«فاتت يا ونيان»... قصة هروب لم يتم ودفاع عن الدرعية حتى الرمق الأخير

عن أسر الإمام عبد الله بن سعود والغزال الجريح في «أبان»

حصن من حصون الدرعية (الشرق الأوسط)
حصن من حصون الدرعية (الشرق الأوسط)
TT

«فاتت يا ونيان»... قصة هروب لم يتم ودفاع عن الدرعية حتى الرمق الأخير

حصن من حصون الدرعية (الشرق الأوسط)
حصن من حصون الدرعية (الشرق الأوسط)

«فاتت يا ونيان» عبارة أطلقها الإمام عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، الإمام الرابع للدولة السعودية الأولى، وأصبحت مقولة سائدة في الجزيرة العربية منذ إطلاقها قبل عشرات العقود، وتستخدم للدلالة على ما لا يمكن تداركه أو تنفيذه في حينه، ولم يُنتبه إليه إلا وقد فات الأوان.

هذا المثل له قصة بل قصص أقرب إلى الخيال منها للواقع، ولكنها بسيناريو وشخصيات حقيقية وأحداث واقعية وإمام أشغل الأعداء، ومستشار مخلص وجيش عرمرم من القتلة والمجرمين يطوقون الأسرى فلا يمكنهم التنفس أو الهروب. إمام وحاكم دولة كبرى، وفارس ووزير وكاتم أسرار هذا الحاكم كانوا ضمن الأسرى. وترتب على عدم الأخذ بهذا المثل مقتل الحاكم بعد أسره، وتضعضع دولته على أثر معارك طاحنة مع الغازي، وتدمير عاصمة الدولة القوية لإخفائها من الخريطة بعدما سيطرت الدولة السعودية الأولى على معظم مناطق الجزيرة العربية.

مسافرون في الصحراء (الشرق الأوسط)

قصة المثل

عادت الدولة ونهضت للمرة الثالثة وأصبحت لاعباً مؤثراً في المشهد العالمي وقبلة سياسية، عندما أعاد الملك عبد العزيز سفينة دولته لشاطئ الأمان، وأسّس دولته الثالثة. وخلال عقود بقيت تتطور حتى بلغت اليوم مرحلة من التكامل يمكن أن يطلق عليها دولة المستقبل، وذلك على يد سابع ملوك الدولة الثالثة الملك سلمان بن عبد العزيز، وبمعاونة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.

وبالعودة إلى المثل القائل «فاتت يا ونيان»، التقت «الشرق الأوسط»، بمحمد بن راشد أبو نيان، أحد أحفاد ونيان بن نصر الحربي الذي رد عليه الإمام عبد الله بن سعود عندما وصل إلى أحد الجبال المنيعة، وذكر قصة الغزال التي تعد الأوثق. وعن ذلك يقول أبو نيان: ارتبطت قصة هذا المثل المتداول في الجزيرة العربية بالإمام عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود الإمام الرابع للدولة السعودية الأولى، ووزيره وكاتم أسراره، وأحد فرسان جيش الدولة السعودية الأولى والثانية ونيان بن نصر العلوي الحربي.

وقصة المثل مشهورة ومتداولة حتى وقتنا الحالي، ومفادها أنه خلال فترة حكم الإمام عبد الله بن سعود كان هناك مد عسكري عثماني بقيادة إبراهيم باشا عام 1231هـ. واتجه إلى المدينة المنورة حيث تتمركز قوات الدولة. وسار بهذه القوات قاصداً مقر الدولة السعودية الأولى في الدرعية.

وفي الثالث من جمادى الأولى 1233 كان إبراهيم باشا على مشارف الدرعية وبدأ في حصارها. وأطلقت نيران المدافع بكثافة باتجاه مزارع الدرعية وأسوارها، واستبسل الإمام عبد الله بن سعود ورجاله في مواجهة هذه القوات التركية والدفاع عن الدرعية وأهلها.

