الراية السعودية رمز الهوية الوطنية الجامعة على مدى قرون

تفاصيل قرار عدم تنكيس العلم... تقليد راسخ حتى اليوم

الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)
الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)
TT

الراية السعودية رمز الهوية الوطنية الجامعة على مدى قرون

الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)
الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)

يحل، الاثنين 11 مارس (آذار)، يوم «العلم السعودي» الذي أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمراً ملكياً باعتماده يوماً خاصاً للعَلم من كل عام.

وكان الملك عبد العزيز أصدر في الحادي عشر في شهر مارس عام 1937، أمره بالموافقة على قرار مجلس الشورى، وأقرّ فيه مقاس العلم السعودي وشكله الحالي.

وبحلول هذا اليوم، يستذكر السعوديون رمز هويتهم الوطنية ودلالة الراية الخضراء، التي رفرفت طيلة قرون ثلاثة، حاملة المضامين والدلالات والخصوصية والتفرد نفسها.

الملك عبد العزيز يشارك بالعرضة النجدية وتظهر خلفه الراية السعودية عام 1935 (الشرق الأوسط)

واستحضرت «الشرق الأوسط» هذه المناسبة لإجراء حوار مع الباحث عدنان بن صالح الطريّف، الذي غاص عميقاً في تاريخ الوطن وإرثه الحضاري، وما قامت عليه الدولة السعودية بمراحلها الثلاث. وكشف الطريّف ما يملكه من مجموعة نادرة من الأعلام تجاوزت المائة، أهمها العلم الأصلي للدولة السعودية الأولى، وأعلام تمتد على مراحل الدولة السعودية الثلاث، كلها أصلية ولم تتعرّض للبلى. كذلك نفض الغبار عن مقتنيات متاحفه الثلاث، وتحدث عن مناسبة يوم العلم ودلالته، راصداً تاريخ العلم السعودي منذ 300 عام وحتى اليوم، وخصّ «الشرق الأوسط»، بأعلام ووثائق وصور وخطابات تُنشر للمرة الأولى. وقد تتبع الطريّف مراحل تطوير الراية السعودية وتاريخها، وقام بإعداد كتاب ضخم عنها، رصدَ فيه كل ما له علاقة بالعلم أو شعار المملكة.

راية الدولة السعودية الأولى وهي قطعة أصلية من مجموعة الطريّف (أرشيف عدنان الطريف)

ويتحدث الطريّف عن مراحل تطور العلم السعودي على مدى 3 قرون، فيقول إن الراية السعودية أو «العلم»، أو «البيرق» التي ترفرف خضراء منذ 3 قرون، مرّت بعديد من المراحل إلى أن استقرت على ما هي عليه في أواخر عهد الملك عبد العزيز. ويقول إنه وفقاً للمصادر التاريخية كانت الراية «خضراء مشغولة من الخز والإبريسم، وقد كُتبت عليها عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وكانت معقودة على سارية بسيطة». وبقيت هكذا في عهود المؤسس الأول الإمام محمد بن سعود، وابنه الإمام عبد العزيز بن محمد، وابنه الفاتح العظيم الإمام سعود بن عبد العزيز المعروف بـ«سعود الكبير»، وابنه الإمام عبد الله بن سعود.

الأمير سلطان والملك سلمان يؤديان العرضة النجدية عام 1965

ومع تصاعد الصراع البريطاني - الفرنسي، جاء دومنغو باديا ليبيلخ (رحالة ومستشرق إسباني تبيّن لاحقاً أنه جاسوس) فتظاهر بالإسلام وتخفّى تحت اسم «الحاج علي باي العباسي» ليعمل لحساب نامليار الثالث، وليسبر غور الدولة السعودية. فوصل إلى مكة المكرمة في شهر يناير (كانون الثاني) 1807، قادماً من المغرب مروراً بشمال أفريقيا، فأُتيحت له فرصة رؤية دخول جيش الإمام سعود إلى مكة المكرمة. وسجّل دومنغو أو «علي بك العباسي»، دخول 45 ألفاً من أتباع سعود، وهم في ثياب الإحرام، ليؤدوا المناسك، يتقدمهم عَلَم أخضر طُرزت عليه بحروف كبيرة بيضاء عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله».

في المقابل، ذكر الرحالة السويسري جون لويس بوركهارت، واسمه بعد أن أعلن إسلامه «إبراهيم عبد الله» في ملاحظاته حول البدو التي دوّنها خلال رحلاته في الشرق في عام 1810 تقريباً، عندما تحدث عن الشؤون العسكرية للإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، وسلطته الراسخة في الجزيرة العربية وغزواته، ذكر أن «لدى كل أمير راية خاصة، وأن سعود يمتلك عدداً من الرايات المختلفة».

الملك فهد والملك سلمان وبينهما العلم السعودي بمناسبة تولي الملك سعود مقاليد الحكم عام 1953 (أرشيف عدنان الطريف)

ويشار إلى أن أول راية سعودية رُفعت عام 1139هـ، أي 1727م، على يد الإمام المؤسس محمد بن سعود، الذي استمر حكمه 40 سنة، وكان يعقد الراية لأحد أبنائه أو يتولاها هو بنفسه. وذكر ابن بشر في تاريخه، أن الإمام عبد العزيز بن محمد، الحاكم الثاني في الدولة السعودية الأولى، وابنه الإمام سعود، كانا يبعثان برسلهما إلى رؤساء القبائل، ويحددان لهم يوماً ومكاناً معلومَين على ماء معين، وتتقدمهما الراية، فتنصب على ذلك المورد، فلا يتخلف أحد من رؤساء القبائل. ويقول ابن بشر أيضاً «إن الإمام سعود قد أُعطي السعادة في مغازيه فلم تهزم له راية» وحينما عرض ابن بشر لسيرة الإمام تركي بن عبد الله، مؤسس الدولة السعودية الثانية، قال: «كان إذا أراد الغزو يكتب إلى أمراء البلدان ورؤساء القبائل يحدد لهم الخروج في يوم معين وموقع معلوم، ثم يُخرج آلاته الحربية ومعدات الجيش وأعلاف الخيول قبل مسيره بـ15 يوماً، ثم يُخرج الراية فتُنصَب قريباً من باب القصر قبل خروجه بيوم أو يومين أو ثلاثة، وكان الإمام تركي يأمر بحمل الراية، فحذا ابنه فيصل حذوه في نظام إخراج الراية وتقديمها أمامه أو نصبها أمام القصر».

