يافعون ينتظرون مصيرهم في مركز تأهيل «أشبال الخلافة»

بعضهم تجاوز سن الرشد... وحكومات بلادهم لا تعترف بهم

TT

يافعون ينتظرون مصيرهم في مركز تأهيل «أشبال الخلافة»

مهجع الشبان في مركز هوري وبدا اثنان يلعبان الشطرنج (الشرق الأوسط)
مهجع الشبان في مركز هوري وبدا اثنان يلعبان الشطرنج (الشرق الأوسط)

لطالما تباهى تنظيم «داعش» الإرهابي بمقاتليه الصغار أو من كان يسميهم بـ«أشبال الخلافة»، خلال سنوات حكمه. وهؤلاء هم ضحاياه المنسيون الذين شهدوا طفولة قاسية تعرضوا خلالها للحروب ومشاهد عنف وإعدامات و«غسيل أدمغة» للتنشئة على الفكر المتشدد. ولاحقاً تخلى آباؤهم عنهم ثم رفضتهم حكومات بلادهم خشيةً أن يتحولوا خطراً عليها.

عاش هؤلاء الأطفال وقد تجاوز بعضهم اليوم سن الرشد، في مخيمات أنشئت خصيصاً لهم، فيما زجّ آخرون في السجون. قلة ممن حالفهم الحظ نقلوا إلى مراكز إعادة تأهيل ودمج وينتظرون اليوم مصيرهم.

داخل غرفة مسبقة الصنع في مركز متخصص لإعادة تأهيل أبناء عناصر تنظيم «داعش» الإرهابي، شمال شرقي سوريا، ترقص مجموعة من الفتيان بأجساد متمايلة وحركات منتظمة تجمع مهارات الرقص والغناء بمجموعة أنشطة أخرى، ضمن برنامج متكامل لإعادة تأهيلهم ودمجهم في «مركز هوري لحماية وتعليم الأطفال» الذي تم افتتاحه في 2017.

أكثر من 100 طفل أجنبي بالمركز

يقع المركز في قرية تل معروف، شرق مدينة القامشلي، وهو مخصص للأطفال الأجانب، هو الثاني من نوعه في مناطق «الإدارة الذاتية لإقليم شمال شرقي» سوريا.

يروي إرنست (17 عاماً) المتحدر من مدينة فرانكفورت الألمانية، كيف يواظب يومياً على حصة الموسيقى ويستمع إلى الأغاني الغربية المفضلة لديه، إلى جانب تعلم مهارات الرقص والرشاقة البدنية، لأنها تدخل الراحة والطمأنينة إلى نفسه. يروي هذا الشاب ذو العينين الخضراوين قصة مقتل والده الذي كان عنصراً في صفوف «داعش» بمدينة الرقة السورية، بينما تعيش والدته وشقيقتاه في مخيم الهول.

وقال بمفردات عربية ركيكة: «تعطيني التمارين طاقة إيجابية، هنا أفضل من مناطق (داعش) حيث عشت لسنوات، لكنني أفضّل مخيم الهول لوجود والدتي وإخوتي هناك».

يشرف على هذه الحصة مدرس موسيقى من أكراد سوريا، يدعى فرمان (32 عاماً) يحرص على الاهتمام بهؤلاء الشبان عبر تعليمهم مهارات الرقص، في إطار مجموعة طرق وأدوات نفسية للعلاج من المشاهد والصور القاسية التي خلفها «داعش» في أفكارهم. وأشار فرمان في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «تفاعل هؤلاء الشباب إيجابي لأنه يضخّ الحماسة ويمنحهم الطاقة الإيجابية فالموسيقى والرقص يساعدان على الاندماج سريعاً في المجتمعات والتعافي من قساوة حكم (داعش)، وتدخل بالجوانب النفسية وتحرك المشاعر لديهم».

