أكد باحث سعودي في التاريخ وتحديداً تاريخ الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى التي انطلقت منها أكبر دولة مركزية في الجزيرة العربية أن أحد عوامل صناعة القادة الأبطال بعد نظرية «السمات الشخصية ونداء الزمان»، هو «ظرف المكان»، وما حدث فيه من تحولات جيوسياسية وأنثروبولوجية تستدعي ولادة دولة مركزية. فقد سئم الناس من غياب سلطة القانون والتناحر المحلي وفقدان الأمن والاقتصاد ناهيك عن التغير السوسيولوجي الكبير تدريجياً حتى قيام دولة.
وأوضح الدكتور يوسف بن عثمان بن حزيم في حوار مع «الشرق الأوسط»، بمناسبة يوم التأسيس، أن عهد الإمام محمد بن سعود لم يكن عهداً سياسياً ودينياً فحسب وإنما هو ميلاد أمة على يد آباء مؤسسين سيدوم عقدهم الاجتماعي ثلاثمائة عام ولا يزال. وهذا ما يسمى بالتحولات الكبرى في التاريخ بعدما أثّر هذا الانقلاب في الاجتماع السياسي على مجمل العالم الإسلامي وبلغ ذروته في دوره الثالث مع الملك عبد العزيز وأبنائه الملوك من بعده سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله، ثم عهد الملك سلمان بن عبد العزيز وعنوانه الكبير: التجديد وإعادة البناء.
جدير بالذكر أن الباحث الدكتور يوسف بن حزيم هو الحفيد السابع لكبير بنائي قصور الطريف محمد الحزيمي الذي كان أحد وجهاء الدرعية ثم أخرجوا منها إلى منفوحة بعد جسارتهم وبلائهم في الدفاع عنها عام 1234هـ بعد الغزو البربري التركي.
ولدى سؤاله عن كيفية تمكن الإمام محمد بن سعود من تأسيس هذا الكيان الكبير الذي أصبح اليوم لاعباً مؤثراً في العالم، قال الدكتور بن حزيم «إن الإمام محمد بن سعود وعشيرة آل سعود هم نتاج روح الجماعة التي سكنت وادي حنيفة منذ عام 850هـ/1446م مع عودة الجد مانع، ومن تلك الروح القيادة والتأثير والجسارة والحكم خلال 600 عام». وأضاف «بل تجد أن فرعاً منهم، آل وطبان، خرجوا منفيين بعد تولي الأمير محمد بن سعود الإمارة عام 1139هـ إلى بلد الزبير بالعراق. ثم نجدهم يحكمون ناهيك عن تمددهم الدائم في جزيرة العرب حتى أصبحوا حجر أساس فيها».
وبحسب جوستاف لوبون فإن الجماعات بالمعنى المتعارف عليه هي لفيف من القوم مطلقاً وإن اختلفوا جنساً وحرفة ذكوراً كانوا أو إناثاً وعلى أي نحو اجتمعوا. أما في علم النفس، فلها معنى آخر، ففي بعض الظروف يتولد في جمع من الناس صفات تخالف كثيراً صفة الأفراد، حيث تختفي الذات الشاعرة وتتوجه مشاعر الأفراد نحو صوب واحد؛ فتتولد من ذلك روح عامة.
وبحسب بن حزيم، فإن حركاتنا المقصودة لنا أو الشعورية هي مجموع أسباب لا شعورية متولدة على الأخص من تأثير الوراثة فينا، وهذا المجموع يشتمل على بقايا الآباء والأجداد التي لا يحصيها العد، ومنها تتألف روح الشعب أو الأمة التي نحن منها.
القائد يصنع ظرفه
وحول ما إذا كان الزمان والجغرافيا هما ما يستدعيان القائد، أم أن ثمة عوامل محددة صنعت البطل الإمام المؤسس محمد بن سعود قال بن حزيم «في دراسات علم الإدارة والقيادة يُطرح سؤال حول المتسبب في ظهور البطل القائد. هل هي سماته الشخصية؟ أم غير ذلك؟ لو أن الأمر كذلك، لما حُرمت شخصيات قيادية مرت علينا من تسلم القيادة والمناصب والتأثير. إنما لم تكن ساعتهم أو قل، زمنهم».
وبحسب بن حزيم يذهب آخرون إلى القول بأن القائد يصنع ظرفه بغضِّ النظر عن زمنه أو أن ظرف الزمان تأثيره محدود، وما نحن بصدده في هذا البحث: هل ظهور وبروز الإمام محمد بن سعود كان سببه سماته الشخصية أم زمنه الذي استدعاه.
يقول المفكر السعودي تركي الحمد «مفكرون مثل توماس كارليل - ولعل عباس محمود العقاد من أبرز أتباع مدرسته في عالمنا العربي - يرون أن التاريخ لا يمكن أن يكون ما كان لولا العظماء من الأفراد. فالبطل، أو الفرد الفذ، عند كارليل، هو المسيّر الأوصى للتاريخ وما كان للإنسان أن ينجز ما أنجزه في التاريخ لولا هؤلاء الأفذاذ الأبطال».
