عندما وضع الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ مؤلفه الشهير «عالم الأمس»، كان هدفه أن ينقل إلينا إحباطه إزاء صعود النظام النازي في ألمانيا، وما كان ينذر به من آفاق مظلمة لمستقبل أوروبا بعد «السنوات الصاخبة» التي عاشتها القارة في عشرينات القرن الماضي عقب نهاية الحرب العالمية الأولى، التي كان قد استشفّ فيها بداية مرحلة من السلام والرفاهية تعمّ البلدان الأوروبية.
واليوم، ونحن على مشارف العام الجديد، يعيش العالم وضعاً مشابهاً لما كان الفيلسوف والكاتب النمساوي يعيشه في تلك الفترة. كل الأنباء سيئة جداً، فيما يتضاعف القلق على وقع أهوال الحرب التي نشهدها كل يوم، ليس فحسب عبر الصور التي تجرّد الضحايا من إنسانيتها، بل خاصة عن طريق الأوضاع التي يستحيل على أي إنسان صالح أن يتحملها. للأسف، أصبحت الحرب جزءاً لا يتجزأ من واقعنا اليومي الذي بات يألف قتل آلاف الأطفال والنساء والمسنين، ويستنهض ضمائرنا فيما تأسرنا مشاعر العجز عن وقف هذه العربدة المدمرة.
وإذا كانت الحرب قد أصبحت بمثابة خبزنا اليومي، فإن التحديات الكبرى التي تواجه البشرية تزيد من منسوب القلق الدائم الذي يحيط بحياتنا. كل القادة السياسيين، إلى جانب المجتمع الدولي بأسره، يعترفون بأن العالم يعيش حالة من المخاض الانتقالي.
خرجنا من «عالم الأمس» الذي تحدث عنه زفايغ، وها نحن ننتظر على قلق وترقب بزوغ «عالم الغد» الذي لم تظهر تباشيره بعد. ولعلّ هذا هو السبب الذي يجعل حاضرنا حافلاً بالأزمات والتناقضات، ويزيد من خطورة المرحلة الراهنة التي تشهد تصارع القوى والمصالح المتضاربة من أجل فرض الهيمنة وتصدّر مواقع السيطرة في مستقبل الحوكمة الدولية.
لا شك في أن المؤسسات والمنظمات التي نشأت في فيلادلفيا، وسان فرنسيسكو، ودومبارتون أوكس وبريتون وودز، سائرة إلى نهايتها، وأن العالم في القرن الحادي والعشرين بات بحاجة إلى نظام جديد متعدد الأطراف يعكس الطموحات، والضرورات والأهداف الجديدة لعالم معقد ومتعدد المحاور.
لكن المشكلة تكمن في أنه على الرغم من إدراك الغالبية الساحقة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لهذه الضرورة، فإن الأقلية التي تحكم العالم، أي الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، ترفض التخلي عن موقعها والسماح بعملية إصلاحية للحوكمة الدولية وفقاً للمعايير الجديدة في القرن الحادي والعشرين.
يضاف إلى ذلك أن اللاعبين الدوليين اليوم قد تغيّروا، وليسوا مقصورين على الدول أو الحكومات، التي أصبح بجانبها لاعبون آخرون نافذون، لهم أيضاً مطالبهم ومجالات نشاطاتهم، مثل القطاع الخاص والمجتمع المدني ووسائل الإعلام. لكن الأجندة تغيّرت هي أيضاً، وما عاد السلم والأمن يتوقفان على النزاعات والأزمات التي تدور حول الأرض كما يحصل حالياً في أوكرانيا وفلسطين، بل أيضاً على التحديات التي تؤثر على مستقبل البشرية، مثل تغيّر المناخ، والجوائح، والهجرة، والإرهاب، والفقر والجوع وغيرها.
