العَلم بيرق الشرعية الدستورية السعودية ورايتها

العلم مرفوعاً منذ قيام الدولة الأولى
العلم مرفوعاً منذ قيام الدولة الأولى
TT

العَلم بيرق الشرعية الدستورية السعودية ورايتها

العلم مرفوعاً منذ قيام الدولة الأولى
العلم مرفوعاً منذ قيام الدولة الأولى

تفتح الأيام الوطنية نوافذ للمشتغلين بالتاريخ لإعمال أدواتهم في سبر تلك المناسبات، والتنقيب في أبعادها ورمزيتها، واستنطاق المصادر بحثاً وتدقيقاً لاستكشاف ما قد يكون مغيباً؛ لأن وعي أي أمة بحاضرها وإدراك مكانتها يتطلب معرفة عميقة بماضيها وأسسها وجذورها. وليس التاريخ السعودي هامشياً في الحضارتين العربية والإسلامية، بل هو متن صُلب كوَّنه الامتداد والعمق التاريخي فيها. من هنا تكتسب المناسبات الوطنية السعودية أهمية خاصة، خصوصاً لجهة تفرد العلم السعودي بشكله وتصميمه ودلالاته ومضامينه؛ فهو يعكس عمق الدولة السعودية وعراقتها، ويجسد هويتها، ويمثل القيم والمبادئ التي قامت عليها؛ وإذ ذاك ندرك أهمية صدور أمر الملك سلمان بن عبد العزيز بتخصيص يوم للعلم في الحادي عشر من شهر مارس (آذار)، مشيراً في ديباجته إلى قيمة العلم الوطني عبر تاريخ الدولة السعودية منذ تأسيسها عام 1727.

رسم إيضاحي من موقع دارة الملك عبد العزيز

نتناول هنا الرمزية الدستورية للعلم من ناحية وصله وربطه بين مراحل الدولة السعودية، ودلالته على استمرارية الشرعية السياسة في فترات غياب الدولة أو ضعفها؛ فالعلاقة بين العلم والشرعية السياسية تحظى بأهمية كبيرة، وترتبط بشكل وثيق بالتطور الاجتماعي والسياسي؛ لذا فإن البحث في هذا الارتباط مهم لمعرفة تأثير العلم في الشرعية السياسية والعكس. يدل على ذلك حضور رمزية الدولة «العلم» مع «الحكام الشرعيين» بغض النظر عن مكانهم. ويفيد هنا تكرار ما أشار إليه المؤرخ عبد الرحمن الرويشد «أنه أثناء غياب البيت السعودي المالك فترة من الزمن تشبثوا بحمل تلك الراية حتى وهم غرباء وظاعنون تتقاذفهم الأوطان...». ويضيف: «كان آل سعود في غيبتهم يحملون الراية السعودية، ولا يتخلون عنها»، وأورد قصصاً عدة عن ذلك، منها ما رواه عن القبطان البريطاني آي. آر. بيرس، ووصفه لراية آل سعود قرب الكويت عام 1901: «كانت راية آل سعود خضراء اللون... كتب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله».

وإذا كان مفهوم الشرعية متعدد الأبعاد والعناصر، ويرتكز على مبادئ ومعايير بعينها، فإن القاعدة الأساسية لنظرية العقد الاجتماعي تستند إلى أن «شرعية الدولة تقوم على أساس رضا المحكومين»، يقول عالم الاجتماع ماكس فيبر: «يكون النظام الحاكم شرعياً عند الحد الذي يشعر فيه المواطنون بالرضا عنه»، ويتفق جان جاك روسو وجون لوك وغيرهما من فلاسفة علم الاجتماع على أن «رضا المحكوم بالحاكم هو مصدر شرعية الحكم».

وقد يجادل البعض في أن السيطرة أو بسط سلطة النظام على الإقليم لم تتوافر لآل سعود بوصفهم حكاماً شرعيين في فترات من تاريخ الدولة السعودية الممتدة 3 قرون، وكانت هناك سلطة أمر واقع؛ فهل انتفت الشرعية حينئذ؟ لا أعتقد ذلك؛ لأن «السيطرة» لم تكتمل للقوى التي حاولت بسط نفوذها على الإقليم، ولم تستقر لها الأوضاع، كما كان دور آل سعود حاضراً، وشعبيتهم باقية، ومحاولاتهم لاسترداد الحكم لم تنقطع. ولو تمعَّنَّا في مثالين من عصرنا الحالي حول تطبيقات مفهوم «الشرعية» لأدركنا المقصود، الأول: حالة الكويت أثناء الغزو العراقي، والثاني: الحالة اليمنية المستمرة منذ سنوات.

