تاريخ الدولة السعودية في مراحلها الثلاث... البناء على ما بنى الأوائل

TT

تاريخ الدولة السعودية في مراحلها الثلاث... البناء على ما بنى الأوائل

مسجد في الطائف (الشرق الأوسط)
مسجد في الطائف (الشرق الأوسط)

بين روايات التأسيس والتوحيد وحكايات البناء والتطوير روابط ووشائج، وتاريخ دولة متصل لأكثر من 300 عام فيه الكثير من الصفحات المضيئة والقصص الملهمة، ومن يغص في أعماقه وينقب في وثائقه ويستجلي أوضاعه، ويقرأه وفق سياقه التاريخي وظرفه الزماني والمكاني، يدرك أبعاد اتجاهاته السياسية وتحولاته الاجتماعية ونهضته الفكرية، وملاحمه التنموية بل وحتى رؤيته الممتدة. كيف لا وهو تاريخ دولة وسيرة أمة.

أمة غُيّب دورها فنهضت من كبوتها لاستعادة أمجادها، ودولة أعادت لجزيرة العرب اعتبارها ووصلت ما انقطع من تاريخها العربي، أشرقت شمسها ثم أفلت وتكرر ذلك مرتين في حالة نادرة؛ بل فريدة.

من هنا أطلق المؤرخون المعاصرون على الحقب أو الأدوار الثلاثة للدولة السعودية مصطلحات «الأولى والثانية والثالثة» وتداولوها بوصفها حقباً تاريخية مع أنها لم تكن أسماءً رسمية، وبمحاولة تتبع متى بدأ استخدام هذا التقسيم يتبين أنه حديث نسبياً (في عهد الملك فيصل) وأن أول من استخدمه القانوني والمؤرخ الدكتور منير العجلاني. وإن كان ذلك يتطلب مزيداً من التدقيق والبحث، لكن سبق وأن استخدم مصطلح (الدور الأول) و(الدور الثاني) في عهد الملك عبد العزيز عند مؤرخين مثل أمين الريحاني وفؤاد حمزة.

مراحل بناء الدولة السعودية في أدوارها الثلاثة (الشرق الأوسط)

لكن ماذا عن سنوات ضعف أو غياب الدولة؟ لأنها هي سبب هذا التقسيم المنطقي من الناحية التاريخية، مع أنني أراها سنوات الربط بين الأدوار. ولا بد - قبل ذلك - من إدراك «حجم الرصيد التاريخي الذي أسسته الدولة (الأولى)» والذي استفادت منه «الثانية» و«الثالثة» وبنتا عليه. من هنا تأتي أهمية استذكار تاريخ الدولة السعودية بكل مراحله وتحولاته، واستحضار إرثه العريق ورصيده الكبير وجذوره الراسخة في ذكرى يوم التأسيس، وإلقاء مزيد من الضوء على جوانب لم تستوف حقها من ذلك التاريخ العريق.

مبادئ الدور الأول من الدولة السعودية

يرى الكاتب والباحث السياسي جبران شامية أن مشروع الدولة النهضوي في دورها الأول تضمن مبادئ لا يمكن تجاهلها، منها «الاهتمام بالعلم والمعرفة بالمعنيين الديني والدنيوي، والإصلاح القضائي وتوفير الأمن، وكسر التقليد وإعلان حق العقل في فهم النصوص، وتقييد القرار والإدارة السياسية بالأصول الدستورية، والإصلاح التربوي والاجتماعي، والكفاح من أجل الوحدة أو الاتحاد وتجاوز الإقليمية وتوسيع الاتصال بالعالم الخارجي».

ويوجز شامية حديثه عن «الدولة السعودية الأولى» فيما يلي من نقاط:

أولاً، إنها «كانت دولة عربية إسلامية ونداً عربياً قوياً على مستوى الحكم للشعوبية التركية وغيرها. وثانياً أنها نشأت في ظروف عالمية وعربية ومحلية شديدة التعقيد، وصمدت في وجه حملات القمع والتخذيل. ثالثاً أنها قدمت صورة جديدة بالنسبة للقرون الماضية من صور الحكم الإسلامي، ونمطاً متقدماً من أنماط الحكم السعودي في الجزيرة العربية. ورابعاً أنها تركت بصماتها الواضحة في التطورات العقلية والاجتماعية التي حدثت في جزيرة العرب من بعد، كما تركت آثارها العميقة في محيطها الأقرب (الخليج العربي)، ودائرتها المحيطة (الوطن العربي)، ومجالها العريض (العالم الإسلامي)».

