الألعاب الإلكترونية... «تنافس» اقتصادي و«صراع» ثقافي

أميركا والصين تتصدران... ومساعٍ عربية واعدة للتأثير والحضور

«الجيل زد»... الهاتف الجوال والألعاب الإلكترونية جزء أساسي من الروتين اليومي
«الجيل زد»... الهاتف الجوال والألعاب الإلكترونية جزء أساسي من الروتين اليومي
TT

الألعاب الإلكترونية... «تنافس» اقتصادي و«صراع» ثقافي

«الجيل زد»... الهاتف الجوال والألعاب الإلكترونية جزء أساسي من الروتين اليومي
«الجيل زد»... الهاتف الجوال والألعاب الإلكترونية جزء أساسي من الروتين اليومي

ربما لم يتصور مالكو شركة «نوتي دوغ» الأميركية عندما كانوا يطلقون لعبتهم الإلكترونية «ذا لاست أوف أس» (The last of us) في عام 2013 أنها ستصبح بعد عِقد كامل مُلهمة لصناع مسلسل تلفزيوني يحمل الإسم نفسه والفكرة ذاتها للعبة ونال مشاهدات واسعة؛ لكن هذا ما حدث لتتأكد وتترسخ معه مجدداً ملامح وتأثيرات مشهدٍ آخذ في التطور والنمو لقطاع الألعاب الإلكترونية على مستويات عدة حول العالم.

لكن الأمر لم يعد قضية حقوق ملكية أو اقتباس بين منتج فني وآخر إلكتروني يتم تسويتها وفق عقود قانونية ومستحقات مادية؛ بل إن السنوات الأخيرة أظهرت وعززت، بحسب ما تقصت ورصدت «الشرق الأوسط»، أبعاداً تنافسية دولية ذات شق اقتصادي بمليارات الدولارات، وأخرى ثقافية تراوح مكانها بين الدين والتاريخ والسياسة، فضلاً عن استراتيجيات وطنية وإقليمية لجذب مئات الملايين من جمهور هذه الصناعة العملاقة.

بالنظر إلى حجم سوق الألعاب الإلكترونية العالمية والذي بلغ حجمها العام الماضي نحو 235 مليار دولار (بحسب تقديرات مؤسسة «نيوزو» Newzoo المتخصصة في إحصاءات الألعاب الإلكترونية)؛ فإن التنافس قائم ونشط بين شركات عدة، لكن الصراع على صدارة قطاع الألعاب عالمياً يتركز بشكل كبير ما بين الولايات المتحدة والصين.

ورغم تصدر أميركا والصين الصورة؛ فإن ذلك لم يمنع قوى صاعدة تأتي في مقدمتها منطقة الشرق الأوسط، التي تشهد حراكاً لافتاً، من الظهور على خريطة التنافس العالمي في مجال الألعاب الإلكترونية. وتتطور المنافسة الأميركية - الصينية من امتلاك أكبر الشركات المنتجة للألعاب عالمياً إلى صراع محتدم على التهام كعكة الأرباح.

وبحسب الموقع المتخصص في الإحصاءات «ستاتيستا»، استطاعت الولايات المتحدة الاحتفاظ بالنصيب الأكبر من سوق الألعاب الإلكترونية في العالم خلال عام 2022 بإيرادات وصلت إلى 55 مليار دولار من خلال 156 مليون مستخدم. في المقابل، لم تتمكن الصين التي تحمل لقب «عاصمة ألعاب الفيديو» إلا من تحقيق 44 مليار دولار، خلال العام الماضي، رغم أن عدد اللاعبين بها تجاوز 714 مليون شخص (أي ضعف عدد سكان الولايات المتحدة تقريباً).

سجلت أعداد مستخدمي الألعاب الإلكترونية أكثر من 3 مليارات لاعب حول العالم خلال العام الحالي (رويترز)

ويزداد التنافس سخونة مع التوقعات بتسجيل أعداد مستخدمي الألعاب الإلكترونية أكثر من 3 مليارات لاعب حول العالم خلال العام الحالي، فضلاً عن تنامي متوسط العائد السنوي عن كل مستخدم في سوق ألعاب الفيديو، والذي قفز من 58.9 دولار في عام 2019، إلى 80.18 دولار في عام 2022، مع توقع بارتفاع العائد إلى 84.19 دولار هذه العام الحالي (وفق تقديرات «نيوزوو»). وهو ما يعني أن الألعاب الإلكترونية يمكن أن تكون أكثر ربحية لمنتجيها (شركات أو ودول) مقارنة بالكثير من الصناعات التقليدية في العالم.

الأعداد V.S التقنية

ولعل الفرص الربحية المتنامية لقطاع لألعاب، تفسر جانباً من تحرك بكين في ديسمبر (كانون الأول) 2020، لإدراج الرياضات الإلكترونية كواحدة من الأحداث الرسمية لدورة الألعاب الآسيوية عام 2022، كما تسعى بكين إلى إدراج الرياضات الإلكترونية لتكون ضمن الألعاب الأولمبية.

تشين جيانغ، الأستاذ المشارك في كلية هندسة الإلكترونيات وعلوم الكمبيوتر بجامعة بكين، يقول لـ«الشرق الأوسط»: إن «الصين تنظر للألعاب الإلكترونية بوصفها فرصة اقتصادية، وليس مجرد هواية صبيانية»، مضيفاً: «لقد باتت جزءاً من سياسة الصين فيما يتعلق بالابتكارات».

ويتابع الأكاديمي الصيني: «منذ عام 2003 تم الاعتراف بالألعاب الإلكترونية على أنها رياضة رسمية من قِبل (الإدارة العامة للرياضة) في الصين؛ وهو ما أكسب القطاع أولوية واهتماماً، خاصة في ظل توافر متطلبات الصناعة، ونمو الاهتمام الجامعي بالقطاع».

ومع ذلك، فإن جيانغ يعتقد أن «المنافسة المحتدمة بمجال الألعاب الإلكترونية خاصة من الولايات المتحدة، وكوريا الجنوبية، واليابان، فضلاً عن طموح دول جديدة في هذا المضمار مثل: سنغافورة، وماليزيا، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، سيخلقان مزيداً من الضغوط على الصين». لكن جيانغ يعود ويراهن على أن «امتلاك الصين عدداً كبيراً من اللاعبين ميزة لا يمكن لأي دولة في العالم أن تنافسها بشأنها».