المؤسس الثالث صاغ شكلاً جديداً للعلم

أصل العلم الذي ظهر بين الملك فهد والملك سلمان في الصورة السابقة (أرشيف عدنان الطريف)

وأما الملك عبد العزيز، فيقول الطريّف إنه استخدم في البداية العَلَم أو الراية نفسها المستخدَمة في الدولة السعودية الأولى والثانية، ثم وجّه بإدخال تغييرات عليها. وذكر أمين الريحاني في تاريخه أنّ «الراية التي حملها الملك عبد العزيز في أول عهده كان الجزء الذي يلي السارية منها أبيض اللون، وكان فيها جزء أخضر، وكانت مربعة الشكل تتوسطها عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ويعلوها سيفان متقاطعان»، ثم تَغيّر شكلها بعد ذلك فضمت سيفاً واحداً تحت الكلمات.

صورة من قرار مجلس الشورى رقم 354

وفي 1925 أمر الملك عبد العزيز بصياغة شكل عَلَم جديد. وفي 1937، صدر قرار مجلس الشورى بإقرار مقاس للعلم بطول 150 سنتيمتراً وعرض 100 سنتيمتر، ثمّ صدر في العام ذاته قرار مماثل بشأن العَلَم الوطني وتخصيص عَلم: الملك وولي العهد، والجيش، والطيران، والعَلَم الداخلي، والعَلَم البحري الملكي السعودي، والعَلَم البحري التجاري.

وعام 1952، صدر قرار مجلس الشورى بمقاسات أخرى للأعلام وتعديلاتها. وفي 1973، صدر قرار مجلس الوزراء بإقرار نظام العَلَم، وفي عهد الملك فهد ومع صدور النظام الأساسي للحكم عام 1991، حدد النظام طبيعة العَلَم: أن يكون لونه أخضر، وعرضه يساوي ثلثي طوله، وتتوسطه عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وتحتها السيف.

صورة من قرار الموافقة على نظام العلم السعودي في 1973

وحول ما يتداول مع كل مناسبة وطنية حول مَن قام بتصميم العلم السعودي بوضعه الحالي، يقول الطريّف: «هناك كثير من المعلومات المغلوطة المتداولة، لكن تصميم العلم السعودي متطور منذ أيام الدولة الأولى، ثم أعده مجلس الشورى بشكله الحالي وأقره الملك عبد العزيز في ذلك الحين».

ويتابع الطريّف شرحه أنه «أُشيع كثيراً، وتناقلت كثير من وسائل التواصل والإعلام أن علم إمارة نجد أو المملكة في بدايتها يحمل هلالاً بداخله، وهذه المعلومة غير صحيحة أيضاً، ولم يكن هناك أي ارتباط للهلال بأي علم من أعلام الدولة السعودية في أي فترة تاريخية».

دلالات العلم: العدل والقوة والنماء

جيش الملك عبد العزيز عام 1911 (الشرق الأوسط)

حول رمزية العلم ودلالته، يرى الطريف أن «العلم بشكله الحالي يشير إلى التوجيه والعدل والقوة والنماء والرخاء، حيث ترمز شهادة التوحيد التي تتوسطه إلى رسالة السلام والإسلام التي قامت عليها هذه الدولة المباركة، ويرمز السيف إلى القوة والألفة وعلو الحكمة والمكانة وإلى الأمن والأمان».

ويضيف: «أما اللون الأخضر، فيرمز إلى لون راية الإسلام كون اللون الخضر يرمز إلى السلام والعطاء والتسامح والماء، واللون الأبيض يرمز إلى النقاء الذي تتسم به المملكة العربية السعودية».

حاملو العلم عبر الزمن

حمل الراية في الدولة السعودية الأولى إبراهيم من طوق، وعبد الله أبو نهيه الذي قتل في أثناء حصار الدرعية عام 1818، وفي الدولة الثانية الحميدي بن سلمة، وصالح بن هديان، وإبراهيم الظفيري. أما مع الملك عبد العزيز، فأول مَن حمل الراية عبد اللطيف المعشوق في معركة استرداد الرياض عام 1902، وشارك فيما تلاها من المعارك، وقُتل في معركة البكيرية عام 1904، وحمل الراية بعده ابنه منصور المعشوق الذي قُتل في المعركة نفسها، ثم تسلم الراية عبد الرحمن بن مطرف وأبناؤه من بعده. وإلى هذا اليوم أوكل لبيت آل مطرف حمل الراية، علماً بأن هناك أفراداً وأسراً كثيرة تشرفت بحمل العلم السعودي في معارك وأماكن مختلفة.

خادم الحرمين الشريفين خلال العرضة وإلى يمينه الأمير تركي الفيصل وإلى يساره حامل الراية غالي بن مطرف

حالة خاصة

وحول مقولة اشتهر بها بأن «العلم السعودي حالة خاصة» أجاب الطريّف: «هو حالة خاصة؛ لأنه العلم الوحيد الذي لا يتم تنكيسه أو إنزاله إلى نصف السارية في حالة الحداد أو الكوارث والأحداث الكبيرة، كما أنه لا يستخدم في الرعاية والعلامات التجارية. كذلك تحظر ملامسته للأرض أو الماء، والدخول به لأماكن غير طاهرة، أو الجلوس عليه، كما أنه لا ينحني لكيان الضيوف عند استعراض حرس الشرف وفي حالة الحداد (المادة 16)، وهناك عقوبات حددها النظام لمخالفة نظام العلم».