يضم المركز أكثر من 100 طفل من جنسيات عدة، بينها الأميركية والتركية والألمانية والمصرية والروسية وشبان يتحدرون من دول المغرب العربي؛ تونس والمغرب، ومن إندونيسيا والسويد وفنلندا، تتراوح أعمارهم بين 11 و22 عاماً، نُقلوا من مخيمي «الهول وروج» ومن السجون والمحتجزات.

يقول مدير مركز «هوري للأحداث» هفال أحمد لـ«الشرق الأوسط»: «لدينا اليوم بين 110 و150 يافعاً تتراوح أعمارهم بين 12 و18 عاماً»، موضحاً أن غالبية هؤلاء الأطفال كانوا ينتمون سابقاً إلى ما كان يعرف بـ«أشبال الخلافة». وأضاف: «تعيش أمهات بعضهم في المخيمات، بينما قتل الآباء أو يقبعون في السجون، ومنهم يتامى من دون أولياء أمور».

وتتنوع دروس المركز بين اللغتين العربية والإنجليزية والموسيقى والرياضيات والرسم، كما يتعلمون فنون الخياطة والطبخ، ويعمل القائمون على المركز على تدريب الأطفال على لعبة الشطرنج ويشاهدون أفلاماً وثائقية ورسوماً متحركة في غرفة مخصصة. وقال أحمد: «المجموعة تضم 15 يافعاً، منهم من يذهب لحصة الموسيقى أو للورشات المهنية، وآخرون يتعلمون اللغة»، وينطبق هذا النظام على تناول وجبات الطعام وهي 3 وجبات، وتحديد وقت محدد لكل فئة للدخول إلى المطعم.

قاعة الدراسة خلال امتحان للغة العربية في مركز هوري (الشرق الأوسط)

ويتألف المبنى من طابق واحد، تتوسطه ساحة كبيرة للفسحة الصباحية، ويضم مجموعة من غرف النوم حيث لكل مقيم سرير، بينما خزانة الملابس مشتركة. ويخضع الفتية لبرنامج يومي مكثف، فتفتح الأبواب من الساعة 6 صباحاً حتى 8 مساء، وينتقلون بعد وجبة الإفطار إلى قاعات الدراسة وورشات الأعمال اليدوية، كما يمارسون خلالها الرياضة، وخصوصاً كرة اليد، ويُحضرون طعامهم بيدهم.

المطبخ وصالة الطعام حيث يساعد الشبان في إعداد وجباتهم في مركز هوري للتأهيل (الشرق الأوسط)

فنلندي يحب الرسم

في غرفة ثانية مخصصة لتعلم الخياطة، انهمكت مجموعة من الشبان بالماكينات لحياكة قمصان رجالية وفساتين مسحوبة تصاميمها من الإنترنت. وحرصت المدربة على متابعة جميع المتدربين، فتوصي أحدهم كيف يخرز الخيط بالإبرة وكيفية تشغيل الماكينة وتمرير قطعة القماش المقصوصة، بينما يأتي شاب آخر، ويسألها عن كيفية صناعة أكمام القميص، فيما علق ثالث فستاناً بلون زاهٍ في مكان مخصص للمعروضات.

مشغل الخياطة في مركز هوري للتأهيل (الشرق الأوسط)

أحد هؤلاء الشبان يدعى أرثر، وهو من العاصمة الفنلندية هلسنكي. كان هادئ الطبع وقليل الكلام، يلبس بيجامة وخفاً رياضياً من ماركة عالمية. روى قصة مجيئه إلى سوريا بداية 2015 وكان عمره 13 عاماً. فبعدما انفصل والداه، تزوجت الأم من رجل من أصول مغاربية أقنعها بالسفر إلى مناطق سيطرة التنظيم والقتال في صفوفه، وبعد معركة الباغوز وسقوط خلافة التنظيم العسكرية شرق الفرات ربيع 2019، قتل الزوج ونقلت العائلة إلى مخيم الهول.

