.9 ألف وحدة (حصة 27.2 في المائة). بينما تجاوزت العلامتان التجاريتان الصينيتان «هافال» و«جيلي» نسبة 10 في المائة (16 ألفاً و15 ألف وحدة على التوالي). التالي في الترتيب هي «شيري»، و«تشانجان»، و«إكسيد»، و«أومودا»، ويغلق العشرة الأوائل بواسطة «ليكسيانج»، و«بلجي» و«جيتور». كلها ماركات تحمل أسماء يصعب نطقها أو معرفتها على كثير من الروس، وهي حلّت مكان الماركات التجارية الغربية الكبرى والمعروفة لديهم.

في مطلع أبريل (نيسان) أفاد تقرير بأن حصة مبيعات ماركات السيارات الصينية في روسيا في عام 2023 تجاوزت 50 في المائة. ووفقاً للمعطيات يتحول سكان المدن الكبرى بشكل متزايد إلى السيارات الكهربائية والهجينة الصينية. وتلك النسبة آخذة في التصاعد، وتقول بعض التقارير الروسية أن حصة الصين في سوق السيارات زادت فعلياً عن 60 في المائة خلال الربع الأول من العام، وفقا لأليكسي غريغورييف، رئيس شركة «روود».

وبحسب وكالة «أوتوستات» التحليلية، فقد عادت سوق السيارات إلى الانتعاش بعد تجاوز أزمة 2022. وفي عام 2023، تم بيع 1.06 مليون سيارة ركاب جديدة في روسيا، وهو ما يزيد بنسبة 69 في المائة على العام السابق. ومع ذلك، لا يزال الرقم متخلفاً عن حجم مبيعات 2021 البالغة 1.54 مليون سيارة جديدة. ووفقاً لغريغورييف، لا ينبغي للسوق أن تتوقع نتائج مذهلة في عام 2024.

لتوضيح وضع السوق حاليا يكفي القول إنه من الناحية الكمية، لن تحدث تغييرات كبرى على حجم المبيعات، كما يقول كونستانتين بولديريف، رئيس تطوير الأعمال في مؤسسة «أوتوتيكا» ولكن التغير الهيكلي يتعلق بالـ «مكون العمري».

لتوضيح هذه الفكرة يمكن القول إنه على مدى السنوات القليلة الماضية، كانت السوق مليئة بالسيارات المنتجة قبل عام 2014، لكن في عام 2024، ستتجاوز كل هذه السيارات عتبة السنوات العشر؛ ما يعني أن شراءها بحالة مقبولة سيكون صعباً، بعبارة ملطفة.

إلى جانب التعافي التدريجي لحجم المبيعات في سوق السيارات، ينمو حجم الإقراض وفقاً لذلك. في نهاية عام 2023، ارتفع عدد قروض السيارات الصادرة بنسبة 67 في المائة مقارنة بعام 2022، ومن الناحية النقدية تضاعفت السوق تقريباً مرتين وفقاً لتقارير «أوتوستات».

وتهيمن منتجات المراكب الصينية بقوة بعدما أصبحت الخيار الوحيد المتاح عملياً في قطاع السيارات الأجنبية في السوق المحلية. من بين الشركات الروسية في الصناعة التي لديها إمكاناتها الإنتاجية والهندسية الخاصة، لم يتبق سوى «أوتوفاز» التي تنتج سيارات «لادا»، كما يقول سيرغي تسيليكوف، مدير وكالة «أوتوستات» .

وهو يقرّ بأنه «ليس هناك أي معنى للأمل في ظهور شركات روسية محلية يمكنها إنتاج سيارات جديدة، فإن الجزء الأكبر من صناعة السيارات المحلية، باستثناء منتجات (أوتوفاز) سوف يتكون من الإصدارات الروسية من السيارات الصينية بدرجات متفاوتة من التوطين».

ويؤكد الخبير أنه في الظروف الحالية لا ينبغي الاعتماد على عودة العلامات التجارية الأجنبية المألوفة بالشكل السابق.

لا يتعلق «التصيين» بالسيارات الشخصية فحسب، بل يتعلق أيضاً بقطاع الشركات. وبحسب فاديم موراتشين، مدير المكتب التمثيلي في سان بطرسبرغ لشركة «كاركيد» للتأجير، فإن حصة سيارات الركاب الصينية في محفظة المنظمة ارتفعت من 15 في المائة في 2022 إلى ما يقرب من 45 في المائة في نهاية عام 2023.