خياطة العلم بين الداخل والخارج

وعن خياطة العلم السعودي والكتابة عليه، يشير الطريّف إلى أن المؤرخ الراحل عبد الرحمن الرويشد قال في كتابه عن الراية السعودية: «كان يوكل بهما لبعض الأفراد من أسر الرياض المعروفة، ومَن تولاه في العصر الحديث عبد الله بن محمد بن شاهين وسعد بن سعيد»، وكان بن سعيد يوكل عملية تجهيز متطلبات العلم ولم يقوموا بخياطته. وتشير بعض الوثائق إلى أن الملك عبد العزيز، طيب الله ثراه، كان يوكل للشيخ عبد الرحمن الطبيشي شراء وتأمين بعض متطلبات الراية، كما أنه في مرحلة متقدمة في عهد الملك عبد العزيز صُنع العلم في عدد من الدول بطريقة قماش على قماش في أميركا وباكستان وبعض الدول العربية.

الحسني أول مَن خطّ العلم

وعن أول مَن خطّ العلم في عهد الملك عبد العزيز، يقول الطريّف: «من خلال البحث في هذا الموضوع لفترة طويلة امتدت أكثر من 36 عاماً، وقفت على أن من أوائل مَن خطّ العلم السعودي، هو الشيخ عمر عاصم الحسني وهو من الجموم في وادي فاطمة بمكة المكرمة، والذي ارتحل للعمل مع أسرته في الكويت وعمل في المدرسة المباركية ثم مديراً لها، وهو مَن خطّ علم الكويت القديم، الذي كان يحمل كلمة (كويت)، كما خطّ لوحة المدرسة المباركية وكونه خطاطاً طُلب منه أن يخطّ العلم السعودي في عهد الملك عبد العزيز في عام 1911 تقريباً».

وعندما أمر الملك عبد العزيز بافتتاح مصنع الكسوة الخاص بالكعبة المشرفة في عام 1926، كان من أوائل العاملين فيه الخطاط عبد الرحيم أمين عبد الله بخاري، الذي أوكلت له مهمة خط كسوة الكعبة المشرفة، ووضع خطوط بابها، والمدوّن اسمه عليه حتى اليوم. وكان طُلب منه أيضاً خط العلم السعودي في ذلك التاريخ والزخارف الخاصة به، وكان بخط الثلث العربي.

علماً بأن أنواع الخطوط على كثير من الأعلام التي عُرضت في مناسبات شرفها الملك عبد العزيز كانت مختلفة عن خط الثلث الرسمي كونها أُنجزت لدى خطاطين غير عرب، أو لدى مصانع في الخارج.

خطاط كسوة الكعبة المشرفة عبد الرحيم أمين (من أرشيف عدنان الطريف)

100 علم في يد الطريّف

وتحدّث الطريّف عن الرصيد الكبير من الأعلام السعودية القديمة، فقال: «أحمد الله أن من أبرز مقتنياتي هي الأعلام السعودية، فأنا أملك أكثر من مائة علم قديم ونادر بمقاسات وأشكال وخامات مختلفة ولمراحل عمرية مختلفة، من أهمها أعلام الدولة السعودية الأولى والثانية، التي استُخدمت في مراحل نشر الوحدة والأمن لهذه البلاد المباركة». وأضاف: «عملت جاهداً على رصد أكبر عدد من الأعلام النادرة الخاصة بالملك عبد العزيز منذ دخوله مدينة الرياض، التي استخدمت خلال مناسبات أو فعاليات أو استقبالات حضرها جلالة الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، إضافة إلى عدد من الأعلام الخاصة بسيارة جلالته. كما أنني امتلك أعلاماً خاصة استُخدمت في عهد الملك سعود بن عبد العزيز، رحمه الله، وداخل مقره وعلماً خاصاً بسيارته، بالإضافة إلى أعلام استُخدمت في زيارة الملك فيصل لأميركا عام 1945 وأعلام قديمة في عهد الملك خالد والملك فهد في زيارات خارج المملكة».

الملك عبد العزيز خلال حفل أقامته شركة «أرامكو» تكريماً لجلالته وتظهر مجموعة من الأعلام السعودية خلفه في1947

وأكمل: «ومن الأعلام المهمة لدّي العلم الذي كان بين الملك فهد والملك سلمان بن عبد العزيز خلال الحفل الذي أُقيم لجلالة الملك سعود بمناسبة توليه مقاليد الحكم في عام 1953. فقمت برصد الصور الخاصة بهذه الأعلام وقمت بفحص هذه الأعلام لدى أكبر المراكز في العالم لمعرفة صحتها وتاريخها وأصالتها، كما تم توثيقها لدى عدد من المهتمين، وكذلك الذين أوكل لهم حمل العلم (آل مطرف)، إضافة إلى ما يوضع أعلى السارية (الطاسة)، حيث أملك أكثر من 10 قطع من فضة ونحاس ومعدن استُخدمت جميعها في عهد الملك عبد العزيز. ومن أبرز وأهم مقتنياتي المتعلقة بالعلم (الراية) وثيقة نادرة ووحيدة ممهورة بختم الملك عبد العزيز بعد دخوله مدينة الرياض بـ7 سنوات ذات علاقة بتفاصيل كثيرة عن العلم السعودي».

مقتنيات نادرة ومتاحف وإرث

يتحدث الطريّف عن محتويات متحفه النادرة فيقول: «خلال مسيرتي البحثية استطعت، ولله الحمد، أن أكوّن متحفاً خاصاً بالإبل وآخر للخيل، وثالثاً للصقور، وهذه المتاحف تشتمل على قطع نادرة وقديمة أعمار بعضها تتجاوز 300 سنة، إضافة إلى الطوابع المتعلقة بكل فرع من كل دول العالم وكل ما كُتب عنها بالصحف الأجنبية والعربية منذ عام 1850 وجميعها أصول. وكذلك الصور المتعلقة بالإبل والخيل والصقور من مائة سنة وإلى الآن، كما أنني جمعت قطعاً متحفية من الأواني والأطباق والمباخر والدلال والساعات ولوحات السيارات الخاصة بمرحلة الملك عبد العزيز والملك سعود والملك فيصل والملك خالد، واستخدمت من قبلهم، كذلك قمت بجمع أبرز وأهم الهواتف التي استُخدمت في القصور الملكية منذ عهد الملك المؤسس مروراً بملوك المملكة والعدد الكبير من القطع النادرة المتعلقة بتاريخ المملكة العربية السعودية وملوكها».

ولدى الطريّف تفاصيل قصة رفض السعودية تنكيس العلم بعد وفاة ملك العراق فيصل الأول، وهو ما أثار غضب البريطانيين.

