أميركا على مشارف عام من الانقسامات الداخلية والأزمات الدولية

مسؤولون حاليون وسابقون يقيّمون السياسات ويطرحون توصيات

بايدن وترمب في مناظرتهما الأولى عام 2020 (أ.ب)
بايدن وترمب في مناظرتهما الأولى عام 2020 (أ.ب)
TT

أميركا على مشارف عام من الانقسامات الداخلية والأزمات الدولية

بايدن وترمب في مناظرتهما الأولى عام 2020 (أ.ب)
بايدن وترمب في مناظرتهما الأولى عام 2020 (أ.ب)

في 25 أبريل (نيسان) الماضي، ظهر الرئيس الأميركي جو بايدن على شاشات الأميركيين، وحسم شكوك الكثيرين: الرئيس الأكبر سناً في التاريخ الأميركي سيترشح لولاية ثانية. فرغم أرقام استطلاعات الرأي التي تظهر تدهوراً مستمراً في شعبية بايدن، البالغ من العمر 81 عاماً، فإن رهانه، ورهان حزبه يتمحوران حول هدف واحد: هزيمة خصمه المحتمل دونالد ترمب، و«الحفاظ على ديمقراطية أميركا» التي تعيش تقلبات خارجية وانقسامات داخلية يحذر البعض من زعزعتها لنسيج المجتمع وهيكلية النظام في موسم انتخابي حامٍ مشبع بالتجاذبات والتحديات.

ولعلّ التحدي الأبرز والمعضلة الكبرى بالنسبة لكثيرين، يتمثلان في شخص الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي، وعلى عادته، تحدى التوقعات والتكهنات مستمراً في حشد دعم مناصريه وتصدّر استطلاعات الرأي رغم القضايا القانونية التي يواجهها في المحاكم الأميركية، والتي ستلقي بظلالها على أحداث العام المقبل.

فترمب دخل التاريخ من أبوابه العريضة ليكون أول رئيس يتم عزله مرتين في مجلس النواب، وأول رئيس سابق يتم توجيه تهم جنائية بحقه في التاريخ الأميركي.

تحديات داخلية بين محاكمات وهفوات

يستبعد النائب الجمهوري السابق عن مجلس فيرجينيا دايفيد رمضان أن يصبح ترمب رئيساً للولايات المتحدة، رغم تقدمه في استطلاعات الرأي، فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «على الأرجح أن يكون هو المرشح الجمهوري، لكن من غير المرجح أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة، مع أن هذا معقول. فولاية جديدة لترمب ستكون خطرة على البلاد في هذه المرحلة، وخطوة غير مسبوقة. فهو بمواجهة 91 تهمة جنائية، ولدى حصول الانتخابات، الأرجح أن تكون قد تمت إدانته».

رسم للرئيس السابق دونالد ترمب خلال محاكمة بالاحتيال ضد منظمة ترمب في المحكمة العليا لولاية نيويورك (رويترز)

ومن هذا المنطلق، يكثف الديمقراطيون حملاتهم الداعمة لبايدن، بمعزل عن الأرقام غير المشجعة له في استطلاعات الرأي، وهفواته العلنية المتكررة. فهم يعدّونه المرشح الوحيد الذي يستطيع هزيمة ترمب في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) من العام المقبل. ويتحدث جايسون ستاينبوم المدير السابق لموظفي لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب عن أسباب دعم الديمقراطيين لبايدن، فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «الرئيس بايدن حصد سجل إنجازات كثيرة خلال ولايته، إذ تمكن من إخراج البلاد من زمن وباء كورونا بنجاح وحقق اتفاقات على مشروعات ضخمة للبنى التحتية والرعاية الصحية والطاقة وعنف السلاح في الكونغرس».

لكن التحديات الداخلية، على كثرتها، ليست الوحيدة التي تواجه الرئيس الأميركي، الذي وصل إلى الرئاسة وبجعبته أجندة طموح ترتكز بشكل أساسي على مواجهة الصين، ليصطدم بوابل من الأزمات الدولية بدءاً من أوكرانيا، مروراً بإيران والسودان، ووصولاً إلى غزة.

تحديات خارجية: حرب أوكرانيا وغياب الاستراتيجية

هيمنت حرب أوكرانيا على معظم فترة ولاية بايدن، فقد بدأت هذه الحرب بعد عام تقريباً من وصوله إلى كرسي الرئاسة في البيت الأبيض، ليقضي معظم ولايته الأولى وهو يتعامل مع تداعياتها خارجياً عبر مساعي حشد دعم الحلفاء لتمويل الحرب، وداخلياً من خلال التصدي لمعارضة مزدادة في الكونغرس لإقرار التمويل. وتقول آنا بوريشسيفسكايا كبيرة الباحثين في معهد الشرق الأدنى، إنه رغم أن بايدن «يستحق الثناء لأنه وحّد موقف الغرب حول هذه القضية، فإنه لم يضع استراتيجية واضحة. فإدارة بايدن تفاعلت مع الملف عبر توفير المساعدات وفرض عقوبات على روسيا، لكن هذه ليست استراتيجية، بل خطوات تكتيكية».

رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون إثر انتخابه بعد أسابيع من الفراغ التشريعي (رويترز)

وذكرت بوريشسيفسكايا في مقابلة مع «الشرق الأوسط»، أن المعارضة الداخلية لتمويل الحرب سوف تزداد في الموسم الانتخابي، مشيرة إلى أن «الكرملين يراقب الانتخابات الأميركية عن كثب، وأن استراتيجية بوتين هي الانتظار كي يتخلى الغرب عن أوكرانيا وكي يصل ترمب إلى الرئاسة، لأنه في حال حصول ذلك سيتحقق السيناريو الذي يراهن عليه الرئيس الروسي»، في إشارة إلى تصريحات ترمب العلنية والرافضة لدعم كييف. وختمت بوريشسيفسكايا بلهجة يشوبها الاستياء: «بايدن حرص على عدم خسارة أوكرانيا. لكن هذا لا يعني أنه حرص على فوزها».

حرب غزة و«شيك على بياض» لإسرائيل

وكأن هذه التجاذبات السياسية حول أوكرانيا لم تكن كافية لزعزعة توازن بايدن، لتباغته أزمة أخرى من منطقة اتهمه كثيرون بتجاهلها طوال فترة رئاسته: الشرق الأوسط. فاندلاع حرب غزة وصور الدمار والضحايا المدنيين سلّطا الأضواء على دعم الإدارة الأميركية غير المشروط لإسرائيل، وزاد من حدة الجدل الداخلي حول سياسة «الشيك على بياض» تجاه تل أبيب. ما أدى إلى تعالي أصوات الناخبين الشباب والعرب والمسلمين ضد الرئيس الأميركي، مذكرين بأن أصواتهم هي التي أسهمت في فوزه بولايته الأولى، ومحذرين من سحب الدعم له في ولاية ثانية إن لم يغيّر من مواقفه.

في هذا السياق، تحدث وائل الزيات، المستشار السابق للمندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة والمدير التنفيذي لمنظمة «ايمغايج» المعنية بتنسيق جهود الناخبين المسلمين، فقال لـ«الشرق الأوسط»: «إذا نظرتم إلى الناخبين الشباب عموماً، فإن أغلبيتهم يدعمون وقف إطلاق النار ولا يوافقون على السياسة الداعمة لإسرائيل، كذلك الأمر بالنسبة للناخبين العرب والمسلمين. هناك 200 ألف ناخب مسجل منهم في ميشيغان و200 ألفاً في بنسلفانيا. إن لم يصوتوا أو صوتوا لصالح حزب ثالث، فهذا سيؤثر حتماً على نتيجة الانتخابات. هذا ما نقوله للبيت الأبيض: دعمكم لإسرائيل قد يسلم البلاد لجمهوريي ماغا (الداعمين لترمب)».

ومع ازدياد أعداد الناخبين الرافضين للتصويت لبايدن بسبب موقفه الداعم لإسرائيل، يحذر الزيات من أن «رئاسة ترمب كانت لتكون أسوأ بـ100 مرة من رئاسة بايدن خلال النزاع»، وفسّر موقفه قائلاً: «ترمب هو من قطع تمويل الأونروا، وترمب هو الذي نقل السفارة إلى القدس، وترمب هو الذي اعترف بضم هضبة الجولان... ترمب كان واضحاً بأنه لن يضع أي قيود على ما تقوم به إسرائيل وأنه سيمنع اللاجئين الفلسطينيين من الدخول إلى أميركا».

إيران و«السياسة الفاشلة»

انعكاسات حرب غزة ولّدت تحديات من نوع آخر لإدارة بايدن، تمثلت بهجمات من وكلاء إيران على القوات الأميركية في المنطقة، ما دفع بالمعارضين لسياسته مع طهران إلى التذكير بمساعيه للعودة إلى الاتفاق النووي معها، والتوصل إلى اتفاق لتبادل السجناء نجم عنه الإفراج عن 6 مليارات دولار من الأصول الإيرانية، ما أثار حفيظة المنتقدين، وعلى رأسهم كبير الجمهوريين في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ السيناتور جيم ريش الذي وجّه انتقادات لاذعة للسياسة الأميركية تجاه إيران، فقال لـ«الشرق الأوسط»: «يمكن اختصار سياسة بايدن مع إيران بكلمة واحدة: فاشلة. فالإدارة شاركت في مفاوضات نووية غير مثمرة ورفعت تجميد الأصول وتجنبت فرض العقوبات المرتبطة بالنفط، وفشلت في الترويج للردع الإقليمي، ما قوّى وكلاء إيران الإرهابيين». وعدّ السيناتور البارز أنه «حان الوقت كي تغيّر الولايات المتحدة جذرياً سياستها حيال طهران».

