تاريخ الدولة السعودية في مراحلها الثلاث... البناء على ما بنى الأوائل

TT

تاريخ الدولة السعودية في مراحلها الثلاث... البناء على ما بنى الأوائل

مسجد في الطائف (الشرق الأوسط)
مسجد في الطائف (الشرق الأوسط)

بين روايات التأسيس والتوحيد وحكايات البناء والتطوير روابط ووشائج، وتاريخ دولة متصل لأكثر من 300 عام فيه الكثير من الصفحات المضيئة والقصص الملهمة، ومن يغص في أعماقه وينقب في وثائقه ويستجلي أوضاعه، ويقرأه وفق سياقه التاريخي وظرفه الزماني والمكاني، يدرك أبعاد اتجاهاته السياسية وتحولاته الاجتماعية ونهضته الفكرية، وملاحمه التنموية بل وحتى رؤيته الممتدة. كيف لا وهو تاريخ دولة وسيرة أمة.

أمة غُيّب دورها فنهضت من كبوتها لاستعادة أمجادها، ودولة أعادت لجزيرة العرب اعتبارها ووصلت ما انقطع من تاريخها العربي، أشرقت شمسها ثم أفلت وتكرر ذلك مرتين في حالة نادرة؛ بل فريدة.

من هنا أطلق المؤرخون المعاصرون على الحقب أو الأدوار الثلاثة للدولة السعودية مصطلحات «الأولى والثانية والثالثة» وتداولوها بوصفها حقباً تاريخية مع أنها لم تكن أسماءً رسمية، وبمحاولة تتبع متى بدأ استخدام هذا التقسيم يتبين أنه حديث نسبياً (في عهد الملك فيصل) وأن أول من استخدمه القانوني والمؤرخ الدكتور منير العجلاني. وإن كان ذلك يتطلب مزيداً من التدقيق والبحث، لكن سبق وأن استخدم مصطلح (الدور الأول) و(الدور الثاني) في عهد الملك عبد العزيز عند مؤرخين مثل أمين الريحاني وفؤاد حمزة.

مراحل بناء الدولة السعودية في أدوارها الثلاثة (الشرق الأوسط)

لكن ماذا عن سنوات ضعف أو غياب الدولة؟ لأنها هي سبب هذا التقسيم المنطقي من الناحية التاريخية، مع أنني أراها سنوات الربط بين الأدوار. ولا بد - قبل ذلك - من إدراك «حجم الرصيد التاريخي الذي أسسته الدولة (الأولى)» والذي استفادت منه «الثانية» و«الثالثة» وبنتا عليه. من هنا تأتي أهمية استذكار تاريخ الدولة السعودية بكل مراحله وتحولاته، واستحضار إرثه العريق ورصيده الكبير وجذوره الراسخة في ذكرى يوم التأسيس، وإلقاء مزيد من الضوء على جوانب لم تستوف حقها من ذلك التاريخ العريق.

مبادئ الدور الأول من الدولة السعودية

يرى الكاتب والباحث السياسي جبران شامية أن مشروع الدولة النهضوي في دورها الأول تضمن مبادئ لا يمكن تجاهلها، منها «الاهتمام بالعلم والمعرفة بالمعنيين الديني والدنيوي، والإصلاح القضائي وتوفير الأمن، وكسر التقليد وإعلان حق العقل في فهم النصوص، وتقييد القرار والإدارة السياسية بالأصول الدستورية، والإصلاح التربوي والاجتماعي، والكفاح من أجل الوحدة أو الاتحاد وتجاوز الإقليمية وتوسيع الاتصال بالعالم الخارجي».

ويوجز شامية حديثه عن «الدولة السعودية الأولى» فيما يلي من نقاط:

أولاً، إنها «كانت دولة عربية إسلامية ونداً عربياً قوياً على مستوى الحكم للشعوبية التركية وغيرها. وثانياً أنها نشأت في ظروف عالمية وعربية ومحلية شديدة التعقيد، وصمدت في وجه حملات القمع والتخذيل. ثالثاً أنها قدمت صورة جديدة بالنسبة للقرون الماضية من صور الحكم الإسلامي، ونمطاً متقدماً من أنماط الحكم السعودي في الجزيرة العربية. ورابعاً أنها تركت بصماتها الواضحة في التطورات العقلية والاجتماعية التي حدثت في جزيرة العرب من بعد، كما تركت آثارها العميقة في محيطها الأقرب (الخليج العربي)، ودائرتها المحيطة (الوطن العربي)، ومجالها العريض (العالم الإسلامي)».