مصنع كسوة الكعبة المشرفة بمكة المكرمة

والحال أنه بعد تعيين الشيخ إبراهيم بن معمر وزيراً مفوضاً للمملكة لدى العراق في 1923 بعد فترة وجيزة من افتتاح المفوضية، وكان اصطفاؤه في هذا المنصب الدبلوماسي في واحدة من أهم العواصم العربية المؤثرة في مصالح السعوديين أي بغداد، أظهر ثقة العاهل السعودي بكفاءته. والمعروف أن جاليات سعودية كبيرة كانت تقيم في العراق، وأن قبائل وعشائر عربية كانت تنتشر على المناطق الحدودية بين البلدين، فكان من مهامه الأساسية العناية بالرعايا السعوديين، فضلاً عن إشرافه على تطبيق اتفاقيات الحدود الموقّعة حديثاً بين الدولتين، وتطبيق إجراءات الحج للراغبين فيه.

وأشرف ابن معمر خلال عمله في بغداد على تنظيم الزيارة الأولى التي قام بها ولي العهد الأمير «الملك» سعود عام 1926. وعن ذلك يقول الدكتور عبد الرحمن الشبيلي: «يذكر له ـ في تلك الفترة ـ تفكيره في عدم تنكيس العلم السعودي على هامش الحداد العام على وفاة ملك العراق، فيصل الأول، عام 1923، وهو تقليد تبنته الحكومة السعودية بعد ذلك التاريخ احتراماً للفظ الشهادة التي يحملها العلم». وأدى احتجاج البريطانيين على ترويج ابن معمر لزعامة الملك عبد العزيز في الجزيرة العربية وعلى صلاته القوية مع رؤساء العشائر، إلى نقله من بغداد بعد 5 سنوات من العمل الدبلوماسي.

انتقام من بريطانيا

وخصص إبراهيم الحسون في كتابه «خواطر وذكريات» (3 أجزاء 2003)، حيزاً كبيراً تطرق فيه إلى أسلوب ابن معمر وخصاله، نظراً لكون الحسون عمل سكرتيراً خاصاً له في قائم مقامية جدة، فأورد في هذا الصدد حادثاً يؤكد موقفه الحازم من عدم مخالفة أوامر الدولة من أي كائن حتى لو صدرت من سفراء أو سفارات. فقد أصدر ابن معمر عندما كان يعمل «قائمقام جدة»، أوامره لرئيس بلدية جدة بضرورة قيام أصحاب بعض المنازل في شمال جدة بطلاء واجهاتها بالنورة البيضاء خلال مدة لا تزيد على أسبوعين، وبالفعل شرع أصحاب المنازل في تنفيذ الأمر وأصبح منظرها جميلاً يرتاح إليه النظر إلا منزلاً واحداً ظل على حاله ولم يتغير فيه شيء، وهو المنزل الذي يشغله مقر السفارة البريطانية. هنا استدعى ابن معمر رئيس البلدية علي سلامة مرة أخرى، وسأله عن عدم طلاء البيت الذي تشغله السفارة البريطانية، وهل تم إبلاغهم بذلك، فأجاب بأنه أبلغ مالك المبنى وعندما بدأ في التنفيذ رفض المسؤولون بالسفارة السماح للعمال بالعمل. وعند الاتصال بالمسؤولين في السفارة، أوضحوا أن امتناعهم، هو إنفاذ لأمر السفير البريطاني الذي قال إن المبنى يعدّ أرضاً بريطانية، وإنه لا يسمح بتلقي أي أمر بشأنه ما دامت السفارة تشغله. وعندما سمع ابن معمر هذا الكلام، انتفض صارخاً في وجه رئيس البلدية، طالباً منه أن يذهب في الحال ويبلغ المسؤولين في السفارة بضرورة تنفيذ الأمر؛ لأن الحكومة السعودية دولة مستقلة، ولا تسمح لأي إنسان بأن يخالف أوامرها داخل بلادها، وأنّ على رئيس البلدية إمهالهم 3 أيام لكي ينفذوا الأمر، وإلا فإن القائمقام سيأمر بتنفيذه بالقوة وليفعل السفير ما يشاء. خرج رئيس البلدية من المقابلة ساخطاً، لأنه سمع من ابن معمر ألفاظاً حادة، كلها لوم وتوبيخ. وفي اليوم الثالث لهذا الحدث، نصبت «السقالات» على مبنى السفارة وبدأ العمل بطلائه على الفور.


مقالات ذات صلة

عَلَم المملكة... تاريخ يرفرف بالهوية السعودية الراسخة

الخليج عروض عسكرية احتفالاً بالعلم السعودي خلال العام 2023 (وزارة الثقافة السعودية) play-circle

عَلَم المملكة... تاريخ يرفرف بالهوية السعودية الراسخة

في كل خفقة للراية الخضراء، تعيد قصة العلم سرد حكاية وطن تأسس على التوحيد وانطلق نحو المجد فكان علمه شاهداً على عزته، ورمزاً لا يُطوى في صفحات النسيان

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض)
الخليج الملك سلمان مقبّلاً العلم السعودي (واس) play-circle

العَلَم السعودي... حضور في المناسبات من الإمام محمد بن سعود إلى الملك سلمان

حضر العَلَم السعودي في مناسبات مختلفة، على مدى 3 قرون، وسجلت المصادر التاريخية أن الراية والبيرق المتعارف عليهما آنذاك كانا يحملان اللون الأخضر.

