الراية السعودية رمز الهوية الوطنية الجامعة على مدى قرون

تفاصيل قرار عدم تنكيس العلم... تقليد راسخ حتى اليوم

الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)
الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)
TT

الراية السعودية رمز الهوية الوطنية الجامعة على مدى قرون

الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)
الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)

يحل، الاثنين 11 مارس (آذار)، يوم «العلم السعودي» الذي أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمراً ملكياً باعتماده يوماً خاصاً للعَلم من كل عام.

وكان الملك عبد العزيز أصدر في الحادي عشر في شهر مارس عام 1937، أمره بالموافقة على قرار مجلس الشورى، وأقرّ فيه مقاس العلم السعودي وشكله الحالي.

وبحلول هذا اليوم، يستذكر السعوديون رمز هويتهم الوطنية ودلالة الراية الخضراء، التي رفرفت طيلة قرون ثلاثة، حاملة المضامين والدلالات والخصوصية والتفرد نفسها.

الملك عبد العزيز يشارك بالعرضة النجدية وتظهر خلفه الراية السعودية عام 1935 (الشرق الأوسط)

واستحضرت «الشرق الأوسط» هذه المناسبة لإجراء حوار مع الباحث عدنان بن صالح الطريّف، الذي غاص عميقاً في تاريخ الوطن وإرثه الحضاري، وما قامت عليه الدولة السعودية بمراحلها الثلاث. وكشف الطريّف ما يملكه من مجموعة نادرة من الأعلام تجاوزت المائة، أهمها العلم الأصلي للدولة السعودية الأولى، وأعلام تمتد على مراحل الدولة السعودية الثلاث، كلها أصلية ولم تتعرّض للبلى. كذلك نفض الغبار عن مقتنيات متاحفه الثلاث، وتحدث عن مناسبة يوم العلم ودلالته، راصداً تاريخ العلم السعودي منذ 300 عام وحتى اليوم، وخصّ «الشرق الأوسط»، بأعلام ووثائق وصور وخطابات تُنشر للمرة الأولى. وقد تتبع الطريّف مراحل تطوير الراية السعودية وتاريخها، وقام بإعداد كتاب ضخم عنها، رصدَ فيه كل ما له علاقة بالعلم أو شعار المملكة.

راية الدولة السعودية الأولى وهي قطعة أصلية من مجموعة الطريّف (أرشيف عدنان الطريف)

ويتحدث الطريّف عن مراحل تطور العلم السعودي على مدى 3 قرون، فيقول إن الراية السعودية أو «العلم»، أو «البيرق» التي ترفرف خضراء منذ 3 قرون، مرّت بعديد من المراحل إلى أن استقرت على ما هي عليه في أواخر عهد الملك عبد العزيز. ويقول إنه وفقاً للمصادر التاريخية كانت الراية «خضراء مشغولة من الخز والإبريسم، وقد كُتبت عليها عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وكانت معقودة على سارية بسيطة». وبقيت هكذا في عهود المؤسس الأول الإمام محمد بن سعود، وابنه الإمام عبد العزيز بن محمد، وابنه الفاتح العظيم الإمام سعود بن عبد العزيز المعروف بـ«سعود الكبير»، وابنه الإمام عبد الله بن سعود.

الأمير سلطان والملك سلمان يؤديان العرضة النجدية عام 1965

ومع تصاعد الصراع البريطاني - الفرنسي، جاء دومنغو باديا ليبيلخ (رحالة ومستشرق إسباني تبيّن لاحقاً أنه جاسوس) فتظاهر بالإسلام وتخفّى تحت اسم «الحاج علي باي العباسي» ليعمل لحساب نامليار الثالث، وليسبر غور الدولة السعودية. فوصل إلى مكة المكرمة في شهر يناير (كانون الثاني) 1807، قادماً من المغرب مروراً بشمال أفريقيا، فأُتيحت له فرصة رؤية دخول جيش الإمام سعود إلى مكة المكرمة. وسجّل دومنغو أو «علي بك العباسي»، دخول 45 ألفاً من أتباع سعود، وهم في ثياب الإحرام، ليؤدوا المناسك، يتقدمهم عَلَم أخضر طُرزت عليه بحروف كبيرة بيضاء عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله».