ويؤيد ذلك السير هارفرد جونز بريدجز المقيم السياسي في بغداد (1798 - 1806م) بقوله: «إن النظام الذي سارت عليه الدولة السعودية هو نظام حر بكل ما في الكلمة من معنى. وأن العدل والأمن والانضباط كان أهم عناصر التحول التي أدخلتها تلك الدولة في حياة عرب الصحراء». ويقارب ذلك أستاذ التاريخ الدكتور عبد الكريم الغرايبة بقوله: لقد نجح آل سعود بنقل عرب الجزيرة نحو المدنية، «الأمر الذي لم يحققه أي نظام حكم في التاريخ، واستتب الأمن والنظام والوحدة في بلاد لم تعرف هذه الأمور من قبل».

 

أفراد من المجتمع السعودي بأزيائهم المختلفة (الشرق الأوسط)

وهذه التوطئة مهمة لفهم أسباب استمرارية الدولة رغم محاولات إنهائها وتدمير عاصمتها ومحو تراثها والتنكيل بأبنائها، والمفارقة الكبرى أننا أمام حالة نادرة في التاريخ فيما يتعلق باستمرار الدولة السعودية حضوراً وغياباً. فعمر الدولة منذ تولي الإمام محمد بن سعود إمارة الدرعية 297 عاماً ومجموع سنوات ضعفها أو غيابها لا يتجاوز 17 عاماً على أعلى التقديرات، أي بنسبة أقل من 6 في المائة من إجمالي عمر الدولة، وتلك السنوات وإن كانت غياب الحكم على الأرض، فإنها كانت سنوات الاستعداد لاسترداد الحكم وحضور رمزية الدولة مع حكامها الشرعيين بغض النظر عن مكانهم. ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرويشد:

«كان آل سعود في غيبتهم يحملون الراية السعودية ولا يتخلون عنها»، وأورد عدة قصص عن ذلك، منها ما رواه عن القبطان البريطاني آي أر بيرس، ووصفه لراية آل سعود قرب الكويت عام 1901: «كانت راية آل سعود خضراء اللون، وكتب عليها (لا إله إلا الله محمد رسول الله)».

سنوات الضعف

وفي سنوات ضعف الدولة (وأؤكد هنا على كلمة ضعف لأنني أرى أن الشرعية لم تسقط)، كان غياب آل سعود قسرياً لكن دورهم كان حاضراً ومحاولاتهم لاسترداد الحكم لم تنقطع، وقد يكون هذا ما قصده أستاذ التاريخ الدكتور عبد الفتاح أبو علية بقوله إن «المفهوم الزمني للدور (السعودي) أوسع وأعم من مفهوم الدولة الزمني».

وإذا كانت أسباب غياب الدولة مفهومة، فالسؤال الذي يجب أن يُسأل لماذا عادت الدولة؟

يجيب الدكتور أبو علية: «مع أن الدولة السعودية الأولى انهارت من الوجهة والمفهومية السياسية، فإنها تركت في البلاد النجدية مقومات الدولة السعودية الثانية، إذ ظلت أفكار دعوتها ماثلة في أذهان الناس، وظل المجتمع النجدي يكن الولاء للأسرة السعودية». كذلك يرى الدكتور الغرايبة: «إن الدرعية انتصرت بانتحارها المشرف لا بجيوشها»، وأن «تضحياتها لم تذهب عبثاً... فلولا البطولات التي أبداها آل سعود دفاعاً عن بلدهم، ولولا سمو الفكرة التي دعوا إليها»، لما استطاع عبد العزيز آل سعود أن يؤسس ملكه في القرن العشرين».

وفي سنوات ضعفها وغيبتها لم تكن الدولة حاضرة في ذهن قادتها فحسب، بل أيضاً في وجدان الناس. ومن جميل ما مر علي في هذا الباب، ما سمعته من أستاذ التاريخ السعودي الدكتور عبداللطيف الحميد: «أن عدداً من تجار نجد وأغنيائها كانوا يحملون زكاتهم للكويت أثناء إقامة الإمام عبد الرحمن فيها ويدفعونها له، بصفته الحاكم الشرعي». ولعل ذلك هو ما دفع المؤرخ الفرنسي فيلكس مانجان إلى القول، بعد تدمير الدرعية:

«مع أن أسرة سعود قد تفرقت، ومع أن الفوضى تعم بين الزعماء، فما زال هناك أس خصب يمكن للزمن والأحداث أن تجعله يتفتح من جديد». ويواصل مانجان توقعاته عن عودة الحكام الشرعيين: «وإذا كان الرعب الذي تنشره اليوم جيوش محمد علي يضمن خضوع المهزومين، فإنه مما لا شك فيه أنهم بعد موت ذلك الأمير سيستفيدون من الحماسة الحربية التي هي الميزة الطبيعية لكل الأجيال الجديدة لاستعادة مملكة كانوا يستطيعون الدفاع عنها أمداً طويلاً».