بدر الخريف (الرياض)
تحقيقات وقضايا العلم مرفوعاً منذ قيام الدولة الأولى

العَلم بيرق الشرعية الدستورية السعودية ورايتها

تكتسب المناسبات الوطنية السعودية أهمية خاصة، خصوصاً لجهة تفرد العلم السعودي بشكله وتصميمه ودلالاته ومضامينه؛ فهو يعكس عمق الدولة وعراقتها.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض )

نهاية «التعايش القسري» بين العشائر العربية و«قسد» في الجزيرة السورية

سيارة لأحد أبناء عشيرة «العكيدات» في منطقة دير الزور السورية في 2023 (غيتي)
سيارة لأحد أبناء عشيرة «العكيدات» في منطقة دير الزور السورية في 2023 (غيتي)
TT

نهاية «التعايش القسري» بين العشائر العربية و«قسد» في الجزيرة السورية

سيارة لأحد أبناء عشيرة «العكيدات» في منطقة دير الزور السورية في 2023 (غيتي)
سيارة لأحد أبناء عشيرة «العكيدات» في منطقة دير الزور السورية في 2023 (غيتي)

تتفاوت مواقف العشائر العربية في منطقة الجزيرة السورية من «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» بين القبول والرفض والتحفظ؛ فبعض العشائر تتعاون معها في إدارة مناطقها، بينما ترفضها عشائر أخرى وتعارض وجودها كلياً، فيما تتخذ عشائر ثالثة مواقف وسطية أو متغيرة بناء على التطورات الميدانية والسياسية.

وفي حين يرى بعض العشائر في «قسد» حليفاً ضرورياً للحفاظ على الأمن والاستقرار في مناطقها، خصوصاً في ظل التهديدات المستمرة من قبل تنظيم «داعش» وغيره من الجماعات المسلحة، تتهم عشائر أخرى «قسد» بممارسة التمييز ضد العرب، وبتهميشهم في الإدارة المحلية؛ ما يدفعها إلى رفض التعاون معها ومعارضتها. وفي تصعيد جديد للمواقف الشعبية في شمال وشرق سوريا، أصدر شيوخ ووجهاء عشائر عربية من محافظات دير الزور والحسكة والرقة بياناً موجّهاً إلى قيادة التحالف الدولي، وعلى رأسها الولايات المتحدة، طالبوا فيه بوقف الدعم العسكري والسياسي المقدّم لـ«قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» وجميع التشكيلات المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة السورية.

مشهد لنهر الفرات الذي يعبر الجزيرة السورية وقد بدا في الخلفية جسر دير الزور الأثري مدمراً (غيتي)

وأكد البيان أن ممارسات «قسد» التي وصفها بـ«القمعية»، أدَّت إلى فقدان الأمن والاستقرار وانتشار الفوضى في المنطقة، محمّلين التحالف الدولي المسؤولية المعنوية والقانونية عن استمرار هذا الوضع.

فقد وثَّقت وسائل إعلام محلية، مقتل الطفل فريد الهريش في بلدة أبو حردوب برصاص عنصر من «قسد»، بتاريخ 26 يونيو (حزيران) الماضي. وفي 2 يوليو (تموز)، لقي الطفل علي العوني حتفه، أثناء جمعه للقمح قرب حاجز عسكري. ولا تقتصر الانتهاكات على القتل المباشر، بل تتسع لتشمل اختطاف الأطفال وتجنيدهم قسرياً، عبر منظمة «الشبيبة الثورية»، أو فرض دفع بدل يقارب 300 دولار للإعفاء من الخدمة العسكرية. ويفرض أخيراً على الزائرين من الخارج ممن تجاوزوا الخامسة والعشرين إجراءات بيروقراطية، ودفع مبالغ مالية لاستصدار إعفاءات.

وشدّد الموقعون على البيان على تمسكهم بـ«وحدة سوريا ورفضهم لأي مشاريع انفصالية»، داعين إلى إعادة سلطة الدولة السورية على كامل المناطق الشرقية والشمالية، ودمج العناصر الراغبين من «قسد» في صفوف الجيش السوري بقيادة الحكومة الشرعية. وفي الأول من يوليو (تموز)، وجَّه 14 شخصاً من شيوخ ووجهاء عشائر وقبائل العقيدات وشمّر والبوشعبان والبقارة، إضافة إلى عشائر البوليل والمشاهدة والبوسرايا من محافظات دير الزور والحسكة والرقة، بيانهم إلى قيادة التحالف الدولي، كما وجّهوا نداء إلى من سموهم «أبناءهم» المنخرطين في صفوف «قسد»، داعين إياهم إلى الانشقاق عنها والعودة للمشاركة في إعادة بناء الدولة.

غليان في الجزيرة

في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، قال ناصر حمود الفرج أحد الشيوخ الممثلين عن عشيرة البوشعبان ومن الموقِّعين على البيان، إن بيانات أخرى سبقته وحملت «الموقف ذاته، وعبّرت عن صوت أبناء العشائر، لكن الظروف الحالية، وتراكم الانتهاكات، والطلب الشعبي المتزايد، فرضت علينا أن نرفعه مجدداً، وبنبرة أكثر وضوحاً».

العشائر العربية وقد أعلنت «النفير العام» لمحاربة «قسد» في الجزيرة السورية عام 2023 (غيتي)

وكانت العلاقة بين «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» والعشائر، في شمال شرقي سوريا، تشكلت على أساس المصالح المتبادلة، من حيث تقديم الدعم لهذه القوات مقابل تأمين مناطقهم، ومنع وصول تنظيم «داعش» إلى مناطقهم بعدما فَرَض سيطرته على أجزاء واسعة من غرب العراق وشرق سوريا، في يونيو (حزيران) 2014. إلا أن العلاقة شهدت تقلبات حادة؛ فانتقلت من مرحلة التنسيق المشترك بين «قسد» وعشائر البقارة وشمر وغيرهما وخوض الحرب ضد «داعش» بين عامي 2015 و2017، إلى احتجاجات صاخبة خلال عامي 2018 و2019 ضد التجنيد الإجباري للشبان والفتيات، وتهميش دور العشائر في الإدارة الذاتية والاستئثار بالموارد الطبيعية، كالنفط والمياه، والأهم رفض العشائر للتقارب مع نظام بشار الأسد الذي بدأت الإدارة الذاتية التفاوض معه بعد العملية العسكرية التركية «نبع السلام».

وشدد الفرج على أن توقيت البيان «لم يُفرض من الخارج، بل جاء بناء على رغبة أبناء العشائر في الداخل، الذين يطالبوننا علناً بالتحرك، وإنهاء حالة التهميش والخنق التي تُمارَس ضدهم منذ سنوات»، بحسب قوله، مشيراً إلى ما سماه «حالة غليان واضحة في الجزيرة السورية» لرفض «الوصاية الأجنبية والانفصال عن سوريا أو المحاصصة وضرورة التحاق جميع مكونات الشعب السوري بالدولة السورية الجديدة».