وقررت سلطات الإدارة الذاتية نقل أرثر إلى «مركز هوري» للتأهيل قبل بلوغه 18 عاماً، وزجّه في السجون، وقال: «عادت والدتي وإخوتي إلى مسقط رأسنا، وأنا أنتظر موافقة الحكومة لإعادتي أيضاً، هنا أقضي وقتاً في تعلم الرسم، وأطمح أن أصبح رساماً، أما أبي فلم يتصل بي منذ مجيئنا لسوريا».

مشغل الخياطة في مركز هوري وبدا يتابع تعليمات إحدى المرشدات (الشرق الأوسط)

وشدّد الإداري هفال أحمد على أن المركز ليس بسجن للأحداث، وقال: «هو عبارة عن مركز تأهيل أبوابه مفتوحة ويقدم برامج ترفيهية، بينها طاولة زهر والشطرنج ومشاهدة التلفاز وبرامج وثائقية». وعن مستوى الاستجابة، أوضح: «لدينا تقييمات دورية كتابية وشفوية لكل حالة، وليست بمهمة سهلة، إذ يواجه فريقنا التعليمي تحديات عدة، بينها تعدد الجنسيات واللغات التي يتحدث بها هؤلاء اليافعون».

ويشرف على البرامج متخصصون تربويين ومعالجون نفسيون بالتعاون مع منظمة «إنقاذ الطفولة» الدولية.

زيارات عائلية بين المخيمات

يسمح لهؤلاء الأحداث بالاتصال مرة أسبوعياً بذويهم القاطنين في المخيمات، كما يسمح لذويهم بزيارتهم، وتتكفل سلطات الإدارة الذاتية بنقلهم من المخيم للمركز. ويقول أحمد: «لدينا شبان بعمر الـ20 و22 ولكن قررنا إبقاءهم ريثما يتم ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية لأن المحاكم المحلية لا تنظر بدعاوى الأجانب».

وتحدث باسيم (18 عاماً)، وهو تونسي، كيف تم تنسيبه إلى «أشبال الخلافة» بداية قدوم عائلته لسوريا منتصف 2015 وكان عمره 9 سنوات. وقال: «اعتقدنا أننا سنتابع تعليمنا نظراً لوجود أطفال من بلدي».

أما السويدي ماتيو (17 عاماً) الذي كان راقداً في سريره بعدما أجريت له عملية دوالي فقد أصبح يتيماً بعد مقتل والديه في سوريا أواخر 2018. وقال: «اتصل جدي وأهل والدي الذين يعيشون في أوزبكستان لإعادتي، لكن أنا أريد العودة لبلدي السويد، هناك خالتي وأصدقائي وذكريات طفولتي».

ومنذ 2018، استعاد نحو 30 دولة غربية وعربية نحو 450 امرأة وألف طفل، وفق إحصاءات سلطات «الإدارة الذاتية».

قصة أخوين مصريّين

في هذا المركز يعيش أيضأً الأخوان المصريان عبد الرحمن وعبد الله. يروي عبد الرحمن، البالغ اليوم 21 عاماً، كيف انفصلت والدتهم عن والدهم وقررت هي السفر إلى سوريا بعدما أخبرتهم عن نيتها قضاء سياحة في تركيا.

وبالفعل سافرت الأم والابنان جواً من مطار القاهرة إلى ولاية أورفا الحدودية مع سوريا. وبعد قضاء ليلة واحدة في الفندق، اتجهوا نحو المناطق السورية ودخلوا سراً عبر منطقة سلوك التابعة لمحافظة الرقة، ولم يعلم الطفلان آنذاك أن والدتهما تريد الاستقرار في مناطق التنظيم.

يقول عبد الرحمن: «حاول أبي كثيراً منع أمي من الدخول لمناطق (داعش)، لكنها أصرت فقرر تطليقها».

أما عبد الله، الذي كان يبلغ 8 سنوات فقط، فلم يعلم أن مجرى حياته سيتغير كلياً بقرار من والدته، وأنه سيقضي 10 سنوات من عمره في مناطق «داعش» ومخيم الهول قبل فرزه إلى هذا المركز.

