«اليوم التالي» في غزة الآن قبل ضياع جيل آخر

أنقاض منزل عائلة مناصرة التي قتلت غارة إسرائيلية في مخيم المغازي عشرات من أفرادها (إ.ب.أ)
أنقاض منزل عائلة مناصرة التي قتلت غارة إسرائيلية في مخيم المغازي عشرات من أفرادها (إ.ب.أ)
TT

«اليوم التالي» في غزة الآن قبل ضياع جيل آخر

أنقاض منزل عائلة مناصرة التي قتلت غارة إسرائيلية في مخيم المغازي عشرات من أفرادها (إ.ب.أ)
أنقاض منزل عائلة مناصرة التي قتلت غارة إسرائيلية في مخيم المغازي عشرات من أفرادها (إ.ب.أ)

«إننا نؤمن بحمل السلاح دفاعاً عن النفس ولردع العدوان. ولكننا نؤمن أيضاً بالسلام عندما يقوم على العدل والإنصاف، وعندها يُنهى الصراع. ولا يمكن أن تزدهر العلاقات الطبيعية بين شعوب المنطقة، وتسمح للمنطقة بمتابعة التنمية بدلاً من الحرب، إلا في سياق السلام الحقيقي».

أدلى الملك عبد الله، وكان ولياً للعهد وقتذاك، بهذا التصريح أمام الجامعة العربية في عام 2002، داعياً إلى تبني المبادرة السعودية الداعية إلى إقامة علاقات طبيعية وضمان أمن إسرائيل مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة، والاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين.

وفي بيان مشترك صدر عن الأمير عبد الله والرئيس جورج دبليو بوش عام 2005، وجهت الولايات المتحدة الشكر بشكل خاص إلى الملك عبد الله على «مبادرته الجريئة التي تبناها بالإجماع والتي تسعى إلى تشجيع السلام الإسرائيلي الفلسطيني والإسرائيلي العربي». وقال البيان إن «الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ترغبان في التوصل إلى تسوية عادلة عن طريق التفاوض تعيش فيها دولتان ديمقراطيتان، إسرائيل وفلسطين، جنباً إلى جنب في سلام وأمن».

قبل عام من المبادرة السعودية تلك، كان الرئيس كلينتون قد وضع المعايير المتعلقة بالأرض والأمن والقدس واللاجئين، في خطاب ألقاه في يناير (كانون الثاني) 2001، وقال: «فيما يتصل بحل الخلافات المتبقية، سواء جاءت اليوم أو بعد سنوات عدة من الحسرة وسفك الدماء، فإن الخيارات الأساسية المؤلمة، وإنما الضرورية، سوف تظل بلا أدنى شك كما هي».

كانت الانتفاضة الثانية في أيامها الأولى أثناء خطاب كلينتون. وقد أسهمت في التحركات الإسرائيلية نحو الانفصال من جانب واحد: انسحاب وإبعاد المستوطنين من غزة عام 2005، وبناء الجدار الأمني في الضفة الغربية.

آثار الدمار الذي خلفه القصف الإسرائيلي على بيت لاهيا (أ.ف.ب)

وفي السنوات اللاحقة، ظهر العديد من مبادرات السلام، على الرغم من عدم تنفيذ أي منها باستراتيجية سياسية قادرة على كسب الدعم أو الإسناد المطلوب من جميع الأطراف. تضمنت «اتفاقيات إبراهيم»، الموقعة عام 2020، تدابير بين إسرائيل وغيرها من الجهات الفاعلة الإقليمية، كانت قد اقتُرحت سابقاً في سياق جهود السلام السابقة، ولكنها نُفذت بأقل قدر من المكاسب للفلسطينيين.

وبعد جيل كامل، تبدو الجولة الأخيرة من الحرب - التي أطلق لها العنان في 7 أكتوبر (تشرين الأول) بهجوم (حماس) الإرهابي والوحشي على الإسرائيليين - متنافرة إلى درجة كبيرة، ومدمرة إلى حد مذهل أعمى بصائر العديد من الناس، إلى الحد الذي جعل هؤلاء الذين استهلكتهم الأحداث الجارية يفتقرون إلى الحسّ اللازم حتى يروا أفقاً أفضل ممكناً.

