الإخوة الأعداء: البرهان وحميدتي... نهاية صداقة أشعلت السودان

جمعتهما حرب دارفور وفرَّقتهما السلطة

TT

الإخوة الأعداء: البرهان وحميدتي... نهاية صداقة أشعلت السودان

قائدا الجيش عبد الفتاح البرهان (يسار) و«الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي) عام 2019 (أ.ف.ب)
قائدا الجيش عبد الفتاح البرهان (يسار) و«الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي) عام 2019 (أ.ف.ب)

«أخوّة الكاب حدّها الباب»، مَثل متداوَل بين العسكريين السودانيين، يعني أن الصداقة بينهم مؤقتة وقابلة للانقلاب إلى عداوة في أي وقت، متى ما تضاربت مصالحهم، وأن خصومتهم ستُحسم بالرصاص والحراب.

هذا بالضبط ما سيسجله التاريخ عن علاقة الصديقين اللدودين، قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، و«أخوه» السابق قائد «قوات الدعم السريع»، الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف بـ«حميدتي».

فمنذ منتصف أبريل (نيسان) الماضي والرجلان يتقاتلان، ويتبادلان الشتائم، كأنه لم تكن بينهما أخوّة سابقة وصداقة.

فكيف بدأت العلاقة بين الرجلين، وأين، وكيف تطورت، ثم لماذا تحولت إلى «أُخوّة كاب»؟

الإخوة الأعداء

بعد عشرين عاماً من علاقة سلاح تحولت إلى صداقة حميمة، بلغت خلافات الرجلين، أو تنافسهما على المنصب الأول، حد الاحتراب ونقض الصداقة التي نسجتها المعارك والمصالح، فتفجر الخلاف بين القوتين اللتين كان الرجلان يصفانها بالمتانة، حتى قبيل اندلاع حرب أبريل الأخيرة بسويعات، بيد أن كلاً منهما كان يضمر للآخر في الحقيقة شراً كثيراً. ثم، فجأة، دوَّى الرصاص وتساقطت القنابل والصواريخ، التي تستهدف قتل الآخر، وبدأ «صراع الفيلة» الذي دمَّر كل شيء، وما زال الرجلان يتصارعان حتى اليوم، ويدمّران في صراعهما السودان وأهله.

حميدتي، قال في حوار سابق أجرته معه «الشرق الأوسط» عندما كان لا يزال نائباً للبرهان، إنه بدأ حياته «تاجراً»، ثم انضم لقوات حرس الحدود عام 2004 إبان الحرب بين الجيش السوداني والحركات المتمردة في إقليم دارفور. وحسب كتاب «ما بعد الجنجويد»، للكاتبة جولي فلينت، فإن قوات حرس الحدود كانت تحت إمرة العقيد «المتقاعد» وقتها، مفوض جبل مرة (2002 - 2005) عبد الفتاح البرهان، حين كان اللقاء الأول بين الرجلين.

من نيرتتي إلى القصر

البرهان يؤدي التحية وهو يستمع إلى النشيد الوطني في بورتسودان 27 أغسطس (رويترز)

يوافق على هذه المعلومة العقيد المتقاعد، الطيب المالكابي، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»، إن العلاقة بين الرجلين بدأت في دارفور، عندما شغل البرهان منصب معتمد محلية نيرتتي، في أثناء وجود حميدتي في قوات حرس الحدود. وكان البرهان منسقاً للقوات المسلحة في أثناء حرب دارفور.وحرس الحدود هي القوة التي تطورت لتصبح لاحقاً «قوات الدعم السريع».