من أسف، لم نعرف أو لم نرغب في إيجاد الحلول لأزمات الماضي. والمثال البديهي على ذلك الأزمة الراهنة بين إسرائيل وفلسطين. وفي الوقت نفسه علينا أن نهتم بمستقبل العالم ومعالجة المشاكل الوجودية التي تواجه البشرية. وبالإضافة إلى تغيّر اللاعبين والأجندة، أصبحت التكنولوجيات الجديدة، مثل الذكاء الاصطناعي، تفرض علينا تعديل طرائق عملنا وتكييفها لنتمكن من مواصلة تطوير حياتنا.
لذلك سندخل مرحلة انتقالية مع هذا العام الجديد الذي هو آخر سنوات الربع الأول من القرن، وبنا توق إلى أن يكون عالم رجاء يشهد بداية الإصلاحات الضرورية التي تمهّد لمرحلة جديدة نحو السلام. في القرن الماضي احتاج العالم لنصف قرن تقريباً، ولحربين عالميتين، كي يرسي أسس السلم والعدل. كم من السنوات علينا أن ننتظر لنبدأ مرحلة جديدة من السلم والأخوّة بيننا؟ هل علينا أن ننتظر نشوب حرب عالمية ثالثة؟
وقف الحروب يجب أن يكون في طليعة أولوياتنا، وأن يصبح السلام العنوان الرئيسي لهذه المرحلة. في العقود الأخيرة الماضية اقتصر مفهوم السلام على هاجس وحيد هو الأمن. وهذا ما يتبدّى بوضوح في النزاع الدائر حول أوكرانيا، حيث الأسباب والمبررات عند الطرفين تختصرها التهديدات في المجال الأمني.
والشيء نفسه ينطبق على أجندة إسرائيل الأمنية في مواجهة الحل السياسي الذي يطالب به الفلسطينيون. من واجبنا هنا أن نكون واضحين في القول بأن الأمن لن يتحقق من غير سلام، والسلام لن يأتي أبداً عن طريق «الأمن المفرط». لا بد من الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وحل الدولتين يقتضي الاعتراف الدولي بدولة فلسطين.
أهداف التنمية المستدامة التي توافقت الأسرة الدولية على تحقيقها بحلول عام 2030 يجب أن تبقى أيضاً في صلب اهتماماتنا خلال العام المقبل، وهي لن تتحقق من غير الإصلاحات الضرورية في البنيان الاقتصادي والمالي الذي نشأ في بريتون وودز. لا بد من إصلاح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وإلا فإن الدول الصاعدة قد تلجأ إلى إنشاء مؤسسات مماثلة لكسر الاحتكار الغربي في هذا المضمار.
القرن الحادي والعشرون يكون متعدد الثقافات أو لن يكون
إلى جانب كل ذلك، نعيش ما يمكن تسميته «عودة الحضارات». وفي عالم متعدد الأقطاب، يجب أن نعترف، ونقبل، بتعدد الحضارات، والثقافات والديانات. لا توجد «حضارة» تتفوق على غيرها. كل الحضارات تستحق الاحترام والاعتراف بإسهاماتها التاريخية، وباستعدادها للتفاعل مع بعضها بعضاً. القرن الحادي والعشرون يكون متعدد الثقافات أو لن يكون. وفي أواخر العام المقبل سينظّم تحالف الحضارات في مدينة لشبونة المنتدى العالمي العاشر ليطلق منه نداءً إلى التعايش والأخوة بين جميع البشر.
مهمتان رئيسيتان تنتظران العالم في العام المقبل. مواصلة العمل وتفعيل القرارات والاستنتاجات التي أسفرت عنها قمة المناخ في دبي، وتضافر كل الجهود الممكنة لإنقاذ البشرية من ويلات الحروب. والموعد الذي حدده الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لعقد «قمة المستقبل» مطالع الخريف المقبل، سيكون فرصة لنتبيّن إذا كان العالم منكباً على هاتين المهمتين بالإرادة السياسية الكافية.