حصار حتى نفاذ المؤن

وقامت عدة مواجهات بين الجيشين، وبقي الوضع على ما هو عليه لوقت غير وجيز، حيث لم يستطع إبراهيم باشا التقدم باتجاه الدرعية، حتى وصله الدعم بالمعدات والأسلحة الثقيلة، فانعكس الأمر ورجحت كفة القوات التركية.

مع ذلك صعب عليهم اقتحام أسوار الدرعية وطالت محاصرتها، وتمركز الإمام عبد الله بن سعود ورجاله مقاومين الحصار وسط الدرعية حتى نفدت المؤن والذخائر، وبات الخطر يهدد المدينة وأهلها، فقرر الإمام عبد الله بن سعود أن يخرج ويسلم نفسه شرط ألا يمس أحد من أهالي الدرعية بمكروه. وبالفعل سلّم الإمام نفسه لإبراهيم باشا وقواته، وكان معه في الأسر رفيقه ووزيره وكاتم أسراره ونيان بن نصر الحربي.

استراحة في بطن الوادي

وفي طريق نقلهم من نجد إلى الحجاز تمهيداً لترحيلهم إلى مصر مرّت قافلة الجيش التركي بمنطقة المطلاع، غرب منطقة القصيم بين جبال مشهورة أبان الأحمر وأبان الأسمر، فتوقفت قافلة الجيش للاستراحة في بطن الوادي، فألمح ونيان للإمام عبد الله بن سعود بالهروب من الأسر. وقال وكأنه يحدث الإمام عبد الله ورفقته أحاديث السفر المعتادة:

«يا إخواني، قبل سنوات كنت ماراً بأبان الأحمر، هذا الذي عن يسارنا فرأيت قطيعاً من الوعول، فأطلقت نار بندقيتي على أحدها فجرحته جرحاً بليغاً بدليل أثر الدماء التي رأيتها على الأرض فتبعته، ولكنه لجأ إلى أبان الأحمر. دخلت الجبل خلفه، فدهشت لسعته، وصعوبة مداخله، ومنعة من يلتجئ إليه، ولم أستطع الاهتداء إلى الوعل الجريح بعدما دخل في شعاب أبان». وكان بذلك يوحي بفكرة الالتجاء إلى جبل أبان الأحمر والإمام لم ينتبه لذلك، فيما ونيان لا يستطيع أن يفصح عن قصده؛ خوفاً من الحراس والجنود المرافقين.

ولما ابتعد الموكب عن الجبل بحيث لم يعد ممكناً للإمام عبد الله بن سعود اللجوء إليه، ذكر ونيان ما كان يرمي إليه من قصة الوعل الجريح، وقال الإمام مخاطباً حاشيته: «فاتت يا ونيان!»، فأصبح ذلك قولاً مأثوراً لدى أهل نجد.

واستكمالاً لسيرة ونيان، فقد عاد وانضم تحت لواء الإمام تركي بن عبد الله ومن بعده الإمام فيصل بن تركي طيلة قيام الدولة السعودية الثانية. واستقرت أسرة آل ونيان من أحفاد ونيان بن نصر الحربي في بلدة العويند التي منحت لجدهم ونيان من الإمام فيصل بن تركي، وأيد ذلك جلالة الملك عبد العزيز بوثيقة أكد فيها ما أمضاه ومنحه الإمام فيصل بن تركي، وحدّد حدود المنح، وذلك في شهر رجب عام 1363ه.

يُشار إلى أن جبل «أبان» بشقيه الأحمر والأسمر الذي شهد قصة المثل ذكره الشعراء الأقدمون، ومنهم امرؤ القيس، فكان أول من قال الشعر عن العرب:

كَأَنَّ أَبَانًا فِي أَفَانِينِ وَدْقِهِ

كَبِيْـرُ أُنَاسٍ فِي بِجَـادٍ مُزَمَّـلِ

كما ذكره الشاعر لبيد بن ربيعة في قوله:

دَرَسَ المَنا بِمُتالِعٍ فَأَبانِ

وَتَقادَمَت بِالحُبسِ فَالسوبانِ

ولم يكن رأس الإمام الرابع للدولة السعودية الأولى عبد الله بن سعود مطلوباً في حصار الدرعية فحسب، بل في كل معركة من المعارك الكثيرة التي واقعهم فيها بمناطق مختلفة من الجزيرة العربية، وفي ظروف بيئية واقتصادية بالغة الصعوبة. وعلى تباعد مناطق الصراع وتعددها، أظهر السعوديون قوة وبسالة في الدفاع عن الأرض، وطرد الغازي شر طردة.