وقدّم ريش الذي يترأس الجمهوريين في لجنة العلاقات الخارجية المعنية بالإشراف على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، مجموعة من التوصيات لإدارة بايدن في تعاطيها المستقبلي مع طهران، فقال: «يجب أن نعود إلى سياسة العزل الاقتصادي، وأن نحرم النظام من الموارد التي يوظفها لدعم الإرهاب الإقليمي».

ويفسر ريش: «هذا يتضمن الحرص على فرض العقوبات الموجود على إيران وتجميد الأصول الإيرانية بشكل دائم حول العالم. يجب أيضاً أن نعمل على استرداد الردع. فالهجمات من المجموعات المدعومة من إيران على القوات الأميركية تخطت 190 اعتداء منذ عام 2021. لا يمكننا تحمل تكلفة الاستمرار بإرسال رسائل متناقضة». وختم السيناتور بتهديد مبطن: «أتطلع قدماً للعمل مع شركاء وحلفاء يشاركونني هذه الآراء لعزل النظام الإيراني في الأشهر المقبلة».

السودان و«سياسة من دون هدف»

يسعى النظام الإيراني جاهداً لبسط نفوذه وتأثيره في مواجهة النفوذ الأميركي، فعمد في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى الدفع لاستئناف العلاقات الدبلوماسية مع بلد يشغل بال الإدارة ويتحدى نفوذها: السودان.

ففي 15 أبريل 2023، وبعد عامين تقريباً من الإطاحة برئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، اندلعت مواجهات بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية، ما أدى إلى ازدياد المخاوف من أي احتمال لعودة السودان إلى مسار الحكم المدني، الذي أسهمت الولايات المتحدة بشكل أساسي في تعزيزه بعد رفع البلاد عن لائحة الإرهاب وإعطائه الحصانة السيادية، بالتزامن مع مساعي الرئيس الأميركي حينها دونالد ترمب توسيع جهود التطبيع مع إسرائيل. في تصوّر تجاهلته إدارة بايدن كلياً بعد وصوله إلى الرئاسة، بحسب توصيف الجمهوريين.

جو بايدن ونجله المدان بالفساد هانتر يصلان إلى نيويورك في 4 فبراير 2023 (أ.ف.ب)

وسعت الإدارة جاهدة إلى احتواء الأزمة وسط تخوف من انعكاساتها المدمرة على السودان ومحيطه، فعمدت إلى التعاون مع السعودية لعقد محادثات جدة في مايو (أيار) من العام نفسه، من دون انفراجات تذكر، ما أدى إلى فرض سلسلة من العقوبات الأميركية على «أفراد ومؤسسات أسهموا في زعزعة الاستقرار».

ويقول كاميرون هادسون كبير الموظفين السابق في مكتب المبعوث الأميركي الخاص للسودان، إن «السياسة الأميركية حيال السودان كانت بشكل عام من دون هدف، وينقصها أي نوع من التركيز الاستراتيجي». وتابع هادسون في حديث مع «الشرق الأوسط»: «منذ لحظة اندلاع الصراع الذي فاجأ الولايات المتحدة، وهي تسعى للحاق بمجريات الأحداث، لكنها لم تجارِها بعد». والمبادرات الدبلوماسية كمحادثات جدة أو توظيف العقوبات لم يتم دعمها من خلال أي انخراط رفيع المستوى، ما أدى إلى تجاهل دور واشنطن بشكل كبير».

وعن احتمال انخراط الولايات المتحدة في جهود فعالة لإنهاء الأزمة في عام 2024، يستبعد هادسون كلياً أن تركز أميركا على النزاع بالشكل اللازم، مشيراً إلى وجود نزاعات في غزة وأوكرانيا ينخرط فيها مسؤولون أميركيون بشكل مستمر، «ويترك نزاعات كالسودان بيد دبلوماسيين ذات مستوى متواضع ليست لديهم السلطة ولا الرؤية لتحريك النفوذ الأميركي الذي يرسم نهاية للصراع وينفذ الأرواح». وختم هادسون بلهجة تشاؤمية: «أتوقع الأمر نفسه من واشنطن في عام 2024: الاستمرار في استنكار الجرائم المرتكبة وفعل القليل لوقفها».