تطور عدد مستخدمي الألعاب الإلكترونية حول العالمي (منصة فايننس أونلاين)

وإذا كان الرهان الصيني على «الأعداد الكبيرة»، فإن ثمة ميزة لدى المنافسين الغربيين، يراها كيث كرون، خبير التسويق الكندي والمتخصص في الألعاب الإلكترونية، وتتمثل في تطوير التقنيات مثل «الواقع المعزز» (الميتافيرس) واستخدامها في الألعاب.

ويقول كرون لـ«الشرق الأوسط»: «سيكون الأمر بمثابة (ثورة تكنولوجية) ذات مردود اقتصادي كبير... آجلاً أم عاجلاً ستفرض التقنيات الحديثة نفسها، وشكل المنافسة وتسويقها سيكون مختلفاً تماماً».

شغف الطفولة والثراء

يمكن القول إن التنافس الاقتصادي بين عمالقة الدول والشركات بسوق الألعاب الإلكترونية، بمثابة لوحة فسيفساء كبرى تتخللها قطع أصغر أو بالأحرى لاعبون. لكن السردية الكلاسيكية بشأن المتلقي - أو الزبون - الذي يدفع وفقط لصالح الخدمة أو المتعة التي تقدمها اللعبة، ربما لا تصلح وحدها الآن لتفسير حجم التفاعل المتنامي مع اللعبة، يبدو أن هناك شيئاً أعمق يغري المستخدمين.

في عام 2020، قرأ الشاب المصري، إسلام فراج، إعلاناً عن تنظيم «البطولة العربية الأولى للألعاب الإلكترونية» تحت رعاية «جامعة الدول العربية»، بمجموع جوائز 5 آلاف دولار لكل لعبة، وبإجمالي 15 ألف دولار.

لعبة "فورتنايت" وشعار شركة "أبل"... ارتباط وثيق بين الألعاب الالكترونية والهواتف الجوالة (رويترز)

بشغف الطفولة وقدرات اللعب المتقدمة، تحمس فراج آنذاك للمشاركة، وفاز بأحد فروعها، ليتحول الأمر وفق ما يقول لـ«الشرق الأوسط» من «خانة الهواية، إلى الاحتراف، والرغبة في استثمار قدرات اللعب لاصطياد الجوائز التي باتت تتيحها مسابقات إقليمية ودولية في هذا المجال».

يروي فراج أن الأمر بدأ بمعارضة تقليدية من أسرته لمسألة انخراطه في الألعاب الإلكترونية؛ لكونها «مضيعة للوقت»، لكنه وبعد تحويلها إلى مصدر دخل حقيقي «استطاع إقناعهم بموهبته».

على الصعيد العالمي، تزدهر سوق مسابقات الألعاب الإلكترونية، ومنها بطولات مثل Fortnite World Cup بجوائز تخطت قيمتها 30 مليون دولار، وكذلك بطولة Dota 2 International والتي يتصاعد مجموع جوائزها بصورة سنوية؛ إذ ارتفع من 10 ملايين دولار في عام 2014، وصولاً إلى 40 مليون دولار منذ عام 2021.

وبالإضافة إلى المكاسب المادية، أسهمت عمليات تنظيم قطاع الألعاب الإلكترونية ضمن اتحادات ذات طابع رسمي في تعزيز المنافسة، وتحولت الألعاب خلال السنوات الأخيرة إلى مسمى الرياضات الإلكترونية «Esports»، وبات العديد من الدول يعترف بها كـ«رياضة».

فرص واعدة لرواد الأعمال

الإغراءات المتنوعة للقطاع لم تقتصر على اللاعبين، ومع النمو الكبير لسوق الألعاب عالمياً زاد الاهتمام بها. وبحسب تقرير نشره موقع FinancesOnline العالمي في مايو (أيار) الماضي، فإن هناك أكثر من 2400 شركة لألعاب الفيديو في جميع أنحاء العالم، توفر مئات الآلاف من فرص العمل.

عزيزة الأحمدي، رائدة أعمال وأول سيدة سعودية تمتلك شركة متخصصة في مجال الألعاب الإلكترونية، تقول لـ«الشرق الأوسط» إنها بدأت نشاطها في عام 2014، ضمن مجموعة من رواد الأعمال بالسوق السعودية والمنطقة العربية ممن استشرفوا المستقبل الواعد لتلك الصناعة. تضيف أنها بحكم عملها في مجال الاتصالات كانت «على يقين بأن تلك الصناعة ستحقق مكانة مختلفة مستقبلاً، وستستقطب في لحظة ما الاهتمام الحكومي».

تشرح الأحمدي بأن صناعة الألعاب يمكن أن تكون «قطاعاً اقتصادياً قيادياً» لارتباطها بنحو 63 مجالاً آخر، فضلاً عن توظيف للمبدعين في مجالات متنوعة كالموسيقى والرسم والغرافيك والسيناريو، فالألعاب الإلكترونية خليط من الفنون. وتتابع: «في تقديري، تأثير الألعاب في الصناعات الإبداعية لا يقل عن تأثير الرياضيات في العلوم».

أكبر عشر شركات بالعالم في مجال الألعاب الإلكترونية من حيث الأرباح حتى مطلع 2023 (منصة ستاتيستا للإحصائيات)

ومع توقع رائدة الأعمال السعودية أن «تشهد السنوات الخمس المقبلة مكانة مختلفة للمنطقة العربية في المجال؛ فإنها ترهن ذلك بتغيير نظرة الشركات العربية العاملة في هذا المجال، لتكون نظرة إقليمية، وليست فردية، بحيث يحدث نوع من التكامل الإقليمي في أكثر من دولة، وبما يعود بالنفع على توزيع المهام».

وترى الأحمدي أن «الشركات السعودية بدأت بالفعل العمل وفق تلك الرؤية التكاملية السابقة التي تترجم نظرة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بشأن ارتباط تطور المملكة بتطور المنطقة كلها في مسار التنمية».

«سافي» والرؤية الطموحة

حتى سنوات قريبة، لم تكن المنطقة العربية سوى سوق استهلاكية كبيرة لتلك الألعاب، إلى أن انتبهت بعض حكومات المنطقة، وفي مقدمها السعودية والإمارات ومصر والأردن، إلى ضرورة خوض المضمار ذاته، وانطلقت في هذا السياق استراتيجيات حكومية طموحة لتوطين صناعة الألعاب وسط سياق الاستثمارات غير التقليدية.