أحد أعيان الجزيرة في الدولة السعودية الأولى (الشرق الأوسط)

وقائع حرب وصلح وخيانات

وفي تاريخه الحولي «تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد» لمؤلفه إبراهيم بن صالح بن عيسى، ذكر في إشارات متناثرة في كتابه عن وقائع بين الجيش السعودي في عهد الإمام عبد الله بن سعود، الذي نحن في صدد الحديث عنه وبين عساكر الأتراك ومن ولاهم، يقول ابن عيسى: «وفي سنة 1230هـ، أي بعد عام - من تولي عبد الله بن سعود مقاليد الحكم بوصفه الإمام الرابع للدولة السعودية الأولى بعد وفاة والده الإمام الثالث سعود بن عبد العزيز بن محمد - قدم أحمد طوسون بن محمد علي بالعساكر العظيمة ونزل الرس والخبرا، وكان عبد الله بن سعود إذ ذاك في المذنب، فلما علم بذلك رحل من المذنب ونزل بلد عنيزة، وأميرها إذ ذاك من جهة عبد الله بن سعود نزل الحجناوي، وهي مزارع لأهل بلدة الرس تقع شرقها، وأقام عليها نحو عشرين يوماً يصابر عساكر الترك، ويقع بينهم مقاتلات ومجاولات من بعيد، ثم إن الصلح وقع بين أحمد طوسون وأحمد بن نابرت وبين عبد الله بن سعود على وضع الحرب، وأن عساكر الترك يرفعون أيديهم عن نجد، ويرفع عبد الله بن سعود يده عن الحرمين ولك منه يحج آمناً، وكتبوا بذلك سجلات فرحل أحمد طوسون ومن معه من العساكر غرة شعبان من هذه السنة (1230هـ)، وتوجهوا إلى المدينة المنورة».

كما أشار ابن عيسى إلى وقائع عام 1231هـ التي تمت بين الطرفين، وتم فيها الصلح، وانتقض بينهما لوجود خيانات وعدم امتثال الأتراك للصلح، مضيفاً في سياق آخر أن إبراهيم باشا نزل ببعض المدن في نجد ليصل ضرما، فحاربه أهلها فأخذها عنوة، وقتل من أهلها نحو 1300 رجل ونهب البلاد وأخلاها من أهلها، ثم ارتحل منها إلى الدرعية ونزلها في الثالث من جمادى الأولى من السنة المذكورة (1231هـ)، وجرى بينه وبين أهلها عدة وقعات.

وحاصل الأمر - والكلام لإبراهيم بن عيسى - أنه وقع الصلح بينه وبين أهل الدرعية على أن عبد الله بن سعود يخرج إليه ويرسله إلى السلطان، فيحسن إليه أو يسيء، فخرج عليه عبد الله بن سعود على ذلك. وذلك في تاسع ذي القعدة من السنة المذكورة، ولما كان بعد المصالحة بيومين، أمر الباشا عبد الله بالتجهز بالمسير إلى السلطان، فتجهز ثم أرسله مع رشوان أغا والدويدار، ومعهم عدد كثير من العسكر، فساروا به إلى مصر ثم إلى اصطنبول (كتبت هكذا)، وقتل هناك رحمه الله تعالى. وكانت هذه السنة كثيرة الاضطراب من نهب الأموال وسفك الدماء، وقد أرّخها محمد بن علي الفاخري المتوفى عام 1277هـ، وله رسالة دوّن فيها بعض حوادث نجد، نقل ابن عيسى أغلب ما فيها إن لم يكن كلها.