في المقابل، ذكر الرحالة السويسري جون لويس بوركهارت، واسمه بعد أن أعلن إسلامه «إبراهيم عبد الله» في ملاحظاته حول البدو التي دوّنها خلال رحلاته في الشرق في عام 1810 تقريباً، عندما تحدث عن الشؤون العسكرية للإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، وسلطته الراسخة في الجزيرة العربية وغزواته، ذكر أن «لدى كل أمير راية خاصة، وأن سعود يمتلك عدداً من الرايات المختلفة».

الملك فهد والملك سلمان وبينهما العلم السعودي بمناسبة تولي الملك سعود مقاليد الحكم عام 1953 (أرشيف عدنان الطريف)

ويشار إلى أن أول راية سعودية رُفعت عام 1139هـ، أي 1727م، على يد الإمام المؤسس محمد بن سعود، الذي استمر حكمه 40 سنة، وكان يعقد الراية لأحد أبنائه أو يتولاها هو بنفسه. وذكر ابن بشر في تاريخه، أن الإمام عبد العزيز بن محمد، الحاكم الثاني في الدولة السعودية الأولى، وابنه الإمام سعود، كانا يبعثان برسلهما إلى رؤساء القبائل، ويحددان لهم يوماً ومكاناً معلومَين على ماء معين، وتتقدمهما الراية، فتنصب على ذلك المورد، فلا يتخلف أحد من رؤساء القبائل. ويقول ابن بشر أيضاً «إن الإمام سعود قد أُعطي السعادة في مغازيه فلم تهزم له راية» وحينما عرض ابن بشر لسيرة الإمام تركي بن عبد الله، مؤسس الدولة السعودية الثانية، قال: «كان إذا أراد الغزو يكتب إلى أمراء البلدان ورؤساء القبائل يحدد لهم الخروج في يوم معين وموقع معلوم، ثم يُخرج آلاته الحربية ومعدات الجيش وأعلاف الخيول قبل مسيره بـ15 يوماً، ثم يُخرج الراية فتُنصَب قريباً من باب القصر قبل خروجه بيوم أو يومين أو ثلاثة، وكان الإمام تركي يأمر بحمل الراية، فحذا ابنه فيصل حذوه في نظام إخراج الراية وتقديمها أمامه أو نصبها أمام القصر».

المؤسس الثالث صاغ شكلاً جديداً للعلم

أصل العلم الذي ظهر بين الملك فهد والملك سلمان في الصورة السابقة (أرشيف عدنان الطريف)

وأما الملك عبد العزيز، فيقول الطريّف إنه استخدم في البداية العَلَم أو الراية نفسها المستخدَمة في الدولة السعودية الأولى والثانية، ثم وجّه بإدخال تغييرات عليها. وذكر أمين الريحاني في تاريخه أنّ «الراية التي حملها الملك عبد العزيز في أول عهده كان الجزء الذي يلي السارية منها أبيض اللون، وكان فيها جزء أخضر، وكانت مربعة الشكل تتوسطها عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ويعلوها سيفان متقاطعان»، ثم تَغيّر شكلها بعد ذلك فضمت سيفاً واحداً تحت الكلمات.

صورة من قرار مجلس الشورى رقم 354

وفي 1925 أمر الملك عبد العزيز بصياغة شكل عَلَم جديد. وفي 1937، صدر قرار مجلس الشورى بإقرار مقاس للعلم بطول 150 سنتيمتراً وعرض 100 سنتيمتر، ثمّ صدر في العام ذاته قرار مماثل بشأن العَلَم الوطني وتخصيص عَلم: الملك وولي العهد، والجيش، والطيران، والعَلَم الداخلي، والعَلَم البحري الملكي السعودي، والعَلَم البحري التجاري.

