الألعاب الإلكترونية... «تنافس» اقتصادي و«صراع» ثقافي

أميركا والصين تتصدران... ومساعٍ عربية واعدة للتأثير والحضور

«الجيل زد»... الهاتف الجوال والألعاب الإلكترونية جزء أساسي من الروتين اليومي
«الجيل زد»... الهاتف الجوال والألعاب الإلكترونية جزء أساسي من الروتين اليومي
TT

الألعاب الإلكترونية... «تنافس» اقتصادي و«صراع» ثقافي

«الجيل زد»... الهاتف الجوال والألعاب الإلكترونية جزء أساسي من الروتين اليومي
«الجيل زد»... الهاتف الجوال والألعاب الإلكترونية جزء أساسي من الروتين اليومي

ربما لم يتصور مالكو شركة «نوتي دوغ» الأميركية عندما كانوا يطلقون لعبتهم الإلكترونية «ذا لاست أوف أس» (The last of us) في عام 2013 أنها ستصبح بعد عِقد كامل مُلهمة لصناع مسلسل تلفزيوني يحمل الإسم نفسه والفكرة ذاتها للعبة ونال مشاهدات واسعة؛ لكن هذا ما حدث لتتأكد وتترسخ معه مجدداً ملامح وتأثيرات مشهدٍ آخذ في التطور والنمو لقطاع الألعاب الإلكترونية على مستويات عدة حول العالم.

لكن الأمر لم يعد قضية حقوق ملكية أو اقتباس بين منتج فني وآخر إلكتروني يتم تسويتها وفق عقود قانونية ومستحقات مادية؛ بل إن السنوات الأخيرة أظهرت وعززت، بحسب ما تقصت ورصدت «الشرق الأوسط»، أبعاداً تنافسية دولية ذات شق اقتصادي بمليارات الدولارات، وأخرى ثقافية تراوح مكانها بين الدين والتاريخ والسياسة، فضلاً عن استراتيجيات وطنية وإقليمية لجذب مئات الملايين من جمهور هذه الصناعة العملاقة.

بالنظر إلى حجم سوق الألعاب الإلكترونية العالمية والذي بلغ حجمها العام الماضي نحو 235 مليار دولار (بحسب تقديرات مؤسسة «نيوزو» Newzoo المتخصصة في إحصاءات الألعاب الإلكترونية)؛ فإن التنافس قائم ونشط بين شركات عدة، لكن الصراع على صدارة قطاع الألعاب عالمياً يتركز بشكل كبير ما بين الولايات المتحدة والصين.

ورغم تصدر أميركا والصين الصورة؛ فإن ذلك لم يمنع قوى صاعدة تأتي في مقدمتها منطقة الشرق الأوسط، التي تشهد حراكاً لافتاً، من الظهور على خريطة التنافس العالمي في مجال الألعاب الإلكترونية. وتتطور المنافسة الأميركية - الصينية من امتلاك أكبر الشركات المنتجة للألعاب عالمياً إلى صراع محتدم على التهام كعكة الأرباح.

وبحسب الموقع المتخصص في الإحصاءات «ستاتيستا»، استطاعت الولايات المتحدة الاحتفاظ بالنصيب الأكبر من سوق الألعاب الإلكترونية في العالم خلال عام 2022 بإيرادات وصلت إلى 55 مليار دولار من خلال 156 مليون مستخدم. في المقابل، لم تتمكن الصين التي تحمل لقب «عاصمة ألعاب الفيديو» إلا من تحقيق 44 مليار دولار، خلال العام الماضي، رغم أن عدد اللاعبين بها تجاوز 714 مليون شخص (أي ضعف عدد سكان الولايات المتحدة تقريباً).

سجلت أعداد مستخدمي الألعاب الإلكترونية أكثر من 3 مليارات لاعب حول العالم خلال العام الحالي (رويترز)

ويزداد التنافس سخونة مع التوقعات بتسجيل أعداد مستخدمي الألعاب الإلكترونية أكثر من 3 مليارات لاعب حول العالم خلال العام الحالي، فضلاً عن تنامي متوسط العائد السنوي عن كل مستخدم في سوق ألعاب الفيديو، والذي قفز من 58.9 دولار في عام 2019، إلى 80.18 دولار في عام 2022، مع توقع بارتفاع العائد إلى 84.19 دولار هذه العام الحالي (وفق تقديرات «نيوزوو»). وهو ما يعني أن الألعاب الإلكترونية يمكن أن تكون أكثر ربحية لمنتجيها (شركات أو ودول) مقارنة بالكثير من الصناعات التقليدية في العالم.