وهو يضيف: «المهم هو أن مشغلي سيارات الأجرة وتقاسم السيارات قد استبدلوا أسطول سياراتهم بالكامل تقريباً، والذي كان يتكون سابقاً من علامات تجارية أوروبية أو كورية، بسيارات من صناعة السيارات الصينية، وإذا حاولت الآن استدعاء سيارة أجرة أو ركوب سيارة «خدمة المشاركة، لن ترى أبداً سيارة أوروبية أو كورية».

أما بالنسبة للنماذج المطروحة، فإن العلامات التجارية الصينية العاملة رسمياً في عام 2023 عرضت على الروس ما يقرب من 100 طراز جديد. وفقاً لـ«أوتوستات» فقد «تضاعف عدد مراكز وكلاء العلامات التجارية الصينية ثلاث مرات في السنوات الأخيرة»، مع انطلاق «العملية الخاصة» كان هناك نحو 700 مركز، والآن يوجد أكثر من 2000 مركز. لا يوجد شركة تجارية واحدة في روسيا ليس لديها منتج صيني في محفظة معروضاتها.

إيران تدخل على الخط

لكن المثير حقاً، أنه مع انتشار السيارات الصينية وهيمنتها الكبرى، بدأت تظهر حالياً «سيارات صديقة» أخرى، خصوصاً من إيران.

ظهرت سيارات من طراز «إيران خودرو تارا» في وكالات البيع الروسية، وأبرزها شبكة «رولف» الواسعة الانتشار.

في الأسبوع الماضي، أعلنت إدارة «رولف» عن بدء مبيعات سيارات «تارا» التي تعد حالياً الأرخص سعراً في سوق السيارات في روسيا، بعد «لادا غرانتا» التي يتم إنتاجها بمواصفات «شعبية للغاية». يبلغ سعر «تارا» 1.529 مليون روبل (16 ألف دولار). للمقارنة، فإن سيارة «بايك يو فايف بلوس» الصينية التي يتم تجميعها في مصنع «أفتو تور» في كالينينغراد، تقدر قيمتها بـ1.7 مليون روبل.

يقول أوليغ موسيف، رئيس منصة «أوتوماركت» إن السيارات القادمة من إيران ستكون مطلوبة على أي حال.

ووفقاً له، فإنه «في روسيا، هناك حاجة إلى ناقلات بسيطة يقلّ سعرها عن مليونين، وهناك طلب عليها، ولكن النجاح سيعتمد على تنظيم الخدمة، والوفاء بالتزامات الضمان وتوريد قطع الغيار. وهذا هو بالضبط ما فشلت الشركات التي حاولت نقل السيارات من إيران في السنوات السابقة في مواجهته.

ويعتمد نجاح السيارات القادمة من إيران، من بين أمور أخرى، على تكلفة سيارة «لادا فيستا» الحديثة التي لم يتم الإعلان عنها بعد. كونها قد تكون منافساً جيداً وفقاً للخبراء، رغم أنها لا تمتلك مواصفات فنية تناهز السيارة الإيرانية؛ كونها ما زالت تعتمد على علبة السرعة العادية ولم تضف ميزة ناقل أوتوماتيكي للحركة إلى منتجاتها.

محل لبيع تذكارات سياحية تحتفي بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وشعارات سوفياتية في موسكو (غيتي)

سينما «قومية» تتحدى هوليوود

لم تنعكس التغييرات التي طرأت على حياة الروس خلال عامين ونيف، في المتاجر وطرُز السيارات التي تتجول في الطرق فحسب. ومع اتخاذ المواجهة الكبرى التي تخوضها روسيا أبعاداً ثقافية وحياتية في شتى المجالات، برز عنصر مواجهة الدعاية الغربية بكل أشكالها بقوة. والمجال الفني – الثقافي لا يشكل استثناءً في هذا السياق. بل غدا جزءاً أساسياً من الثقافة الجديدة لروسيا المعاصرة. كان من الطبيعي أن تغيب منتجات هوليوود عن الشاشات الروسية. وشركات الإنتاج العالمية الكبرى وخصوصاً الغربية منها غادرت السوق الروسية مثلما غادرتها القطاعات الغربية الأخرى.