ثم يقول «عند مفكرين آخرين، مثل كارل ماركس - ولعل حسين مروة والطيب تيزيني من أبرز ممثلي تياره في عالمنا العربي - نجد توجهاً مختلفاً تماماً، فالفرد هنا لا قيمة له في التاريخ. فالقوى التي تُسيّر التاريخ ليست الفرد والأبطال، بقدر ما هي قوانين وآليات تاريخية موضوعية وإن كانت مادية الجوهر تسيّر الأفراد والمجتمعات ولا تتأثر في النهاية بحياة الأفراد أو بوجود هذا البطل من عدمه».
ويرى بن حزيم أنه بين هذين التيارين المبجل للفرد من ناحية والمُهمّش له من ناحية أخرى نجد تياراً يمكن القول إنه يمثّل الوسط والوسطية في هذا المجال كمثل جورج فيلهلم هيفل - ولعل الدكتور إمام عبد الفتاح إمام من أبرز ممثلي فلسفته في العالم العربي - . فالفرد هنا فاعل في التاريخ وغير فاعل في الوقت ذاته ولا تناقض بين القولين والظروف هي التي تصنع البطل ولكنه أيضاً يصنع الظروف.
ظرف المكان وصناعة القائد
العامل الثالث من عوامل صناعة القادة الأبطال بعد نظرية السمات الشخصية ونداء الزمان، بحسب بن حزيم، هو ظرف المكان وما حدث فيه من تحولات جيوسياسية وأنثروبولوجية ثقافية تستدعي ولادة دولة مركزية بعدما سئم الناس من غياب سلطة القانون والتناحر المحلي وضياع وفقدان الأمن والاقتصاد ناهيك عن التغير السوسيولوجي والتحول الكبير نحو قيام الدولة.
ويقول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز: «بعد ظهور الدولة الأموية وانتقال العاصمة من المدينة إلى دمشق ثم بغداد في عهد الدولة العباسية، دخلت الجزيرة العربية عصراً مختلفاً عن عصرها الزاهي الأول؛ حيث انتشرت فيها الفوضى، وغابت الدولة، وظهرت إمارات متعددة اشتغلت بقتال بعضها بعضاً، وأصبح الحاج لا يأمن على نفسه في طريقه لأداء ركن مهم من أركان الإسلام. وعاشت الجزيرة العربية قروناً من قرون الظلام أصبحت بعيدة عن الأحداث التاريخية في عصرها الحديث، ولم تعد مركزاً للاهتمام والعناية، سوى القدوم إليها للحج أو زيارة الأماكن المقدسة مع المخاطر الشديدة. وأصبح قلب الجزيرة العربية منعزلاً عن العالم من حوله، منقسماً إلى إمارات متناحرة يعيش في غالبه حياةً ملأى بالخرافة وانعدام الوحدة التي عاشتها الجزيرة العربية في أيام الدولة الإسلامية الأولى، وأصبحت كل بلدة يحكمها فرد ينازعه آخر، وأصبحت القبيلة في حروب ضد الأخرى، وغابت الولاية وانعدم الأمن، لقد أصبح في كل إقليم دولة، وفي كل قبيلة دولة، وداخل كل دولة من هذه دول متنافرة ومتناحرة، بسبب غياب الدولة المركزية القائمة على راية الدين كما حدث في العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين».
التحولات الكبرى... القوة النافذة
وبالسؤال عن القوة النافذة التي تخلق التحولات كما فعل الإمام محمد بن سعود وأبناؤه وأحفاده والمؤسسون والملوك خلال مراحل الدولة الثلاث يقول بن حزيم: يمكن التأكيد على أن عهد الإمام محمد بن سعود لم يكن عهداً سياسياً ودينياً فحسب بل هو ميلاد أمة على يد آباء مؤسسين سيدوم عقدهم الاجتماعي بعدها ثلاثمائة عام ولا يزال. وهذا ما يسمى بالتحولات الكبرى في التاريخ بعدما أثّر هذا الانقلاب في الاجتماع السياسي على مجمل العالم الإسلامي وبلغ ذروته في دوره الثالث مع الملك عبد العزيز وأبنائه الملوك من بعده سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله، ثم عهد الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله-، الذي عنوانه الكبير: التجديد وإعادة البناء.
وبحسب بن حزيم، فإن القوة النافذة هي التي تنبثق من فكرة فلسفية عقلانية دافعها مقتضى الحاجة أو الألم أو الأمل، فكيف إذا ترافقت بصبغة دينية لتشكل أيديولوجيا يعرّف فيها الإنسان والمجتمع والسلطة نفسه والآخر، ثم يضع رؤاه للمستقبل لتكوين مشروع استقرار وتنمية وازدهار.
وقال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز: «ما قامت به الدولة السعودية أشار إليه المؤرخ الاجتماعي عبد الرحمن بن خلدون في رؤيته التاريخية العامة حين قال إن العرب لا يحصل لهم ملك إلا بصبغة من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم على الجملة، وهذا هو الذي تحقق حيث قامت الدولة السعودية على أساس هذه الصبغة وكان لها الأثر الكبير من حيث الأمن والاستقرار والازدهار».