ويؤيد ذلك السير هارفرد جونز بريدجز المقيم السياسي في بغداد (1798 - 1806م) بقوله: «إن النظام الذي سارت عليه الدولة السعودية هو نظام حر بكل ما في الكلمة من معنى. وأن العدل والأمن والانضباط كان أهم عناصر التحول التي أدخلتها تلك الدولة في حياة عرب الصحراء». ويقارب ذلك أستاذ التاريخ الدكتور عبد الكريم الغرايبة بقوله: لقد نجح آل سعود بنقل عرب الجزيرة نحو المدنية، «الأمر الذي لم يحققه أي نظام حكم في التاريخ، واستتب الأمن والنظام والوحدة في بلاد لم تعرف هذه الأمور من قبل».

 

أفراد من المجتمع السعودي بأزيائهم المختلفة (الشرق الأوسط)

وهذه التوطئة مهمة لفهم أسباب استمرارية الدولة رغم محاولات إنهائها وتدمير عاصمتها ومحو تراثها والتنكيل بأبنائها، والمفارقة الكبرى أننا أمام حالة نادرة في التاريخ فيما يتعلق باستمرار الدولة السعودية حضوراً وغياباً. فعمر الدولة منذ تولي الإمام محمد بن سعود إمارة الدرعية 297 عاماً ومجموع سنوات ضعفها أو غيابها لا يتجاوز 17 عاماً على أعلى التقديرات، أي بنسبة أقل من 6 في المائة من إجمالي عمر الدولة، وتلك السنوات وإن كانت غياب الحكم على الأرض، فإنها كانت سنوات الاستعداد لاسترداد الحكم وحضور رمزية الدولة مع حكامها الشرعيين بغض النظر عن مكانهم. ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرويشد:

«كان آل سعود في غيبتهم يحملون الراية السعودية ولا يتخلون عنها»، وأورد عدة قصص عن ذلك، منها ما رواه عن القبطان البريطاني آي أر بيرس، ووصفه لراية آل سعود قرب الكويت عام 1901: «كانت راية آل سعود خضراء اللون، وكتب عليها (لا إله إلا الله محمد رسول الله)».

سنوات الضعف

وفي سنوات ضعف الدولة (وأؤكد هنا على كلمة ضعف لأنني أرى أن الشرعية لم تسقط)، كان غياب آل سعود قسرياً لكن دورهم كان حاضراً ومحاولاتهم لاسترداد الحكم لم تنقطع، وقد يكون هذا ما قصده أستاذ التاريخ الدكتور عبد الفتاح أبو علية بقوله إن «المفهوم الزمني للدور (السعودي) أوسع وأعم من مفهوم الدولة الزمني».

وإذا كانت أسباب غياب الدولة مفهومة، فالسؤال الذي يجب أن يُسأل لماذا عادت الدولة؟

يجيب الدكتور أبو علية: «مع أن الدولة السعودية الأولى انهارت من الوجهة والمفهومية السياسية، فإنها تركت في البلاد النجدية مقومات الدولة السعودية الثانية، إذ ظلت أفكار دعوتها ماثلة في أذهان الناس، وظل المجتمع النجدي يكن الولاء للأسرة السعودية». كذلك يرى الدكتور الغرايبة: «إن الدرعية انتصرت بانتحارها المشرف لا بجيوشها»، وأن «تضحياتها لم تذهب عبثاً... فلولا البطولات التي أبداها آل سعود دفاعاً عن بلدهم، ولولا سمو الفكرة التي دعوا إليها»، لما استطاع عبد العزيز آل سعود أن يؤسس ملكه في القرن العشرين».

وفي سنوات ضعفها وغيبتها لم تكن الدولة حاضرة في ذهن قادتها فحسب، بل أيضاً في وجدان الناس. ومن جميل ما مر علي في هذا الباب، ما سمعته من أستاذ التاريخ السعودي الدكتور عبداللطيف الحميد: «أن عدداً من تجار نجد وأغنيائها كانوا يحملون زكاتهم للكويت أثناء إقامة الإمام عبد الرحمن فيها ويدفعونها له، بصفته الحاكم الشرعي». ولعل ذلك هو ما دفع المؤرخ الفرنسي فيلكس مانجان إلى القول، بعد تدمير الدرعية:

«مع أن أسرة سعود قد تفرقت، ومع أن الفوضى تعم بين الزعماء، فما زال هناك أس خصب يمكن للزمن والأحداث أن تجعله يتفتح من جديد». ويواصل مانجان توقعاته عن عودة الحكام الشرعيين: «وإذا كان الرعب الذي تنشره اليوم جيوش محمد علي يضمن خضوع المهزومين، فإنه مما لا شك فيه أنهم بعد موت ذلك الأمير سيستفيدون من الحماسة الحربية التي هي الميزة الطبيعية لكل الأجيال الجديدة لاستعادة مملكة كانوا يستطيعون الدفاع عنها أمداً طويلاً».

