روسيا تراجع سياسات الهجرة بعد هجوم «داعش»

10 ملايين مهاجر من آسيا الوسطى... فئات هشة تتحول هدفاً سهلاً للتجنيد

تفحُّم صالة «كروكوس سيتي هول» للحفلات في موسكو بسبب الهجوم (أ.ف.ب)
تفحُّم صالة «كروكوس سيتي هول» للحفلات في موسكو بسبب الهجوم (أ.ف.ب)
TT

روسيا تراجع سياسات الهجرة بعد هجوم «داعش»

تفحُّم صالة «كروكوس سيتي هول» للحفلات في موسكو بسبب الهجوم (أ.ف.ب)
تفحُّم صالة «كروكوس سيتي هول» للحفلات في موسكو بسبب الهجوم (أ.ف.ب)

شهر كامل مر على الهجوم الدموي المروع الذي استهدف المركز التجاري الترفيهي «كروكوس» قرب العاصمة الروسية موسكو، ولم يستفق بعد الجزء الأعظم من الروس من الصدمة.

استغرقت العملية نحو ربع ساعة فقط، منذ أن ترجل أربعة مسلحين من سيارة رينو بيضاء، واقتحموا البوابات بسهولة، وفتحوا نيراناً كثيفة من أسلحة آلية على كل من وقع في طريقهم نحو قاعة احتفالات موسيقية. في القاعة ألقوا عبوات ناسفة أشعلت النيران في المبنى. من لم يقتل بالرصاص مات اختناقاً أو بسبب الحروق.

هجوم رسمت تفاصيله بدقة. ولكن أيضاً ببساطة مذهلة.

كان المهاجمون يعرفون سلفاً الطريق التي سوف يسلكونها. ويعرفون جيداً أن رجال الأمن في المكان ليسوا مسلحين إلا بما تيسر من هراوات وآلات صاعقة لم تصمد للحظة أمام هجوم البنادق والرصاص.

ربع ساعة زلزلت روسيا، وأعادت إلى الأذهان سلسلة كاملة من مآسي الهجمات الانتحارية وتفجير المباني السكنية، واستهداف الطائرات المدنية في بداية الألفية الثالثة.

سرعان ما تبين أن المهاجمين الأربعة من طاجكستان. الجمهورية الآسيوية الوادعة، التي تعد من بين البلدان الأفقر في الفضاء السوفياتي السابق، والتي تدفع معدلات البطالة وانعدام فرص العمل فيها فئات الشباب إلى الهجرة شمالاً نحو روسيا بحثاً عن حياة أفضل وعن فرص عمل في البلد الجار الكبير.

صور للمشتبه بهم الأربعة في تنفيذ الهجوم نُشرت مع بدء محاكمتهم بموسكو (أ.ف.ب)

صحيح أن الرواية الرسمية الروسية وجهت أصابع الاتهام إلى أوكرانيا، وربطت الهجوم بـ«الحرب الشاملة» من جانب الغرب على روسيا. وحتى عندما اتضح أن منفذي الهجوم ومن عاونهم في التحرك داخل روسيا ومن زودهم بـالمتفجرات والسلاح والمال ينخرطون مباشرة في صفوف تنظيم «داعش - خراسان»، ظلت موسكو مصممة على روايتها بأن الأجهزة الأوكرانية والغربية استخدمت إرهابيين لتحقيق أغراضها.

نتيجة التحقيقات الأولية فتحت على مخاوف جدية؛ خصوصاً أن المتهمين الـ13 الذين يقبعون حالياً في سجن التحقيق، أعلنوا خلال الاستجواب ارتباطهم بتنظيم «داعش - خراسان» الذي ينشط في منطقة آسيا الوسطى، وبعضهم كان قد مارس نشاطات في داغستان الواقعة في منطقة شمال القوقاز، وتعد الخاصرة الرخوة لروسيا ومركز النشاط المسلّح للمجموعات المتشددة.

مرة واحدة، أعاد هجوم كروكوس إلى الواجهة فزاعة «الإرهاب الإسلامي» الذي عاشت معه روسيا سنوات صعبة. ومرة واحدة بات ملايين المسلمين الذين قادتهم أحوالهم المعيشية القاسية للهجرة من أوطانهم في قفص اتهام كبير، حتى وصل الأمر إلى أن تصفهم تعليقات في وسائل إعلام حكومية بأنهم «قنبلة موقوتة» تهدد روسيا.