الصين و«منطاد الأزمات»

ومع تشعب الصراعات وتوسعها، سعى الرئيس الأميركي جاهداً إلى إعادة التركيز على المنافسة الأبرز التي تواجهها بلاده: الصين، فمن الصعب عليه أن يتغافل عن الملف في عام حلّق فيه «المنطاد» الشهير فوق رؤوس الأميركيين لأيام عديدة، قبل إسقاطه من قبل الولايات المتحدة في 4 فبراير (شباط) 2023، ما أشعل أزمة دبلوماسية جديدة بين البلدين، تمكنا من تخطيها جزئياً في لقاء تاريخي جمع بين رئيسيهما لأول مرة على أرض أميركية في 15 نوفمبر، حين التقيا على هامش قمة «أبيك» في ولاية كاليفورنيا.

الرئيسان الأميركي جو بايدن والصيني شي جينبينغ مع كبار مساعديهما في سان فرانسيسكو في 15 نوفمبر الحالي (د.ب.أ)

ووصف سوراب غوبتا كبير الباحثين في معهد الدراسات الصينية - الأميركية الاجتماع بالناجح، مذكراً بأبرز ما تم التوافق عليه كاستئناف قنوات التواصل العسكري التي قطعتها الصين بعد زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى تايوان، والتعاون لمكافحة أزمة مخدر الفنتانيل. ويقول غوبتا لـ«الشرق الأوسط»: «تعزيز العلاقات هذا من شأنه أن يكون مفيداً في عام 2024، لصد أي توتر سوف ينجم عن عام انتخابي حامٍ». ويعدّ غوبتا أن «بايدن هو المرشح الأفضل لتوازن العلاقات الأميركية - الصينية، فالحزب الجمهوري هو حزب لديه نظرة متشددة أكثر حيال بكين، والآن مع انهيار منظومة التعاون الدولي وتراجع الأصوات الداعمة للتبادل التجاري داخل الحزب سيكون هناك قليل من الأسس المشتركة للتعاون مع الجمهوريين».

ومع تراكم الأزمات وتشعبها، يحبس العالم أنفاسه بانتظار نوفمبر 2024 موعد الانتخابات الرئاسية التي سترسم مستقبل الولايات المتحدة وتحدد معالم الصراعات المزدادة في عالم متعدد الأقطاب.


مقالات ذات صلة

غانا على مفترق طرق اقتصادي... انتخابات حاسمة تحدد مصير الديون والنمو

الاقتصاد المرشح الرئاسي عن الحزب الوطني الجديد الحاكم محامودو باوميا يلقي كلمة خلال حفل إطلاق حملته في أكرا (رويترز)

غانا على مفترق طرق اقتصادي... انتخابات حاسمة تحدد مصير الديون والنمو

سيذهب الغانيون إلى صناديق الاقتراع في السابع من ديسمبر لاختيار رئيس جديد وبرلمان، في انتخابات تراقبها الأوساط الاستثمارية من كثب.

«الشرق الأوسط» (نيروبي)
أفريقيا الرئيس المؤقت نانجولو مبومبا يدلي بصوته (رويترز)

بعد وفاة حاكمها منذ الاستقلال... ناميبيا تصوّت لاختيار رئيس جديد

يتوجه قرابة مليون ونصف المليون ناخب في دولة ناميبيا إلى صناديق الاقتراع للتصويت على رئيس جديد للبلد الواقع في أقصى جنوب القارة الأفريقية.

الشيخ محمد (نواكشوط)
أوروبا أولاف شولتس يتحدث بعد اختياره مرشحاً للانتخابات المبكرة في برلين الاثنين (رويترز)

شولتس مرشح حزبه للانتخابات المبكرة في ألمانيا

قرر الاشتراكيون الديمقراطيون دعم أولاف شولتس رغم عدم تحسن حظوظ الحزب، الذي تظهر استطلاعات الرأي حصوله على نحو 15 في المائة فقط من نوايا التصويت.

«الشرق الأوسط» (برلين)
المشرق العربي الجلسة الافتتاحية لأعمال الدورة الجديدة للبرلمان الأردني (رويترز)

جدل «الإخوان» في الأردن يعود من بوابة البرلمان

مع بدء الدورة العشرين لمجلس النواب الأردني، الذي انتخب في العاشر من سبتمبر (أيلول) الماضي، بدأ الشحن الداخلي في معادلة الصراع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.

محمد خير الرواشدة (عمّان)
شمال افريقيا ممثلو دول أوروبية داخل مركز العدّ والإحصاء التابع لمفوضية الانتخابات الليبية (المفوضية)

ليبيا: إجراء الانتخابات المحلية ينعش الآمال بعقد «الرئاسية» المؤجلة

قال محمد المنفي رئيس «المجلس الرئاسي» إن إجراء الانتخابات المحلية «مؤشر على قدرة الشعب على الوصول لدولة مستقرة عبر الاستفتاءات والانتخابات العامة».

جمال جوهر (القاهرة)

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».