الأعداد V.S التقنية

ولعل الفرص الربحية المتنامية لقطاع لألعاب، تفسر جانباً من تحرك بكين في ديسمبر (كانون الأول) 2020، لإدراج الرياضات الإلكترونية كواحدة من الأحداث الرسمية لدورة الألعاب الآسيوية عام 2022، كما تسعى بكين إلى إدراج الرياضات الإلكترونية لتكون ضمن الألعاب الأولمبية.

تشين جيانغ، الأستاذ المشارك في كلية هندسة الإلكترونيات وعلوم الكمبيوتر بجامعة بكين، يقول لـ«الشرق الأوسط»: إن «الصين تنظر للألعاب الإلكترونية بوصفها فرصة اقتصادية، وليس مجرد هواية صبيانية»، مضيفاً: «لقد باتت جزءاً من سياسة الصين فيما يتعلق بالابتكارات».

ويتابع الأكاديمي الصيني: «منذ عام 2003 تم الاعتراف بالألعاب الإلكترونية على أنها رياضة رسمية من قِبل (الإدارة العامة للرياضة) في الصين؛ وهو ما أكسب القطاع أولوية واهتماماً، خاصة في ظل توافر متطلبات الصناعة، ونمو الاهتمام الجامعي بالقطاع».

ومع ذلك، فإن جيانغ يعتقد أن «المنافسة المحتدمة بمجال الألعاب الإلكترونية خاصة من الولايات المتحدة، وكوريا الجنوبية، واليابان، فضلاً عن طموح دول جديدة في هذا المضمار مثل: سنغافورة، وماليزيا، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، سيخلقان مزيداً من الضغوط على الصين». لكن جيانغ يعود ويراهن على أن «امتلاك الصين عدداً كبيراً من اللاعبين ميزة لا يمكن لأي دولة في العالم أن تنافسها بشأنها».

تطور عدد مستخدمي الألعاب الإلكترونية حول العالمي (منصة فايننس أونلاين)

وإذا كان الرهان الصيني على «الأعداد الكبيرة»، فإن ثمة ميزة لدى المنافسين الغربيين، يراها كيث كرون، خبير التسويق الكندي والمتخصص في الألعاب الإلكترونية، وتتمثل في تطوير التقنيات مثل «الواقع المعزز» (الميتافيرس) واستخدامها في الألعاب.

ويقول كرون لـ«الشرق الأوسط»: «سيكون الأمر بمثابة (ثورة تكنولوجية) ذات مردود اقتصادي كبير... آجلاً أم عاجلاً ستفرض التقنيات الحديثة نفسها، وشكل المنافسة وتسويقها سيكون مختلفاً تماماً».

شغف الطفولة والثراء

يمكن القول إن التنافس الاقتصادي بين عمالقة الدول والشركات بسوق الألعاب الإلكترونية، بمثابة لوحة فسيفساء كبرى تتخللها قطع أصغر أو بالأحرى لاعبون. لكن السردية الكلاسيكية بشأن المتلقي - أو الزبون - الذي يدفع وفقط لصالح الخدمة أو المتعة التي تقدمها اللعبة، ربما لا تصلح وحدها الآن لتفسير حجم التفاعل المتنامي مع اللعبة، يبدو أن هناك شيئاً أعمق يغري المستخدمين.

في عام 2020، قرأ الشاب المصري، إسلام فراج، إعلاناً عن تنظيم «البطولة العربية الأولى للألعاب الإلكترونية» تحت رعاية «جامعة الدول العربية»، بمجموع جوائز 5 آلاف دولار لكل لعبة، وبإجمالي 15 ألف دولار.

لعبة "فورتنايت" وشعار شركة "أبل"... ارتباط وثيق بين الألعاب الالكترونية والهواتف الجوالة (رويترز)

بشغف الطفولة وقدرات اللعب المتقدمة، تحمس فراج آنذاك للمشاركة، وفاز بأحد فروعها، ليتحول الأمر وفق ما يقول لـ«الشرق الأوسط» من «خانة الهواية، إلى الاحتراف، والرغبة في استثمار قدرات اللعب لاصطياد الجوائز التي باتت تتيحها مسابقات إقليمية ودولية في هذا المجال».