ويروي عبد الرحمن أن والدته «تزوجت من قيادي (داعشي) مصري. وبعد عامين ونصف عام قتل في قصف جوي في بلدة الشدادي، ثم انتقلت بهما إلى الرقة حيث قتلت هي أيضاً». بعدها عاش الأخوان في كنف عائلات مصرية التحقت بصفوف التنظيم حتى نهاية 2018، وحين استسلمت العائلة المصرية لـ«قوات سوريا الديمقراطية»، ونقلت إلى مخيم الهول، افترق الأخوان.

وذكر عبد الله أنه وصلته رسالة من شقيقه، عن طريق منظمة «الصليب الأحمر» الدولية أثناء مكوثه في مخيم الهول، يوضح فيها مكان وجوده في «مركز هوري» وقدم طلباً لجمع شملهما. وقال: «أصعب لحظة بعمري كانت وفاة والدتي، وأكثر لحظة فرحت فيها عندما التقيت بأخي عبد الرحمن من جديد. لا نريد أن نفترق».

شاب من نيويورك

من مدينة نيويورك الأميركية، سافر الشاب سولاي (19 عاماً) برفقة والدته الأميركية وزوجها إلى سوريا نهاية 2014، معتقداً أنه ذاهب في رحلة سياحة إلى تركيا، ليدخلوا سراً سوريا، واستقروا بداية في مدينة حلب شمال البلاد، ثم في منبج والباب والرقة، وتنقلوا في معظم المدن السورية.

هذا الشاب أكد أن والده منفصل عن والدته، ويعيش حالياً في كندا ولم يكن يعلم بسفرهما إلى سوريا، بعدما انقطعت الاتصالات بينهما منذ سنوات. ثم حدثت مشكلات بين والدته وزوجها الثاني أيضاً بعد سفرهم إلى سوريا، وانفصلا بسبب أحكام التنظيم الجائرة وقساوة الحياة.

وقال سولاي بصوت منخفض بالكاد كان يسمع: «طوال سنوات لازمت والدتي المنزل وكنت أساعدها، كانت تخشى عليّ كثيراً وتخاف من افتضاح أمرنا وإجبارنا على القتال في صفوف أشبال الخلافة»، ونقل أنه كان يحلم أن يصبح لاعب كرة قدم معروفاً: «كنت أحلم أن أصبح مثل النجم ميسي».

البهو الخارجي المؤدي إلى مختلف القاعات في معهد هوري (الشرق الأوسط)

وفصل سولاي عن والدته في 2019 حيث بقيت هي في مخيم الهول ونقل هو إلى هذا المركز، ويقول: «اليوم كل شيء مختلف، هنا ألعب وأسمع موسيقى وأشاهد التلفاز».

ولم يخفِ هذا الشاب حزنه، لأن حياته تغيرت رأساً على عقب بعد قرار والدته الالتحاق بمناطق التنظيم، وختم حديثه قائلاً: «حياتي توقفت وتدمرت جراء ذلك القرار».


مقالات ذات صلة

المشرق العربي طائرة من سلاح الجو العراقي خلال إحدى المهمات ضد تنظيم «داعش» (أرشيفية - واع)

العراق: المجال الجوي غير مؤمّن بالكامل

أقر العراق بأن مجاله الجوي غير مؤمّن بالكامل، في حين أكد اتخاذ إجراءات لتحسين القدرات الدفاعية بعد التعاقد مع كوريا الجنوبية قبل أشهر لامتلاك منظومة متطورة.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي الجيش العراقي يُطلق النار على مسلحي «داعش» عام 2017 (رويترز)

العراق: انفجار قنبلة يصيب 4 في كركوك

كشفت مصادر بالشرطة أن أربعة أصيبوا عندما انفجرت قنبلة على جانب أحد الطرق في مدينة كركوك بشمال العراق اليوم (السبت).