لم تخب توقعات مانجان، فاسترد الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود الحكم الذي أسسه جده الإمام محمد بن سعود بعد مدة قصيرة من ذلك التنبؤ، كما استرده عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بعد ذلك، فالأس الخصب الذي أشار إليه مانجان تَفَتَحَ من جديد. لكن مملكة عبد العزيز أتت متفوقة بتجاوزها الإمارة والسلطنة، وحكمه كان مختلفاً. فلم يركن إلى الإرث والرصيد التاريخي لأجداده فقط وإنما قرأ التاريخ أيضاً، ووعى مساره واستوعب دروسه واستفاد من تجارب أسلافه فبنى هياكل دولته وطور أدواتها وممارساتها تماشياً مع مقتضيات عصره، مع المحافظة على أصالتها وركائزها. والأهم يبقى أنه أسس مدرسته الفريدة في الحكم والسياسة التي تلقى فيها أبناؤه الملوك مهارات الحكم وفنون السياسة، ناهيك عن كونهم امتداد لبيت ملك عريق ينتمي لأرض الجزيرة العربية، يؤمن بمبادئها ويعرف قيمها وشمائلها وحاجات إنسانها، ويستحضر كل منهم فلسفة عبد العزيز التي كانت مختلفة فعدلّت أبيات المتوكل الليثي:

لسنا وإن أحسابنا كرمت يوماً على الأحساب نتكل

نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل (فوق) ما فعلوا

«نحن نبني يا حضرة الأستاذ كما كانت تبني أوائلنا، ولكننا نفعل فوق ما فعلوا»، هكذا قال مخاطباً الأديب المهجري أمين الريحاني الذي يلخص اختلاف عبد العزيز عن سابقيه:

«الحق يقال إن السلطان عبد العزيز آل سعود استعاد في دوره الأول، دور الفتوحات، ملك أجداده، وعزز هذا الملك بالعدل والأمن، وبالدين الذي هو في نجد مصدر الاثنين، فلا يخطئ ولا يموه إذا قال: نبني كما كانت تبني أوائلنا، ولكنه في تحضيره البدو، وفي تأسيس الجديد من المدن والقرى التي تدعى الهجر، وفي استخدامه من يحسن الخدمة مهما كان مذهبه، وفي إعطاء امتياز (الأحساء) لشركة أجنبية، وفي إرساله فتياناً من نجد إلى مصر ليتلقنوا فيها العلوم الحديثة، وفي استحضاره إلى الرياض السيارات وبعض الأطباء والمهندسين؛ في كل هذا ما يثبت قوله إنه يفعل فوق ما فعل أجداده ولا يبالي إذا كان المشايخ والعلماء لا يرضون دائماً عن هذه الخطة. إذ ليس لهم أن يعترضوه بشيء في سياسته الداخلية والخارجية التي لا تمس الدين. وهو، وإن قيل إنه شديد التعصب لمذهبه، يحسن المداراة فيتجاهل فيما لا يضر، ويتساهل فيما هو مفيد لبلاده. قد يفوه أحد العلماء أحياناً بكلمة فيها بعض ما يكنه من الوجد والأسى فيقول مثلاً: في أيام أجدادكم يا طويل العمر كانت الدنيا مستريحة من هذه المشاكل الجديدة كلها، فيسمع عبد العزيز ويبتسم ثم يسير في سبيله ليتم مقاصده. وقلما يكترث مما يشيعه عنه الأعداء وفيهم من الأدباء من يجهلون نجد الحديث. لذلك تضاربت الآراء في كثير من الشؤون التي تتعلق به وببلاده».

كتب الريحاني كلامه هذا عام 1924، أي قبل 100 عام بالتمام، ويظل كثير مما قاله ينطبق على واقعنا اليوم، ولا بد من التأكيد على نقطتين جوهريتين تتعلقان بمنجز الملك عبد العزيز لم تنل حقهما من الدراسة والإبراز: الأولى أنه أسس نهجاً دستورياً لانتقال الحكم في الدولة، والثانية أن التغيير الاجتماعي الذي أحدثه كان كبيراً بمقاييس عصره، وبالمقارنة مع التطورات الاجتماعية التي حدثت في الدور الأول للدولة السعودية.