ضمن «رؤية 2030» التي تعمل السعودية على تحقيقها، جاءت «الاستراتيجية الوطنية للألعاب والرياضات الالكترونية»، والتي تستهدف أن تكون المملكة مركزاً عالمياً لهذا القطاع من الأعمال، بميزانية تتجاوز 142 مليار ريال، وشملت 70 مليار ريال للاستحواذ على حصص إقليمية في شركات الألعاب، و50 مليار ريال للاستحواذ على ناشر ألعاب عالمي، واستثمار 20 مليار ريال في شركاء الصناعة.

وتمثل مجموعة «سافي» Savvy للألعاب الإلكترونية في السعودية رأس الحربة في تنفيذ تلك الاستراتيجية الطموحة، والتي أعلنها ولي العهد السعودي رئيس مجموعة «سافي» الأمير محمد بن سلمان، في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي.

وبحسب إفادة من متحدث إعلامي لشركة «سافي» رداً على أسئلة «الشرق الأوسط»، فإن «إدراك الكثير من الحكومات، ومنها حكومة المملكة العربية السعودية للتأثير الاقتصادي والثقافي المحتمل لقطاع الألعاب، أدى إلى زيادة الاستثمار والدعم من مختلف أصحاب المصلحة، كما أدى نمو الرياضات والألعاب الإلكترونية إلى زيادة الاهتمام بهذه الصناعة».

أكبر 10 فرق ألعاب تحقيقاً للأرباح بالعالم خلال آخر 6 سنوات (منصة ستاتيستا للإحصائيات)

وعلى المستوى السعودي، أشار المتحدث باسم «سافي» إلى أن «الألعاب والرياضات الإلكترونية تحظى بشعبية كبيرة في المملكة، وإلى أن عدد ممارسيها تجاوز 21 مليون لاعب في عام 2020، بحسب إحصاءات (Newzoo)، 32 في المائة منهم من متوسطي الإنفاق على ألعاب الجوال (مقارنة بـ18 في المائة فقط في أوروبا الغربية)، بينما 12 في المائة من اللاعبين بالسعودية هم من كبار المنفقين (مقارنة بـ4 في المائة في أوروبا الغربية)».

وبحسب المتحدث باسم «سافي»، فإن المجموعة «تستثمر رأسمال كبيراً على الأمد الطويل لدفع النمو في صناعة الألعاب والرياضات الإلكترونية، وخلق فرص للمشاركة والتقدم وتعزيز الشراكات في مجتمع الألعاب، وبالتالي تمكين الشركات الشريكة من التركيز على تحسين تجربة المستخدم عبر منتجات وخدمات متطورة».

الاستراتيجية السعودية التي يصفها المتحدث بأنها «الاستراتيجية الوطنية الوحيدة في العالم حالياً للألعاب والرياضات الإلكترونية»، وتعمل في إطارها مجموعة «سافي»، تستهدف ضمن أهداف عدة؛ تحقيق أثر اقتصادي من خلال المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي بنحو 50 مليار ريال بشكل مباشر وغير مباشر، مشيراً إلى أن ذلك سيكون له تأثير مباشر على المواطنين والقطاع الخاص والمشجعين والمحترفين العاملين في الألعاب والرياضات الإلكترونية حول العالم.

وأضاف أن الاستراتيجية تستهدف «خلق 39 ألف فرصة عمل جديدة مباشرة وغير مباشرة بحلول عام 2030، وتوفير البيئة التأسيسية لتطوير الكفاءات، بهدف الوصول إلى الريادة العالمية وتعزيز مكانة المملكة على الساحة الدولية من خلال إنتاج أكثر من 30 لعبة تنافسية على مستوى العالم من قِبل استوديوهات تطوير الألعاب السعودية، ومن خلال الوصول إلى المراكز الثلاثة الأولى بعدد لاعبي الرياضات الإلكترونية المحترفين».

وفي سبيل تحقيق تلك الأهداف؛ استحوذت «سافي» - وفقاً لإفادة المتحدث - في يناير (كانون الثاني) 2022، على شركتين من رواد الصناعة مقابل 1.5 مليار دولار، وفي أبريل (نيسان) 2023، استحوذت المجموعة على شركة تطوير الألعاب الرائدة والناشر Scopely مقابل 4.9 مليار دولار، وهي واحدة من أسرع شركات الألعاب نمواً في العالم.

ووفقاً لإفادة المتحدث باسم «سافي»، فإن مشروعات المجموعة تتركز داخل المملكة عبر مجالين رئيسيين؛ أولاً: البرامج التي من شأنها تمكين ودعم وتسريع ريادة الأعمال والتدريب والتعليم. وثانياً: البرامج التي ستساعد في جلب ناشرين دوليين أو مطورين أو شركات تقنية إلى المملكة العربية السعودية لبناء قدرات النظام البيئي، وإرساء أسس المواهب في القطاع وخلق فرص لنقل المعرفة والاستثمار المشترك.

مبادرات عربية متنوعة

التنافسية الاقتصادية التي تحظى بها صناعة الألعاب الإلكترونية أغرت دولاً أخرى بالمنطقة، إلى جانب السعودية، للدخول في مضمار طرح المبادرات الهادفة إلى توطين تلك الصناعة التي تضعها تقارير عدة في مصاف صناعات المستقبل، من حيث النمو والربحية. فبحسب تقرير حديث لمؤسسة الأبحاث العالمية «نيكو بارتنر» (Niko Partners) المعنية بتطور الصناعات الرقمية، فإنه من المتوقع أن ترتفع عائدات ألعاب الفيديو في السعودية والإمارات ومصر، إلى 3.14 مليار دولار بحلول عام 2025.

وبينما أفادت «غرفة دبي للاقتصاد الرقمي»، في فبراير (شباط) الماضي، بأن 9 من كل 10 بالغين في الإمارات يستخدمون حالياً الألعاب الإلكترونية، فإن هناك «مبادرة أبوظبي للألعاب والرياضات الإلكترونية» التي أطلقت في مارس (آذار) 2021، وتم وفقاً للمبادرة تشييد بنية تحتية تضم أحدث المرافق والأستوديوهات والتي تتميز بشبكات اتصال فائقة السرعة، ومرافق ما بعد الإنتاج واستوديوهات الصوت، وتضم تلك المرافق أكثر من ألف موظف مستقل، وأكثر من 14 ألف عضو في المختبر الإبداعي.