من جحيم الفقر إلى دائرة الاتهام

يعيش في روسيا وفقاً لتقديرات دوائر الإحصاء نحو 17 مليون أجنبي. وهو رقم كبير للغاية بالنسبة إلى بلد لا يزيد عدد سكانه على 144 مليون نسمة، ولا يشجع تقليدياً على الهجرة إليه، كما أنه لا يمنح امتيازات للمهاجرين الجدد.

بين هؤلاء نحو 10 ملايين نسمة من جمهوريات آسيا الوسطى الخمس (كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وتركمانستان).

قوات الأمن الروسية تنتشر في الميدان الأحمر بموسكو عقب أسبوع من هجوم دامٍ في قاعة للحفلات قرب العاصمة الروسية (أ.ف.ب)

يصعب وضع أرقام مؤكدة عن نسب المهاجرين غير الشرعيين منهم، أي أولئك الذين اجتازوا الحدود وخالفوا قوانين الهجرة والإقامة منذ سنوات. إذ تراوح تقديرات الأجهزة المختصة لحجم هذه الفئة بين أربعة ملايين وسبعة ملايين مهاجر ليسوا مسجلين لدى دوائر الدولة.

يعيش الجزء الأعظم من هؤلاء في ظروف معيشية قاسية، داخل تجمعات مغلقة، غالباً ما تكون مستودعات تابعة لأصحاب الأعمال في مجالات مختلفة على رأسها قطاع البناء. ويتكدس عشرات من العمال الوافدين داخل غرف ضيقة وغير مجهزة للسكن. أو يختار كثيرون أن يسكنوا داخل ما يسمى «الغرف المطاطية» وهو تعبير رائج لشقق سكنية ضيقة أو مبان ينحشر فيها عدد كبير من الوافدين يفوق قدرتها الاستيعابية الطبيعية، طمعاً في توفير أجرة المسكن وتقليص النفقات الخاصة بالمأكل والنفقات المعيشية الضرورية الأخرى.

ولا تعد مشكلة العمالة الوافدة حديثة العهد في روسيا، فقد ظلت تؤرق الأجهزة الخاصة على مدى سنوات طويلة، لكن التركيز عليها يشتد أو يتراخى وفقاً للظروف التي تعيشها البلاد. فمثلا زادت ظروف الحرب في أوكرانيا من الحاجة للعمالة الرخيصة، واستفادت قطاعات اقتصادية واسعة من «جيش العمال الوافدين» لتطوير أعمالها وخصوصاً في مجالات البناء والنقل والتنظيفات وبعض الصناعات والخدمات الأخرى.

أيضاً، أطلقت موسكو سلسلة تسهيلات للإفادة من هذا الجيش البشري الكبير عبر تبسيط إجراءات الحصول على الجنسية وتصويب الوضع القانوني للمهاجرين غير الشرعيين في مقابل الخدمة على الجبهة لفترات محددة لسد النقص في القوة البشرية المطلوبة.

في المقابل، فإن هجوم كروكوس أعاد التذكير بالخطر الكامن، وبرزت تحذيرات من سهولة تجنيد إرهابيين في مقابل مبالغ مالية محدودة. يكفي القول إن منفذي هجوم كركوس حصلوا على مبلغ متواضع للغاية مقابل تنفيذ الهجوم الدموي، ودلت الاعترافات على أن المخططين حولوا مبالغ نقدية بقيمة نصف مليون روبل (5000 دولار) ووعدوا بدفع مبلغ مماثل بعد إتمام العملية.

مباشرة بعد الهجوم، رفعت روسيا درجة التأهب حيال مشكلة العمالة الوافدة إلى أقصى مستوى.

جاءت إشارة البداية من الرئيس فلاديمير بوتين الذي أمر بتجديد جذري لسياسات الهجرة. ودعا أمام مجلس إدارة وزارة الداخلية، وكالات إنفاذ القانون والخدمات الخاصة بالعمل مع الوزارة والتنسيق مع الحكومة والإدارة الرئاسية، لتحقيق هذا الهدف.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أرشيفية - د.ب.أ)

مباشرة بدأت حملة واسعة من عمليات الدهم والملاحقة، على أماكن تجمع المهاجرين وظهرت على الفور «الحاجة إلى وضع قواعد بيانات إلكترونية رقمية حديثة».