أما إذا حاولنا تطبيق معيار «الرضا الشعبي» على الحالة السعودية في سنوات ضعف أو غياب الدولة - لا الدول - في مرحلتيها «الأولى أو الثانية»، لوجدنا أن الأسرة الحاكمة، حتى وهي بعيدة، كانت حاضرة في وجدان الناس، وهو ما حدا بكثير من تجار نجد إلى إرسال زكاة أموالهم إلى الإمام عبد الرحمن في الكويت؛ لأنهم يرونه الحاكم الشرعي، فكان هذا الرضا الشعبي أحد أسس استمرار الدولة. ومن هنا، فإن النقطة التي أحاول إثباتها من خلال هذه القراءة تفيد بأن «الشرعية» لم تسقط خلال سنوات غياب آل سعود عن الحكم، ومن ثم فإن الدولة مستمرة، والدليل هو استعادة الحكم أكثر من مرة، واستمرار التفاف المجتمع حولهم، ورضاه بهم. ومن هنا علينا ألا نزن ما درج عليه المؤرخون من تقسيمات للدولة على اعتبار «سقوطها» بميزان أو معيار التاريخ فقط؛ بل لا بد من أخذ موازين السياسة والقانون... وغيرهما في الحسبان. وهنا أتوجه لمراكز التاريخ ودارسيه لإعادة النظر في تقسيم تاريخ الدولة السعودية كأنه تاريخ 3 دول يقوم على معيار «السقوط»، بينما هو في الحقيقة تاريخ دولة ممتدة، وإعادة قراءة هذا الموضوع ودراسته بشكل شمولي لجميع أبعاده وعناصره.

النقطة الأخرى هنا، المتعلقة بالعلم والذي حرص حكام الدولة السعودية طوال تاريخها على أن يبقى خفاقاً عالياً معبراً عن عقيدتهم ومبادئهم ورمزاً لدولتهم وشرعية حكامها الدستورية، أنه استمر - وفقاً للمصادر التاريخية - دون تغيير يذكر لنحو 180 عاماً أو أكثر، فما الذي دعا الملك عبد العزيز لإدخال تعديلات، بدأت بإضافة سيفين متقاطعين أعلى عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله».

تتطلب الإجابة عن هذا السؤال النظر إلى مراحل توحيد البلاد وسياقاتها التاريخية، وهذا يستحق بحثاً مستقلاً، لكن الإجابة المختصرة يمكن أن تدل على رؤية الملك عبد العزيز لبناء الدولة التي كانت تدور في ذهنه أثناء توحيده الأقاليم المختلفة. تلك الرؤية هي التي تفرد بها عمن سبقه من سلف، وهي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم. وكانت تحولات العلم أو الراية السعودية حاضرة مع مختلف مراحل التوحيد وتطورات البناء نظامياً ودستورياً ومؤسساتياً.

يقول الباحث والمؤرخ البريطاني روبرت ليسي: «إن النزعة اليوم هي ضد بناء التاريخ حول الأبطال؛ ولهذا فمن المفترض أن تفسر علوم الإنسان والاجتماع والاقتصاد، من الناحية النظرية، كيف تضافرت مشيخات ومدن وقبائل جزيرة العرب المتفاوتة لتشكل هذه الدولة الشاسعة والفريدة، ولكنها لا تفعل ذلك. إن الجواب المُرضي الوحيد يكمن في مهارات ورؤية الملك عبد العزيز نفسه الفذة. لقد كان مدفوعاً بشرف العائلة، وطموح إعادة بناء الإمبراطورية التي كانت خاضعة لسيطرة أجداده قبل ميلاده بقرن من الزمن. لقد تعلم من الدروس التي لحقت بالعائلة، وأقنعته ذكرى تدمير الدرعية بضرورة تجنب إثارة تدخل أجنبي في الجزيرة مرة ثانية».

كما كتب المؤرخ والصحافي اللبناني عمر أبو النصر في عام 1935 ما يلي: «إن ابن السعود يسعى لتحضير الجزيرة العربية لتكون نواة دولة عربية عظيمة»، وأضاف قائلاً: «إن ابن السعود يسعى اليوم لتوطيد مركزه في الجزيرة العربية، ويعمل لإعادة المجد العربي الغابر، وإن الثورات السياسية والاجتماعية التي يخلقها الأفراد، تحتاج لكي تصبح راسخة في النفوس قوية في القلوب إلى سنوات كثيرة، وإذا كان صاحب الفكرة قد طواه الردى، فيجب لنجاح الفكرة أن يكون بين أنصاره ومن هو مثله قوة وجرأة وذكاءً وإيماناً بالفكرة ليقوم مقام صاحبها».

ويتابع أبو النصر: «ونحن نرجو من الله - سبحانه وتعالى - أن يمد في عمر صاحب الجلالة ليتمكن من تحقيق ما نذره من خدمة العربية وخدمة الإسلام، وأن يرى بنفسه البناء الذي يعمل على إقامته وتوطيده وتثبيته قوياً شديداً عالياً، لا تؤثر فيه الأعاصير ولا تفعل فيه الزوابع». ومن هنا على قارئ التاريخ أن يدرك أن الملك عبد العزيز لم يكتفِ باسترداد مُلك آبائه وأجداده تحت راية التوحيد، وإنما فعل ما هو أعظم وأكثر استدامة، ألا وهو بناء الدولة بعد توحيدها على أسس دستورية، وتطوير مؤسساتها وأنظمتها وهياكلها، بل حتى رمزها حيث شمل التطوير شكل العَلم السعودي، وصدور عدد من الأنظمة المتعلقة به.