أما في مصر التي تمتلك العدد الأكبر من اللاعبين في المنطقة، وفقاً لتقرير «نيكو بارتنرز»، فإنها تسعى هي الأخرى إلى احتلال موقع ملائم في صناعة الألعاب، وذلك ضمن خططها المعلنة في «رؤية مصر 2030».

ورغم أن القاهرة لم تعلن استراتيجية مستقلة خاصة بالألعاب بعد؛ فإن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أطلق في عام 2018 مبادرة لتدريب 10 آلاف شاب مجاناً على إنشاء وبرمجة التطبيقات والألعاب الرقمية، وإنشاء 100 شركة متخصصة في صناعة الألعاب الرقمية.

وقبل 12 عاماً أسس الأردن مختبراً لصناعة الألعاب بمبادرة أطلقها «صندوق الملك عبد الله الثاني للتنمية»؛ لتلبية احتياجات المطورين والشركات في تصميم الألعاب الإلكترونية وبرمجتها.

ويقول شريف عبد الباقي، رئيس «الاتحاد المصري للألعاب الإلكترونية»، لـ«الشرق الأوسط»: إن «النمو العربي الكبير في صناعة الألعاب مرشح للتزايد مع دخول تقنيات الذكاء الاصطناعي، وفي ظل عدّ الألعاب جزءاً من الإعلام والتسويق وحتى المنافسة العالمية على اكتساب المكانة والدور؛ إذ باتت إحدى أدوات بناء (القوة الناعمة)».

ويعتقد عبد الباقي أن «المنطقة العربية فضلاً عن الاهتمام الحكومي لتوطين الصناعة، فإنها أيضاً سوق استهلاكية وإنتاجية واعدة»، منوهاً بأن «معظم التركيبة السكانية العربية يغلب عليها الشباب، وهي الفئة الأكثر استخداماً للألعاب الإلكترونية».

سرديات جديدة

وإذا كان الجانب الاقتصادي يبدو طاغياً عند النظر إلى صناعة الألعاب الإلكترونية في العالم وفي الإقليم حالياً، إلا أن ثمة تنافساً لا يقل احتداماً في مجال الألعاب الإلكترونية عن التنافس الاقتصادي، ذلك التنافس يبدو أشد عمقاً وأبقى أثراً ألا وهو «التنافس الثقافي».

تبدو الأدوار الثقافية للألعاب الإلكترونية منسجمة مع ذلك المفهوم الذي طوره أستاذ العلاقات الدولية الأميركي، جوزيف س. ناي في تسعينات القرن الماضي لمصطلح «القوة الناعمة» Soft Power. يرى ناي أن القوة الناعمة في جانب منها «سلاح مؤثر يسعى إلى تحقيق الأهداف عن طريق الجاذبية بدلاً من الإرغام، وإنها في جوهرها قدرة أمة معينة على التأثير في أمم أخرى وتوجيه خياراتها العامة».

ربما لم يتوقع جوزيف ناي أن الألعاب الإلكترونية (التي لم تكن قد ازدهرت في تلك الحقبة التي طور فيها مفهومه للقوة الناعمة) ستكون أفضل تجسيد لفكرته، بل إنها تحولت بعد عقود عدة إلى ساحة لحروب «القوة الناعمة».

أحد الأدلة على ما تثيره الألعاب الإلكترونية على مستوى الثقافي، تجسده واقعة إطلاق شركة «فيكتورا» الأميركية للألعاب الإلكترونية قبل سنوات للعبة تحت اسم «ستة أيام في الفلوجة»، وتستلهم اللعبة مجريات معركة الفلوجة التي دارت إبان الغزو الأميركي للعراق عام 2003، استناداً إلى عشرات المقابلات مع الجنود الذين قاتلوا في تلك المعركة.

وبحسب تصريحات أدلى بها بيتر تامتي، الرئيس التنفيذي لشركة «فيكتورا، لصحيفة «وول ستريت جورنال» قبل عامين، فإن اللعبة «ستتجنب سياسات حرب العراق ووجهات نظر المدنيين الذين عانوا من الوحشية على يد القوات الأميركية، حيث كان ذلك موضوعاً مثيراً للانقسام، وبدلاً من ذلك ستولد اللعبة (التعاطف) مع مشاة البحرية الأميركية الذين قاتلوا في المعركة».

لعبة أخرى هي Full Spectrum Warrior تقدم مثالاً آخر في هذا الصدد، إذ طُرحت عام 2004، وبدأ تطويرها كمحاكاة تدريب لجنود الجيش الأميركي، ثم قامت شركة Pandemic المنتجة للعبة بتعديلها إلى إصدار تجاري حتى يتمكن الجيش من إرسال اللعبة إلى الجنود للعبها أثناء نشرها، وتدور أحداث اللعبة في نسخة خيالية من العراق، حيث تمتلئ بمشاهد لرجال عرب يجري التصويب عليهم ليفوز اللاعب بأعلى قدر من النقاط.

الأمر لم يقتصر على العراق وحده، فوفقاً لدراسة نشرها مركز «بروكينغز» للدراسات في مارس (آذار) 2021، تحت عنوان «ألعاب الفيديو ساحة جديدة لنزاعات السياسة العامة» للباحث جوشوا فاوست، فقد استثمر البنتاغون على مدى 20 عاماً في استخدام ألعاب الفيديو كوسيلة لحث الشباب الأميركي على التجنيد، وأطلق ألعاباً شهيرة تعكس قيمة الجندي الأميركي، ومنها لعبة America’s Army وهي لعبة عسكرية مجانية تم إطلاقها في عام 2002 لإقناع اللاعبين الشباب بالتجنيد.

وخلصت الدراسة إلى التأكيد على أن «الألعاب الإلكترونية ليست فقط مساحة ثقافية متنازعاً عليها في أميركا، ولكنها أيضاً مساحة سياسية متنازعاً عليها تتنافس فيها الحكومات والشركات والصحافيون والنشطاء واللاعبون من كل فئة، لسرد القصص وتشكيل التصورات حول العالم».

وذهبت الدراسة إلى أنه يمكن للألعاب الإلكترونية أن «تؤثر على الحالة العاطفية للناس وأنماط التفكير والتصورات، ويمكن من خلالها تمرير رسائل سياسية سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة».