ويضيف ابن عيسى «ثم دخلت سنة 1234هـ، وإبراهيم باشا في الدرعية، ثم أمر أهلها أن يرتحلوا منها فرتحلوا منها، فأمر بهدمها وقطع أشجارها فهدموها وأشعلوا فيها النيران وتركوها خاوية، وتفرّق أهلها في البلدان، فلما فرغ إبراهيم باشا من هدم الدرعية رحل عنها، وترك في ثرمدا خليل أغا ومعه الكثير من العسكر وقصد المدينة المنورة. وأمر بنقل آل سعود وآل الشيخ بأولادهم ونسائهم إلى مصر، فنقلوا إليها. فلما وصل إلى القصيم أخذ معه حجيلان بن حمد، رئيس بلد بريدة، وسار به إلى المدينة المنورة».

معابر «حافة العالم»

وتقع بلدة العويند في أحضان سفح جبل طويق من الناحية الغربية، وكانت في الماضي قبل فتح الطرق المعبدة همزة الوصل بين اليمامة والبطين عبر طريق الحيسية المسماة سبع الملاف، التي يعبرها المسافرون بين الرياض والحجاز، وكان المغفور له جلالة الملك عبد العزيز يسلك هذه الطريق في رحلاته بين الرياض والحجاز، ويمكث في العويند للراحة، وأحياناً يقيم في العويند لعدة أيام في الرحلات الماطرة.

«وتُمثل بلدة العويند مكانة مهمة لاحتوائها على بعض المواقع الأثرية، منها الموقع المسمى حجيلا، الذي يعود إلى يحيى بن أبي طالب، والذي ذكره في قصيدته قبل وفاته في العراق في العصر العباسي، بالإضافة إلى المعابر الجبلية مثل معبر فهرين المسمى حالياً حافة العالم، ومعبر حجهور، ومعبر أبا الغبطان، التي يُذكر أن خالد بن الوليد قد سلكها أثناء حروب الردة».


مقالات ذات صلة

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

يوميات الشرق «راعي الأجرب» فيلم قصير عن إمام سطّر قصة النور في الليالي المظلمة بشجاعة (وزارة الإعلام)

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

«وأنا والله تركي... ردّاد أرضي»... يستعرض الفيلم التاريخي القصير «راعي الأجرب»، قصة الإمام تركي بن عبد الله مؤسس الدولة السعودية الثانية قبل أكثر من 200 عام.

جبير الأنصاري (الرياض)
رياضة سعودية صورة معبرة بثها نادي الهلال من أرضية ملعب المملكة أرينا (نادي الهلال)

«الرياضة السعودية» تحكي للعالم قصة 3 قرون من التاريخ المجيد

ارتدت الأندية والملاعب السعودية، أمس، حلة الفرح والاحتفال بذكرى تأسيس المملكة، لتكمل مظاهر البهجة والافتخار بهذا اليوم التاريخي، الذي يوافق الـ22 من فبراير.

فهد العيسى (الرياض)
الخليج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)

الملك سلمان: «يوم التأسيس» احتفاء بمسيرة الاستقرار والتلاحم

قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الخميس، إن بلاده تحتفي في «يوم التأسيس» بمسيرة استقرار الدولة، وتلاحم القيادة مع الشعب.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد ميناء العقير التاريخي في الأحساء (شرق السعودية) الذي شهد انطلاقة تأسيس الحركة التجارية في البلاد (واس)

شرق السعودية... بداية تأسيس حركة التجارة مع العالم

انطلقت التجارة السعودية منذ بداية تأسيس الدولة عام 1727م، من شرق البلاد، وتحديداً مركز التجارة في الهفوف.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
رياضة سعودية الكرواتي بيليتيتش في لقطة مع جمل من قلب ملعب الفتح (نادي الفتح)

الرياضة السعودية تواكب احتفالات «التأسيس» بالعرضة والأزياء التراثية

احتفت الأندية السعودية، أمس الأربعاء، بذكرى يوم التأسيس للدولة السعودية، وأقامت احتفالات متنوعة بهذه المناسبة التي تصادف الـ22 من فبراير (شباط) كل عام.

فهد العيسى (الرياض) علي القطان (الدمام) علي العمري (جدة)

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.