أعراف متطورة

وسار أبناء عبد العزيز على نهجه مستحضرين فلسفته في التفوق، فأدى كل ملك من ملوك المملكة العربية السعودية دوره وسلم الأمانة كاملة وأفضل مما تسلمها. وهذه مفارقة أخرى لا نراها في كثير من الدول، لذا علينا ألا ننسى أن المملكة العربية السعودية دولة عريقة لكنها ليست جامدة؛ بل مُجددة ومتجددة، طورت عبر قرون تاريخها وعقود دولتها الحديثة كماً من الأعراف والتقاليد الملكية، التي تتميز بها الأنظمة ذات الجذور الراسخة، واستفادت من كل ما هو جديد ومفيد، متكئة على إرثها العظيم ورصيدها التاريخي الكبير. وهي تتميز الآن بتوجهات تجديدية وإبداعية تكرس تقاليدها الملكية وتزيد عليها أو تعيد تقديم بعضها بما يتناسب وتوجهات العصر.

ولا أدل على ذلك من النهضة الكبرى التي تعيشها اليوم بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وبإشراف ومتابعة من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، كما أن التحولات الاجتماعية التي يمر بها المجتمع السعودي الآن تفوق أي تحول سابق. لذا أرى أن محاولة فصل هذه الإنجازات عن أبعادها التاريخية، تعد تجاوزاً لطبيعة هذه المآثر الملكية العريقة والمتصلة لثلاثة قرون، ولتاريخها الممتد لستة قرون، والذي يحتفل السعوديون بأحد إنجازاتها الفريدة وأيامها المجيدة، يوم التأسيس.

وعن مراجعة تقسيمات تاريخ الدولة التي أرى أنها وضعت لاستيعاب حقب التاريخ، فأدت ببعض المؤرخين المتأخرين أن يجعلوه تاريخ ثلاث دول بينما هو تاريخ متصل لدولة واحدة مرت بأدوار وعهود عدة وظلت مستمرة على مبادئها التي أسست عليها رغم كل ما مرّ بها.


مقالات ذات صلة

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

يوميات الشرق «راعي الأجرب» فيلم قصير عن إمام سطّر قصة النور في الليالي المظلمة بشجاعة (وزارة الإعلام)

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

«وأنا والله تركي... ردّاد أرضي»... يستعرض الفيلم التاريخي القصير «راعي الأجرب»، قصة الإمام تركي بن عبد الله مؤسس الدولة السعودية الثانية قبل أكثر من 200 عام.

جبير الأنصاري (الرياض)
رياضة سعودية صورة معبرة بثها نادي الهلال من أرضية ملعب المملكة أرينا (نادي الهلال)

«الرياضة السعودية» تحكي للعالم قصة 3 قرون من التاريخ المجيد

ارتدت الأندية والملاعب السعودية، أمس، حلة الفرح والاحتفال بذكرى تأسيس المملكة، لتكمل مظاهر البهجة والافتخار بهذا اليوم التاريخي، الذي يوافق الـ22 من فبراير.

فهد العيسى (الرياض)
الخليج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)

الملك سلمان: «يوم التأسيس» احتفاء بمسيرة الاستقرار والتلاحم

قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الخميس، إن بلاده تحتفي في «يوم التأسيس» بمسيرة استقرار الدولة، وتلاحم القيادة مع الشعب.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد ميناء العقير التاريخي في الأحساء (شرق السعودية) الذي شهد انطلاقة تأسيس الحركة التجارية في البلاد (واس)

شرق السعودية... بداية تأسيس حركة التجارة مع العالم

انطلقت التجارة السعودية منذ بداية تأسيس الدولة عام 1727م، من شرق البلاد، وتحديداً مركز التجارة في الهفوف.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
رياضة سعودية الكرواتي بيليتيتش في لقطة مع جمل من قلب ملعب الفتح (نادي الفتح)

الرياضة السعودية تواكب احتفالات «التأسيس» بالعرضة والأزياء التراثية

احتفت الأندية السعودية، أمس الأربعاء، بذكرى يوم التأسيس للدولة السعودية، وأقامت احتفالات متنوعة بهذه المناسبة التي تصادف الـ22 من فبراير (شباط) كل عام.

فهد العيسى (الرياض) علي القطان (الدمام) علي العمري (جدة)

«حماس» في ميزان الربح والخسارة بعد حرب طاحنة

TT

«حماس» في ميزان الربح والخسارة بعد حرب طاحنة

يوشك هجوم 7 أكتوبر على تغيير وجه الشرق الأوسط بعد عام من حرب طاحنة (د.ب.أ)
يوشك هجوم 7 أكتوبر على تغيير وجه الشرق الأوسط بعد عام من حرب طاحنة (د.ب.أ)

حتى بعد مرور عام على 7 أكتوبر (تشرين الأول)، لم يعرف أحد على وجه الدقة الهدف من الهجوم المباغت لحركة «حماس» الفلسطينية على إسرائيل، الذي يوشك اليوم على تغيير وجه الشرق الأوسط، ويجرّ خلفه 3 حروب، واحدة مدمرة في غزة، وثانية دموية في لبنان، وثالثة صامتة طويلة الأمد في الضفة الغربية، وعدة حروب باردة مع إيران وأذرعها في العراق واليمن وسوريا.