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي عناصر من القوات الحكومية في البادية (المرصد السوري لحقوق الإنسان)

دمشق تواصل تمشيط البادية شرق حمص وملاحقة «داعش» بدعم من الطيران الروسي

رجّحت مصادر محلية أن يكون هدف حملة تقوم بها قوات تابعة لدمشق هو تأمين طرق البادية السورية الواصلة بين مناطق الحدود مع العراق ومحافظة حمص.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي فوزية أمين سيدو امرأة إيزيدية اختطفها «داعش» في العراق وتم إنقاذها بعملية في غزة (وزارة الخارجية العراقية)

عملية بقيادة أميركية تحرر إيزيدية من غزة بعد 10 سنوات في الأسر

قال مسؤولون عراقيون وأميركيون إن شابة إيزيدية عمرها 21 عاماً اختطفها مسلحون من تنظيم «داعش» في العراق قبل أكثر من عقد تم تحريرها من قطاع غزة هذا الأسبوع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

TT

ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)
معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، الساعة 8:46 صباحاً بتوقيت واشنطن، تصاعدت ألسنة اللهب وراء دخان طائرتين اصطدمتا ببرجي مركز التجارة العالمي. مشاهد صادمة طُبعت في أذهان الأميركيين والعالم إلى الأبد، ورغم أنها الأقوى والأكثر تداولاً، فإن الهجمات لم تقتصر عليها، بل تعدتها لتشمل مقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) التي دُمِّر جزء منه بعد سقوط طائرة من الطائرات الأربع في ساحته، فيما فشلت الطائرة الرابعة في الوصول إلى هدفها المزعوم: مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن، فتحطمت بركابها والخاطفين في حقل في ولاية بنسلفانيا.

صور الاعتداءات هذه حفرت جروحاً لم تندمل في المجتمع الأميركي بعد 23 عاماً من ذكراها، وولّدت حرباً مستعرة «ضد الإرهاب» شنتها الإدارات المتعاقبة في العراق وأفغانستان، في سلسلة من القرارات السياسية والخطوات العسكرية التي هدفت إلى تجنب تكرار حوادث مشابهة ومحاسبة المنفذين والمخططين، لكنها أيضاً تجاهلت القوانين الدولية والأعراف الأميركية، ليكون الرمز الأبرز لهذه الممارسات «معتقل غوانتنامو» في كوبا.

اليوم وفي الذكرى الـ23 للهجمات، لا يزال المعتقل مفتوحاً رغم كل الوعود والتعهدات بإغلاقه لطي صفحة لطخت سمعة أميركا في العالم، وساعدت أعداءها في تجنيد عناصر لمهاجمتها.

ومع انسحاب إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن من أفغانستان، واستعداداتها الجارية للانسحاب من العراق (وتمت جدولته لعام 2026) تبقى الآمال معلقة على وعود إغلاق هذه القاعدة العسكرية الموجودة في كوبا والتي استقبلت أول الوافدين العشرين إليها بعد اعتداءات سبتمبر، في 11 يناير (كانون الثاني) 2002 في عهد جورج بوش الابن. ثم وصل عدد المعتقلين إلى قرابة 800 في الأعوام الماضية، قبل أن يتم نقل عدد كبير منهم ويبقى منهم اليوم نحو 30 معتقلاً.

هجمات 11 سبتمبر 2001 في أميركا (رويترز - أرشيفية)

غوانتنامو بين بايدن، وأوباما وترمب

سعت إدارة بايدن جاهدة لتنفيذ وعودها بإغلاق غوانتنامو ونقل المعتقلين، وكانت باشرت في عملية النقل الأولى في 19 يوليو (تموز) 2021، وسعت لاستكمال هذه العملية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إذ أفادت تقارير صحافية عن خطتها لنقل 11 معتقلاً لسلطنة عمان. وقد أبلغت الكونغرس نيتها الإقدام على هذه الخطوة قبل 30 يوماً من موعد التنفيذ بحسب القانون الأميركي، لكن هجوم 7 من أكتوبر الماضي عرقل المساعي بعدما حذّر أعضاء الكونغرس من المضي قدماً خوفاً من تدهور الوضع في الشرق الأوسط.