شارك حميدتي من موقعه في قوات حرس الحدود، بفاعلية كبيرة في الحرب ضد الحركات المسلحة في دارفور. وهو ما دفع الرئيس السوداني السابق عمر البشير إلى إصدار مرسوم عام 2007، عيّن بموجبه حميدتي ضابطاً برتبة عميد، وألحقه وقواته بجهاز المخابرات العامة. ثم في عام 2013 أعاد البشير هيكلة تلك القوات وأطلق عليها اسم «قوات الدعم السريع» بقيادة حميدتي، ومنحه صلاحيات وامتيازات واسعة لم تعجب رئيس هيئة أركان الجيش. ولم يكن البشير يرغب في بقاء تلك القوة تحت إمرة جهاز المخابرات العامة، وكان يشك في مدير الجهاز، وقتها صلاح عبد الله «قوش»، الذي اتهمه بالضلوع في محاولة انقلابية للاستيلاء على السلطة.

قائد «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»... (أرشيفية - رويترز)

وانتهز البشير تلك المناسبة وحوَّل «قوات الدعم السريع» حديثة التكوين لتصبح تحت إمرته ومسؤولة أمامه مباشرة، بصفته رئيس الجمهورية والقائد العام للجيش، مما جعلها تتمتع بمزيد من الاستقلالية في تحركاتها وتصرفاتها، وأطلق على قائدها حميدتي لقب «حمايتي»، مما يعني أنه قربه ليكون حماية له من أي محاولة انقلابية.

حرب اليمن

تعززت علاقة البرهان وحميدتي مجدداً في 2015، عندما اشتركا في الحرب لدعم الحكومة الشرعية في اليمن، وشاركا معاً في تجهيز المقاتلين من «الدعم السريع» والجيش للمشاركة في «عاصفة الحزم» التي شنها التحالف العربي بقيادة السعودية ضد انقلابيي اليمن.

وفي عام 2017 أجاز المجلس الوطني (البرلمان) قانون «قوات الدعم السريع»، الذي جعل منها قوات عسكرية «مستقلة» نظامية. ورغم أن القانون نص على أنها تعمل تحت إمرة الجيش، فإنها فعلياً كانت تتبع رئيس الجمهورية والقائد العام للجيش مباشرةً، بوصفها قوات «خاصة به».

إقالة ابن عوف وتنصيب البرهان

عندما بدأت الثورة الشعبية ضد نظام حكم الإسلاميين في ديسمبر (كانون الأول) 2018، أمر باحضار «قوات الدعم السريع» لقمع الثوار، لكنّ حميدتي، ووفقاً لإفادة سابقة لـ«الشرق الأوسط» أيضاً، قال إنه استدعى قواته لدعم الثورة، وليس لضرب الثوار، وإنه اتخذ موقفاً مخالفاً لرئيسه بحماية المتظاهرين، بعدما كان قد راج أن البشير طلب منه قمع الثوار، وإنْ أدى ذلك لقتل ثلثهم.

البرهان بين جنود القاعدة البحرية في بورتسودان 28 أغسطس (أ.ف.ب)

ولعب حميدتي الذي كانت قواته قد بسطت، تقريباً، سيطرتها على العاصمة الخرطوم، دوراً مهماً في إطاحة البشير وحكومته، إلى جانب عدد من صغار الضباط في الجيش، ما اضطر «اللجنة الأمنية» العليا التي شكّلها البشير من كبار الضباط، وكان حميدتي أحد أعضائها، إلى التوافق على تغيير البشير وتشكيل مجلس عسكري انتقالي برئاسة قائد الجيش وقتها، الفريق أول عوض بن عوف، الذي مكث في السلطة ليوم واحد فقط، اضطر بعده للاستقالة، بضغط شعبي.

ومن ثمَّ جرى التوافق على اختيار البرهان رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي كما اختير حميدتي نائباً له. وبذلك عاد الرجلان مجدداً للاتحاد والعمل معاً، وهو الأمر الذي لخصه لـ«الشرق الأوسط» اللواء المتقاعد كمال إسماعيل بقوله: «التقى حميدتي البرهان في دارفور، وهناك ربطتهما علاقة وطيدة جداً، نتجت عن العمليات العسكرية المشتركة التي كانا ينفّذانها معاً، لأن وجود قائدين يتطلب تنسيقاً عسكرياً محكماً، وثقةً متبادلة وعلاقة متينة. وحين أصبح حميدتي قائداً لـ(قوات الدعم السريع) توطدت علاقة الرجلين أكثر».