من المبكر الحكم على نتائج الهجوم الذي فاجأ إسرائيل، تحديداً لجهة إقامة دولة فلسطينية. ثمة وجهتا نظر، تفيد الأولى بأن 7 أكتوبر ستنتهي إلى مسار الدولة، ويزعم الثاني أن الباب قد فُتح لإسرائيل، ليس للقضاء على حل الدولتين، بل احتلال أجزاء من دول أخرى في المنطقة.

لكن بالنسبة لـ«حماس» التي بدأت الهجوم وتلقت الردّ عليه، يمكن القول إنها دفعت ثمناً لم تكن تتخيله يوماً. فماذا حدث خلال عام؟ وكيف أصبحت الحركة في ميزان الربح والخسارة؟

قبل الهجوم، كانت «حماس» بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين قوة لا يستهان بها، وليس من الوارد أن تضحي بموقعها ومكاسبها في حرب مدمرة، وكان هذا سر الهجوم، قبل أن يكلفها الكثير لاحقاً.

وإذا كانت الحرب قد بدأت بضربة «حماس» وغارات جوية إسرائيلية لاحقة، فالأكيد أن الحركة لم تكن تتوقع أن الحرب البرية ستكون بهذا الزخم الذي طال جميع مناطق غزة، متراً بمتر، وشبراً بشبر.

اليوم، فقدت «حماس» وجناحها المسلح، الكثير من الأشياء، كما أنها في المقابل كسبت أشياء أخرى.

خسرت «حماس» الكثير في هجوم 7 أكتوبر المباغت لكنها ربحت أشياء أيضاً (أ.ب)

حساب الربح... إحصاء الخسارة

على الأقل، فقدت «حماس» دعماً سياسياً ولو كان خافتاً من قبل دول أوروبية ودولية، ومثله دعم مالي لتمويل مشاريع حكومية ومؤسساتية وخدماتية لسكان غزة، وإلى حد ما تضررت علاقة الحركة بدول إقليمية دعمتها في الصراع ضد إسرائيل، أو ما يتعلق بالمصالحة مع حركة «فتح».

وبعد هجومها الكبير، نّدت دول بـ«حماس»، وبقي هذا الموقف يتصاعد مع مرور الأيام في ظل الحملة الإعلامية الإسرائيلية التي صاحبت هجوم 7 أكتوبر.

وخلال ذلك، ظهرت مؤشرات قوية على خسارة الحركة لكثير من شرعيتها التي اكتسبتها لسنوات بتطوير علاقات كانت صعبة مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول عربية، وعلى وجه الخصوص تضررت إلى حد ما العلاقة مع مصر وقطر، إذ قالت مصادر موثوقة لـ«الشرق الأوسط»، إن «علاقة (حماس) بهاتين الدولتين العربيتين لم تعد كما كانت».

ويفهم قياديون في «حماس»، وفقاً للمصادر، أنه «في لحظة ما قد تطالبهم قطر بالخروج (...) كما أن الوضع مع مصر لم يعد على أحسن حال».

وتطالب مصر اليوم، وتعمل على عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، ويشمل ذلك تسليمها معبر رفح البري، وليس إسرائيل أو «حماس».

مقابل ذلك، زاد دعم «حماس» في «محور المقاومة» المدعوم من إيران، لكن هذا الأخير تعرض لخسائر عدة على أصعد مختلفة بفعل الحرب.

وكسبت الحركة أيضاً تأييداً من دول مثل تركيا وروسيا، وإلى حد ما من الصين، الأمر الذي دفع مراقبين إلى الاعتقاد بأن «حماس» تموضعت في استقطاب إقليمي حاد، في لحظة تقترب فيها المنطقة من شفا حرب مفتوحة.

شعبية «حماس» ونفوذها

أيام قليلة بعد 7 أكتوبر 2023، ارتفعت شعبية «حماس» بشكل كبير في مناطق غزة والضفة الغربية. كان يمكن ملاحظة كيف أن الإعجاب بالهجوم المباغت طغى على كل شيء، ولكن سرعان ما تبدد كل ذلك، خصوصاً في القطاع، مع استمرار الهجمات الإسرائيلية التي كبدت الغزيين خسائر مريرة في الأرواح والأملاك.

وباتت غالبية من سكان غزة يُحمّلون «حماس» مسؤولية ما حلّ بهم، الأمر الذي أدى إلى تراجع تأييد الحركة بشكل كبير، وأفقدها ميزة الدعم الكبير.

