العَلم بيرق الشرعية الدستورية السعودية ورايتها

العلم مرفوعاً منذ قيام الدولة الأولى
العلم مرفوعاً منذ قيام الدولة الأولى
TT

العَلم بيرق الشرعية الدستورية السعودية ورايتها

العلم مرفوعاً منذ قيام الدولة الأولى
العلم مرفوعاً منذ قيام الدولة الأولى

تفتح الأيام الوطنية نوافذ للمشتغلين بالتاريخ لإعمال أدواتهم في سبر تلك المناسبات، والتنقيب في أبعادها ورمزيتها، واستنطاق المصادر بحثاً وتدقيقاً لاستكشاف ما قد يكون مغيباً؛ لأن وعي أي أمة بحاضرها وإدراك مكانتها يتطلب معرفة عميقة بماضيها وأسسها وجذورها. وليس التاريخ السعودي هامشياً في الحضارتين العربية والإسلامية، بل هو متن صُلب كوَّنه الامتداد والعمق التاريخي فيها. من هنا تكتسب المناسبات الوطنية السعودية أهمية خاصة، خصوصاً لجهة تفرد العلم السعودي بشكله وتصميمه ودلالاته ومضامينه؛ فهو يعكس عمق الدولة السعودية وعراقتها، ويجسد هويتها، ويمثل القيم والمبادئ التي قامت عليها؛ وإذ ذاك ندرك أهمية صدور أمر الملك سلمان بن عبد العزيز بتخصيص يوم للعلم في الحادي عشر من شهر مارس (آذار)، مشيراً في ديباجته إلى قيمة العلم الوطني عبر تاريخ الدولة السعودية منذ تأسيسها عام 1727.

رسم إيضاحي من موقع دارة الملك عبد العزيز

نتناول هنا الرمزية الدستورية للعلم من ناحية وصله وربطه بين مراحل الدولة السعودية، ودلالته على استمرارية الشرعية السياسة في فترات غياب الدولة أو ضعفها؛ فالعلاقة بين العلم والشرعية السياسية تحظى بأهمية كبيرة، وترتبط بشكل وثيق بالتطور الاجتماعي والسياسي؛ لذا فإن البحث في هذا الارتباط مهم لمعرفة تأثير العلم في الشرعية السياسية والعكس. يدل على ذلك حضور رمزية الدولة «العلم» مع «الحكام الشرعيين» بغض النظر عن مكانهم. ويفيد هنا تكرار ما أشار إليه المؤرخ عبد الرحمن الرويشد «أنه أثناء غياب البيت السعودي المالك فترة من الزمن تشبثوا بحمل تلك الراية حتى وهم غرباء وظاعنون تتقاذفهم الأوطان...». ويضيف: «كان آل سعود في غيبتهم يحملون الراية السعودية، ولا يتخلون عنها»، وأورد قصصاً عدة عن ذلك، منها ما رواه عن القبطان البريطاني آي. آر. بيرس، ووصفه لراية آل سعود قرب الكويت عام 1901: «كانت راية آل سعود خضراء اللون... كتب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله».

وإذا كان مفهوم الشرعية متعدد الأبعاد والعناصر، ويرتكز على مبادئ ومعايير بعينها، فإن القاعدة الأساسية لنظرية العقد الاجتماعي تستند إلى أن «شرعية الدولة تقوم على أساس رضا المحكومين»، يقول عالم الاجتماع ماكس فيبر: «يكون النظام الحاكم شرعياً عند الحد الذي يشعر فيه المواطنون بالرضا عنه»، ويتفق جان جاك روسو وجون لوك وغيرهما من فلاسفة علم الاجتماع على أن «رضا المحكوم بالحاكم هو مصدر شرعية الحكم».

وقد يجادل البعض في أن السيطرة أو بسط سلطة النظام على الإقليم لم تتوافر لآل سعود بوصفهم حكاماً شرعيين في فترات من تاريخ الدولة السعودية الممتدة 3 قرون، وكانت هناك سلطة أمر واقع؛ فهل انتفت الشرعية حينئذ؟ لا أعتقد ذلك؛ لأن «السيطرة» لم تكتمل للقوى التي حاولت بسط نفوذها على الإقليم، ولم تستقر لها الأوضاع، كما كان دور آل سعود حاضراً، وشعبيتهم باقية، ومحاولاتهم لاسترداد الحكم لم تنقطع. ولو تمعَّنَّا في مثالين من عصرنا الحالي حول تطبيقات مفهوم «الشرعية» لأدركنا المقصود، الأول: حالة الكويت أثناء الغزو العراقي، والثاني: الحالة اليمنية المستمرة منذ سنوات.