وعام 1952، صدر قرار مجلس الشورى بمقاسات أخرى للأعلام وتعديلاتها. وفي 1973، صدر قرار مجلس الوزراء بإقرار نظام العَلَم، وفي عهد الملك فهد ومع صدور النظام الأساسي للحكم عام 1991، حدد النظام طبيعة العَلَم: أن يكون لونه أخضر، وعرضه يساوي ثلثي طوله، وتتوسطه عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وتحتها السيف.

صورة من قرار الموافقة على نظام العلم السعودي في 1973

وحول ما يتداول مع كل مناسبة وطنية حول مَن قام بتصميم العلم السعودي بوضعه الحالي، يقول الطريّف: «هناك كثير من المعلومات المغلوطة المتداولة، لكن تصميم العلم السعودي متطور منذ أيام الدولة الأولى، ثم أعده مجلس الشورى بشكله الحالي وأقره الملك عبد العزيز في ذلك الحين».

ويتابع الطريّف شرحه أنه «أُشيع كثيراً، وتناقلت كثير من وسائل التواصل والإعلام أن علم إمارة نجد أو المملكة في بدايتها يحمل هلالاً بداخله، وهذه المعلومة غير صحيحة أيضاً، ولم يكن هناك أي ارتباط للهلال بأي علم من أعلام الدولة السعودية في أي فترة تاريخية».

دلالات العلم: العدل والقوة والنماء

جيش الملك عبد العزيز عام 1911 (الشرق الأوسط)

حول رمزية العلم ودلالته، يرى الطريف أن «العلم بشكله الحالي يشير إلى التوجيه والعدل والقوة والنماء والرخاء، حيث ترمز شهادة التوحيد التي تتوسطه إلى رسالة السلام والإسلام التي قامت عليها هذه الدولة المباركة، ويرمز السيف إلى القوة والألفة وعلو الحكمة والمكانة وإلى الأمن والأمان».

ويضيف: «أما اللون الأخضر، فيرمز إلى لون راية الإسلام كون اللون الخضر يرمز إلى السلام والعطاء والتسامح والماء، واللون الأبيض يرمز إلى النقاء الذي تتسم به المملكة العربية السعودية».

حاملو العلم عبر الزمن

حمل الراية في الدولة السعودية الأولى إبراهيم من طوق، وعبد الله أبو نهيه الذي قتل في أثناء حصار الدرعية عام 1818، وفي الدولة الثانية الحميدي بن سلمة، وصالح بن هديان، وإبراهيم الظفيري. أما مع الملك عبد العزيز، فأول مَن حمل الراية عبد اللطيف المعشوق في معركة استرداد الرياض عام 1902، وشارك فيما تلاها من المعارك، وقُتل في معركة البكيرية عام 1904، وحمل الراية بعده ابنه منصور المعشوق الذي قُتل في المعركة نفسها، ثم تسلم الراية عبد الرحمن بن مطرف وأبناؤه من بعده. وإلى هذا اليوم أوكل لبيت آل مطرف حمل الراية، علماً بأن هناك أفراداً وأسراً كثيرة تشرفت بحمل العلم السعودي في معارك وأماكن مختلفة.

خادم الحرمين الشريفين خلال العرضة وإلى يمينه الأمير تركي الفيصل وإلى يساره حامل الراية غالي بن مطرف

حالة خاصة

وحول مقولة اشتهر بها بأن «العلم السعودي حالة خاصة» أجاب الطريّف: «هو حالة خاصة؛ لأنه العلم الوحيد الذي لا يتم تنكيسه أو إنزاله إلى نصف السارية في حالة الحداد أو الكوارث والأحداث الكبيرة، كما أنه لا يستخدم في الرعاية والعلامات التجارية. كذلك تحظر ملامسته للأرض أو الماء، والدخول به لأماكن غير طاهرة، أو الجلوس عليه، كما أنه لا ينحني لكيان الضيوف عند استعراض حرس الشرف وفي حالة الحداد (المادة 16)، وهناك عقوبات حددها النظام لمخالفة نظام العلم».