وتسلّط هذه الخطوات الضوء على التحديات الضخمة بوجه قرار الإغلاق وتنفيذه وهذا ما يتحدث عنه آدم كليمينتس مدير الاستراتيجية والسياسة السابق لقطر والكويت في وزارة الدفاع الأميركية والمستشار العسكري السابق في هيئة الأركان المشتركة لليمن والسعودية والأردن وعمان، فيقول لـ«الشرق الأوسط» إنه «من الصعب على إدارة بايدن اتخاذ خطوة من هذا النوع في عام انتخابي لأن خصومه السياسيين سيعثرون على طريقة لاستعمال هذا القرار ضده وضد الديمقراطيين». ويخص كلمينتس بالذكر أفغانستان وانتقادات الجمهوريين المتزايدة لما يصفونه بـ«الانسحاب الكارثي» فيقول: «رغم أن إدارات بوش الابن وأوباما وترمب وبايدن تتحمل مسؤولية مشتركة لفشل السياسة الأميركية في أفغانستان، فإن الجمهوريين يسعون لربط الانسحاب الأميركي من أفغانستان بصفته فشل في سياسة بايدن الخارجية، بأي قرار حول غوانتنامو».

من ناحيته، يشير الكولونيل عباس داهوك المستشار العسكري السابق لوزارة الخارجية إلى تحديات سياسية وقانونية وأمنية حالت دون إغلاق غوانتنامو فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «معظم الأدلة ضد المعتقلين يعتمد على معلومات استخباراتية سرية، مما يعقد استخدامها في محاكمات علنية من دون المخاطرة بالكشف عن معلومات حساسة تصعّب بدورها عقد محاكمات عادلة». ولا تتوقف التحديات عند هذا الحد، بل تشمل، بحسب داهوك، التعاون والتنسيق بين مختلف الوكالات الأميركية بما فيها وزارات الدفاع والعدل والخارجية، مضيفاً: «هذه التعقيدات البيروقراطية تعرقل الإغلاق».

وخيمت هذه التعقيدات على مساعي إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما أيضاً في إغلاق المعتقل، فمع تعالي الأصوات المنتقدة للممارسات الأميركية فيه، وصدور تقارير كثيرة كشفت أساليب تعذيب مبتكرة تخرق اتفاقيات معاملة الأسرى، وصلت إلى حد وصف منظمة العفو العالمية لغوانتنامو بأنه «رمز التعذيب ونقل المعتقلين بطريقة غير شرعية، والاحتجاز إلى أجل غير مسمى من دون تهمة أو محاكمة»، سعت إدارة أوباما إلى وضع خطة لإغلاقه. فأصدر الرئيس الديمقراطي السابق قراراً في 22 يناير 2009 بإغلاق كل العمليات في غوانتنامو خلال عام واحد وتعليق جلسات المحاكمة، كما أمر بتأسيس فريق عمل لمراجعة وضع بقية المعتقلين الذين وصل عددهم حينها إلى نحو 240 رجلاً.

لكن العرقلة جاءت أيضاً من الداخل الأميركي وتحديداً من الكونغرس الذي رفض جهود الإغلاق، ليأتي الرئيس الأميركي دونالد ترمب ويوقع أمراً تنفيذياً في يناير من عام 2018 لإبقاء المعتقل مفتوحاً و«إرسال المزيد من الإرهابيين إليه».

