هل تزدهر الرعاية الصحية وقطاع الأدوية بفضل الذكاء الاصطناعي؟

جمع البيانات أمام اختبار الأمان والخصوصية

هل تزدهر الرعاية الصحية وقطاع الأدوية بفضل الذكاء الاصطناعي؟
TT

هل تزدهر الرعاية الصحية وقطاع الأدوية بفضل الذكاء الاصطناعي؟

هل تزدهر الرعاية الصحية وقطاع الأدوية بفضل الذكاء الاصطناعي؟

«لا تمت لأي سبب غبي»... هي العبارة الأكثر ترداداً على لسان بيتر ديامانديس، أحد رواد الأعمال ومؤسس «إكس برايز» وجامعة «سينغولاريتي». ويستشرف بيتر وكثيرون مثله ثورة فعلية في مجال الرعاية الصحية يتيحها ما تم إحرازه من تقدم غير مسبوق وسريع في مجال الذكاء الاصطناعي، ما سيؤدي إلى زيادة أعمار البشر بشكل كبير.

مع تطلعنا إلى العقد المقبل يحمل إدماج الذكاء الاصطناعي بمجال الرعاية الصحية وعداً بإحداث تحول جذري في تقنيات التشخيص الطبي، وتطوير العقاقير، والطب الذي يراعي فردية الحالات، ورعاية المرضى عموماً. يستعرض هذا المقال التطورات المحتملة والواقعية التي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساهم بها في مجال الرعاية الصحية، ويتبحر في كيفية قيام تلك الابتكارات بإعادة تشكيل مستقبل الطب.

الذكاء الاصطناعي وتطوير العقاقير

لعل أهم التأثيرات المحتملة للذكاء الاصطناعي هي تلك التي تنعكس على مجال اكتشاف العقاقير وتطويرها. وتزداد مهارة خوارزميات الذكاء الاصطناعي باستمرار في تدقيق مجموعات البيانات، ومن المرجح أن تصبح قادرة على توقع العلاقة بين الأمراض والأهداف الحيوية البيولوجية، والمركبات الأصلية وتلك المقلّدة. وربما يعني ذلك أيضاً إمكانيات التعرف على الأهداف المحتملة لعقار جديد، وطرق تصنيع العقاقير المقترحة الملائمة على نحو أسرع وبشكل مختلف عن الطرق التقليدية. إذا كتب النجاح لهذه الجهود، أو عندما تنجح فعلياً، من المتوقع أن يوفر الذكاء الاصطناعي الوقت والتكلفة المرتبطة باكتشاف العقاقير.

كذلك سوف يشهد المستقبل الأثر الهائل للذكاء الاصطناعي على التجارب السريرية، حيث سيجعلها أكثر فعالية ونجاحاً. يمكن للباحثين استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تحليل بيانات المرضى وتحديد المرشحين المناسبين للتجارب بوتيرة أسرع ودقة أكبر. ولا يسرّع ذلك عملية الاختيار فحسب، بل يضمن أيضاً تمثيلاً أفضل للسكان في التجارب. فعلى المستوى العملي، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يراقب بيانات التجارب وقت حدوثها ما يسمح بتحديد المشكلات المحتملة أو الأعراض الجانبية بشكل أسرع، ما من شأنه أن يزيد أمان العقاقير الجديدة وفعاليتها. ونحن نشهد بالفعل محاولات أولية في هذا المجال من خلال «توقع نتائج التجارب السريرية استناداً إلى اختيار الهدف وتصميم التجارب باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي المتعددة النماذج «أليبر - 2023»، لتوقع نتيجة التجارب. سوف ترتفع إمكانيات التوقع بشكل كبير وتصبح هذه المسألة مفصلية في المرحلة المقبلة.

وإلى ذلك، يتوقع أن يكون الذكاء الاصطناعي على أعتاب حقبة جديدة في مجال العلاج الرقمي. فيما يلي بعض التدخلات العلاجية القائمة على أدلة والتي تمت بمساعدة برامج عالية الجودة لمنع أو معالجة خلل اعتلال أو مرض أو التعامل معه. يمكن أن تصبح التطبيقات والأجهزة المعززة بالذكاء الاصطناعي، التي تقدم نصائح وعلاجات تناسب كل حالة بشكل شخصي، أكثر فعالية وانتشاراً. لا يدعم هذا النهج العلاجات التقليدية فحسب، بل يقدم أيضاً مسارات وأساليب جديدة للتعامل مع الحالات المرضية المزمنة، والصحة النفسية، والأمراض المتعلقة بنمط الحياة.