يروي فراج أن الأمر بدأ بمعارضة تقليدية من أسرته لمسألة انخراطه في الألعاب الإلكترونية؛ لكونها «مضيعة للوقت»، لكنه وبعد تحويلها إلى مصدر دخل حقيقي «استطاع إقناعهم بموهبته».

على الصعيد العالمي، تزدهر سوق مسابقات الألعاب الإلكترونية، ومنها بطولات مثل Fortnite World Cup بجوائز تخطت قيمتها 30 مليون دولار، وكذلك بطولة Dota 2 International والتي يتصاعد مجموع جوائزها بصورة سنوية؛ إذ ارتفع من 10 ملايين دولار في عام 2014، وصولاً إلى 40 مليون دولار منذ عام 2021.

وبالإضافة إلى المكاسب المادية، أسهمت عمليات تنظيم قطاع الألعاب الإلكترونية ضمن اتحادات ذات طابع رسمي في تعزيز المنافسة، وتحولت الألعاب خلال السنوات الأخيرة إلى مسمى الرياضات الإلكترونية «Esports»، وبات العديد من الدول يعترف بها كـ«رياضة».

فرص واعدة لرواد الأعمال

الإغراءات المتنوعة للقطاع لم تقتصر على اللاعبين، ومع النمو الكبير لسوق الألعاب عالمياً زاد الاهتمام بها. وبحسب تقرير نشره موقع FinancesOnline العالمي في مايو (أيار) الماضي، فإن هناك أكثر من 2400 شركة لألعاب الفيديو في جميع أنحاء العالم، توفر مئات الآلاف من فرص العمل.

عزيزة الأحمدي، رائدة أعمال وأول سيدة سعودية تمتلك شركة متخصصة في مجال الألعاب الإلكترونية، تقول لـ«الشرق الأوسط» إنها بدأت نشاطها في عام 2014، ضمن مجموعة من رواد الأعمال بالسوق السعودية والمنطقة العربية ممن استشرفوا المستقبل الواعد لتلك الصناعة. تضيف أنها بحكم عملها في مجال الاتصالات كانت «على يقين بأن تلك الصناعة ستحقق مكانة مختلفة مستقبلاً، وستستقطب في لحظة ما الاهتمام الحكومي».

تشرح الأحمدي بأن صناعة الألعاب يمكن أن تكون «قطاعاً اقتصادياً قيادياً» لارتباطها بنحو 63 مجالاً آخر، فضلاً عن توظيف للمبدعين في مجالات متنوعة كالموسيقى والرسم والغرافيك والسيناريو، فالألعاب الإلكترونية خليط من الفنون. وتتابع: «في تقديري، تأثير الألعاب في الصناعات الإبداعية لا يقل عن تأثير الرياضيات في العلوم».

أكبر عشر شركات بالعالم في مجال الألعاب الإلكترونية من حيث الأرباح حتى مطلع 2023 (منصة ستاتيستا للإحصائيات)

ومع توقع رائدة الأعمال السعودية أن «تشهد السنوات الخمس المقبلة مكانة مختلفة للمنطقة العربية في المجال؛ فإنها ترهن ذلك بتغيير نظرة الشركات العربية العاملة في هذا المجال، لتكون نظرة إقليمية، وليست فردية، بحيث يحدث نوع من التكامل الإقليمي في أكثر من دولة، وبما يعود بالنفع على توزيع المهام».

وترى الأحمدي أن «الشركات السعودية بدأت بالفعل العمل وفق تلك الرؤية التكاملية السابقة التي تترجم نظرة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بشأن ارتباط تطور المملكة بتطور المنطقة كلها في مسار التنمية».

«سافي» والرؤية الطموحة

حتى سنوات قريبة، لم تكن المنطقة العربية سوى سوق استهلاكية كبيرة لتلك الألعاب، إلى أن انتبهت بعض حكومات المنطقة، وفي مقدمها السعودية والإمارات ومصر والأردن، إلى ضرورة خوض المضمار ذاته، وانطلقت في هذا السياق استراتيجيات حكومية طموحة لتوطين صناعة الألعاب وسط سياق الاستثمارات غير التقليدية.

ضمن «رؤية 2030» التي تعمل السعودية على تحقيقها، جاءت «الاستراتيجية الوطنية للألعاب والرياضات الالكترونية»، والتي تستهدف أن تكون المملكة مركزاً عالمياً لهذا القطاع من الأعمال، بميزانية تتجاوز 142 مليار ريال، وشملت 70 مليار ريال للاستحواذ على حصص إقليمية في شركات الألعاب، و50 مليار ريال للاستحواذ على ناشر ألعاب عالمي، واستثمار 20 مليار ريال في شركاء الصناعة.