رغم كل هذا التراجع، فإن الحركة ما تزال ترى نفسها جزءاً واضحاً من مستقبل غزة والقضية الفلسطينية، وأن لديها القدرة على البقاء سياسياً وعسكرياً ومدنياً وشعبياً حتى حكومياً.

ومع ذلك، فإن الحكم على قدرة «حماس» على البقاء من عدمه سيكون حين تنتهي الحرب، ويتبين شكل الشرق الأوسط في اليوم التالي، لكن الأكيد أن الحركة لم تعد قادرة على حكم القطاع الذي يحتاج إلى دعم دولي واسع لإنقاذ سكانه وإعادة إعماره، وإحياء اقتصاده المنهار.

يرى خبراء عسكريون أن بقاء السنوار حياً يحرم إسرائيل من «صورة المنتصر» (أ.ف.ب)

قيادات «حماس»... مَن بقي؟

فقدت «حماس» أهم قياداتها السياسية والحكومية والعسكرية، وجزءاً لا يستهان به من مسلحيها، إلى جانب ناشطين في المجالات الدعوية والاجتماعية والاقتصادية.

مع بداية الحرب، وصلت إسرائيل إلى زكريا أبو معمر وجواد أبو شمالة من أعضاء المكتب السياسي للحركة، وأيمن نوفل وأحمد الغندور وهما قائدا لواءي الوسط والشمال في «كتائب القسام»، إلى جانب أيمن صيام قائد الوحدة الصاروخية في الكتائب.

وقد دأبت «حماس» على نعي جميع الشخصيات التي فقدتها خلال الحرب وإعلان أسمائهم، قبل أن تغير هذا النهج لتخفي معلومات قادتها والمسلحين الذين يتم قتلهم.

لاحقاً، نجحت إسرائيل باغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» في طهران، ونائبه صالح العاروري في الضاحية الجنوبية ببيروت، وكلاهما نعتهما الحركة.

لكن بعيداً عن إعلانات «حماس»، أكدت إسرائيل اغتيال قائد «كتائب القسام» والمطلوب الأول منذ عقود محمد الضيف في ضربة جوية نفّذتها بمنطقة مواصي خان يونس، جنوب غزة، في 13 يوليو (تموز) الماضي، إلى جانب رافع سلامة، قائد لواء خان يونس، وقبلهما أكدت اغتيال مروان عيسى، نائب الضيف، في نفق وسط مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة، في 10 مارس (آذار) الماضي.

وكانت مصادر من «حماس» قد أكدت لـ«الشرق الأوسط» اغتيال سلامة وعيسى، لكنها لم تدلِ بأي معلومات حول الضيف.

وكشفت «الشرق الأوسط» في وقت سابق، عن مقتل اثنين من أعضاء المكتب السياسي، هما روحي مشتهى وسامح السراج في ضربة استهدفت نفقاً جنوب مدينة غزة، إلى جانب قيادات عسكرية وازنة في «القسام».

ومن بين الاغتيالات المؤثرة في «القسام»، استهداف أيمن المبحوح أحد أهم قادة الكتائب والمسؤول الأول عن استخبارات الكتائب وأسرارها الأمنية، الذي كان لسنوات مسؤولاً عن الدائرة الأمنية الخاصة بحماية محمد الضيف.

ولم تؤكد «حماس» اغتيال أي من هؤلاء، بل إنها تشدد على أن الضيف ما زال حياً، فيما تصرّ إسرائيل على نجاحها باغتياله.

وفقدت «القسام» مئات من قياداتها الميدانيين، منهم قادة «كتائب» و«سرايا» و«فصائل» و«مجموعات»، وهي مسميات عسكرية بالترتيب وفق تقسيمات معينة ومحددة، ورغم أنها خسائر فادحة فإن المحلل العسكري العقيد المتقاعد منير حمد من غزة يميل إلى الاعتقاد بأنها «لا تعني القضاء تماماً على الكتائب».

وقال حمد، لـ«الشرق الأوسط»، إن «حماس» استطاعت حتى الآن الحفاظ على حياة قائدها يحيى السنوار، خاصة بعد اغتيال هنية في طهران، ما يعني «توفق الحركة استخبارياً، على الأقل حتى الآن».

ورأى حمد أن «إبقاء السنوار حياً يحرم إسرائيل من صورة النصر التي تحاول الحصول عليها منذ أشهر».

ويُحسب لحركة «حماس» أنها وضعت قضية اغتيال قياداتها وعناصرها رهن التكهنات، سواء بالنسبة لإسرائيل أو غيرها، ما يؤشر على صعوبات أمنية واجهتها وما زالت تواجهها المخابرات الإسرائيلية في الوصول لقيادات «حماس» و«القسام»، على عكس ما يجري حالياً على الجبهة اللبنانية مع «حزب الله».