أما إذا حاولنا تطبيق معيار «الرضا الشعبي» على الحالة السعودية في سنوات ضعف أو غياب الدولة - لا الدول - في مرحلتيها «الأولى أو الثانية»، لوجدنا أن الأسرة الحاكمة، حتى وهي بعيدة، كانت حاضرة في وجدان الناس، وهو ما حدا بكثير من تجار نجد إلى إرسال زكاة أموالهم إلى الإمام عبد الرحمن في الكويت؛ لأنهم يرونه الحاكم الشرعي، فكان هذا الرضا الشعبي أحد أسس استمرار الدولة. ومن هنا، فإن النقطة التي أحاول إثباتها من خلال هذه القراءة تفيد بأن «الشرعية» لم تسقط خلال سنوات غياب آل سعود عن الحكم، ومن ثم فإن الدولة مستمرة، والدليل هو استعادة الحكم أكثر من مرة، واستمرار التفاف المجتمع حولهم، ورضاه بهم. ومن هنا علينا ألا نزن ما درج عليه المؤرخون من تقسيمات للدولة على اعتبار «سقوطها» بميزان أو معيار التاريخ فقط؛ بل لا بد من أخذ موازين السياسة والقانون... وغيرهما في الحسبان. وهنا أتوجه لمراكز التاريخ ودارسيه لإعادة النظر في تقسيم تاريخ الدولة السعودية كأنه تاريخ 3 دول يقوم على معيار «السقوط»، بينما هو في الحقيقة تاريخ دولة ممتدة، وإعادة قراءة هذا الموضوع ودراسته بشكل شمولي لجميع أبعاده وعناصره.

النقطة الأخرى هنا، المتعلقة بالعلم والذي حرص حكام الدولة السعودية طوال تاريخها على أن يبقى خفاقاً عالياً معبراً عن عقيدتهم ومبادئهم ورمزاً لدولتهم وشرعية حكامها الدستورية، أنه استمر - وفقاً للمصادر التاريخية - دون تغيير يذكر لنحو 180 عاماً أو أكثر، فما الذي دعا الملك عبد العزيز لإدخال تعديلات، بدأت بإضافة سيفين متقاطعين أعلى عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله».

تتطلب الإجابة عن هذا السؤال النظر إلى مراحل توحيد البلاد وسياقاتها التاريخية، وهذا يستحق بحثاً مستقلاً، لكن الإجابة المختصرة يمكن أن تدل على رؤية الملك عبد العزيز لبناء الدولة التي كانت تدور في ذهنه أثناء توحيده الأقاليم المختلفة. تلك الرؤية هي التي تفرد بها عمن سبقه من سلف، وهي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم. وكانت تحولات العلم أو الراية السعودية حاضرة مع مختلف مراحل التوحيد وتطورات البناء نظامياً ودستورياً ومؤسساتياً.

يقول الباحث والمؤرخ البريطاني روبرت ليسي: «إن النزعة اليوم هي ضد بناء التاريخ حول الأبطال؛ ولهذا فمن المفترض أن تفسر علوم الإنسان والاجتماع والاقتصاد، من الناحية النظرية، كيف تضافرت مشيخات ومدن وقبائل جزيرة العرب المتفاوتة لتشكل هذه الدولة الشاسعة والفريدة، ولكنها لا تفعل ذلك. إن الجواب المُرضي الوحيد يكمن في مهارات ورؤية الملك عبد العزيز نفسه الفذة. لقد كان مدفوعاً بشرف العائلة، وطموح إعادة بناء الإمبراطورية التي كانت خاضعة لسيطرة أجداده قبل ميلاده بقرن من الزمن. لقد تعلم من الدروس التي لحقت بالعائلة، وأقنعته ذكرى تدمير الدرعية بضرورة تجنب إثارة تدخل أجنبي في الجزيرة مرة ثانية».

كما كتب المؤرخ والصحافي اللبناني عمر أبو النصر في عام 1935 ما يلي: «إن ابن السعود يسعى لتحضير الجزيرة العربية لتكون نواة دولة عربية عظيمة»، وأضاف قائلاً: «إن ابن السعود يسعى اليوم لتوطيد مركزه في الجزيرة العربية، ويعمل لإعادة المجد العربي الغابر، وإن الثورات السياسية والاجتماعية التي يخلقها الأفراد، تحتاج لكي تصبح راسخة في النفوس قوية في القلوب إلى سنوات كثيرة، وإذا كان صاحب الفكرة قد طواه الردى، فيجب لنجاح الفكرة أن يكون بين أنصاره ومن هو مثله قوة وجرأة وذكاءً وإيماناً بالفكرة ليقوم مقام صاحبها».

ويتابع أبو النصر: «ونحن نرجو من الله - سبحانه وتعالى - أن يمد في عمر صاحب الجلالة ليتمكن من تحقيق ما نذره من خدمة العربية وخدمة الإسلام، وأن يرى بنفسه البناء الذي يعمل على إقامته وتوطيده وتثبيته قوياً شديداً عالياً، لا تؤثر فيه الأعاصير ولا تفعل فيه الزوابع». ومن هنا على قارئ التاريخ أن يدرك أن الملك عبد العزيز لم يكتفِ باسترداد مُلك آبائه وأجداده تحت راية التوحيد، وإنما فعل ما هو أعظم وأكثر استدامة، ألا وهو بناء الدولة بعد توحيدها على أسس دستورية، وتطوير مؤسساتها وأنظمتها وهياكلها، بل حتى رمزها حيث شمل التطوير شكل العَلم السعودي، وصدور عدد من الأنظمة المتعلقة به.