«الكثير من الألعاب التي أنتجتها شركات أميركية قدمت أهدافاً تعكس الرؤية السائدة للعدو حسب تحولات الحقب التاريخية، فقد تطورت صورة الأعداء في الألعاب الإلكترونية من النازيين إلى الشيوعيين السوفيات، وصولاً إلى العرب والمسلمين، وحتى الصينيين مؤخراً»

الباحثة منيبة سليم

أداة لصناعة الأعداء و«الإسلاموفوبيا»

ليس فقط التشجيع وجذب الأنصار أو سرد التاريخ لصالح اتجاه معين هو ما تستهدفه الألعاب الإلكترونية في جانبها الثقافي والسياسي، بل إنها من بين تأثيراتها «اصطناع الأعداء وفق رؤية مسيسة»، على ما تذهب الباحثة، منيبة سليم في دراستها الصادرة عن جامعة «ميتشغان» الأميركية، في عام 2016 بالاشتراك مع «الجمعية الأميركية للطب النفسي».

تشير الدراسة إلى أن «الكثير من الألعاب التي أنتجتها شركات أميركية قدمت أهدافاً تعكس الرؤية السائدة للعدو حسب تحولات الحقب التاريخية، فقد تطورت صورة الأعداء في الألعاب الإلكترونية من النازيين إلى الشيوعيين السوفيات، وصولاً إلى العرب والمسلمين، وحتى الصينيين مؤخراً».

وتطرقت الدراسة إلى نماذج الألعاب التي حملت «إساءات عنصرية ومشاعر كراهية ضد العرب والمسلمين» أو ما بات يُعرف بـ«الإسلاموفوبيا»، في نسخ ألعاب شهيرة بيعت منها ملايين النسخ، ومنها اللعبة الشهيرة «Resident Evil» خاصة نسختها الذهبية والحصرية الخامسة، التي قامت الشركة اليابانية بطرحها في الأسواق، حيث احتوت إحدى مراحلها على صور للقرآن الكريم ملقاة على الأرض.

وهناك أيضاً لعبة «First to Fight» والتي منحت نقاط الفوز للاعب الذي يتمكن من تدمير المساجد وقتل المسلمين الملتحين الذين يجب تتبعهم والجري خلفهم بعد دخولهم للاحتماء في المساجد وقتلهم داخلها وسط صوت الأذان.

كما دفعت حملات مقاطعة وغضب العرب والمسلمين من إصدار عام 2021 من لعبة «Call of duty»، الشركة المطورة لها إلى إصدار بيان اعتذار قالت فيه: إن «اللعبة صنعت للجميع والصورة المسيئة للمسلمين وضعت بشكل خاطئ، وتمت إزالتها، ولم يكن من المفترض ظهورها في اللعبة».

ويعدّ الدكتور ماكس غراب، أستاذ الإعلام بجامعة ولاية يونغستاون بالولايات المتحدة، الألعاب الإلكترونية «أداة ثقافية بامتياز»، مشيراً إلى أنها «تتفوق في تأثيرها خلال السنوات الماضية على الأشكال التقليدية للإعلام»؛ وهو ما يجعلها ساحة تنافس ثقافي لافت سواء داخل المجتمعات أو بين الدول والثقافات المختلفة.

ويضيف غراب لـ«الشرق الأوسط» أن «معظم ممارسي الألعاب الإلكترونية من الشباب هم في طور تشكيل خبراتهم عن العالم والصور الذهنية تجاه أمور لا تتوافر لديهم القدرة الواعية على بناء فهمهم وتصوراتهم عنها، ومن ثم تكون المصادر الرقمية هي موردهم الأول».

ويذهب أستاذ الإعلام بجامعة يونغستاون إلى أن ألعاباً شهيرة مثل Call of Duty وBattlefield وCounter-Strike وHalo والتي تداولها الملايين حول العالم «تتميز بدرجات متفاوتة من الواقعية والإلهام من أحداث العالم الواقعي وعناصر الخيال العلمي، وحملت مضامين تتعلق بقيم أراد صانعوها ترسيخها مثل استهداف جنسيات معينة، أو تمجيد جيوش دول بعينها، وهو ما يمكن عدّه سلاحاً ثقافياً فعالاً بالنظر إلى حداثة سن وقلة خبرة معظم ممارسي تلك الألعاب».


مقالات ذات صلة

«سيدات القادسية" يقتنصن بطولة الـ«أوفرواتش»

رياضة سعودية لاعبات القادسية خلال التتويج (الشرق الأوسط)

«سيدات القادسية" يقتنصن بطولة الـ«أوفرواتش»

حقق نادي القادسية بطولة الدوري السعودي الإلكتروني لـ«أوفرواتش» للسيدات للمرة الأولى في مسيرته.

بشاير الخالدي (الدمام)
رياضة سعودية البرنامج يحتوي على أكثر من 200 بطولة (الشرق الأوسط)

«كأس العالم الإلكترونية» تطلق خريطة الطريق لـ«مونديال الرياض»

أعلنت مؤسسة كأس العالم للرياضات الإلكترونية، الخميس، إطلاق برنامج «الطريق إلى كأس العالم»، الذي يضم جميع الجولات التأهيلية.

«الشرق الأوسط» (الرياض )
رياضة سعودية ترسخ مكانة بطولة «ببجي موبايل» باعتبار أنها حدث رئيس ضمن تقويم الرياضات الإلكترونية (الاتحاد السعودي للرياضات الإلكترونية)

شراكة بين «ببجي موبايل» والاتحاد السعودي للرياضات الإلكترونية

أعلن الاتحاد السعودي للرياضات الإلكترونية توقيع مذكرة تفاهم تاريخية مع «ببجي موبايل»؛ إحدى أشهر ألعاب الهاتف الجوال عالمياً.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
رياضة سعودية النصر توج لأول مرة على مستوى القارة الآسيوي في الرياضات الإلكترونية (نادي النصر)

في إنجاز تاريخي... النصر بطلاً لكأس آسيا للنخبة لكرة القدم الإلكترونية

توج داتو ويندسور الأمين العام للاتحاد الآسيوي لكرة القدم فريق النصر بكأس دوري أبطال آسيا الإلكترونية للنخبة 2025.

