2024 عام الرجاء

2024 عام الرجاء
TT

2024 عام الرجاء

2024 عام الرجاء

عندما وضع الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ مؤلفه الشهير «عالم الأمس»، كان هدفه أن ينقل إلينا إحباطه إزاء صعود النظام النازي في ألمانيا، وما كان ينذر به من آفاق مظلمة لمستقبل أوروبا بعد «السنوات الصاخبة» التي عاشتها القارة في عشرينات القرن الماضي عقب نهاية الحرب العالمية الأولى، التي كان قد استشفّ فيها بداية مرحلة من السلام والرفاهية تعمّ البلدان الأوروبية.

واليوم، ونحن على مشارف العام الجديد، يعيش العالم وضعاً مشابهاً لما كان الفيلسوف والكاتب النمساوي يعيشه في تلك الفترة. كل الأنباء سيئة جداً، فيما يتضاعف القلق على وقع أهوال الحرب التي نشهدها كل يوم، ليس فحسب عبر الصور التي تجرّد الضحايا من إنسانيتها، بل خاصة عن طريق الأوضاع التي يستحيل على أي إنسان صالح أن يتحملها. للأسف، أصبحت الحرب جزءاً لا يتجزأ من واقعنا اليومي الذي بات يألف قتل آلاف الأطفال والنساء والمسنين، ويستنهض ضمائرنا فيما تأسرنا مشاعر العجز عن وقف هذه العربدة المدمرة.

وإذا كانت الحرب قد أصبحت بمثابة خبزنا اليومي، فإن التحديات الكبرى التي تواجه البشرية تزيد من منسوب القلق الدائم الذي يحيط بحياتنا. كل القادة السياسيين، إلى جانب المجتمع الدولي بأسره، يعترفون بأن العالم يعيش حالة من المخاض الانتقالي.

خرجنا من «عالم الأمس» الذي تحدث عنه زفايغ، وها نحن ننتظر على قلق وترقب بزوغ «عالم الغد» الذي لم تظهر تباشيره بعد. ولعلّ هذا هو السبب الذي يجعل حاضرنا حافلاً بالأزمات والتناقضات، ويزيد من خطورة المرحلة الراهنة التي تشهد تصارع القوى والمصالح المتضاربة من أجل فرض الهيمنة وتصدّر مواقع السيطرة في مستقبل الحوكمة الدولية.

مظاهرة لفلسطينيات وإسرائيليات من مناصرات السلام في تل أبيب منتصف الشهر (أ.ب)

لا شك في أن المؤسسات والمنظمات التي نشأت في فيلادلفيا، وسان فرنسيسكو، ودومبارتون أوكس وبريتون وودز، سائرة إلى نهايتها، وأن العالم في القرن الحادي والعشرين بات بحاجة إلى نظام جديد متعدد الأطراف يعكس الطموحات، والضرورات والأهداف الجديدة لعالم معقد ومتعدد المحاور.

لكن المشكلة تكمن في أنه على الرغم من إدراك الغالبية الساحقة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لهذه الضرورة، فإن الأقلية التي تحكم العالم، أي الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، ترفض التخلي عن موقعها والسماح بعملية إصلاحية للحوكمة الدولية وفقاً للمعايير الجديدة في القرن الحادي والعشرين.

يضاف إلى ذلك أن اللاعبين الدوليين اليوم قد تغيّروا، وليسوا مقصورين على الدول أو الحكومات، التي أصبح بجانبها لاعبون آخرون نافذون، لهم أيضاً مطالبهم ومجالات نشاطاتهم، مثل القطاع الخاص والمجتمع المدني ووسائل الإعلام. لكن الأجندة تغيّرت هي أيضاً، وما عاد السلم والأمن يتوقفان على النزاعات والأزمات التي تدور حول الأرض كما يحصل حالياً في أوكرانيا وفلسطين، بل أيضاً على التحديات التي تؤثر على مستقبل البشرية، مثل تغيّر المناخ، والجوائح، والهجرة، والإرهاب، والفقر والجوع وغيرها.

من أسف، لم نعرف أو لم نرغب في إيجاد الحلول لأزمات الماضي. والمثال البديهي على ذلك الأزمة الراهنة بين إسرائيل وفلسطين. وفي الوقت نفسه علينا أن نهتم بمستقبل العالم ومعالجة المشاكل الوجودية التي تواجه البشرية. وبالإضافة إلى تغيّر اللاعبين والأجندة، أصبحت التكنولوجيات الجديدة، مثل الذكاء الاصطناعي، تفرض علينا تعديل طرائق عملنا وتكييفها لنتمكن من مواصلة تطوير حياتنا.