وحول الأسباب التي دعت العشائر لاصدار البيان، قال الفرج إن «ما يجري في شرق الفرات لا يمكن الاستمرار في تجاهله. صوت العشائر اليوم أصبح أعلى، وأكثر تنظيماً، وأكثر وعياً. نحن نمثل هذا الصوت، وسنستمر في نقل مطالب أهلنا إلى كل الأطراف الدولية والإقليمية، حتى تعود الجزيرة لأهلها، وينتهي زمن الوصاية». وذكر الشيخ بأن أبناء الجزيرة السورية يعانون منذ سنوات طويلة من «ممارسات قمعية متعددة» لقوات «قسد» تتعلق بالتهميش المتعمَّد لأبناء الجزيرة السورية تتراوح من فرض مناهج تعليمية «مؤدلجة» لا تعكس «ثقافة وهوية المنطقة»، وصولاً إلى فرض واقع أمني والاستيلاء على الثروات الزراعية والنفطية وتوظيف بعض إيراداتها «لشراء الولاءات»، في حين يعيش سكان المنطقة حالة من الفقر والعوز. هذا بالإضافة إلى قمع الحريات ومنع الاحتجاجات والاعتقالات التعسفية لكل مَن يعبّر عن رأي مخالف.

خيار التحرك العسكري

وأوضح الفرج أن هذه العشائر «تمثل خطاً مستقلاً»، يحمل مطالب واضحة من سكان في الجزيرة السورية التي وصفها بـ«المحتلة»، مشدداً على أنها «لا تعمل ضد أحد، بل تعمل من أجل إخراج قوات (قسد) الانفصالية من المنطقة، سواء عبر الحل السلمي أو بالتحرك العسكري بمساندة القبائل، إذا اقتضى الأمر». والتحرك العسكري، وفقاً للشيخ الفرج «ليس من أجل القتال بل من أجل استعادة الحق وضمان وجود عربي فاعل داخل الدولة السورية الواحدة بعيداً عن الوصاية أو الإقصاء».

من المواجهات المسلّحة بين مقاتلين من العشائر العربية و«قسد» و«حزب العمال الكردستاني» في منطقة منبج في الشمال السوري في سبتمبر 2023 (غيتي)

وبعكس الشائع، لا تقتصر قوات «قسد» على العنصر الكردي فحسب، وإن كانت تتشكل بشكل أساسي من «وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)»، ولكنها تضم أيضاً مكونات عربية وازنة مثل «قوات الصناديد» التابعة لقبيلة شمّر ذات العمق التاريخي والجغرافي، ومكونات سريانية، كالمجلس العسكري السرياني، وبعض الفصائل العربية الاخرى. وتحاول «قسد» دائماً تظهير تواصلها مع شيوخ ووجهاء القبائل في مناطق سيطرتها، ولكن هذا لا يعني ولاء مطلقاً من كل أفراد القبيلة.

وتُبرِز العلاقة بين «قسد» والعشائر شكلاً معقداً ومتداخلاً في التحالفات والولاءات بين القوى الفاعلة سواء النظام السوري السابق الذي أيَّدته بعض فروع عشائر البقارة والعقيدات وطي، أو الولايات المتحدة وقوات «قسد» التي حظيت بتأييد عشائر أخرى، مثل شمر وبعض فروع عشيرة البقارة. وعلى الرغم من أن الموقف العام لعشيرة العقيدات، خصوصاً قياداتها التقليدية، هو العداء لـ«قسد»، فإن هناك انقساماً داخل القبيلة نفسها. بعض فروع العقيدات أو أفراد منها يوالون «قسد»، وينخرطون في تشكيلاتها، مثل بعض قيادات «مجلس دير الزور العسكري»، حتى أزمة اعتقال «قسد» لرئيس المجلس، أحمد حامد الخبيل الملقب «أبو خولة» عام 2023، التي كتبت نهاية أي شكل من العلاقات بينهما.

وكشف الفرج عن جهوزية «شريحة كبيرة جداً من أبناء القبائل والعشائر للتحرُّك، وهم بانتظار اللحظة المناسبة سياسياً وأمنياً». وقال: «الموقف لم يعد قابلاً للتأويل (...) نحن كعشائر عربية نطالب (التحالف الدولي) بدور فعّال، ونرفض أن نكون مجرد تابعين لمشروع لا يمثلنا».

وحتى هذه اللحظة، لا يوجد تواصل مباشر بين العشائر وقيادة التحالف الدولي وفقاً للفرج، الذي قال إنهم «بانتظار موقف واضح (من الأميركيين)، بعدما وصلت إليهم رسائلنا عبر قنوات مدنية واجتماعية». وطالب الفرج التحالف بـ«إعادة تقييم دعمه لقوات «قسد» التي تمثل طرفاً انفصاليا لا يحظى بشرعية مجتمعية حقيقية، من شأنه أن يفاقم حالة الانقسام في المجتمع السوري، ويؤثر سلباً على وحدة الأراضي السورية وسيادة الدولة».

طابور من الأسرى ينتظر تسليمه بحلب في الجزء الأول من الاتفاق بين الحكومة السورية و«قسد» أبريل الماضي (خاص بالشرق الأوسط)

وفي أعقاب الاشتباكات التي اندلعت خريف عام 2023 بين قوات «قسد» وبعض العشائر العربية في دير الزور، وبعد تدخلات من جهات محلية ودولية (مثل التحالف الدولي)، قامت «قسد» بالإفراج عن دفعات من المعتقلين، في محاولة لتبريد الأجواء مع العشائر. وبعض هؤلاء اعتُقِلوا على خلفية الاشتباكات المسلحة، وبعضهم الآخر اعتقل بتهم الانتماء لـ«داعش» أو غيرها؛ إذ شنت «قسد» في ذلك الوقت حملة توقيفات ضد أبناء العشائر بتهمة جاهزة. وتمت هذه الإفراجات «بضمانات من شيوخ العشائر»، كجزء من جهود تهدئة الأوضاع. واستمرت عمليات الإفراج عن دفعات من المعتقلين لأشهر عديدة، آخرها كان في سبتمبر 2024. كما أن هناك اتفاقات بعد اتفاق العاشر من مارس (آذار) 2025، بين «قسد» والحكومة السورية الحالية تضمنت بند «تبييض السجون» وإطلاق سراح المعتقلين من الطرفين.