صبّ هذا التوجه في صالح «الدعاية الوطنية» الموجهة التي تعمل على هدم تأثيرات الثقافة الغربية على المجتمع الروسي.

صالات السينما تعرض أفلاماً روسية وصينية عوضاً عن الأفلام الغربية وسينما هوليوود (الشرق الأوسط)

لم تكد تمر أسابيع بعد اندلاع الحرب، حتى بدأت تظهر تأثيرات التحولات الكبرى في هذا المجال. غابت الأفلام السينمائية الغربية عن أفيشات دور العرض في روسيا، كما غابت حتى عن المنصات الرقمية. يكفي كمثال أن شبكة «إيفي تي في» الأوسع انتشاراً وتأثيراً في روسيا لم تعد تعرض على مشتركيها أي إنتاج سينمائي غربي حديث، ومن بين مئات الأفلام المعروضة على منصتها لا يتجاوز عدد الأفلام الغربية في أبريل أكثر من أربعة أو خمسة أفلام، تميزت بأن منتجيها واصلوا العمل مع الروس.

رمى هذا التطور بثقل واسع على دور العرض الروسية التي أغلقت نصفها تقريباً أبوابها في السنة الأولى للحرب بسبب غياب عروض الأفلام الحديثة؛ ما أدى إلى نقص الإيرادات بشكل حاد.

لكن هذه واحدة فقط من المشكلات التي واجهت هذا القطاع. ومع الطفرة الكبرى في الإنتاج الروسي لتعويض النقص في الأسواق، فقد برزت مشكلتان كبيرتان للغاية.

أولهما أن مضمون الإنتاج السينمائي الروسي الحديث ركز على الحرب ومجرياتها، بشكل تحريضي مباشر، ما أفقده كثيراً من ميزاته الفنية وجودته، وحمله أعباء الانخراط في «الحرب الشاملة».

والمشكلة الثانية برزت مع اتضاح مستوى النقص في الكوادر الفنية بسبب هجرة الكثير من المحترفين، وزيادة معدلات التشغيل على من بقي منهم بشكل كبير.

ورأى المخرج المسرحي ديمتري سكوتنيكوف أنه «لا يوجد عدد كافٍ من المخرجين والمصورين، والمتخصصين الفنيين ذوي الخبرة». وأضاف: «قبل عامين، كان المرجع الرئيسي لدور السينما، كقاعدة عامة، يتألف من منتجات هوليوود، والتي، بدورها، أثرت إيجاباً على تطوير السينما المحلية (...) الآن تغير كل شيء كثيراً. اختفت الأفلام الغربية عملياً، وتحاول السينما الروسية استبدال كل هذا بطريقة أو بأخرى في كل مكان وفي وقت واحد. بطبيعة الحال، هذا أمر صعب؛ لأن الحجم والتركيز تغيرا بشكل حاد للغاية».

هنا، ومثل كل القطاعات الأخرى تقريباً، برز البديل الجاهز للهيمنة على السوق عبر الحليف الأقرب والصديق اللدود (الصين).

وفقاً للقائمة بأعمال مدير شركة «روس كينو» العملاقة إيكاترينا نوموفا، فإن السينما الصينية ستكون قادرة على سد العجز الذي نشأ في سوق السينما الروسية بعد رحيل شركات السينما الغربية. علاوة على ذلك، قالت إن «المشاهدين الروس لديهم موقف إيجابي تجاه المشاريع الصينية».

دافعت نوموفا عن هذا التوجه عبر تأكيد أن «جودة السينما الصينية نمت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة وأصبحت أكثر جاذبية».

ووفقاً لها، بدأت العديد من البلدان على رأسها الصين وبلدان أفريقية ومن مناطق أخرى في عرض محتواها على منصات الإنترنت ودور السينما الروسية. وأشارت نوموفا إلى أن «المشاهد يقبل بسرور على هذه المنتجات».


مقالات ذات صلة

محادثات «صريحة ومثمرة» بين وزيري خارجية أميركا والصين

آسيا وزيرا خارجية الصين وأميركا خلال لقائهما على هامش اجتماع «آسيان» في عاصمة لاوس فينتيان السبت (أ.ف.ب)

محادثات «صريحة ومثمرة» بين وزيري خارجية أميركا والصين

أجرى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن محادثات «صريحة ومثمرة» أجراها مع نظيره الصيني، وانغ يي، في لاوس.