لذلك سندخل مرحلة انتقالية مع هذا العام الجديد الذي هو آخر سنوات الربع الأول من القرن، وبنا توق إلى أن يكون عالم رجاء يشهد بداية الإصلاحات الضرورية التي تمهّد لمرحلة جديدة نحو السلام. في القرن الماضي احتاج العالم لنصف قرن تقريباً، ولحربين عالميتين، كي يرسي أسس السلم والعدل. كم من السنوات علينا أن ننتظر لنبدأ مرحلة جديدة من السلم والأخوّة بيننا؟ هل علينا أن ننتظر نشوب حرب عالمية ثالثة؟

وقف الحروب يجب أن يكون في طليعة أولوياتنا، وأن يصبح السلام العنوان الرئيسي لهذه المرحلة. في العقود الأخيرة الماضية اقتصر مفهوم السلام على هاجس وحيد هو الأمن. وهذا ما يتبدّى بوضوح في النزاع الدائر حول أوكرانيا، حيث الأسباب والمبررات عند الطرفين تختصرها التهديدات في المجال الأمني.

والشيء نفسه ينطبق على أجندة إسرائيل الأمنية في مواجهة الحل السياسي الذي يطالب به الفلسطينيون. من واجبنا هنا أن نكون واضحين في القول بأن الأمن لن يتحقق من غير سلام، والسلام لن يأتي أبداً عن طريق «الأمن المفرط». لا بد من الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وحل الدولتين يقتضي الاعتراف الدولي بدولة فلسطين.

أهداف التنمية المستدامة التي توافقت الأسرة الدولية على تحقيقها بحلول عام 2030 يجب أن تبقى أيضاً في صلب اهتماماتنا خلال العام المقبل، وهي لن تتحقق من غير الإصلاحات الضرورية في البنيان الاقتصادي والمالي الذي نشأ في بريتون وودز. لا بد من إصلاح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وإلا فإن الدول الصاعدة قد تلجأ إلى إنشاء مؤسسات مماثلة لكسر الاحتكار الغربي في هذا المضمار.

القرن الحادي والعشرون يكون متعدد الثقافات أو لن يكون

إلى جانب كل ذلك، نعيش ما يمكن تسميته «عودة الحضارات». وفي عالم متعدد الأقطاب، يجب أن نعترف، ونقبل، بتعدد الحضارات، والثقافات والديانات. لا توجد «حضارة» تتفوق على غيرها. كل الحضارات تستحق الاحترام والاعتراف بإسهاماتها التاريخية، وباستعدادها للتفاعل مع بعضها بعضاً. القرن الحادي والعشرون يكون متعدد الثقافات أو لن يكون. وفي أواخر العام المقبل سينظّم تحالف الحضارات في مدينة لشبونة المنتدى العالمي العاشر ليطلق منه نداءً إلى التعايش والأخوة بين جميع البشر.

مهمتان رئيسيتان تنتظران العالم في العام المقبل. مواصلة العمل وتفعيل القرارات والاستنتاجات التي أسفرت عنها قمة المناخ في دبي، وتضافر كل الجهود الممكنة لإنقاذ البشرية من ويلات الحروب. والموعد الذي حدده الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لعقد «قمة المستقبل» مطالع الخريف المقبل، سيكون فرصة لنتبيّن إذا كان العالم منكباً على هاتين المهمتين بالإرادة السياسية الكافية.


مقالات ذات صلة

أمل جديد لأصحاب الأطراف المبتورة في غزة

المشرق العربي أمل جديد لأصحاب الأطراف المبتورة في غزة

أمل جديد لأصحاب الأطراف المبتورة في غزة

وسط تحديات جسيمة في قطاع غزة، تبرز بادرة أمل جديدة لأصحاب الأطراف المبتورة، من خلال تقنية مبتكرة لأطراف صناعية سهلة التركيب.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية الرئيس التركي رجب طيب إردوغان (الرئاسة التركية)

إردوغان يتمنى أن يقول ترمب لإسرائيل: «توقفي»

عبّر الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عن أمله في أن يطلب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب من إسرائيل وقف الحرب وتعليق الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي رجل يحمل امرأة فلسطينية فقدت ساقها عندما أُصيب منزل عائلتها في غارة إسرائيلية بمخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة (أ.ف.ب) play-circle 00:29

الأمم المتحدة: نحو 70 % من قتلى حرب غزة نساء وأطفال

كشف تقرير للأمم المتحدة اليوم (الجمعة) أن النساء والأطفال يشكّلون «نحو 70 في المائة» من قتلى الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
أوروبا اشتباكات بين مشجعي كرة قدم إسرائيليين وشباب هولنديين بالقرب من محطة أمستردام سنترال (رويترز) play-circle 00:40

إصابة 5 أشخاص واعتقال العشرات بعد أعمال عنف استهدفت مشجعي كرة قدم إسرائيليين

قالت الشرطة في أمستردام، الجمعة، إنه تم توقيف 62 شخصاً ونقل 5 أشخاص إلى المستشفى مصابين بجروح، بعد أعمال شغب اندلعت في وسط المدينة عقب مباراة.

«الشرق الأوسط» ( أمستردام)
الولايات المتحدة​ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في نيويورك (أ.ف.ب)

بلينكن يبحث مع نظيره الفرنسي أهمية التوصل لحل دبلوماسي في لبنان

قالت وزارة الخارجية الأميركية، إن الوزير أنتوني بلينكن، بحث مع نظيره الفرنسي جان نويل بارو، ضرورة التوصل إلى حل دبلوماسي في لبنان وإنهاء الحرب في قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!