خياطة العلم بين الداخل والخارج

وعن خياطة العلم السعودي والكتابة عليه، يشير الطريّف إلى أن المؤرخ الراحل عبد الرحمن الرويشد قال في كتابه عن الراية السعودية: «كان يوكل بهما لبعض الأفراد من أسر الرياض المعروفة، ومَن تولاه في العصر الحديث عبد الله بن محمد بن شاهين وسعد بن سعيد»، وكان بن سعيد يوكل عملية تجهيز متطلبات العلم ولم يقوموا بخياطته. وتشير بعض الوثائق إلى أن الملك عبد العزيز، طيب الله ثراه، كان يوكل للشيخ عبد الرحمن الطبيشي شراء وتأمين بعض متطلبات الراية، كما أنه في مرحلة متقدمة في عهد الملك عبد العزيز صُنع العلم في عدد من الدول بطريقة قماش على قماش في أميركا وباكستان وبعض الدول العربية.

الحسني أول مَن خطّ العلم

وعن أول مَن خطّ العلم في عهد الملك عبد العزيز، يقول الطريّف: «من خلال البحث في هذا الموضوع لفترة طويلة امتدت أكثر من 36 عاماً، وقفت على أن من أوائل مَن خطّ العلم السعودي، هو الشيخ عمر عاصم الحسني وهو من الجموم في وادي فاطمة بمكة المكرمة، والذي ارتحل للعمل مع أسرته في الكويت وعمل في المدرسة المباركية ثم مديراً لها، وهو مَن خطّ علم الكويت القديم، الذي كان يحمل كلمة (كويت)، كما خطّ لوحة المدرسة المباركية وكونه خطاطاً طُلب منه أن يخطّ العلم السعودي في عهد الملك عبد العزيز في عام 1911 تقريباً».

وعندما أمر الملك عبد العزيز بافتتاح مصنع الكسوة الخاص بالكعبة المشرفة في عام 1926، كان من أوائل العاملين فيه الخطاط عبد الرحيم أمين عبد الله بخاري، الذي أوكلت له مهمة خط كسوة الكعبة المشرفة، ووضع خطوط بابها، والمدوّن اسمه عليه حتى اليوم. وكان طُلب منه أيضاً خط العلم السعودي في ذلك التاريخ والزخارف الخاصة به، وكان بخط الثلث العربي.

علماً بأن أنواع الخطوط على كثير من الأعلام التي عُرضت في مناسبات شرفها الملك عبد العزيز كانت مختلفة عن خط الثلث الرسمي كونها أُنجزت لدى خطاطين غير عرب، أو لدى مصانع في الخارج.

خطاط كسوة الكعبة المشرفة عبد الرحيم أمين (من أرشيف عدنان الطريف)

100 علم في يد الطريّف

وتحدّث الطريّف عن الرصيد الكبير من الأعلام السعودية القديمة، فقال: «أحمد الله أن من أبرز مقتنياتي هي الأعلام السعودية، فأنا أملك أكثر من مائة علم قديم ونادر بمقاسات وأشكال وخامات مختلفة ولمراحل عمرية مختلفة، من أهمها أعلام الدولة السعودية الأولى والثانية، التي استُخدمت في مراحل نشر الوحدة والأمن لهذه البلاد المباركة». وأضاف: «عملت جاهداً على رصد أكبر عدد من الأعلام النادرة الخاصة بالملك عبد العزيز منذ دخوله مدينة الرياض، التي استخدمت خلال مناسبات أو فعاليات أو استقبالات حضرها جلالة الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، إضافة إلى عدد من الأعلام الخاصة بسيارة جلالته. كما أنني امتلك أعلاماً خاصة استُخدمت في عهد الملك سعود بن عبد العزيز، رحمه الله، وداخل مقره وعلماً خاصاً بسيارته، بالإضافة إلى أعلام استُخدمت في زيارة الملك فيصل لأميركا عام 1945 وأعلام قديمة في عهد الملك خالد والملك فهد في زيارات خارج المملكة».