لولوة العنقري (الرياض)
رياضة سعودية فريق فالكونز السعودي لدى تتويجه بطلا لكأس العالم للرياضات الإلكترونية (الشرق الأوسط)

«الرياضات الإلكترونية»... أيقونة «الرؤية» على مسرح الاقتصاد الرقمي

في خضم التحول الاقتصادي والاجتماعي الكبير الذي تعيشه المملكة على ضوء «رؤية 2023»، تبرز قصة استثنائية، عنوانها «كأس العالم للرياضات الإلكترونية»، وهي ليست مجرد

«الشرق الأوسط» (الرياض)

المقاتلون الأجانب في سوريا... العقدة والحل

الرئيسان السوري أحمد الشرع والأميركي دونالد ترمب (أ.ب)
الرئيسان السوري أحمد الشرع والأميركي دونالد ترمب (أ.ب)
TT

المقاتلون الأجانب في سوريا... العقدة والحل

الرئيسان السوري أحمد الشرع والأميركي دونالد ترمب (أ.ب)
الرئيسان السوري أحمد الشرع والأميركي دونالد ترمب (أ.ب)

ترافق إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب رفع العقوبات عن سوريا بخمسة شروط أو مطالب، منها «مغادرة جميع المقاتلين الأجانب» من الأراضي السورية. ويشكّل هذا المطلب تحدياً كبيراً بالنسبة للإدارة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع لما لهؤلاء المقاتلين من «دَين» في عهدة «هيئة تحرير الشام» على مدى السنوات الماضية وحتى سقوط نظام بشار الأسد.

فمنذ أن أُعلن عن تشكيل «الجيش الحر» في بدايات الثورة السورية، بدأت مرحلة جديدة من تدفق المقاتلين الأجانب من دول عربية وأجنبية. وكانت الحدود التركية ممراً مزدوجاً للسوريين الفارين من جحيم الحرب وجعلوا لنفسهم فيها موطناً أو رحلوا منها إلى الدول الأوروبية، ولمئات المقاتلين من غير السوريين المتوجهين إلى جبهات القتال داخل سوريا والتحقوا بدايةً بالتشكيلات المسلحة غير «المؤدلجة» في تلك المرحلة.

«حواضن الثورة»

بين عامي 2012 و2014، حين اشتد القصف بالبراميل المتفجرة وأنواع الأسلحة كافة على الأحياء الخارجة عن سيطرة النظام السابق، حظي المقاتلون الأجانب بسمعة جيدة فيما سُمي «حواضن الثورة»، لا سيما في الشمال السوري، لا لكونهم شاركوا بقوة وفاعلية في القتال ضد قوات الأسد فحسب، وإنما أيضاً لما عُرف عنهم من شدة في القتال. كذلك في مرحلة ما، شكَّلوا مجموعات «الانغماسيين» و«الانتحاريين» ونفَّذوا عمليات «نوعية» واقتحامات فاكتسبوا تعاطفاً شعبياً واسعاً وأُطلق عليهم اسم «المهاجرين».

شبان سوريون يحتفلون بدخول مقاتلي «هيئة تحرير الشام» إلى دمشق في 13 ديسمبر 2024 (رويترز)

وبعد سقوط النظام السوري السابق في 8 ديسمبر (كانون الأول)، كانت تنظيمات المقاتلين الأجانب، مثل «الحزب الإسلامي التركستاني» و«أجناد الشام» (شيشان) وأجناد القوقاز جزءاً أساسياً من «غرفة إدارة العمليات العسكرية» بقيادة «هيئة تحرير الشام». وفي أول تصريح حول قضية المقاتلين الأجانب في البلاد، قال الرئيس السوري أحمد الشرع إن هؤلاء الذين ساهموا في إطاحة نظام الأسد «يستحقون المكافأة». وأوضح الشرع، في لقاء مع صحافيين منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، أن جرائم النظام السابق دفعت إلى الاعتماد على المقاتلين الأجانب، وهم يستحقون المكافأة على مساندتهم الشعب السوري، ملمّحاً إلى إمكانية منحهم الجنسية السورية؛ وهو ما أثار نقاشات واسعة في حينه.

ولم يمضِ وقت كثير قبل أن تعلن الإدارة السورية الجديدة تعيين مجموعة من هؤلاء المقاتلين في مناصب عسكرية رفيعة ورتب تتراوح بين عميد وعقيد في الجيش السوري الجديد، وأبرزهم عبد الرحمن حسين الخطيب، وهو أردني تمت ترقيته إلى رتبة عميد، وعلاء محمد عبد الباقي، وهو مصري، وعبد العزيز داوود خدابردي التركستاني من الإيغور، ومولان ترسون عبد الصمد (طاجيكي)، وعمر محمد جفتشي مختار (تركي)، وعبد البشاري خطاب (ألباني)، وزنور البصر عبد الحميد عبد الله الداغستاني، قائد «جيش المهاجرين والأنصار».

العقدة والحل

اليوم، في حين القرار بشأن مصيرهم على المحك، يشكّل هؤلاء الأجانب أحد أوجه العقدة والحل في مستقبل سوريا. وفي السياق، قال لـ«الشرق الأوسط» قيادي سابق في «هيئة تحرير الشام»، فضَّل عدم ذكر اسمه، إن «إدارة الشرع لن تمانع من الاستجابة لشرط الإدارة الأميركية»، مؤكداً أن «الإخوة المهاجرين» أنفسهم لا يتمسكون بالمناصب «إن كانت تعيق مصلحة البلاد».

وبالفعل، بعد أقل من يوم على لقاء ترمب - الشرع في العاصمة السعودية، بدأت وكالات محلية سورية تبث أخباراً حول مداهمة الأمن العام مقار تابعة للمقاتلين الأجانب في ريف إدلب. وفي حين لم يتسن لـ«الشرق الأوسط» تأكيد هذه المداهمات بعد، فإن الإجراء سواء كان حقيقياً وبدأ بالفعل أو أنه مجرد فقاعة إعلامية، فإنه يرسل إشارة واضحة إلى النوايا.

قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)

ويقول كريم محمد، وهو قيادي في الجيش السوري (الحالي) وكان قائد كتيبة في «هيئة تحرير الشام» تضم مقاتلين أجانب، يقيم حالياً في دمشق، لـ«الشرق الأوسط»، إنه «لا مصلحة للحكومة بأي خطوة سلبية تجاههم» لكونهم يتمتعون بشعبية قوية داخل صفوف الجيش والأمن الجديد وحاضنة الثورة. ويضيف محمد: «بدأت منذ فترة بعض الدول تطرح مسألة المقاتلين الأجانب بصفتها ورقةَ ضغطٍ على الحكومة الجديدة. هؤلاء المقاتلون، الذين نسميهم نحن بصفتنا ثواراً (المهاجرين)، كان لهم دور حاسم منذ بداية الثورة، وبرزت خبراتهم العسكرية في المعارك»، مؤكداً أن الحكومة «تبذل جهوداً واضحة لإبعاد المهاجرين عن الصراعات الداخلية وإعادتهم إلى مواقعهم في إدلب، مع وعود بدمجهم بالمجتمع، وربما حتى منحهم الجنسية السورية مستقبلاً».

«لا مطالب بطرد الأجانب»

الباحث في الجماعات المتطرفة حسام جزماتي يرى أن هناك سوء فهم كبيراً لهذه المسألة؛ إذ إن المطالب الأميركية والغربية لا تتضمن طرد المقاتلين الأجانب «بقدر ما تشترط أمرين، ألا يحتل هؤلاء مناصب بارزة في الدولة الوليدة، ولا سيما في الجيش والأمن والحكومة، وألا يتخذ أي منهم من الأراضي السورية منصة لانطلاق عمليات عسكرية في الخارج أو الإعداد لها أو التدريب عليها».

وأضاف جزماتي لـ«الشرق الأوسط»: «عندما كانت (هيئة تحرير الشام) تسيطر على إدلب، ومنذ سنوات، التزمت بعدم السماح لأي فصيل باتخاذ الأراضي السورية منصة للتهديد، وقد ضبطت إيقاع الجهاديين بشكل لا يطمحون معه للعمل عبر الحدود».

مقاتل من «هيئة تحرير الشام» يحمل سلاحه ويطل على مدينة حمص نهاية يناير 2025 (غيتي)

وتابع: «ما يرفضه حلفاء (المهاجرين) وإخوانهم هو طردهم من البلاد التي قاتلوا للدفاع عن أهلها في وجه نظام متوحش، أو تسليمهم إلى دولهم، حيث تنتظرهم السجون وربما الإعدام. وعموماً، لا أظن أن قيادات ومقاتلي (هيئة تحرير الشام) وسواها من الفصائل، والحاضنة الإسلامية أو الثورية المحبة لنموذج المهاجر، مصرّة على أن يتصدر هؤلاء بناء الدولة. ولا أعتقد أن ذلك في ذهن (المهاجرين) أنفسهم».

ويؤكد ذلك أبو حفص التركستاني، وهو يرأس حالياً كتيبة في الجيش السوري (ضمن تشكيلات وزارة الدفاع) غالبية عناصرها من التركستان وتوجد بين ريف إدلب وريف اللاذقية، وكان قيادياً في «الحزب الإسلامي التركستاني». ويقول التركستاني لـ«الشرق الأوسط»: «لم نأتِ إلى سوريا لقتل السوريين، ولم نأتِ هنا لكسب مادي أو مناصب، فقط قدِمنا لنصرتهم، لنشاركهم همومهم وننصرهم بقدر ما نستطيع والحمد لله تحقق النصر ولنا شرف مشاركة إخوتنا به». وأضاف التركستاني أن هناك هجوماً إعلامياً ممنهجاً عليهم حالياً يتهمهم بأنهم وراء أي تجاوز يحدث، وأنهم «وراء الهجمات على قرى الساحل أو السويداء وهذه مجرد افتراءات».

وأوضح: «نحن لم نتدخل يوماً في شؤونهم (السوريين)، كنا نعيش طوال هذه السنين معهم ولم نتدخل في أساليب حياتهم. نحن نعرف أن لكل شعب اختلافات في العادات، وإن كنا لا نتفق في كثير من الأمور، لكن لم نتدخل في المجتمع السوري. وإن حدثت بعض التجاوزات في السنين الماضية في إدلب، فهي أحداث لم تتكرر، والسوريون يعرفون ذلك جيداً».

جانب من تدريبات قوات «هيئة تحرير الشام» قبل عملية «ردع العدوان» (إكس)

ويرى جزماتي أنه يمكن لـ«المهاجرين» أن «يبقوا في سوريا بصيغ قانونية رسمية واضحة يتفق عليها، وبصفة مدنية فقط من دون أن يتصدروا الواجهة بدولة ليسوا مشغولين بحكمها أصلاً، وأن يتعهدوا بعدم استخدام أراضيها لتنفيذ مخططات جهادية خاصة بهم في بلدانهم الأصلية أو في أنحاء العالم، لما قد يسببه ذلك من ضرر بالغ. وإلا، فيمكنهم المغادرة إلى الوجهة التي يختارون».

معضلة التعيينات

قال أحد المقاتلين الأجانب (من جنسية عربية) ويكنى بـ«أبي محمد» لـ«الشرق الأوسط»: «نحن لن نقف ضده (الشرع) كما فعلنا طوال السنوات الماضية. لم نتدخل في قتال الفصائل وكنا على مسافة من الجميع ونراعي مصالح سوريا التي لم ولن تتضارب مع مصالحنا يوماً. كنا نقدِم على الموت من أجل حياة السوريين، ونعرف كيف نعيش الآن تحت ظل دولة نقدّرها ونحترمها».

ولكن المعضلة - بحسب جزماتي - تكمن في صعوبة «التراجع عن التعيينات وقرارات ترفيع العسكريين التي أعلنتها القيادة العامة، بعد ثلاثة أسابيع فقط من سقوط نظام بشار الأسد، وبينهم ثلاثة عمداء وثلاثة عقداء».

وحسب التسريبات التي اطلع عليها جزماتي، فقد تعهد المسؤولون بإيقاف تعيين غير السوريين منذ الآن، وتبقى مسألة الذين جرى تعيينهم بالفعل عالقة وتحتاج إلى حل لا يحرج وضعهم ورتبهم وربما مناصبهم.

أحمد الشرع يخطب في الجامع الأموي في دمشق في 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

وعن احتمالات استغلال الجماعات المتطرفة مسألة التضييق على عناصرها وإبعاد المقاتلين الأجانب منهم، قال الباحث: «لا أرى أن تنظيم (القاعدة) في وارد إحياء نشاطه في سوريا بعدما حلّ فرعه فيها، أي حراس الدين. أما (داعش)، التي لا نعرف مخططاته السورية بالضبط، فربما يستقطب معترضين على سياسة الحكومة الحالية، سواء كانوا من السوريين أو من غيرهم. وربما تحاول ذلك مجموعات أو تنظيمات جديدة ترى في سلوك السلطة الحالية ابتعاداً عن تطبيق الشريعة كما يريدون».