«الشرق الأوسط» (فينتيان (لاوس))
أوروبا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مشاركته باجتماع «آسيان» في عاصمة لاوس فينتيان الجمعة (رويترز)

لافروف: تصريحات كييف في شأن مفاوضات السلام «متناقضة»

رأت روسيا أن تصريحات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ووزير خارجيته ديمتري كوليبا حول مفاوضات السلام تنم عن تناقض.

«الشرق الأوسط» (فينتيان (لاوس))
أوروبا القوات الروسية دمرت 7 مسيّرات أوكرانية فوق أراضي مقاطعة ريازان (رويترز)

روسيا: تدمير 21 مسيّرة أوكرانية خلال الليل وصباح اليوم

أعلنت وزارة الدفاع الروسية اليوم (السبت) تدمير 21 طائرة دون طيار أوكرانية خلال ساعات الليل والصباح في عدد من مقاطعات البلاد.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (قناة الكرملين عبر «تلغرام»)

الكرملين يعترف بأزمة ديموغرافية «كارثية» ويدعو لزيادة المواليد

لفت الكرملين النظر إلى أن الحالة الديموغرافية «كارثية على مستقبل الأمة»، في حين عجزت السياسات المختلفة المنفّذة في روسيا منذ ربع قرن عن زيادة معدل المواليد.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا أوراق نقدية من فئة 20 و50 يورو (د.ب.أ)

الاتحاد الأوروبي يحول لأوكرانيا 1.5 مليار يورو من عائدات الأصول الروسية

أعلن الاتحاد الأوروبي تأمين 1.5 مليار يورو (1.6 مليار دولار) لدعم أوكرانيا، وهي أول دفعة من الأموال المكتسبة من الأرباح على الأصول الروسية المجمدة.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)

«أكبر اختراق» يطارد «الخدمة السرية» الأميركية

TT

«أكبر اختراق» يطارد «الخدمة السرية» الأميركية

عناصر من الخدمة السرية يستبقون وصول الرئيس الأميركي جو بايدن في قاعدة أندروز في ماريلاند (أ ف ب)
عناصر من الخدمة السرية يستبقون وصول الرئيس الأميركي جو بايدن في قاعدة أندروز في ماريلاند (أ ف ب)

في الثالث عشر من يوليو (تموز) الحالي، وفي تمام الساعة السادسة والربع مساء بتوقيت واشنطن، تردد طنين الأخبار العاجلة في كل أرجاء البلاد، والعالم: الرئيس السابق دونالد ترمب أُصيب بإطلاق نار في حدث انتخابي في بنسلفانيا.

ترمب المدمَّى الوجه، وقف مُحكماً قبضته أمام الكاميرات، ومشى بثبات برفقة أعضاء الخدمة السرية المسؤولين عن حمايته، فاستقلَّ سيارته متوجهاً إلى مستشفى محلي لتلقي العلاج.

لحظات صدمت الشارعين الأميركي والدولي. فمحاولة اغتيال رئيس أميركي سابق هي لحظة مخيفة، وتاريخية في الولايات المتحدة، تعيد إلى الأذهان مشاهد اغتيال رؤساء سابقين كجون كينيدي وأبراهام لينكولن، ومحاولة اغتيال رونالد ريغان، الرئيس الجمهوري السابق، وتعد تكراراً لسوابق خطيرة من الإخفاقات الأمنية لعناصر الخدمة السرية كادت تودي في هذه الحالة بحياة رئيس سابق ومرشح رئاسي.

فشل أمني «ذريع»

بمجرد اتضاح الصورة بعد مغادرة ترمب ساحة الجريمة، صُعق الجميع لدى رؤية ما جرى: منفّذ الاعتداء، الأميركي البالغ من العمر 20 عاماً ماثيو كروكس، متسللاً بوضوح فوق سطح أحد المباني القريبة من موقع الخطاب، وبيده بندقية «آر 15».

دونالد ترامب مغادراً المنصّة بعد انتهاء مؤتمر الحزب الجمهوري في ملوواكي (أ ف ب)

كروكس تمكن من الاقتراب بشكل مثير للعجب من ترمب الموجود على مسافة 140 متراً منه، وإطلاق النار قبل قنصه من أحد عناصر الخدمة السرية، فيما وُصف بأكبر خرق أمني منذ محاولة اغتيال ريغان.