الملك عبد العزيز خلال حفل أقامته شركة «أرامكو» تكريماً لجلالته وتظهر مجموعة من الأعلام السعودية خلفه في1947

وأكمل: «ومن الأعلام المهمة لدّي العلم الذي كان بين الملك فهد والملك سلمان بن عبد العزيز خلال الحفل الذي أُقيم لجلالة الملك سعود بمناسبة توليه مقاليد الحكم في عام 1953. فقمت برصد الصور الخاصة بهذه الأعلام وقمت بفحص هذه الأعلام لدى أكبر المراكز في العالم لمعرفة صحتها وتاريخها وأصالتها، كما تم توثيقها لدى عدد من المهتمين، وكذلك الذين أوكل لهم حمل العلم (آل مطرف)، إضافة إلى ما يوضع أعلى السارية (الطاسة)، حيث أملك أكثر من 10 قطع من فضة ونحاس ومعدن استُخدمت جميعها في عهد الملك عبد العزيز. ومن أبرز وأهم مقتنياتي المتعلقة بالعلم (الراية) وثيقة نادرة ووحيدة ممهورة بختم الملك عبد العزيز بعد دخوله مدينة الرياض بـ7 سنوات ذات علاقة بتفاصيل كثيرة عن العلم السعودي».

مقتنيات نادرة ومتاحف وإرث

يتحدث الطريّف عن محتويات متحفه النادرة فيقول: «خلال مسيرتي البحثية استطعت، ولله الحمد، أن أكوّن متحفاً خاصاً بالإبل وآخر للخيل، وثالثاً للصقور، وهذه المتاحف تشتمل على قطع نادرة وقديمة أعمار بعضها تتجاوز 300 سنة، إضافة إلى الطوابع المتعلقة بكل فرع من كل دول العالم وكل ما كُتب عنها بالصحف الأجنبية والعربية منذ عام 1850 وجميعها أصول. وكذلك الصور المتعلقة بالإبل والخيل والصقور من مائة سنة وإلى الآن، كما أنني جمعت قطعاً متحفية من الأواني والأطباق والمباخر والدلال والساعات ولوحات السيارات الخاصة بمرحلة الملك عبد العزيز والملك سعود والملك فيصل والملك خالد، واستخدمت من قبلهم، كذلك قمت بجمع أبرز وأهم الهواتف التي استُخدمت في القصور الملكية منذ عهد الملك المؤسس مروراً بملوك المملكة والعدد الكبير من القطع النادرة المتعلقة بتاريخ المملكة العربية السعودية وملوكها».

ولدى الطريّف تفاصيل قصة رفض السعودية تنكيس العلم بعد وفاة ملك العراق فيصل الأول، وهو ما أثار غضب البريطانيين.

مصنع كسوة الكعبة المشرفة بمكة المكرمة

والحال أنه بعد تعيين الشيخ إبراهيم بن معمر وزيراً مفوضاً للمملكة لدى العراق في 1923 بعد فترة وجيزة من افتتاح المفوضية، وكان اصطفاؤه في هذا المنصب الدبلوماسي في واحدة من أهم العواصم العربية المؤثرة في مصالح السعوديين أي بغداد، أظهر ثقة العاهل السعودي بكفاءته. والمعروف أن جاليات سعودية كبيرة كانت تقيم في العراق، وأن قبائل وعشائر عربية كانت تنتشر على المناطق الحدودية بين البلدين، فكان من مهامه الأساسية العناية بالرعايا السعوديين، فضلاً عن إشرافه على تطبيق اتفاقيات الحدود الموقّعة حديثاً بين الدولتين، وتطبيق إجراءات الحج للراغبين فيه.