وفي أبريل (نيسان) 2025، تم تنفيذ المرحلة الأولى من عملية تبادل المعتقلين بين دمشق و«قسد» في حلب. وشملت هذه العملية إطلاق سراح نحو 250 معتقَلاً من الطرفين، حيث أفرجت السلطات السورية عن 140 معتقلاً من «قسد»، مقابل إفراج «قسد» عن نحو 100 معتقل، وهو اتفاق تعثَّر في مراحل لاحقة.

على الجانب الاخر، كشف الفرج أن هناك تواصلاً مع الدولة السورية، لا سيما أن أغلب قيادات الدولة الجديدة هم من أبناء هذه العشائر نفسها، ومن مناطق تخضع حالياً لسيطرة «قسد»، مبيناً أن «تواصلنا مع دمشق ليس على حساب أحد، بل لصالح استعادة السيادة وبناء شراكة وطنية تحفظ كرامة الجميع وتحافظ على وحدة سوريا»، وهذا سيكون أولاً من خلال عودة الجيش العربي السوري إلى كامل الأراضي السورية، من الشمال الشرقي حتى الجنوب والحدود، ضمن إطار وطني جامع، يشمل شراكة حقيقية مع العشائر والفاعليات الاجتماعية، لا مجرد حضور أمني أو إداري شكلي»، وفق ما قاله لـ«الشرق الأوسط».

ديوان لمقاتلي عشائر عربية في الجزيرة السورية إبان الاشتباكات مع «قسد» و«العمال الكردستاني» في 2023 (غيتي)

من جهته، قال شيخ «البو سرايا»، زياد الشلاش، أحد الموقّعين على البيان، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن عشيرته «على تواصل مستمر مع الحكومة السورية في سبيل توحيد الأراضي السورية ورفض أي شكل من أشكال التقسيمات المفروضة كأمر واقع». وتابع: «تواصل شخصياً مع السيد مظلوم عبدي، وهو رجل حريص على وحدة سوريا واستقرارها، ولذلك نرى أنه من الواجب دعم موقفه وتقويته». وأضاف الشلاش: «نحن لا نريد لأبناء العشائر العربية أن يكونوا وقوداً لمشاريع انفصالية، ولهذا دعوناهم للانشقاق. وفي الوقت نفسه، لا نريد لإخوتنا الكرد أن يُزج بهم في معارك لا تخدمهم، أو أن يكونوا حَطَباً لإرضاء مطامع بعض القوميين القادمين من خارج سوريا».

تغيير في الخطاب

كانت نخب اجتماعية من أبناء الجزيرة السورية والفرات أعلنت، منتصف أبريل (نيسان) الماضي، تأسيس «مجلس التعاون والتنسيق في الجزيرة السورية والفرات»، بهدف الدفاع عن مصالح أبناء الجزيرة. جاء الإعلان مع إصدار العشائر العربية بيانات ترفض وصاية «قسد» على منطقة الجزيرة السورية، بصفتها «قوة احتلال»، وبحسب بيان التأسيس الذي اطلعت عليه «الشرق الأوسط»، فإن المجلس يسعى لتوحيد الصوت السياسي والإعلامي والمدني في مواجهة «سلطات الأمر الواقع، المتمثلة بـ(قسد)»، ورفض مشاريع التقسيم التي تهدد وحدة سوريا. وكذلك رفض ادعاء تمثيل «قسد» لعرب الجزيرة والفرات في أي مفاوضات مع الحكومة السورية، أو في أي محفل سياسي داخلي وخارجي.

شباب جامعيون من أبناء دير الزور في حملة تنظيف وتلوين لجدران المدينة بعد سقوط نظام بشار الأسد (غيتي)

وتُشكّل محافظات دير الزور والرقة والحسكة، الواقعة في شرق وشمال شرقي سوريا، نسيجاً متنوعاً يعكس تاريخ المنطقة وثقافاتها المتعددة. يشكل العرب المكون السكاني الأكبر والأكثر هيمنة في هذه المحافظات، خصوصاً في دير الزور والرقة حيث تُعد العشائر العربية الكبيرة والممتدة، مثل العقيدات والبقّارة والشعيطات (التي قتلت منها داعش 800 شخص في مجزرة واحدة) والجبور، العمود الفقري للتركيبة السكانية. أما في الحسكة، فبينما يشكل العرب غالبية سكان الريف الجنوبي والغربي، تُعد القومية الكردية المكون الأكبر في مناطق الشمال والشمال الشرقي، حيث تتركز مدن، مثل القامشلي ورأس العين، وتمتلك وجوداً نسبياً في باقي المحافظة. إلى جانب المكونين العربي والكردي، توجد أقليات عرقية ودينية أخرى مهمة تساهم في ثراء التنوع السكاني. فـالسريان، وهم مسيحيون، يتركزون بشكل خاص في الحسكة، ولهم وجود تاريخي وثقافي عريق في المنطقة، ويمثلون الغالبية في بعض القرى والبلدات الخاصة بهم، مثل تل تمر. كما يوجد في هذه المحافظات عدد أقل من التركمان والشركس والأرمن، لا سيما في مدن، مثل الحسكة والقامشلي. لذلك فإن أي خيار سياسي- عسكري لا يراعي هذا التنوع ومصالحه مرشح للانفجار في اي لحظة.

وفي تغيُّر ملحوظ بالخطاب الإعلامي والرسمي، باتت مواقع إخبارية رسمية أو مقربة من الحكومة السورية تلقي الضوء على «انتهاكات» لقوات «قسد» ضد مدنيين في مناطق الجزيرة السورية على غير عادتها، كما أن مسؤولين سوريين باتوا أكثر وضوحاً في الحديث عن الموقف من قوات «قسد»، بعيداً عن الخطاب الإعلامي الرسمي الذي يركز على اتفاقية العاشر من مارس الموقَّعة بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قوات «قسد» مظلوم عبدي، ونشاطات اللجان المكلفة وضع تفاصيل الاتفاق قيد التنفيذ.