ويتحدث مارك هيريرا رقيب الشرطة السابق ومدير الأمن المسؤول عن المنشآت التجارية التابعة لوزارة الأمن القومي عن الإخفاقات الأمنية المحيطة بالحادثة، فيقول في حديث مع «الشرق الأوسط» إن أحد أسباب القلق الأساسية هي المحيط الأمني. وأوضح: «لقد تمكن مطلق النار من الوصول إلى موقع مشرف على الحدث، مما يدل على تقصير شديد في حماية المحيط بشكل فعّال».

ويؤكد هيريرا أهمية توسيع المناطق المحمية قدر المستطاع خصوصاً في المناطق المرتفعة التي توفر «موقعاً استراتيجياً»، ويقول محذراً: «مواقع من هذا النوع تسمح لطلقات البندقية بإصابة أهدافها بدقة مدمرة»، على غرار ما حصل في عملية اغتيال الرئيس الـ35 جون كينيدي الذي قضى بعد إصابته بطلقات نارية وهو في سيارته إلى جانب زوجته جاكلين في ولاية تكساس في عام 1963».

عناصر من جهاز الخدمة السرية يحيطون المرشح الجمهوري دونالد ترامب وهو يدخل سيارته بعد تعرضه لمحاولة اغتيال (أ ب)

العميلة السابقة في مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) كاثرين شوايت، تلفت إلى وجود «ثغرات» محتملة في خطة عناصر الخدمة السرية لحماية ترمب، وتفسر قائلة في حديث مع «الشرق الأوسط»: «سيتم النظر على وجه التحديد فيما إذا كان المحيط الأمني للمكان ضيقاً بما سمح لمطلق النار من الاقتراب. كما سيتم تقييم التقارير عن رؤيته قبل إطلاق النار لتحديد ما إذا كانت هناك فرصة ضائعة للتدخل قبل ذلك». وذلك في إشارة إلى شهادات شهود عيان في موقع الحادثة قالوا إنهم نبهوا العناصر الأمنية إلى وجود مسلح على سطح المبنى قبل إطلاق النار بدقائق، كهذا الشاهد الذي قال لشبكة (بي بي سي) إنه رأى المسلح قبل أن يطلق النار: «كنت أفكر، لماذا لا يزال ترمب يتكلم؟ لماذا لم يسحبوه من المنصة؟ ثم سمعنا 5 رصاصات...».

ويسلّط هيريرا الضوء على مشكلة أخرى وهي ردة فعل عناصر الخدمة السرية بعد إصابة ترمب، فيرى أن إخراجه من موقع الحادثة كان غير منظم «مما أدى إلى تعريضه للخطر في 3 مناسبات منفصلة»، ويشدد على ضرورة أن يكون الرد على هذه التهديدات سريعاً وحاسماً لضمان سلامة الرئيس، وهو ما لم يظهر في الرد على هذه الحادثة، على حد تعبيره.

تحقيقات واتهامات

على ضوء هذه المعطيات، تواجه الخدمة السرية ومديرتها كيمبرلي تشيتل، المرأة الثانية التي تتسلم هذا المنصب في التاريخ الأميركي، انتقادات حادة بسبب هذه الإخفاقات الأمنية، وصلت إلى حد فتح تحقيقات تشريعية بهذا الخصوص، واستدعاء تشيتل للإدلاء بإفادتها أمام الكونغرس في مواجهة دعوات لاستقالتها. ويقول النائب الجمهوري جايمس كومر، رئيس لجنة المراقبة والإصلاح الحكومي، الذي استدعى تشيتل: «هناك كثير من الأسئلة يطالب الشعب الأميركي بالحصول على أجوبة عنها».

ولا تقتصر هذه الدعوات على الجمهوريين فحسب، بل تتخطاها لتشمل الديمقراطيين على رأسهم الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أوصى بفتح تحقيق مستقل بشأن الأمن القومي لتقييم ما جرى متعهداً بـ«مشاركة نتائج التحقيق مع الشعب الأميركي».

شرطيان أميركيان يقفان أمام منل توماس ماثيو كروكس المتهم بالتورط في محاولة اغتيال ترامب (رويترز)

وبانتظار هذه التحقيقات المتفرقة، فتح مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) تحقيقه الخاص في عملية الاغتيال، وهذا ما ذكرته شوايت، مشيرةً إلى أن «إف بي آي»، التابع لوزارة العدل، والخدمة السرية، التابعة لوزارة الأمن القومي «سيعملان معاً مع وكالات فيدرالية أخرى للغوص في تفاصيل ما جرى وتشخيص نقاط الضعف». وأضافت: «هذا يتضمن مراجعة الخطط وإجراء مقابلات مع عناصر الأمن وقوات الأمن المحلية».