طب يتوافق مع فردية الحالات

سوف تحدث قدرة الذكاء الاصطناعي على تحليل مجموعات كبيرة من البيانات، ثورة في مجال الطب القادر على التوافق مع كل حالة بشكل فردي. فمن خلال استخدام بيانات المرضى، بما في ذلك المعلومات الوراثية، والمؤشرات الحيوية غير الجراحية، ونمط الحياة، والعوامل البيئية، وفحوص التصوير بالأشعة، يمكن للذكاء الاصطناعي المساعدة في تحديد علاجات تناسب الأفراد بشكل شخصي. لا يحسّن هذا النهج فعالية العلاجات فحسب، بل يساهم أيضاً في الحد من الآثار الجانبية، فيمكن للأدوات المعززة بالذكاء الاصطناعي في المستقبل أن تتيح للأطباء السريريين اختيار العقاقير وبروتوكولات العلاج الأكثر فعالية استناداً إلى الوضع الصحي والحيوي الفريد لكل مريض.

من المرجح أن يحدث الذكاء الاصطناعي تحولاً أيضاً في تقنيات التشخيص، حيث يتم استخدام خوارزميات تعلم الآلة بالفعل في تفسير الصور الطبية بمستوى من الدقة يرقى إلى مستوى الخبراء من البشر إن لم يكن يفوقه. سوف تصبح تلك الوسائل التكنولوجية في المستقبل أكثر تطوراً، ما يتيح تشخيصاً مبكراً ودقيقاً بدرجة أكبر لحالات مثل السرطان، وأمراض القلب، والاضطرابات العصبية. كذلك قد يصبح الحصول على أدوات التشخيص المعززة بالذكاء الاصطناعي عن بعد أسهل، وهو ما سوف يجسر الهوة المتصلة بإتاحة وتوفير الرعاية الصحية.

الفعالية العملية في الرعاية الصحية

لا شك أن الذكاء الاصطناعي سيعزز الفعالية العملية من داخل أنظمة الرعاية الصحية. فيمكن أن تساعد أنظمة الذكاء الاصطناعي مقدمي الرعاية الصحية على توفير مستوى أفضل من الرعاية، بدءاً بالاستغلال الأمثل لأداء العمل في المستشفيات وصولاً إلى إدارة بيانات المرضى وتوقع معدلات دخولهم إلى المستشفيات، من خلال إدارة أفضل للموارد والتخطيط. ويمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تحديداً تنفيذ المهام الإدارية مثل وضع الجداول، وإصدار الفواتير، وإدارة ملفات المرضى آلياً، مما يخفف من العبء الإداري الواقع على كاهل الموظفين، ويتيح لهم التركيز بدرجة أكبر على العناية بالمرضى. لا يحسّن هذا القدر الأكبر من الفعالية نتائج المرضى فقط، بل يمكنه أيضاً الحد من التكلفة الإجمالية لعملية تقديم الرعاية الصحية.

إلى جانب ذلك، سوف يعزز دمج الذكاء الاصطناعي في الخدمات الطبية المقدّمة عن بعد، ومتابعة المرضى عن بعد، عملية تقديم الرعاية الصحية. كذلك يمكن لمنصات الخدمات الطبية المقدّمة عن بعد والمعززة بالذكاء الاصطناعي تقديم تشخيصات أولية، والتوصية بخيارات علاجية، بل وحتى توقع درجة خطورة الحالات الطبية. وتتيح الأجهزة، التي يمكن ارتداؤها والمعززة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي، متابعة الحالة الصحية للمرضى بشكل متواصل وتزويد مقدمي الرعاية الصحية ببيانات فورية مع احتمالات التدخل المبكر في حالة وجود أي خلل أو انحراف.

تحديات في التنفيذ والدمج

والواقع أنه وعلى رغم التفاؤل المحيط باستخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية، هناك تحديات كبرى في عملية التنفيذ والدمج، تشمل الحاجة إلى بيانات معيارية ذات جودة عالية تضمن توافق التشغيل بين أنظمة الذكاء الاصطناعي المختلفة وقواعد بيانات الرعاية الصحية، فضلاً عن التدريب المستمر لموظفي الرعاية الصحية من أجل العمل على نحو متوافق مع وسائل الذكاء الاصطناعي التكنولوجية. إضافة إلى ذلك تعدّ معالجة التحديات التنظيمية وضمان التوافق مع معايير الرعاية الصحية من الأمور الضرورية لإتاحة الاستخدام الآمن والفعّال للذكاء الاصطناعي في تلك المجالات.