ويوضح اللواء إسماعيل أن علاقة الرجلين لم تتأثر بتمرد حميدتي على البشير في أثناء الثورة الشعبية، ورفضه طلبه «قتل ثلث الشعب»، بل تطورت باتفاقهما على إطاحة قائد الجيش الفريق أول عوض بن عوف، وقادة آخرين في اللجنة الأمنية التي أطاحت بحكومة البشير، وكانت تخطط لإطاحة رأس النظام والإبقاء على مؤسساته.

محمد حمدان دقلو حميدتي «الشرق الأوسط»

يقول اللواء إسماعيل إن حمَّيدتي نظَّف الطريق للبرهان الذي كان يتولى منصب المفتش العام للجيش، ليكون قائداً له، مما جعل علاقة الرجلين تتعمق أكثر، فكافأه البرهان بتعيينه نائباً له في رئاسة المجلس العسكري الانتقالي، واشتغل الرجلان معاً للتخلص من أعضاء «اللجنة الأمنية» المناوئين لهما، وأبرزهم مدير جهاز المخابرات العامة صلاح عبد الله (قوش).

فض اعتصام القيادة

ووفقاً للواء إسماعيل، فإن العلاقة بين الرجلين مضت بسلاسة، إلى أن جاءت «جريمة فض اعتصام القيادة العامة»، التي اتفق عليها الطرفان، لكنَّ حميدتي شعر بأنه جرى توريطه فيها من خلال التنفيذ الذي تم بأيدي عسكريين بلباس «الدعم السريع»، بقيادة أحد ضباط الجيش المنتسبين لـ«الدعم السريع»، الذي أُلقي القبض عليه وظل في سجن «الدعم السريع» حتى قيام الحرب، فتوترت علاقة الرجلين قليلاً.

كان حميدتي قد سبق وذكر أنه جرى «توريطهم» في تلك الجريمة وتحميلهم وزرها، من خلال عناصر تنظيم الإخوان في الجيش والأجهزة الأمنية.

وزال التوتر بعد تكليف حميدتي رئاسة وفد التفاوض بين العسكريين والمدنيين، وأوكل له توقيع «الوثيقة الدستورية» التي حكمت الفترة الانتقالية، ومن ثم «اخترع» له البرهان منصب نائب رئيس مجلس السيادة غير الموجود في الوثيقة الدستورية، ثم كلّفه ملف مفاوضات السلام مع الحركات المسلحة، والذي توِّج بتوقيع اتفاقية جوبا لسلام السودان عام 2020.

لكنّ الخلافات عادت لتبرز في «مجلس السيادة الانتقالي»، ولم تعد العلاقة ودودة مثلما كانت. ويقول اللواء إسماعيل: «يرجع التوتر إلى وجود جيشين متنافسين بقيادة رجلين متنافسين على السلطة، وهو أمر كفيل بتحفيز صراع السلطة بينهما».

ووفقاً لتقارير الشهود وقتها، فإن العلاقة بين الرجلين كانت تتوقف على علاقتهما بالمدنيين في الحكومة الانتقالية برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك. فكلما ارتفعت وتيرة التوتر بين العسكريين والمدنيين تقارب الرجلان أكثر، وهو ما أوصل البلاد إلى انقلاب أكتوبر (تشرين الأول) 2021، الذي أطاح الحكومة المدنية.

ويتابع اللواء إسماعيل: «أذكر تماماً أن البرهان وحميدتي كانا متوافقين تماماً على الانقلاب، لأن علاقتهما بالمدنيين ساءت كثيراً».