وتفسر شوايت، التي شمل عملها التنسيق مع الشرطة المحلية للتحقيق في حوادث إطلاق النار والرد عليها، مهمة مكتب التحقيقات الفيدرالي المسؤول عن الحوادث الداخلية في الولايات المتحدة، فتقول: «يعمل عناصر (إف بي آي) مع الخدمة السرية بشكل متواصل لمشاركة الاستخبارات حول التهديدات المحدقة بالأشخاص الذين يتطلبون الحماية، ويشارك المكتب بالتعاون مع عناصر الشرطة المحلية بالتخطيط للأحداث العامة»، لكنها تستطرد مشيرةً إلى أن «إف بي آي» هي الوكالة الوحيدة المسؤولة عن التحقيق في كل مرة يحصل فيها اعتداء على مسؤول فيدرالي، وتعطي مثالاً على ذلك بالتحقيقات في محاولات اغتيال الرئيسين السابقين رونالد ريغان وجيرالد فورد قائلة: «(إف بي آي) تجمع الأدلة وتحللها وعناصرها سيجرون مقابلات مع الحاضرين لوضع جدول زمني وصورة كاملة لمن كان متورطاً في الاعتداء. وفي حال اتضحت ضرورة توجيه تهم جنائية يطلب المكتب من وزارة العدل النظر في توجيه هذه التهم».

توصيات

وبانتظار هذه التحقيقات، تُجري الخدمة السرية تحقيقاتها الخاصة حول الثغرات الأمنية المحتملة، والإصلاحات التي يجب أن تُفرض للحؤول دون تكرار حوادث من هذا النوع. ويقول فيريرا إنه من الضروري جداً تعزيز تدريبات القوى الأمنية في الخدمة السرية المسؤولة عن حماية شخصيات بارزة، معتبراً أنه كان من الواضح من خلال رد فعل العناصر الموجودين حول ترمب أن بعضهم يفتقر للتدريب الكافي. ويفسر ذلك قائلاً: «لقد رأينا فريق الخدمة السرية يتردد عدة مرات ويعرّض الهدف (ترمب) للخطر. يجب تحديد الأدوار والمسؤوليات بوضوح لكل عضو في الفريق. هذا يخفف من التردد ويضمن اطّلاع الجميع على مهامهم المحددة في حال الطوارئ». ويضيف فيريرا، المسؤول عن تأمين الحماية الأمنية لمنشآت وزارة الأمن القومي التجارية: «يجب أن تمر الفرق بتمارين مكثفة، مما يعني إجراء تدريبات منتظمة وواقعية تحاكي مجموعة متنوعة من التهديدات المحتملة لضمان سرعة التصرف. كما يجب التركيز بشكل أساسي على التدريب في أجواء ضاغطة لمساعدة العناصر على الحفاظ على رباطة جأشهم واتخاذ قرارات سريعة تحت الضغط».

إخفاقات سابقة

تكرَّر على لسان الكثيرين مقارنة بين حادثة إطلاق النار على ريغان في العاصمة الأميركية واشنطن في عام 1981 التي أُصيب خلالها بجروح أدت إلى مكوثه في المستشفى لمدة 12 يوماً، وحادثة إطلاق النار على ترمب من حيث الإخفاقات الأمنية. وهذا ما قاله النائب الديمقراطي روبن غاليغو، الذي تحدث عن «أكبر فشل أمني على أعلى المستويات منذ محاولة اغتيال الرئيس ريغان».

يتفق عنصر الخدمة السرية المتقاعد تيم مكارثي مع توصيف ما جرى بـ«الفشل الأمني»، ويقول مكارثي الذي كان ضمن العناصر المكلفين بحماية ريغان، وأُصيب بطلقة نارية في صدره جراء محاولة الاغتيال: «عندما يُصاب شخص تحت حماية الخدمة السرية، فهذا يعد فشلاً لأن هذا يجب ألا يحصل». ويتابع مكارثي في مقابلة مع شبكة (إن بي سي): «قد يكون الأمر فشلاً فردياً أو من نوع آخر، لكنه فشل من دون أدنى شك. إن محاولة اغتيال ريغان كانت فشلاً أمنياً لأنه أُصيب بجراح. وما جرى مع ترمب هو فشل أمني ويجب أن ننظر إلى أسبابه».