ولا تقف كل مجموعات المقاتلين الأجانب عند نقطة واحدة على طيف التطرف. فهناك تمايز آيديولوجي بينها بدأ لحظة توافدهم إلى سوريا وطريقة هذا التوافد، سواء بالتجنيد المسبق أو الاندفاع الذاتي. فأحياناً كان يتم إرسال مقاتل إلى بلده ليجنّد شباناً راغبين في المجيء إلى سوريا بعد التواصل معهم عبر الإنترنت، فيتم تنظيم انتقالهم بطريقة مدروسة منذ لحظة انضمامهم وحتى عبورهم الحدود وانضمامهم إلى تنظيم محدد. وأحياناً أخرى كان البعض يصل منفرداً بالاعتماد على المهربين ورحلات سياحية عبر تركيا وغالباً كانوا يتكبدون تكاليف السفر من جيوبهم.

ومع الوقت، وخصوصاً أواسط 2013، تشعبت الفصائل وكثرت وبدأت تظهر عملية الفرز والتمايز بينها؛ لكن بقيت وجهة غالبية المقاتلين الأجانب الجماعات الجهادية، لا سيما «جبهة النصرة»، في حين التحقت قلة من الأجانب بجماعات «معتدلة» مثل «لواء التوحيد» في حلب.

خلافات وانشقاق وتشكيلات

مع تعمق الخلافات المتعلقة بالأفكار أو التنافس على النفوذ، انتقل أغلب «المهاجرين» إلى جماعات انقسمت على بعضها في فترات معينة، مثل «جبهة النصرة» التي كانت تابعة لتنظيم الدولة (داعش) وانشقت عنه بعد رفض قائدها حينذاك أحمد الشرع مبايعة زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، وإعلانه في المقابل بيعته وتنظيمه لزعيم «القاعدة» السابق أيمن الظواهري.

في تلك الفترة انشق المزيد من المقاتلين الأجانب وقيادات من «النصرة» للالتحاق بتنظيم «داعش»، عادّين أن «بيعة الظواهري» غير مقبولة ليدخل الفصيلان في جولات اقتتال أفضت بجزء منها إلى تشكيل جماعات مستقلة عنهما، أبرزها «جند الأقصى» الذي أسسه الجهادي العراقي المولد الفلسطيني الأصل أبو عبد العزيز القطري، وتشكيلات أخرى اعتمدت التمحور حول جنسيتها الأصلية مثل الإيغور والأوزبك والشيشان.

يخشى المسؤولون الأوروبيون من أنه مع مرور سوريا بمرحلة انتقال سياسي فقد تتشكل جماعات إرهابية داخل البلاد (أرشيفية - رويترز)

لكن مع تمدد «داعش» جغرافياً أواسط 2014 في محافظات غرب وشمال غربي العراق وصولاً إلى محافظات دير الزور والرقة وجزء من محافظة الحسكة وريفي حلب وإدلب، بدأت حالة من العداء بين التنظيم وجماعات أخرى تشكلت من مقاتلين أجانب أيضاً وحكم عليها التنظيم بـ«الردة». وهذه معظمها بقيت على علاقة جيدة بـ«جبهة النصرة»، مفضلة «الحياد» في كثير من المعارك على الانحياز إلى طرف دون آخر في «قتال الإخوة».

ومن تلك الفصائل التي بقيت على حالها حتى سقوط نظام الأسد، «الحزب الإسلامي التركستاني»، و«أجناد الشام» و«أجناد القوقاز» و«أنصار التوحيد»، وبقايا فصيل «جند الأقصى» الذي كان أغلب قادته من السوريين وانفرط عقده في 2017. وذهب قسم منه باتجاه «داعش» وآخر بقي في مناطق إدلب باسم «أنصار التوحيد» وكان أحد التشكيلات المتحالفة مع «هيئة تحرير الشام» في إدارة العمليات العسكرية التي سيطرت على دمشق.

«سورنة» المعركة

في الأعوام بين 2014 و2018، كانت «هيئة تحرير الشام» بدأت تكبح منهجياً من سلطة المقاتلين الأجانب وتنحيهم عن تصدر القيادة والظهور في الإعلام كما كان الوضع سابقاً، واعتقلت الكثيرين منهم كما فعلت مع «حراس الدين». كذلك طردت من صفوفها الكثير ممن رفضوا الانصياع للتغيرات التي أحدثها أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) وقتها. فقد بدأ هؤلاء المقاتلون الأجانب يشكّلون عائقاً في وجه مشروع «هيئة تحرير الشام» داخلياً وخارجياً. فمن جهة راح يتنامى لدى السوريين شعور بأن «الهيئة» تفضل عناصرها وقادتها من الأجانب على السوريين، وخارجياً صار هؤلاء يظهرون في الإعلام وينشطون في المساجد، ويتركز خطابهم على أدبيات جهادية كتلك التي تقول بها «القاعدة»، بل ووجدت «هيئة تحرير الشام» أنهم يعرقلون علاقتها مع تركيا؛ إذ حرّموا التعامل مع الجيش التركي؛ كونه ينتمي إلى حلف شمال الأطلسي، «ناتو».

وعليه، عمل الشرع على «تشذّيب المتشددين داخل الهيئة من السوريين والأجانب على السواء»، وغيّر الخطاب من «جهاد عابر للحدود» إلى محلي سوري، فبدأت تظهر في خطاباته عبارات تدل على المحلية وأن سوريا لها الأولوية كعبارة «ثورة أهل الشام» التي كثيراً ما كان يرددها.

في تلك المرحلة اصطف معه كثير من المقاتلين الأجانب وتبنّوا رؤية الشرع «الوطنية»، عادّين أن سوريا للسوريين وأنهم «أنصار» في هذا، وعمل هو بالتوازي على «سورنة المعركة والمقاتلين» من خلال دمجهم في السياسة الجديدة القائمة على الابتعاد عما هو خارج الحدود.

فهل ينجح اليوم وقد صار أحمد الشرع رئيساً للبلاد في إجراء المزيد من التشذيب والدمج بما يحقق شروط الخارج ومصالح الداخل؟