ولا تكتفي إسرائيل بملاحقة السنوار، بل إنها تبحث عن شقيقه محمد، أحد أبرز قادة «القسام» والرجل الثاني بعد الضيف، كما تبحث عن قائد لواء رفح محمد شبانة، وعن قائد لواء غزة عز الدين الحداد الذي تلقبه بـ«الشبح»، وعن قيادات أخرى من المجلس العسكري مثل رائد سعد، وأبو عمر السوري، اللذين نجيا من عمليتي اغتيال في غزة.

وتدفع هذه المعطيات العقيد المتقاعد منير حمد إلى الجزم بأن «حماس» قادرة على النهوض مجدداً، خاصة أن عدداً من قياداتها المؤثرة ما زال على قيد الحياة.

ويؤكد مراقبون أنه في حال تم التوصل لاتفاق تهدئة، يمكن لـ«حماس» أن تعيد بناء نفسها وقوتها مجدداً، خاصة مع وجود العامل البشري الذي يمكن أن تستغله، كما أن هناك قيادات بارزة قادرة على قيادة الحركة من جديد، بمن فيهم شخصيات تنشط في الخارج لم تتأثر بالضربات الإسرائيلية.

ويتفق حمد مع مراقبين على أن «حماس» نجحت حتى الآن في الاحتفاظ بعشرات الإسرائيليين المحتجزين كأسرى في غزة، بعد عام من حرب مدمرة طالت كل شبر من القطاع، وهو ما يمنحها مكاسب أكبر لفرض شروطها في التفاوض الذي يسير ببطء شديد في ظروف معقدة.

الحرب الأخيرة في غزة أظهرت خطأ التقدير الإسرائيلي لحجم شبكة الأنفاق في غزة (أ.ف.ب)

أنفاق «حماس»

فقدت «حماس» كثيراً من قوتها خلال عام من الحرب. وبعد ضربات متتالية، شملت الخدمة العامة، والمرافق التنظيمية والعسكرية والاقتصادية، تكاد الخسائر تكون شاملة على نحو واسع.

لكن فقدان معظم أنفاق «حماس» قد يكون الخسارة الأبرز لجهة أنها «سلاح استراتيجي» كان بيد الحركة.

واستخدمت «حماس» تلك الأنفاق في التحكم السيطرة، ولحماية قياداتها، وكذلك لإخفاء الإسرائيليين، ومن ثم في إدارة المعركة لتنفيذ هجمات، مباشرة أو صاروخية.

وبحسب مصادر «الشرق الأوسط»، فقد «نجحت إسرائيل في تدمير كثير من أنفاق الحركة». وقالت إن «الجيش الإسرائيلي عثر على كثير من الأنفاق الاستراتيجية الهجومية والدفاعية».

واستخدمت «حماس» الأنفاق في مناسبات مختلفة كمخابئ لبعض قادتها الذين تمت ملاحقتهم فوق وتحت الأرض، وهو الأمر الذي جرى مع عضو المكتب السياسي للحركة روحي مشتهى وقيادات أخرى، ما أدى لمقتلهم في أحد تلك الأنفاق.

تقدر مصادر مطلعة لـ«لشرق الأوسط» أن «حماس» تمتلك في كل منطقة داخل غزة (شمال القطاع مثلاً) ما لا يقل عن 700 نفق بأحجام ومهمات مختلفة، لكن ذلك يرتبط بجغرافيا وطبيعة التربة التي يمكن من خلالها حفر عدد أكبر أو أقل من الأنفاق.

وتقول المصادر: «في خان يونس جنوب القطاع، يختلف عدد الأنفاق كلياً، وربما هو الأكبر على مستوى القطاع، وخاصة في المناطق الشرقية منها باعتبارها مناطق زراعية وسهلة الحفر، ويمكن فيها العثور على أكثر من مسار للنفق الواحد بتفرعات مختلفة وبتوزيعات جغرافية مختلفة من مكان إلى آخر، ويقدر عددها بنحو ألف نفق».

وقدرت إسرائيل سابقاً أن تكون «حماس» حفرت أكثر من 500 كيلومتر من الأنفاق، لكن الحرب الحالية أظهرت أن تقديراتها خاطئة، وكانت أكبر بكثير.

وتفسر هذه المعطيات كيف نجحت «حماس» حتى اللحظة في تسهيل حركة قياداتها ومقاتليها بين مواقع، فوق الأرض وتحتها، إذ الواقع الفعلي لشبكة الأنفاق يتيح لهم المناورة مع إسرائيل.