فخ الانقلاب

حميدتي، وبعد أيام قليلة من الانقلاب، شعر بأن ثمة فخاً جديداً نُصب بهدف «توريطه»، وفقاً لحديث سابق مع القائد الثاني لـ«قوات الدعم السريع»، عبد الرحيم دقلو (شقيق حميدتي)، الذي ذكر أن فشل الانقلاب تكشَّف لهم منذ الأيام الأولى، وأنه أعاد مجدداً أنصار الإسلاميين إلى مواقعهم في السلطة والنفوذ. وفي هذا قال اللواء إسماعيل: «حميدتي تحدث مع البرهان عن وجود تقارير للأجهزة الأمنية التي تلقياها كان خاطئة، وطلب منه إقالة مدير جهاز المخابرات جمال عبد المجيد، ومدير جهاز الشرطة، ورئيس هيئة أركان الجيش».

قائدا الجيش عبد الفتاح البرهان (يسار) و«الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي) عام 2019 (أ.ف.ب)

ويستطرد اللواء إسماعيل: «أقال البرهان كلاً من مدير الشرطة ومدير المخابرات، لكنه امتنع عن إقالة رئيس هيئة الأركان، تحسباً لما يمكن أن تثيره إقالته من مشكلات داخل الجيش».

وبدأت رحلة «تنصل» حميدتي من الانقلاب باكراً، وظهر ذلك في الجهود التي بذلها نائبه وشقيقه عبد الرحيم، من أجل إعادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى مكتبه، في اتفاق مع البرهان في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، أي بعد أيام من وضعه تحت الإقامة الجبرية، لكنّ البرهان كان متمسكاً بالانقلاب، على الرغم من عدم تمكنه من الإيفاء بأي وعد من وعوده بتكوين حكومة، كما لم يقبل الشارع السياسي و«تحالف الحرية والتغيير» عودة حمدوك بتلك الطريقة، مما اضطره إلى تقديم استقالته.

ويرى اللواء إسماعيل أن الخلافات كانت متوقَّعة بين الرجلين منذ دخلا مجلس السيادة الانتقالية. ويقول: «هناك طموحات سياسية لكلا الرجلين، وكان كل واحد منهما يريد إبعاد الآخر والاستيلاء على السلطة كاملة».

وكان المفكر والسياسي الحاج وراق، قد تنبأ في وقت باكر باحتمال صراع الرجلين، رغم «الصداقة» التي كانت تجمعهما. وقال في أمسية سياسية إن المؤسسة العسكرية تشهد خلافات، وخلافاتها ستُحسم بالسلاح، وذلك بعد انتقاد كل من قائدي الجيش و«الدعم السريع» لخلافات المدنيين في الحكومة الانتقالية. وأضاف وراق أن المؤسسة العسكرية الأمنية تمثل أكبر خطر على البلاد.

الاتفاق الإطاري

في 5 ديسمبر 2022 أقرّ الرجلان بفشل «انقلابهما» المشترك، ووقّعا مع «تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير» اتفاقاً إطارياً قضى باستعادة الانتقال المدني، وتوحيد الجيش وخروج العسكريين من السياسة. لكن عاد الرجلان واختلفا لاحقاً على «عدد السنوات التي سيستغرقها دمج (قوات الدعم السريع) في الجيش»، وعلى القيادة الموحدة للقوات خلال الفترة الانتقالية.

يقول اللواء إسماعيل: «كبر الخلاف بين الرجلين، وعجز الجميع عن تهدئته، فصار أصدقاء الأمس أعداء اليوم». وتابع: «الخلاف كان متوقعاً في وقت مبكر، لأن علاقة الرجلين كانت علاقة مصالح وليست علاقة أهداف ومبادئ، ووجود جيشين في أي بلد يجعل استقراره مهدداً على الدوام».