كما أطلقت وزارة الداخلية مشروع قانون لتشديد سيطرة الدولة على مجال الهجرة. ووفقاً للنسخة الجديدة من القانون يخضع الأجانب لتدابير صارمة للغاية وتخفض أيضاً فترة إقامتهم في البلاد إلى 90 يوماً في السنة.

سفر معاكس

بعد الهجوم الإرهابي على كروكوس مباشرة، سجلت الدوائر المختصة عمليات سفر جماعي للعمال الوافدين، وخصوصاً بين مواطني طاجيكستان.

وقال نائب وزير العمل في الجمهورية، شاخنوزا نوديري، إن عمليات الفرار الجماعي «لا تتعلق على الأرجح بالمضايقات الأمنية، بل بتفشي الخوف والذعر من عمليات انتقامية محتملة».

رغم ذلك، توقعت الوزارة أن يكون التدفق ظاهرة مؤقتة ودعت مواطنيها إلى عدم الاستسلام للرسائل الاستفزازية التي انتشرت بكثرة على الإنترنت وحملت تهديدات لمواطني طاجيكستان في روسيا.

ووفقاً لوزارة العمل في طاجيكستان، يقطن في روسيا أكثر من مليون طاجيكي غالبيتهم الساحقة عمال معدمون لا يتمتعون بخبرات عملية أو كفاءات مهنية.

في عام 2023، قدم 627 ألف طاجيكي إلى روسيا للعمل. ووفقاً لتقارير مؤسسة «روس ستات» الإحصائية، فإن هذا يعادل ربع عدد الأجانب الذين دخلوا البلاد.

عمّال ممنوعون من العمل

اللافت أنه في غمار النقاشات حول «الخطر» الذي يحمله المهاجرون من منطقة آسيا الوسطى، وعلى خلفية الأجواء الأمنية المكثفة بعد الهجوم، سارعت بعض المناطق والقطاعات إلى وضع تشريعات جديدة تحظر توظيف العمال الوافدين، وخصوصاً في المناطق الحساسة والحدودية مع أوكرانيا؛ حيث تتنامى المخاوف من استخدام متشددين لشن هجمات.

وهكذا، أعلنت سلطات شبه جزيرة القرم حظر استخدام العمالة الوافدة في عشرات المهن في هذه المنطقة.

وبدأت عمليات واسعة لـ«تطهير» الإقليم منهم. وفقاً للعملية الجارية حالياً سيتم حتى نهاية عام 2024، توسيع الحظر الشامل على جذب الأجانب للعمل في إنتاج المحاصيل وصيانة المباني والأقاليم وجمع النفايات والتخلص منها. ووقع رئيس الإقليم المعين من جانب موسكو سيرغي أكسينوف مرسوماً بهذا الشأن.

عمال تنظيف النوافذ يستخدمون الحبال الهوائية لتنظيف نوافذ مطار دوموديدوفو في موسكو ويملكه رجل الأعمال الروسي دميتري كامينشيك (خدمة غيتي للصور)

ووفقاً للتدابير الجديدة سيتعرض المهاجرون للمسؤولية الجنائية والطرد من البلاد بسبب أي انتهاك.

وتشمل قائمة المجالات التي يتم فيها فرض قيود على عمل الأجانب إنتاج المحاصيل وتربية الماشية والصيد، والتعدين، وإنتاج الأغذية والمشروبات، وتوفير الكهرباء والغاز، وجمع ومعالجة مياه الصرف الصحي. كما يُحظر على العمال المهاجرين في شبه جزيرة القرم العمل في تجارة الجملة والتجزئة (باستثناء مبيعات السيارات والدراجات النارية)، في التلفزيون والراديو، في المعاملات العقارية في التعليم، في مجال الرياضة والترفيه والتسلية. بالإضافة إلى ذلك، لن يتمكن الأجانب في المنطقة من مزاولة أعمال النشر والتأجير، أو العمل في مجال تكنولوجيا المعلومات، في المكتبات ودور المحفوظات والمتاحف.

ووفقاً لخبراء سوف يؤثر الحظر المفروض على توظيف المهاجرين على إنتاج المنتجات المطاطية والبلاستيكية، ومصايد الأسماك وتربيتها، والهندسة المعمارية والتصميم الهندسي، ومجالات التوظيف واختيار الموظفين.