«حماس» أطلقت في «الرشقة الأولى» صبيحة 7 أكتوبر ما لا يقل عن 4 آلاف صاروخ (أ.ف.ب)

ترسانة الصواريخ

مثّلت الصواريخ سلاحاً فارقاً لدى «حماس»، وشكّلت في مرحلة ما أحد أهم وسائل الردع، بعدما كانت الحركة قادرة على ضرب المدن والمستوطنات الإسرائيلية وقتما تشاء، خاصة تلك التي كانت تصل إلى تل أبيب والقدس.

تقول مصادر موثوقة، لـ«الشرق الأوسط»، إن «حماس» فقدت غالبية مخزونها من الصواريخ. ومع ذلك يعتقد مراقبون أن الحركة تخفي عدداً منها، وسوف تستخدمها في وقت ما.

وتزعم مصادر ميدانية من «حماس» أن جناحها المسلح كان يمتلك قبيل الحرب ما يزيد على 60 ألف صاروخ، ما بين صواريخ بعيدة المدى وأخرى متوسطة وقصيرة.

وكانت «حماس» قد أطلقت في «الرشقة الأولى» صبيحة 7 أكتوبر، ما لا يقل عن 4 آلاف صاروخ، غالبيتها متوسطة وقصيرة المدى تزامناً مع بدء الهجوم العسكري.

ومع ذلك، يصعب معرفة العدد الدقيق للصواريخ التي تمتلكها «حماس» قبل الحرب، وما تبقى خلال عام بعد اندلاعها.

وتزعم إسرائيل أنها نجحت في تدمير كثير من الصواريخ، إلى جانب ضرب أماكن تصنيعها وتخزينها، ومنصات إطلاقها.

خسرت حماس الكثير من قياداتها لكن وجود عدد منهم خارج غزة يمنحها القدرة على المناورة (غيتي)

بنك المال والمعلومات السرية

لم تتوقع «حماس» أن القوات البرية الإسرائيلية ستتعمق داخل غزة، كل هذا الوقت وبهذا العمق والسعة، ما منعها من نقل أو إتلاف ملفات بالغة السرية، من بينها ملفات اجتماعات مغلقة، وملفات أمنية ومالية، نجحت إسرائيل في السيطرة عليها، كما الفيديو الذي ظهر فيه قائد «كتائب القسام»، محمد الضيف، الذي كان يوصف بأنه رجل الظل الذي لا تعرف صورته.

وأكدت مصادر في الحركة، لـ«الشرق الأوسط»، أن «الوقت لم يسعف عناصر (حماس) لتدمير ما لديها من ملفات، وإلا كان تم زرع عبوات ناسفة لتفخيخ المواقع التي تحوي مثل هذه الملفات على الأقل».

على الصعيد الحكومي، يمكن الجزم أن «حماس» خسرت جميع مقراتها، كما فقدت قيادات حكومية بارزة كانت تقود عملها الخدمي وغيره، إلى جانب كثير من أركان هيئة الطوارئ التي شكّلتها لإدارة العمل الحكومي للسكان خلال الحرب، وليس آخرهم على الأغلب المهندس ماجد صالح، المدير في وزارة الأشغال، الذي كان هدفاً لإسرائيل مرات عدة خلال هذه الحرب، وقد فقد زوجته وعدداً من أبنائه.

ترافق ذلك مع خسارة «حماس» كثيراً من مواردها المالية التي كانت تعتمد عليها، فهي إلى جانب الدعم الخارجي والدخل الحكومي، ثمة مصانع ومحال وعقارات وغيرها كانت تدرّ على الحركة شهرياً مبالغ طائلة.

وخلال الحرب تعمدت إسرائيل استهداف جميع مصادر تمويل «حماس»، وقصفت بنكاً تابعاً للحركة، وغرفاً محددة كان تخزن أموالاً، وهاجمت مركبات نقل أموال، واستولت على ملايين «الشواقل» من أماكن داهمتها، الأمر الذي أفقد «حماس» في كثير من الفترات قدرتها على صرف رواتب موظفيها وعناصرها، سواء الحكوميون أو المنضمون لجناحها العسكري وغيرهم.

في نهاية المطاف، طال الدمار كل شيء، كل شارع وحي، وجميع العائلات التي رزحت تحت نار الحرب طوال عام. لكن حسابات الربح والخسارة بالنسبة لـ«حماس» أمر بلاغ التعقيد، ولا يمكن الجزم به. ففي اليوم التالي للحرب، ستكون المعطيات حاسمة لمعرفة أن الحركة انتهت بالفعل، أم أنها طبقاً للظروف قادرة على العودة والنهوض مجدداً.