وهذا ما تعهد به النائب غاليغو الذي قال في رسالة إلى مديرة الخدمة السرية: «لا يمكن تكرار ما جرى، وأنا أطالب بتحمل المسؤولية».

وهي ليست المرة الأولى التي تواجه فيها تشيتل انتقادات من هذا النوع، فقد سبق أن تعرضت لموجة من الانتقادات جراء أحداث اقتحام الكابيتول في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، وذلك بعد أن أصدر تحقيق فيدرالي تقريراً قال فيه إن الوكالة محت رسائل هاتفية لعناصرها خلال الأحداث، كان من الممكن لها أن تسلّط الضوء على الإخفاقات الأمنية في ذلك اليوم. وبررت الخدمة السرية سبب محو الرسائل بـ«تغيير في تقنيات النظام الهاتفي» في الوكالة.

وواجهت الوكالة انتقادات متكررة كذلك بعد دخول متسلل إلى منزل مستشار الأمن القومي جايك سوليفان، الذي يتمتع بحماية عناصر الخدمة السرية في عام 2023.

وفي 2021 تأخر عناصر الوكالة 90 دقيقة في إجلاء نائبة الرئيس كامالا هاريس من موقع وجود قنبلة خارج اللجنة الوطنية الديمقراطية.

أما في عام 2014 فقد تمكن متسلل من القفز فوق سور البيت الأبيض والدخول من الباب الأمامي قبل إلقاء القبض عليه في عهد الرئيس السابق باراك أوباما.

ناهيك بفضيحة دعارة في كولومبيا في عام 2012 على هامش قمة الأميركيتين شملت أكثر من 20 امرأة في فندق في «كارتاخينا» تورط فيها عناصر من الوكالة ولطخت سمعتها.

ما «الخدمة السرية»؟

لم تكن مهمة الوكالة حماية المسؤولين في بداية عهدها، فقد أسَّسها الرئيس السابق أبراهام لينكولن في الخامس من يوليو (تموز) 1865 للتصدي لتزوير العملة، وكانت حينها تحت سلطة وزارة الخزانة.

بعد اغتيال الرئيس السابق ويليام كينلي، عام 1901 وجّه الكونغرس الوكالة إلى توفير الحماية للرؤساء لتصبح الوكالة الاستخباراتية الأولى الداخلية في الولايات المتحدة، قبل أن يتم تجيير مهمة جمع الاستخبارات الداخلية إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي لدى تأسيسه في عام 1908.

وبينما اقتصرت مهمة تأمين الحماية على الرؤساء فقط في بداية الأمر، عاد الكونغرس وطلب توسيع نطاقها بعد اغتيال السيناتور السابق والمرشح الديمقراطي للرئاسة روبرت ف. كينيدي في عام 1968 لتشمل عائلات الرؤساء والمرشحين للرئاسة ونوابهم.

في عام 2003 نُقل الإشراف على الوكالة من وزارة الخزانة إلى وزارة الأمن القومي، وهي تتضمن 8300 عنصر، وتصل موازنتها السنوية إلى 3.2 مليار دولار.

أسماء مشفرة

يستعمل عناصر الخدمة السرية أسماء مشفرة للرؤساء وعائلاتهم والمسؤولين الأجانب والمقرات الفيدرالية الأميركية لدى التواصل فيما بينهم. وقد بدأت هذه السياسة لأسباب أمنية قبل تشفير التواصل الإلكتروني، لتصبح اليوم تقليداً معتمداً لدى الوكالة، وهنا بعض الأسماء المعتمدة:

باراك أوباما: رينيغايد، أو المتمرد.

دونالد ترمب: موغل، أي القطب أو الشخص المهم.

جو بايدن: سيلتيك، أي الشخص من أصول أوروبية – آيرلندية.

البيت الأبيض: القصر.

الكونغرس: بانشبول، أو وعاء العصير.

البنتاغون: كاليكو، في إشارة إلى شكله الخماسي.

وزارة الخارجية: بيردز، أي أو عين الطائر.

الموكب الرئاسي: بامبو.