ففي 30 يونيو الماضي، أوضح محافظ دير الزور، غسان السيد أحمد، أن الخيار العسكري ضد «قسد» لا يزال مطروحاً على الطاولة كخيار أخير في حال فشلت جميع المساعي والجهود التفاوضية معها.

وأكد أن هناك استعداداً عسكرياً كاملاً، حيث تم تجهيز ثلاث فرق عسكرية متكاملة وجاهزة للتدخل حال تعثر المفاوضات، دون الكشف عن تفاصيل أخرى، مؤكداً على أن الوضع الأمني بوجود «قسد» يؤثر بشكل مباشر على عمل بعض المرافق الحيوية، مثل استمرار تعليق العمل بمطار دير الزور، نظراً لحاجة الطيران إلى «التحليق الجوي فوق المناطق التي تسيطر عليها»، وهو ما يتطلب ترتيبات أمنية وفنية خاصة، حسب قوله.

إلى جانب تسبب «قسد» في تعثر كبير بمشاريع إعادة تأهيل البنية التحتية، وعلى رأسها الجسور الرئيسية التي تربط بين مناطق المحافظة المختلفة.

حلّ سلمي وتيارات متنازعة

ويرى رئيس وحدة الدراسات في مركز «أبعاد» للدراسات الاستراتيجية، ومقره لندن، الباحث السوري فراس فحام، أن الحشود العسكرية للجيش السوري هي بسبب «الانتهاكات اليومية لقوات (قسد) في منطقة شرق الفرات (منطقة الجزيرة)، وكذلك قيامهم بحالات القنص والمداهمات والاعتقالات العشوائية والاغتيالات بحق أبناء العشائر والقبائل العربية».

أحمد الحمزة السطم ناشط مدني اعتقلته «قسد» من منزله في حي المشلب بمدينة الرقة 20 مايو 2025 (الشبكة السورية)

وكانت «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» وثقت مقتل عشرة مدنيين على يد «قسد» في عام 2024، من بينهم طفلان تحت التعذيب. وفي فبراير (شباط) 2025، وثّقت الشبكة مقتل 65 مدنياً، بينهم طفل وسيدتان قُنِصوا على يد قوات «قسد» في مدينة حلب.

وتوقع «فحام» أن يتم تنفيذ الاتفاق بين الحكومة و«قوات (قسد) بعيداً من المواجهات العسكرية التي ستكون لها تداعيات سلبية على جميع الأطراف»، لكن هناك أكثر من تيار أو جناح داخل «قوات (قسد) يرفض بشكل قاطع الحل السياسي، لرغبتهم في الاحتفاظ بمنطقة الجزيرة السورية الغنية بالنفط والغاز والثروات الزراعية والمياه، وهي مناطق حيوية ضمن مشروعهم المحمي دولياً من التحالف الدولي، بذريعة محاربة إرهاب تنظيم (داعش) الذي أعطاهم شرعية البقاء وتلقي الدعم الدولي».

وحذر فحام من أن المنطقة عبارة عن «بركان خامل حالياً، ولكن لن يدوم خموله طويلاً، لذلك إذا لم يحصل اتفاق فستكون هناك مواجهات دامية قد تستدعي تدخُّل أطراف أجنبية، مثل الجيش التركي؛ سواء براً أو جواً، نظراً إلى أن أنقرة ترفض أي اتفاق يعطي لقوات (قسد) نوعاً من الإدارة الذاتية أو الفيدرالية».

نهاية التعايش القسري

على صعيد ذي صلة، يرى مضر حماد الأسعد، رئيس المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية، أن الخيارات المتاحة أمام «قسد» باتت ضيقة جداً، بعد ما صدر عن المبعوث الأميركي لسوريا توماس باراك الذي حدَّد فيها أن «الحكومة السورية هي الطرف الوحيد الذي يمكن التفاوض معه»، وقد تشهد المنطقة مستقبلاً عملية عسكرية للجيش السوري بضوء أخضر أميركي، وإن كان غير معلن، بالتنسيق مع تركيا. والرهان دائماً على أن أي معارك عسكرية ستؤدي إلى تحرك عشائري في مناطق سيطرة (قسد) والتسبب بانهيارها»، حسب قوله.

صورة جويّة لـ«قوات سوريا الديمقراطية» بمشاركة «قوات التحالف الدولي» في دير الزور شمال شرقي سوريا في 2022 (غيتي)

وكشف الأسعد عن تيار أو جناح داخل قوات «قسد» يرتبط مباشرة بحزب العمال الكردستاني، يتبنى خيار المواجهة العسكرية مع الحكومة السورية لتكريس الأمر الواقع، مؤكداً على أن المطلوب من قوات «قسد» مرحلياً تسليم كامل محافظتي الرقة ودير الزور، والانكفاء إلى محافظة الحسكة، وبخلاف ذلك «قد» تشهد المنطقة مواجهات عسكرية «محدودة» كما يصفها في ختام حديثه لـ «الشرق الأوسط». ويُبرز البيان العشائري الأخير تصاعدا حادّا في رفض القبائل العربية لسيطرة «قسد» على مناطق شمال وشرق سوريا، كما يعكس تحولا نوعيّا في موقف العشائر من التعايش «القسري» طيلة سنوات الثورة إلى المطالبة العلنية بإنهاء الوجود العسكري والإداري لتلك القوات وفرض سلطة الدولة بالكامل.

ورغم تباين المواقف التاريخية بين العشائر، يبدو أن السخط المتصاعد على خلفية التهميش والاعتقالات وغيرها قد وحّد خطاباً عشائريّاً يطالب بعودة الجيش السوري. وتظل الخيارات معلقة بين التفاوض والمواجهة العسكرية، خصوصاً مع تصريحات رسمية سورية عن جاهزية القوات الحكومية. هذا التصعيد يضع التحالف الدولي في عملية موازنة حرجة بين دعم حليفه «قسد» المُتنازع على شرعيته محليّاً، وضغوط العشائر التي تُحذِّر من انفجار الوضع، وهو ما لا تريده واشنطن، وتعمل على تجنّبه.