لم تخب توقعات مانجان، فاسترد الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود الحكم الذي أسسه جده الإمام محمد بن سعود بعد مدة قصيرة من ذلك التنبؤ، كما استرده عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بعد ذلك، فالأس الخصب الذي أشار إليه مانجان تَفَتَحَ من جديد. لكن مملكة عبد العزيز أتت متفوقة بتجاوزها الإمارة والسلطنة، وحكمه كان مختلفاً. فلم يركن إلى الإرث والرصيد التاريخي لأجداده فقط وإنما قرأ التاريخ أيضاً، ووعى مساره واستوعب دروسه واستفاد من تجارب أسلافه فبنى هياكل دولته وطور أدواتها وممارساتها تماشياً مع مقتضيات عصره، مع المحافظة على أصالتها وركائزها. والأهم يبقى أنه أسس مدرسته الفريدة في الحكم والسياسة التي تلقى فيها أبناؤه الملوك مهارات الحكم وفنون السياسة، ناهيك عن كونهم امتداد لبيت ملك عريق ينتمي لأرض الجزيرة العربية، يؤمن بمبادئها ويعرف قيمها وشمائلها وحاجات إنسانها، ويستحضر كل منهم فلسفة عبد العزيز التي كانت مختلفة فعدلّت أبيات المتوكل الليثي:

لسنا وإن أحسابنا كرمت يوماً على الأحساب نتكل

نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل (فوق) ما فعلوا

«نحن نبني يا حضرة الأستاذ كما كانت تبني أوائلنا، ولكننا نفعل فوق ما فعلوا»، هكذا قال مخاطباً الأديب المهجري أمين الريحاني الذي يلخص اختلاف عبد العزيز عن سابقيه:

«الحق يقال إن السلطان عبد العزيز آل سعود استعاد في دوره الأول، دور الفتوحات، ملك أجداده، وعزز هذا الملك بالعدل والأمن، وبالدين الذي هو في نجد مصدر الاثنين، فلا يخطئ ولا يموه إذا قال: نبني كما كانت تبني أوائلنا، ولكنه في تحضيره البدو، وفي تأسيس الجديد من المدن والقرى التي تدعى الهجر، وفي استخدامه من يحسن الخدمة مهما كان مذهبه، وفي إعطاء امتياز (الأحساء) لشركة أجنبية، وفي إرساله فتياناً من نجد إلى مصر ليتلقنوا فيها العلوم الحديثة، وفي استحضاره إلى الرياض السيارات وبعض الأطباء والمهندسين؛ في كل هذا ما يثبت قوله إنه يفعل فوق ما فعل أجداده ولا يبالي إذا كان المشايخ والعلماء لا يرضون دائماً عن هذه الخطة. إذ ليس لهم أن يعترضوه بشيء في سياسته الداخلية والخارجية التي لا تمس الدين. وهو، وإن قيل إنه شديد التعصب لمذهبه، يحسن المداراة فيتجاهل فيما لا يضر، ويتساهل فيما هو مفيد لبلاده. قد يفوه أحد العلماء أحياناً بكلمة فيها بعض ما يكنه من الوجد والأسى فيقول مثلاً: في أيام أجدادكم يا طويل العمر كانت الدنيا مستريحة من هذه المشاكل الجديدة كلها، فيسمع عبد العزيز ويبتسم ثم يسير في سبيله ليتم مقاصده. وقلما يكترث مما يشيعه عنه الأعداء وفيهم من الأدباء من يجهلون نجد الحديث. لذلك تضاربت الآراء في كثير من الشؤون التي تتعلق به وببلاده».

كتب الريحاني كلامه هذا عام 1924، أي قبل 100 عام بالتمام، ويظل كثير مما قاله ينطبق على واقعنا اليوم، ولا بد من التأكيد على نقطتين جوهريتين تتعلقان بمنجز الملك عبد العزيز لم تنل حقهما من الدراسة والإبراز: الأولى أنه أسس نهجاً دستورياً لانتقال الحكم في الدولة، والثانية أن التغيير الاجتماعي الذي أحدثه كان كبيراً بمقاييس عصره، وبالمقارنة مع التطورات الاجتماعية التي حدثت في الدور الأول للدولة السعودية.