أثر بالغ على الإنتاج

في مناطق أخرى من البلاد بينها العاصمة موسكو قرر عدد من مديري شركات الإدارة إعطاء الأولوية عند التوظيف للسكان المحليين. لكنْ هذه التدابير وكثير مثلها أثارت مخاوف جدية لدى قطاعات اقتصادية واسعة. ويقول سيرغي كوستيوتشينكوف، رئيس لجنة الإسكان والخدمات المجتمعية بغرفة التجارة والصناعة: «على مدى السنوات العشرين الماضية، ركزت روسيا على جذب المهاجرين غير المهرة، واليوم باتوا يشكلون جزءاً كبيراً من اقتصادنا». مشيراً إلى أنه «من المستحيل الآن رفض خدماتهم».

وأوضح الخبير الاقتصادي فياتشيسلاف بوستافنين أنه «سوف تنهار الخدمات السكنية والمجتمعية والزراعة والنقل وغيرها من الصناعات». وأضاف أنه لا يوجد مثال واحد في العالم تطورت فيه دولة ذات عدد سكان منخفض دون تدفقات الهجرة.

وباتت روسيا حالياً، وفقاً للخبراء تواجه معضلة واختياراً صعباً بين المتطلبات الأمنية والحاجة إلى تشديد خطط السيطرة الكاملة على حياة المهاجرين في الاتحاد الروسي والمحافظة في الوقت ذاته على تلبية الحاجة الماسة إليهم بين أصحاب العمل الروس.

وهو أمر أوضحه الأمين العام لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي إيمانجالي تاسماجامبيتوف عندما قال إنه من المهم للغاية التصرف «بهدوء» وعدم الانجرار للأفعال العاطفية، محذراً من «أخطاء يمكن أن تكون لها عواقب سلبية للغاية وطويلة الأمد». في هذا الإطار يضع المسؤول الإقليمي بين المخاطر، التأثيرات على مستوى العلاقات ببلدان الجوار الروسي، وزاد أنه «من المهم للغاية عدم السماح بتدهور الوضع في مجال سياسة الجنسية والهجرة في روسيا. وإذا تم اتخاذ خطوات تؤدي إلى الضغط على العمالة المهاجرة من دول آسيا الوسطى، فإن ذلك سيؤدي إلى نزوحهم الجماعي. المشكلة، بالطبع، ليست فقط أن هذا سيؤثر سلباً على قطاعات معينة من الاقتصاد الروسي؛ حيث يوجد نقص موضوعي في العمال، ولكن أولاً وقبل كل شيء، سيحفز المشاعر المعادية لروسيا في بلدان الجوار». وحذّر تاسماجامبيتوف من أن هذا المسار سوف يقود إلى تلبية أهداف المبادرين والمنفذين للهجوم الإرهابي في قاعة كروكوس.

هل ينجح «داعش» في التمدد داخل روسيا؟

واحد من الأسئلة الرئيسية التي طرحها إرهاب كروكوس بقوة، حول قدرة تنظيم «داعش خراسان»، الذي تحول وفقاً لخبراء إلى الكتلة الرئيسية للتنظيم على المستوى الدولي، على التمدد داخل روسيا وتشكيل خطر جدي مستقبلي.

لفت الأنظار في هذا السياق أن التنظيم أعلن مسؤوليته عن العملية في منطقة تعد تقليدياً منطقة نشاط فرع شمال القوقاز، بمعنى أنه استخدم هجوم كروكوس للإعلان رسمياً عن انتقال نشاطه إلى الداخل الروسي، ووضع فرع شمال القوقاز تحت قيادته مباشرة. ويدعم هذه الفرضية أن العناصر التي قامت بتسهيل تنقل المنفذين وتزويدهم بالسلاح هم من المتشددين في داغستان.

جندي أفغاني يتفقد مبنى تضرر خلال عملية ضد تنظيم «داعش خراسان» في منطقة آسين في أفغانستان ويعتقد أن حافظ سعيد خان، أمير التنظيم في مقاطعة خراسان، قُتل خلالها (أرشيفية- خدمة غيتي للصور).

يقول الخبير الأوزبكي البارز في شؤون الإرهاب، فيكتور ميخائيلوف، إن القائمين على تجنيد متطوعين في روسيا من بين العمال المهاجرين، باتوا ينجحون في تحقيق خطوات واسعة، رغم أنهم يواجهون عقبات في إرسال المجندين إلى مناطق أخرى، بسبب الصعوبات اللوجيستية.