كذلك تتسم الاعتبارات الأخلاقية المتعلقة بخصوصية البيانات والأمن أهمية كبيرة، لا سيما فيما يتعلق بضمان شفافية وحيادية كل أنظمة الذكاء الاصطناعي وقابليتها للتفسير من الأمور الضرورية لقبولها وفعاليتها في ظروف مجال الرعاية الصحية.

ربما يتمثل التحدي الأكبر في عدم جعل أوجه التقدم، التي يتم تحقيقها باستخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية، مقيدة ومقتصرة على تحسين حياة الأثرياء فحسب. سوف يتم الشعور بالأثر الحقيقي لأدوات الرعاية الصحية التحويلية عندما يتمكن العامّة من الاستفادة منها. ومن اللازم محو الأمية التكنولوجية، وإتاحة الوسائل بتكلفة مقبولة، وسدّ الثغرات المتعلقة بالوصول إليها، ويتطلب هذا تعاوناً بين القطاع الحكومي والجهات المدافعة عن المرضى والمؤسسات التي تستطيع تيسير وصول الوسائل التكنولوجية المعززة بالذكاء الاصطناعي إلى الدول والمجتمعات المحرومة على المستويين الكلي والجزئي.

ختاماً، ومع تطلعنا نحو المستقبل نجد أن قدرة الذكاء الاصطناعي على إحداث تحول في حياة البشر هائلة، فهو لا يعد بتعزيز فعالية وكفاءة العلاج فحسب، بل أيضاً بالمساهمة في تقديم رعاية صحية أكثر توافقاً مع الحالات بشكل شخصي، وأكثر تمركزاً حول المريض، حيث يمكن للوقاية أن تضطلع بدور أكبر. مع ذلك سوف يتطلب تحقيق هذه الإمكانية تعاملاً حريصاً وحذراً مع التحديات الفنية والأخلاقية والتنظيمية. هذا التفاؤل الذي يغمرني يجعلني متيقناً من أن الذكاء الاصطناعي سيكون له أثر كبير على طول أعمار البشر. لذا سوف أتبّع نصيحة بيتر ديامانديس وأحاول ألا أموت لسبب غبي.


مقالات ذات صلة

اختبار وراثي يتنبأ بإصابة المواليد بأمراض خطيرة

صحتك يحدث تسمم الدم لدى الأطفال حديثي الولادة بسبب عدوى شديدة (جامعة كولومبيا البريطانية)

اختبار وراثي يتنبأ بإصابة المواليد بأمراض خطيرة

طوّر فريق من الباحثين أداة للتنبؤ بخطر «تسمم الدم» لدى الأطفال حديثي الولادة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
صحتك مؤتمر الطب التجميلي الثالث بمشاركة 2000 طبيب وجراح محلي وعالمي (الشرق الأوسط)

الرياض تستضيف مؤتمراً لطب التجميل بمشاركة محلية وعالمية

تستضيف العاصمة السعودية الرياض، مؤتمر الأكاديمية العلمية للطب التجميلي في نسخته الثالثة، بمشاركة متحدثين عالميين ومحليين متخصصين في مجال التجميل.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق الاختبار يعتمد على أسئلة سلوكية لقياس ميل المرشحين للنرجسية بطريقة غير مباشرة (جامعة ولاية سان فرنسيسكو)

اختبار جديد في مقابلات العمل يكشف «النرجسيين»

طوّر علماء النفس في جامعة ولاية سان فرنسيسكو الأميركية، اختباراً جديداً لكشف «النرجسية» بين المرشحين للوظائف.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق قضية أنتوني توماس هوفر قيد التحقيق من قبل السلطات الخاصة في أميركا (رويترز)

«توفي دماغياً»... استيقاظ أميركي أثناء عملية استئصال أعضائه للتبرع بها

استيقظ رجل أُصيب بسكتة قلبية، وأُعلن عن وفاته دماغياً، بينما كان الجراحون في ولاية كنتاكي الأميركية، مسقط رأسه، في خضم استئصال أعضائه.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق العالم الأميركي غاري رافكن (أ.ب)

«نوبل الطب» لأميركيين اكتشفا طريقة تنظيم نشاط الجينات

أعلنت جمعية نوبل عن فوز العالمين الأميركيين فيكتور أمبروس وغاري رافكن بجائزة نوبل للفسيولوجيا والطب لعام 2024.

أحمد حسن بلح (القاهرة)

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».

عاجل «إف.بي.آي» يحبط خطة إيرانية لاستئجار قاتل لاغتيال ترمب (أسوشييتد برس)