وانتهز أنصار الرئيس السابق من الإسلاميين وأعضاء حزبه «المؤتمر الوطني»، اتساع التباعد بين الرجلين، فاشتغلوا عليه من أجل توسيع الهوّة بينهما، وهددوا بإفشال توقيع الاتفاق النهائي بين الجيش و«الدعم السريع» من جهة، والقوى المدنية الموقِّعة للاتفاق الإطاري من جهة ثانية، لأنه نص على إزالة تمكينهم ومحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها، وإبعادهم عن العملية السياسية، وبالتالي لن يستطيعوا العودة للمشهد السياسي قريباً، وهذا ما يؤكده قول اللواء إسماعيل: «هناك عناصر شعرت بالخلاف بين الرجلين وحاولت الاستثمار فيه، والاستثمار كان بداية الحرب».

تقارُب ونفور

إبان هذه الخلافات، تقارب البرهان وأنصار نظام البشير الذين يَعدّون «حميدتي» عدوهم اللدود الذي أسهم بشكل كبير في إطاحة حكمهم، فتطورت الخلافات بين الرجلين، ليتبادلا الاتهامات تلميحاً وتصريحاً.

البرهان يخاطب الجمعية العامة للامم المتحدة في سبتمبر الماضي عارضاً أسباب الجحرب في السودان (الأمم المتحدة)

وأوصلت خلافات الرجلين البلاد إلى حافة هاوية الحرب. وإزاء ذلك، حاولت القوى المدنية الموقِّعة على الاتفاق الإطاري التوسط بينهما، وإزالة التوتر ولملمة الخلافات التي تنذر بالحرب، وصولاً إلى توقيع الاتفاق الإطاري. وفي هذا يقول مصدر من داخل غرف الوساطة المدنية لـ«الشرق الأوسط»، إن عناصر النظام السابق لعبوا دوراً مهماً في إشعال جذوة التوتر بين الجيش و«قوات الدعم السريع». وتابع: «موقفهم كان معلناً، فقد هددوا فيه بإفشال الاتفاق الإطاري بأي ثمن، لأنه نصَّ على تصفية تمكين نظام الثلاثين من يونيو (حزيران) ومحاسبة الفساد، وتكوين جيش وطني، بما يُفقدهم أي فرصة للعودة إلى المسرح السياسي خلال فترة الانتقال».

وانتقل التوتر بين الرجلين إلى توتر بين الجيشين، لا سيما أن عدداً من قادة الجيش من الإسلاميين، رأوا في هذا التوتر فرصة للتخلص بسرعة من «الدعم السريع» ليعودوا مجدداً للسلطة.

ويتابع المصدر: «أصل التوتر يعود إلى خلافات الجيشين منذ ورشة الإصلاح الأمني والعسكري، التي قَبِلَ (الدعم السريع) توصياتها ورفضها الجيش». ويضيف: «اختلف الرجلان كذلك على عدد السنوات التي يتم فيها إدماج (قوات الدعم السريع) وتوحيد القيادة العسكرية العليا وهيكلتها».

محاولات فاشلة

ولنزع فتيل الحرب الذي بدأ بالاشتعال، حاول «تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير» والقوى الموقِّعة على الاتفاق الإطاري، إطفاء النار الزاحفة، فأفلحت في جمع كلٍّ من قائد الجيش وقائد «قوات الدعم السريع»، بعد قطيعة طويلة، صباح 8 أبريل، بهدف إطفاء نار الحرب.

وقال المصدر المشارك في تلك الاجتماعات، إنهم عقدوا اجتماعاً آخر بين البرهان وحميدتي في اليوم التالي، وبمشاركة رئيس هيئة أركان الجيش، الفريق الركن خالد عابدين، وكان مقرراً الطواف على قوات الطرفين من أجل التهدئة.وفي ذلك الوقت، برزت معضلة «قوات الدعم السريع»، التي صدرت لها الأوامر بالتوجه إلى القاعدة العسكرية الجوية في منطقة «مروي» شمال البلاد، حيث توجد قوات جوية مصرية هناك، وكان حميدتي يخشى استخدامها في ضرب قواته إذا اندلعت الحرب. يقول المصدر: «في ذلك الاجتماع، أبلغ حميدتي أنه حرَّك قوات من منطقة (الزرق) في دارفور إلى مروي، ووعد بسحبها متى أوفى البرهان بوعده سحب القوة الجوية المصرية. واتفق الطرفان في اجتماع يوم 9 أبريل على عقد اجتماع آخر ينزع فتيل الحرب يوم 10 أبريل، لكنّ الاجتماع لم يُعقد، لأن البرهان اعتذر عنه تحت ذريعة المرض». ويواصل المصدر قائلاً: «اكتشفنا لاحقاً أن البرهان لم يكن مريضاً، لكنه كان مجتمعاً مع جهة أخرى».