وكان تحدي بناء الدولة وإدارتها أحد أكبر التحديات التي واجهت الملك المؤسس، ناهيك عن استمراريتها وتطورها، وضبط أهم عناصر استقرارها ألا وهو نظامها الملكي؛ هذا النظام الفريد الذي وحَّد جزيرة العرب بعد قرون من الشتات، وصمد في وجه كثير من الأطماع والمؤامرات، واستطاع أن يتجاوز كثيراً من الأزمات والتحديات.

ويقول السياسي والحقوقي الدكتور منير العجلاني: «لنذكر أن آل سعود هم الذين أنشأوا الملك، وأنهم كانوا في أول الأمر العمال الذين بنوا البيوت بسواعدهم، وغرسوا الأشجار بأيديهم، والجنود الذين قاتلوا دفاعاً عن حوزتهم بسيوفهم، وبذلوا عرقهم ودمهم في سبيل إنشاء الملك الصغير في الدرعية، ثم وسعوا هذا الملك بجهدهم ودمهم أيضاً، واستعادوه 3 مرات بعد أن تآمر الأجانب عليه، ووطدوا الأمن بعد أن كان يتخطفه قطَّاع الطرق، ونصروا الدين، وأعلوا كلمته، ووحدوا البلاد بعد أن كانت متفرقة، وأعزوها بعد أن كانت ضعيفة».

لقد أعيا ذلك المنجز العظيم للملك عبد العزيز كل محاولات التدوين والتأريخ، فقد أسس عبد العزيز نهجاً دستورياً للمحافظة على النظام الملكي، صانه أبناؤه من بعده، وطوروا آلياته وأدواته، وصنعوا منه نموذجاً فريداً لأنظمة الحكم الملكية، ونسخة معاصرة للتراث السياسي العربي والإسلامي. لقد كانت أدوار أبنائه الملوك من بعده لا تقل أهمية وصعوبة مع الظروف والتطورات المحيطة بكل عهد عن دور عبد العزيز العظيم، وفي هذا يقول المفكر والسياسي السعودي الشيخ عبد العزيز التويجري: «هذا هو الملك عبد العزيز الذي استحق حبنا وعشقنا، ونال إعجاب الأبعدين قبل الأقربين، فلقد ملأ فراغاً واسعاً في شبه الجزيرة العربية، وحقق بذلك لنفسه وشعبه مكاناً في عالم المتغيرات، ولعلي لا أكون مبالغاً إذا قلت إن الأدوار التي تتابعت من بعده لا تقل أهميتها ولا صعوبتها، مع تبدلات العصر وتداخلاته، عن دوره التاريخي»، إلا أنه، في كل هذه العهود ومع كل التحولات والتطورات، بقي العلم السعودي يرفرف بشموخ على المملكة العربية السعودية مهبط الوحي، ومنبع الرسالة، ومهد حضارة العرب، رمزاً للدولة وشرعيتها الدستورية وسلطتها السياسية، حيث يمثل وحدة الأمة، وهوية الوطن، وسيادة الدولة؛ لذا ليس مقبولاً رفع أعلام تنازعه مكانته، ومتى وجدت كانت موجبة للمساءلة ومؤدية للعقوبة، وفقاً لما تنص عليه الأنظمة السعودية.

بقي أن أضيف أن أبناء عبد العزيز أثبتوا على مدى العقود الماضية متانة نظام حكمهم وصلابته في مواجهة الأزمات والتحديات، واليوم يعمل أحفاده للحفاظ على هذا الإرث العظيم، وتعزيزه وترسيخه، تأكيداً لمتانة نظام الحكم السعودي الذي يستمد أحكامه من مبادئ الشريعة الإسلامية، ويقوم على أساس العدل والشورى والمساواة وخدمة الشعب الذي يلتف خلف قيادته، ويقف صفاً واحداً تحت الراية السعودية مردداً:

موطني عشت فخر المسلمين

عاش الملك للعلم والوطن

إنها الخلطة السرية السعودية، وكفى.


مقالات ذات صلة

الراية السعودية رمز الهوية الوطنية الجامعة على مدى قرون

تحقيقات وقضايا راية الدولة السعودية الأولى وهي قطعة أصلية من مجموعة الطريّف (أرشيف عدنان الطريف)

الراية السعودية رمز الهوية الوطنية الجامعة على مدى قرون

يوافق، الاثنين، يوم العَلَم السعودي الذي أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمراً ملكياً باعتماده في 11 مارس 1937، وأقرّ فيه مقاس العلم السعودي وشكله الحالي.

بدر الخريف (الرياض)

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.