سمعة ملطخة و«رمز للنفاق»

على مدار السنوات وتبدل الإدارات، لم تقف العرقلات بوجه تحركات الداعين لإغلاق غوانتنامو ومنهم «مركز الحقوق الدستورية» المعني بالدفاع عن المعتقلين. وتقول كبيرة المحامين الإداريين في المركز شاين كاديدال لـ«الشرق الأوسط»: «لقد حان الوقت لإغلاق غوانتنامو وإنهاء الاحتجاز إلى ما لا نهاية من دون تهمة أو محاكمة» وتتابع مذكرة بتصريح الجنرال الأميركي أنطونيو تابوغا الذي أعد تقريراً داخلياً يفصل الانتهاكات في سجن أبو غريب قائلة: «إن السجن أضر بصورة الولايات المتحدة لأسباب تستحقها، وهو مستمر بهذا الضرر، وأذكر تصريح الجنرال تابوغا للكونغرس حين قال إن السببين وراء مقتل الأميركيين في ساحة المعركة في أفغانستان والعراق هما أبو غريب وغوانتنامو فقد تم استعمالهما كأدوات تجنيد لأعداء الولايات المتحدة».

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

وبالفعل يوافق كل من كلمينتس وداهوك مع هذه المقاربة، فيشير الأول إلى وجود الكثير من الإخفاقات السياسية الأميركية المتعلقة بالعراق وأفغانستان مضيفاً: «نعم إن فكرة انتهاك حقوق الإنسان أو انتهاكات الكرامة الإنسانية تؤثر على سمعة الولايات المتحدة في الخارج، وهذه النظرة، حتى لو كانت شرعية تقنياً ضمن القوانين الدولية والأميركية، فإنها قد توفر مادة (بروباغندا) للمجموعات المتشددة».

ويقدم داهوك تقييماً مماثلاً فيقول: «قد يكون غوانتنامو قدم حلولاً قصيرة الأمد للأمن القومي الأميركي من خلال اعتقال أشخاص خطرين وتجنب تهديدات فورية، لكنه أصبح رمزاً للنفاق في السياسة الخارجية. وهذا يؤثر سلباً على جهود القيادة بالمثل في حقوق الإنسان ويعقد من التعاون مع شركاء أساسيين في الحرب ضد الإرهاب. كما أن غوانتنامو أضرَّ الأمن القومي الأميركي من خلال تغذية التشدد وإيذاء التحالفات المهمة مع الشركاء».

تكاليف باهظة وصفقات سرية

بالإضافة إلى تشويه سمعة الولايات المتحدة، يشير كثيرون إلى أن إغلاق غوانتنامو ضروري بسبب تكاليفه الباهظة. فبحسب مبادرة «ذي بريدج» وهي مشروع أبحاث عن الإسلاموفوبيا في جامعة جورج تاون الأميركية، تخطت تكلفة المعتقل 6 مليارات دولار منذ عام 2002 ووصلت تكلفة احتجاز كل فرد إلى 13 مليون دولار، مما يجعل المعتقل «أكثر برامج الاحتجاز تكلفة في العالم». وفي معرض المقارنة، فإن السجين الواحد في سجن كولورادو الفيدرالي بتصنيف «سوبرماكس»، أي الشديد الحراسة كلف دافع الضرائب الأميركي 78 ألف دولار في عام 2012.

اليوم ومن ضمن المعتقلين الثلاثين الموجودين في غوانتنامو، هناك 3 معتقلين «إلى ما لا نهاية» بموجب قانون الحرب، من دون توصيات بنقلهم، وهم: زين العابدين محمد حسين- أبو زبيدة (فلسطيني) ومصطفى فرج مسعود الجديد محمد (ليبي) ومحمد رحيم (أفغاني).

وهناك 16 معتقلاً تمت التوصية بنقلهم بحسب قوانين الحرب «في حال الإيفاء بالشروط الأمنية» ومعظمهم من اليمن. أما البقية، وهم 11 فقد تم توجيه اتهامات لهم بارتكاب جرائم حرب في المحاكم العسكرية، وينتظر 7 منهم المحاكمة فيما تمت إدانة أربعة.