ومع ذلك، لا بد من إعادة قراءة خطاب الرئيس كلينتون، أو خطاب الملك عبد الله في بيروت، أو البيان المشترك للرئيس بوش والملك عبد الله. ففي الحقيقة، أصبحت كلماتهم المتماسكة بشكل لافت والنابعة من فَهْم عَميق للأمور قابلة للتطبيق اليوم بصورة صارخة. وإذا كان العالم في حاجة إلى حجة مقنعة تبرر كارثية شعار «النهر إلى البحر» في واقع الدولة الواحدة، سواء كانت نسخة متطرفة من فلسطين أو إسرائيل، فإننا نشهد الآن كيف تتبدى الوقائع على الأرض.

وتشكل رؤية «الدول تقف جنباً إلى جنب» الأمل الوحيد في إمكانية إحلال السلام والأمن المستدامين. فحل الدولتين على هذا النحو وحده لن يخدم مصالح الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب، وإنما أيضاً مصالح بلدان المنطقة والعالم. والولايات المتحدة لا غنى عنها للمساعدة في تحقيق هذه الغاية. فهي أولاً تتمتع بتاريخ ثري من الالتزام الرئاسي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فضلاً عن شبكة من العلاقات البناءة التي تفتقر إليها الصين وروسيا.

كيف نصل إلى تلك الغاية من هذا المنطلق؟ هذه خطوات خمس قد تشكل بداية مناسبة.

بداية، لا بد للمملكة من تفعيل دورها في عمليات السلام بوصفها بوابة وإطاراً توجيهياً للمراحل المقبلة.

ثانياً، وفي أقرب فرصة، حتى قبل انتهاء الهجوم الإسرائيلي ضد القيادة العسكرية لـ«حماس»، يحتاج الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية إلى أن يروا ويشعروا بأن ثمة طريقاً إلى غد أفضل. وهذا يتطلب إنشاء بنية مؤقتة للحكم والأمن تكون بمثابة أداة انتقالية قادرة على دفع الأمور نحو إقامة دولة فلسطينية مستدامة. وفي ظل هذه البنية، ينبغي ألا يخاف الفلسطينيون من الانتقاد العلني لأولئك الذين هم في السلطة، والعمل على توفير المياه والكهرباء والغذاء، وإعادة بناء أسرع للمنازل والمدارس والمستشفيات وتأمين فرص عمل جيدة. كذلك يحتاج سكان الضفة الغربية إلى أن يروا محاكمة واضحة للمستوطنين الإسرائيليين من قبل السلطات الإسرائيلية في الوقت الحقيقي بسبب سلوكهم التعسفي.

ثالثاً، لا بد من دفع التحالف العربي (المصري - الأردني - الخليجي) إلى الأمام، وأن تشارك السلطة الفلسطينية في شكلها وهيكلها الحاليين في المقعد الأمامي إلى أن تتمكن من تولي القيادة. ومن شأن هذا التحالف أن يدعو الأمم المتحدة إلى ممارسة وإعادة بناء بنيتها التحتية المدنية القائمة، والعمل مع الآخرين لضمان الأمن الكافي لحماية حياة الفلسطينيين اليومية، ووقف التهديدات المستجدة التي قد تشكّلها «حماس» في الداخل أو لإسرائيل.

رابعاً، يتعين على إسرائيل أن يحكمها تيار الوسط السياسي؛ حيث تقع الغالبية الإسرائيلية. ويتوقع الإسرائيليون إجراء تحقيق شامل في إخفاقات القيادة التي ربما تكون قد أسهمت في عدم الاستعداد لهجمات 7 أكتوبر؛ ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى ظهور رئيس وزراء جديد، وائتلاف حاكم أكثر وسطية. وخلال هذه الفترة، سوف يحتاج الإسرائيليون إلى استعادة الثقة بقدرة الدولة على ضمان أمنهم وسلامتهم، حتى في الوقت الذي يعيدون فيه اكتشاف الصلة بين أن يكونوا ديمقراطية قوية وبين توفير وطن مستدام للشعب اليهودي.