ويوضح المصدر أن حدة التوتر بين الجيشين ازدادت باطراد، وفي أثناء ذلك عقدت «الحرية والتغيير» اجتماعاً منفرداً مع البرهان في 14 أبريل، وتقرر تكوين لجنة ثلاثية، من عضو مجلس السيادة الهادي إدريس، ورئيسي هيئة أركان الجيشين، لزيارة منطقة مروي بهدف إزالة التوتر هناك، وقرروا عقد اجتماع صبيحة السبت 15 أبريل، لوضع اللمسات النهائية لإزالة التوتر، لكن الحرب اندلعت في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم، فقطعت الطريق أمام أي حل سلمي كان المدنيون يسعون إليه.

وهكذا أنهت الحرب، التي أُطلق عليها اسم «حرب الجنرالين»، صداقة قديمة بين الرجلين عمرها نحو عشرين عاماً، فأصبحت عداوة، وأيّ عداوة، وأنهت «أخوّة الكاب عند الباب»... باب الحرب والمصالح المتضاربة.


مقالات ذات صلة

«الدعم السريع» تتحدث عن «انتصارات ساحقة»... والجيش يحقق تقدماً في الخرطوم

شمال افريقيا لاجئون سودانيون في تشاد يوم 6 أكتوبر 2024 (أ.ب) play-circle 02:20

«الدعم السريع» تتحدث عن «انتصارات ساحقة»... والجيش يحقق تقدماً في الخرطوم

أعلنت «قوات الدعم السريع» تحقيق انتصارات «ساحقة»، في ولايتي النيل الأزرق وشمال دارفور، بينما سجّل الجيش تقدماً طفيفاً في مدينة الخرطوم بحري.

أحمد يونس (كمبالا)
خاص فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)

خاص السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

رغم أن الحرب الحالية في السودان هي حرب بين جيشين «نظاميين»، لكن جذورها تتصل «بمتلازمة التهميش وعدم الاعتراف بالتنوع».

أحمد يونس (كمبالا)
شمال افريقيا آثار قصف سابق على مدينة الفاشر (مواقع التواصل)

مقتل وجرح العشرات من المدنيين في قصف على مدينة الفاشر

تعرضت مدينة الفاشر، الأربعاء، لقصف مدفعي وغارات جوية أدت إلى وقوع عشرات القتلى والجرحى من المدنيين. وأدانت مسؤولة أممية الهجمات، وطالبت بوقف فوري لإطلاق النار.

محمد أمين ياسين (نيروبي)
العالم العربي تجدُّد القصف على مخيم «زمزم» للنازحين شمال دارفور في السودان (رويترز)

تجدُّد القصف على مخيم للاجئين في السودان يواجه خطر المجاعة

قال مسعفون وناشطون إن القصف تجدد، اليوم (الأربعاء)، على مخيم «زمزم» للنازحين الذي يواجه خطر المجاعة، إثر هدوء مؤقت بعد هجمات شنتها «قوات الدعم السريع».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا تصاعد الدخان فوق المباني بعد قصف جوي، خلال اشتباكات بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني في الخرطوم 1 مايو 2023 (رويترز)

6 قتلى في قصف لـ«الدعم السريع» على مخيم للنازحين في شمال دارفور

قُتل 6 أشخاص على الأقل في قصف نفذته «قوات الدعم السريع» طال مخيماً للنازحين في شمال دارفور بغرب السودان، وفق ما أفاد ناشطون الاثنين.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».