وأشرف ابن معمر خلال عمله في بغداد على تنظيم الزيارة الأولى التي قام بها ولي العهد الأمير «الملك» سعود عام 1926. وعن ذلك يقول الدكتور عبد الرحمن الشبيلي: «يذكر له ـ في تلك الفترة ـ تفكيره في عدم تنكيس العلم السعودي على هامش الحداد العام على وفاة ملك العراق، فيصل الأول، عام 1923، وهو تقليد تبنته الحكومة السعودية بعد ذلك التاريخ احتراماً للفظ الشهادة التي يحملها العلم». وأدى احتجاج البريطانيين على ترويج ابن معمر لزعامة الملك عبد العزيز في الجزيرة العربية وعلى صلاته القوية مع رؤساء العشائر، إلى نقله من بغداد بعد 5 سنوات من العمل الدبلوماسي.

انتقام من بريطانيا

وخصص إبراهيم الحسون في كتابه «خواطر وذكريات» (3 أجزاء 2003)، حيزاً كبيراً تطرق فيه إلى أسلوب ابن معمر وخصاله، نظراً لكون الحسون عمل سكرتيراً خاصاً له في قائم مقامية جدة، فأورد في هذا الصدد حادثاً يؤكد موقفه الحازم من عدم مخالفة أوامر الدولة من أي كائن حتى لو صدرت من سفراء أو سفارات. فقد أصدر ابن معمر عندما كان يعمل «قائمقام جدة»، أوامره لرئيس بلدية جدة بضرورة قيام أصحاب بعض المنازل في شمال جدة بطلاء واجهاتها بالنورة البيضاء خلال مدة لا تزيد على أسبوعين، وبالفعل شرع أصحاب المنازل في تنفيذ الأمر وأصبح منظرها جميلاً يرتاح إليه النظر إلا منزلاً واحداً ظل على حاله ولم يتغير فيه شيء، وهو المنزل الذي يشغله مقر السفارة البريطانية. هنا استدعى ابن معمر رئيس البلدية علي سلامة مرة أخرى، وسأله عن عدم طلاء البيت الذي تشغله السفارة البريطانية، وهل تم إبلاغهم بذلك، فأجاب بأنه أبلغ مالك المبنى وعندما بدأ في التنفيذ رفض المسؤولون بالسفارة السماح للعمال بالعمل. وعند الاتصال بالمسؤولين في السفارة، أوضحوا أن امتناعهم، هو إنفاذ لأمر السفير البريطاني الذي قال إن المبنى يعدّ أرضاً بريطانية، وإنه لا يسمح بتلقي أي أمر بشأنه ما دامت السفارة تشغله. وعندما سمع ابن معمر هذا الكلام، انتفض صارخاً في وجه رئيس البلدية، طالباً منه أن يذهب في الحال ويبلغ المسؤولين في السفارة بضرورة تنفيذ الأمر؛ لأن الحكومة السعودية دولة مستقلة، ولا تسمح لأي إنسان بأن يخالف أوامرها داخل بلادها، وأنّ على رئيس البلدية إمهالهم 3 أيام لكي ينفذوا الأمر، وإلا فإن القائمقام سيأمر بتنفيذه بالقوة وليفعل السفير ما يشاء. خرج رئيس البلدية من المقابلة ساخطاً، لأنه سمع من ابن معمر ألفاظاً حادة، كلها لوم وتوبيخ. وفي اليوم الثالث لهذا الحدث، نصبت «السقالات» على مبنى السفارة وبدأ العمل بطلائه على الفور.


مقالات ذات صلة

العَلم بيرق الشرعية الدستورية السعودية ورايتها

تحقيقات وقضايا العلم مرفوعاً منذ قيام الدولة الأولى

العَلم بيرق الشرعية الدستورية السعودية ورايتها

تكتسب المناسبات الوطنية السعودية أهمية خاصة، خصوصاً لجهة تفرد العلم السعودي بشكله وتصميمه ودلالاته ومضامينه؛ فهو يعكس عمق الدولة وعراقتها.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض )

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.