وكان تحدي بناء الدولة وإدارتها أحد أكبر التحديات التي واجهت الملك المؤسس، ناهيك عن استمراريتها وتطورها، وضبط أهم عناصر استقرارها ألا وهو نظامها الملكي؛ هذا النظام الفريد الذي وحَّد جزيرة العرب بعد قرون من الشتات، وصمد في وجه كثير من الأطماع والمؤامرات، واستطاع أن يتجاوز كثيراً من الأزمات والتحديات.

ويقول السياسي والحقوقي الدكتور منير العجلاني: «لنذكر أن آل سعود هم الذين أنشأوا الملك، وأنهم كانوا في أول الأمر العمال الذين بنوا البيوت بسواعدهم، وغرسوا الأشجار بأيديهم، والجنود الذين قاتلوا دفاعاً عن حوزتهم بسيوفهم، وبذلوا عرقهم ودمهم في سبيل إنشاء الملك الصغير في الدرعية، ثم وسعوا هذا الملك بجهدهم ودمهم أيضاً، واستعادوه 3 مرات بعد أن تآمر الأجانب عليه، ووطدوا الأمن بعد أن كان يتخطفه قطَّاع الطرق، ونصروا الدين، وأعلوا كلمته، ووحدوا البلاد بعد أن كانت متفرقة، وأعزوها بعد أن كانت ضعيفة».

لقد أعيا ذلك المنجز العظيم للملك عبد العزيز كل محاولات التدوين والتأريخ، فقد أسس عبد العزيز نهجاً دستورياً للمحافظة على النظام الملكي، صانه أبناؤه من بعده، وطوروا آلياته وأدواته، وصنعوا منه نموذجاً فريداً لأنظمة الحكم الملكية، ونسخة معاصرة للتراث السياسي العربي والإسلامي. لقد كانت أدوار أبنائه الملوك من بعده لا تقل أهمية وصعوبة مع الظروف والتطورات المحيطة بكل عهد عن دور عبد العزيز العظيم، وفي هذا يقول المفكر والسياسي السعودي الشيخ عبد العزيز التويجري: «هذا هو الملك عبد العزيز الذي استحق حبنا وعشقنا، ونال إعجاب الأبعدين قبل الأقربين، فلقد ملأ فراغاً واسعاً في شبه الجزيرة العربية، وحقق بذلك لنفسه وشعبه مكاناً في عالم المتغيرات، ولعلي لا أكون مبالغاً إذا قلت إن الأدوار التي تتابعت من بعده لا تقل أهميتها ولا صعوبتها، مع تبدلات العصر وتداخلاته، عن دوره التاريخي»، إلا أنه، في كل هذه العهود ومع كل التحولات والتطورات، بقي العلم السعودي يرفرف بشموخ على المملكة العربية السعودية مهبط الوحي، ومنبع الرسالة، ومهد حضارة العرب، رمزاً للدولة وشرعيتها الدستورية وسلطتها السياسية، حيث يمثل وحدة الأمة، وهوية الوطن، وسيادة الدولة؛ لذا ليس مقبولاً رفع أعلام تنازعه مكانته، ومتى وجدت كانت موجبة للمساءلة ومؤدية للعقوبة، وفقاً لما تنص عليه الأنظمة السعودية.

بقي أن أضيف أن أبناء عبد العزيز أثبتوا على مدى العقود الماضية متانة نظام حكمهم وصلابته في مواجهة الأزمات والتحديات، واليوم يعمل أحفاده للحفاظ على هذا الإرث العظيم، وتعزيزه وترسيخه، تأكيداً لمتانة نظام الحكم السعودي الذي يستمد أحكامه من مبادئ الشريعة الإسلامية، ويقوم على أساس العدل والشورى والمساواة وخدمة الشعب الذي يلتف خلف قيادته، ويقف صفاً واحداً تحت الراية السعودية مردداً:

موطني عشت فخر المسلمين

عاش الملك للعلم والوطن

إنها الخلطة السرية السعودية، وكفى.


مقالات ذات صلة

الراية السعودية رمز الهوية الوطنية الجامعة على مدى قرون

تحقيقات وقضايا راية الدولة السعودية الأولى وهي قطعة أصلية من مجموعة الطريّف (أرشيف عدنان الطريف)

الراية السعودية رمز الهوية الوطنية الجامعة على مدى قرون

يوافق، الاثنين، يوم العَلَم السعودي الذي أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمراً ملكياً باعتماده في 11 مارس 1937، وأقرّ فيه مقاس العلم السعودي وشكله الحالي.

بدر الخريف (الرياض)

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!