الأسيرة الإسرائيلية أدا ساغي بين يدي جيش الاحتلال بعد إطلاق سراحها نهاية الشهر الماضي (إ.ب.أ)

خامساً وأخيراً، سوف يحتاج المجتمع الإقليمي والدولي، ومن ضمنه إسرائيل، إلى تقديم دعم كبير لهذه الجهود.

ولا ينبغي لنا أن نتوقع من الفلسطينيين أو الإسرائيليين وحدهم أن يتمكنوا من تغيير مفاجئ للأوضاع في أي اتجاه، فيصبحون فجأة أكثر وضوحاً في النظر إلى حل الدولتين بوصفه الحل الذي يحتاج إليه كل من الشعبين؛ خصوصاً الجيل القادم الذي عاقته السياسة والساسة المفتقرون إلى تلك الرؤية وذلك التركيز.

وبوسع زعماء المنطقة، الذين وقعوا أو قد يوقعون اتفاقيات سلام، بالشراكة مع الولايات المتحدة وغيرها من الأطراف الخارجية الداعمة، أن يضطلعوا بدور رئيسي في ترسيخ هذا الوضوح، وفي ضمان مصداقية المسار الذي يؤدي إلى إقامة دولتين، ومستقبل أكثر استقراراً وأمناً واستدامة وديمقراطية.


مقالات ذات صلة

حرب غزة: أكثر من 7 آلاف مجزرة إسرائيلية... و1400 عائلة مُحيت من السجلات

المشرق العربي صبي جريح يجلس في مستشفى شهداء الأقصى عقب تعرضه للإصابة في غارة جوية إسرائيلية في مخيم البريج وسط غزة (إ.ب.أ)

حرب غزة: أكثر من 7 آلاف مجزرة إسرائيلية... و1400 عائلة مُحيت من السجلات

أعلنت وزارة الصحة في قطاع غزة أن «قوات الاحتلال ارتكبت 7160 مجزرة بحق العائلات الفلسطينية في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر».

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي فلسطينيات يستخدمن طريقاً جافاً لنقل المياه إلى خيمتهن بعد هطول أمطار غزيرة بدير البلح وسط قطاع غزة الأحد (أ.ف.ب)

الغزيون يكابدون الأمطار والبرد

تسبب الانخفاض الجوي الذي تشهده غزة، هذه الأيام، في زيادة معاناة سكان القطاع الذين يعانون أصلاً ويلات الحرب منذ 14 شهراً.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية جنود في مقبرة بالقدس خلال تشييع رقيب قُتل في غزة يوم 20 نوفمبر (أ.ب)

صرخة جندي عائد من غزة: متى سيستيقظ الإسرائيليون؟

نشرت صحيفة «هآرتس» مقالاً بقلم «مقاتل في جيش الاحتياط»، خدم في كل من لبنان وقطاع غزة. جاء المقال بمثابة صرخة مدوية تدعو إلى وقف الحرب.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
شمال افريقيا جانب من محادثات وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي مع نظيره الإيراني في القاهرة الشهر الماضي (الخارجية المصرية)

مصر تطالب بخفض التوترات في المنطقة و«ضبط النفس»

أعرب وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، خلال اتصال هاتفي تلقاه من نظيره الإيراني، عباس عراقجي، مساء الخميس، عن قلق بلاده «من استمرار التصعيد في المنطقة».

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
شؤون إقليمية وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير (رويترز)

ماذا نعرف عن «الخلية الفلسطينية» المتهمة بمحاولة اغتيال بن غفير؟

للمرة الثانية خلال ستة شهور، كشفت المخابرات الإسرائيلية عن محاولة لاغتيال وزير الأمن القومي الإسرائيلي، المتطرف إيتمار بن غفير، الذي يعيش في مستوطنة بمدينة…

نظير مجلي (تل ابيب)

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!