لا لعقوبة الإعدام

هنا يكمن تحدٍ من نوع آخر، ففي نهاية يوليو من العام الحالي، أعلن البنتاغون إن المسؤول المشرف على اللجان العسكرية توصل إلى اتفاق قضائي مع ثلاثة من المعتقلين المتهمين بالتخطيط لهجمات 11 سبتمبر هم خالد شيخ محمد ووليد محمد صالح مبارك بن عطاش، ومصطفى أحمد آدم الهوساوي، مفاده الاعتراف بالذنب مقابل موافقة الادعاء على عدم المطالبة بعقوبة الإعدام. وتفسر كاديدال لـ«الشرق الأوسط» خلفيات الاتفاق فتقول: «الادعاء يريد الاتفاق لأنه يعلم أن عقوبة الإعدام لن تنفذ. ليس لان الأدلة ملطخة بالتعذيب، بل لأن نظام المحاكمات العسكرية ليس مؤهلاً بما يكفي للمضي قدماً بقضايا معقدة لهذه الدرجة، وعندما تنتهي المحاكمة وعمليات الاستئناف سيكون المتهمون إما في السبعينات من عمرهم أو قد ماتوا لأسباب طبيعية».

خالد شيخ محمد العقل المدبر لـ«هجمات سبتمبر» الإرهابية (نيويورك تايمز)

ويوافق داهوك مع كاديدال على تقييم المحاكمات العسكرية فيصفها بالبطيئة وغير الفعالة، مع وجود بعض القضايا التي استمرت لأكثر من عقد.

لكن هذه الحجج لم تقنع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي عمد إلى اتخاذ خطوة غير اعتيادية وتدخل في الإجراءات معلناً نقضه للاتفاق قائلاً إنه «لطالما اعتقدت بأن عائلات الضحايا والقوات الأميركية والشعب الأميركي يستحق الفرصة بأن يرى المحاكم العسكرية تتخذ مجراها في هذه القضية.» إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، فمن غير المؤكد أن أوستن لديه الصلاحية الكافية لنقض قرار من هذا النوع، لهذا فقد عمد القاضي العسكري في قضية الاعتداءات الكولونيل ماثيو مكول إلى السماح للمحامين بالتحقيق فيما إذا كان قرار أوستن ضمن الأعراف والقوانين المعتمدة على أن يتم النظر فيها في الجولة المقبلة من جلسات الاستماع التي ستبدأ في 16 من الشهر الحالي. وعن هذا تقول كاديدال: «أعتقد أن محاولة وزير الدفاع لنقض قرار تم البت فيه سوف تفشل قانونياً، وسوف يتم المضي قدماً بالاتفاق. وهذا أمر جيد، لأن الاتفاق هذا هو الفرصة الوحيد لآلاف العائلات للحصول على نوع من الخاتمة العاطفية، كما أنه قد يولد بعض الأجوبة من المتهمين على أسئلة كثيرة».

وبانتظار المزيد من الوضوح لتبيان تفاصيل المرحلة المقبلة، يدق الديمقراطيون ناقوس الخطر محذرين من أن وصول ترمب إلى البيت الأبيض مجدداً من شأنه أن يعيد الزمان إلى الوراء ويحيي المعتقل، لكن مواقف ترمب غير ثابتة في هذا الخصوص، فبعد أن تعهد بعدم إغلاق غوانتنامو في عام 2018 تحدث عن تكلفته الباهظة في عام 2019 قائلاً: «هذا جنون، إدارة غوانتنامو تكلف ثروة».

أما أغرب تصريح لترمب حول الملف، فهو ما ذكره صحافيا «واشنطن بوست» ياسمين أبو طالب وداميان باليتا في كتاب لهما صدر مؤخراً، ويقول فيه ترمب إنه أراد حجر المصابين بـ«كورونا» في غوانتنامو... فماذا ستكون خطته إذا ما فاز؟