وبحسب ميخائيلوف، فإن التنظيم الدولي يعمل حالياً على تثبيت فكرة مغايرة لمبدأ عمل تنظيم «القاعدة» سابقاً، الذي ركز على «الهجرة من أجل الجهاد»، فنشاط «داعش» كما يقول الخبير يقوم في روسيا على «إحلال الخلايا الجهادية داخل مناطق العدو».

بهذا المعنى تشكل روسيا نقطة حساسة، لأنها أحد مراكز التوظيف النشط بين العمال المهاجرين الذين يسهل العمل في أوساطهم.

وفي رأي الخبير فإن جميع الهجمات الإرهابية التي ارتكبها «داعش» لها سمات مشتركة، «وهم يعرفون كيفية العثور على منفذين» وكيف يمكن توجيه «الضربات» في المناسبات العامة.

كمثال؛ يقول ميخائيلوف إن مواطني أوزبكستان المقيمين حالياً في روسيا يبلغ تعدادهم نحو مليون و200 ألف، «وهذه الفئات الاجتماعية ضعيفة للغاية، ولدينا دراسة كاملة حول هذا الموضوع. لقد تواصلنا مع القائمين بالتجنيد أنفسهم ومع أولئك الذين تم تجنيدهم، ونعرف جميع خوارزمياتهم جيداً».

يقول ميخائيلوف إن تعبير «القنبلة الموقوتة» الذي تم إطلاقه على المهاجرين من منطقة آسيا الوسطى لا يعكس مبالغة كبيرة لجهة سهولة عمل التنظيم الإرهابي في أوساط العمال الوافدين.

لتوضيح الفكرة، ينطلق من أن «داعش» خلافاً لتنظيم «القاعدة» الذي كان ينشط على وسائل التواصل الاجتماعي، يفضل العمل المباشر مع المرشحين للتجنيد. كما أن التجنيد المباشر لا يحتاج إلى فترات زمنية طويلة لإعداد كوادر متشددة نفسياً وقتالياً، كما كان يفعل تنظيم «القاعدة»، لأن الحاجة هنا تتلخص في إعطاء تعليمات بتنفيذ عملية محددة هدفها الترويع إلى أقصى درجة، و«إذا نجح المنفذ في الفرار بعد ذلك فهذا جيد وإذا لم ينجح فلا بأس».

ووفقاً لهذه الرؤية، يرى الخبير أن فرص توظيف الإرهابيين في روسيا كبيرة للغاية، لأن تلك الفئات الهشة الضعيفة تعد وسطاً جيداً جداً للتعامل معها.

ويضيف: «هم ببساطة شبه متعلمين، ولا يعرفون القرآن جيداً، ويتغذون على قصاصات من المواعظ وما يوضع في آذانهم. مع هؤلاء المرشحين يبدأ مسؤول التوظيف عملاً محدداً. ولذلك، في أغلب الأحيان يجد القائم بالتجنيد مجنديه المحتملين في المساجد بين الشباب المتحمسين دينياً. وفي الوقت نفسه، فإنهم صادقون في دوافعهم، ويتجنبون، على سبيل المثال، المخدرات والكحول، مثل المؤمنين المسلمين الحقيقيين».

وتشير الإحصاءات التي استند إليها الخبير إلى أنه «بين كل 10 أشخاص يعمل معهم المجند، واحد فقط مستعد للذهاب نحو عمل تفجيري أو هجوم مسلح». ورغم أن النسبة ليست كبيرة جداً لكنها تبقى خطيرة للغاية.

أيضا يرى ميخائيلوف أن تمدد نشاط «داعش» في روسيا يصنع مشكلتين كبيرتين: «الأولى هي أن رُهاب المهاجرين سوف يتطور داخل البلاد. والمشكلة الثانية هي مع مصير هؤلاء المهاجرين الذين سيضطرون إلى الخروج من (بلد الكسب)، وسيضطرون إلى العودة إلى ديارهم. فماذا سيحدث إذا عاد ما لا يقل عن 150 إلى 200 ألف مهاجر إلى دول آسيا الوسطى؟». ويتابع قوله: «ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أن كل مهاجر يطعم خمسة أفراد من أسرته على الأقل. هذا سوف يخلق وضعاً صعباً وخطيراً للغاية، ويجعل تجنيد إرهابيين جدد في هذه البيئة أمراً بسيطاً للغاية». وهكذا فإن «ولاية خراسان» وفقاً له، بعد أن نفذت الهجوم الإرهابي في روسيا: «حققت مائة في المائة من أهدافها».



طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».