أعراف متطورة

وسار أبناء عبد العزيز على نهجه مستحضرين فلسفته في التفوق، فأدى كل ملك من ملوك المملكة العربية السعودية دوره وسلم الأمانة كاملة وأفضل مما تسلمها. وهذه مفارقة أخرى لا نراها في كثير من الدول، لذا علينا ألا ننسى أن المملكة العربية السعودية دولة عريقة لكنها ليست جامدة؛ بل مُجددة ومتجددة، طورت عبر قرون تاريخها وعقود دولتها الحديثة كماً من الأعراف والتقاليد الملكية، التي تتميز بها الأنظمة ذات الجذور الراسخة، واستفادت من كل ما هو جديد ومفيد، متكئة على إرثها العظيم ورصيدها التاريخي الكبير. وهي تتميز الآن بتوجهات تجديدية وإبداعية تكرس تقاليدها الملكية وتزيد عليها أو تعيد تقديم بعضها بما يتناسب وتوجهات العصر.

ولا أدل على ذلك من النهضة الكبرى التي تعيشها اليوم بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وبإشراف ومتابعة من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، كما أن التحولات الاجتماعية التي يمر بها المجتمع السعودي الآن تفوق أي تحول سابق. لذا أرى أن محاولة فصل هذه الإنجازات عن أبعادها التاريخية، تعد تجاوزاً لطبيعة هذه المآثر الملكية العريقة والمتصلة لثلاثة قرون، ولتاريخها الممتد لستة قرون، والذي يحتفل السعوديون بأحد إنجازاتها الفريدة وأيامها المجيدة، يوم التأسيس.

وعن مراجعة تقسيمات تاريخ الدولة التي أرى أنها وضعت لاستيعاب حقب التاريخ، فأدت ببعض المؤرخين المتأخرين أن يجعلوه تاريخ ثلاث دول بينما هو تاريخ متصل لدولة واحدة مرت بأدوار وعهود عدة وظلت مستمرة على مبادئها التي أسست عليها رغم كل ما مرّ بها.


مقالات ذات صلة

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

يوميات الشرق «راعي الأجرب» فيلم قصير عن إمام سطّر قصة النور في الليالي المظلمة بشجاعة (وزارة الإعلام)

«راعي الأجرب»... دراما ملحمية تستعرض قصة مؤسس الدولة السعودية الثانية

«وأنا والله تركي... ردّاد أرضي»... يستعرض الفيلم التاريخي القصير «راعي الأجرب»، قصة الإمام تركي بن عبد الله مؤسس الدولة السعودية الثانية قبل أكثر من 200 عام.

جبير الأنصاري (الرياض)
رياضة سعودية صورة معبرة بثها نادي الهلال من أرضية ملعب المملكة أرينا (نادي الهلال)

«الرياضة السعودية» تحكي للعالم قصة 3 قرون من التاريخ المجيد

ارتدت الأندية والملاعب السعودية، أمس، حلة الفرح والاحتفال بذكرى تأسيس المملكة، لتكمل مظاهر البهجة والافتخار بهذا اليوم التاريخي، الذي يوافق الـ22 من فبراير.

فهد العيسى (الرياض)
الخليج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)

الملك سلمان: «يوم التأسيس» احتفاء بمسيرة الاستقرار والتلاحم

قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الخميس، إن بلاده تحتفي في «يوم التأسيس» بمسيرة استقرار الدولة، وتلاحم القيادة مع الشعب.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد ميناء العقير التاريخي في الأحساء (شرق السعودية) الذي شهد انطلاقة تأسيس الحركة التجارية في البلاد (واس)

شرق السعودية... بداية تأسيس حركة التجارة مع العالم

انطلقت التجارة السعودية منذ بداية تأسيس الدولة عام 1727م، من شرق البلاد، وتحديداً مركز التجارة في الهفوف.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
رياضة سعودية الكرواتي بيليتيتش في لقطة مع جمل من قلب ملعب الفتح (نادي الفتح)

الرياضة السعودية تواكب احتفالات «التأسيس» بالعرضة والأزياء التراثية

احتفت الأندية السعودية، أمس الأربعاء، بذكرى يوم التأسيس للدولة السعودية، وأقامت احتفالات متنوعة بهذه المناسبة التي تصادف الـ22 من فبراير (شباط) كل عام.

فهد العيسى (الرياض) علي القطان (الدمام) علي العمري (جدة)

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.