وتمثل مجموعة «سافي» Savvy للألعاب الإلكترونية في السعودية رأس الحربة في تنفيذ تلك الاستراتيجية الطموحة، والتي أعلنها ولي العهد السعودي رئيس مجموعة «سافي» الأمير محمد بن سلمان، في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي.

وبحسب إفادة من متحدث إعلامي لشركة «سافي» رداً على أسئلة «الشرق الأوسط»، فإن «إدراك الكثير من الحكومات، ومنها حكومة المملكة العربية السعودية للتأثير الاقتصادي والثقافي المحتمل لقطاع الألعاب، أدى إلى زيادة الاستثمار والدعم من مختلف أصحاب المصلحة، كما أدى نمو الرياضات والألعاب الإلكترونية إلى زيادة الاهتمام بهذه الصناعة».

أكبر 10 فرق ألعاب تحقيقاً للأرباح بالعالم خلال آخر 6 سنوات (منصة ستاتيستا للإحصائيات)

وعلى المستوى السعودي، أشار المتحدث باسم «سافي» إلى أن «الألعاب والرياضات الإلكترونية تحظى بشعبية كبيرة في المملكة، وإلى أن عدد ممارسيها تجاوز 21 مليون لاعب في عام 2020، بحسب إحصاءات (Newzoo)، 32 في المائة منهم من متوسطي الإنفاق على ألعاب الجوال (مقارنة بـ18 في المائة فقط في أوروبا الغربية)، بينما 12 في المائة من اللاعبين بالسعودية هم من كبار المنفقين (مقارنة بـ4 في المائة في أوروبا الغربية)».

وبحسب المتحدث باسم «سافي»، فإن المجموعة «تستثمر رأسمال كبيراً على الأمد الطويل لدفع النمو في صناعة الألعاب والرياضات الإلكترونية، وخلق فرص للمشاركة والتقدم وتعزيز الشراكات في مجتمع الألعاب، وبالتالي تمكين الشركات الشريكة من التركيز على تحسين تجربة المستخدم عبر منتجات وخدمات متطورة».

الاستراتيجية السعودية التي يصفها المتحدث بأنها «الاستراتيجية الوطنية الوحيدة في العالم حالياً للألعاب والرياضات الإلكترونية»، وتعمل في إطارها مجموعة «سافي»، تستهدف ضمن أهداف عدة؛ تحقيق أثر اقتصادي من خلال المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي بنحو 50 مليار ريال بشكل مباشر وغير مباشر، مشيراً إلى أن ذلك سيكون له تأثير مباشر على المواطنين والقطاع الخاص والمشجعين والمحترفين العاملين في الألعاب والرياضات الإلكترونية حول العالم.

وأضاف أن الاستراتيجية تستهدف «خلق 39 ألف فرصة عمل جديدة مباشرة وغير مباشرة بحلول عام 2030، وتوفير البيئة التأسيسية لتطوير الكفاءات، بهدف الوصول إلى الريادة العالمية وتعزيز مكانة المملكة على الساحة الدولية من خلال إنتاج أكثر من 30 لعبة تنافسية على مستوى العالم من قِبل استوديوهات تطوير الألعاب السعودية، ومن خلال الوصول إلى المراكز الثلاثة الأولى بعدد لاعبي الرياضات الإلكترونية المحترفين».

وفي سبيل تحقيق تلك الأهداف؛ استحوذت «سافي» - وفقاً لإفادة المتحدث - في يناير (كانون الثاني) 2022، على شركتين من رواد الصناعة مقابل 1.5 مليار دولار، وفي أبريل (نيسان) 2023، استحوذت المجموعة على شركة تطوير الألعاب الرائدة والناشر Scopely مقابل 4.9 مليار دولار، وهي واحدة من أسرع شركات الألعاب نمواً في العالم.

ووفقاً لإفادة المتحدث باسم «سافي»، فإن مشروعات المجموعة تتركز داخل المملكة عبر مجالين رئيسيين؛ أولاً: البرامج التي من شأنها تمكين ودعم وتسريع ريادة الأعمال والتدريب والتعليم. وثانياً: البرامج التي ستساعد في جلب ناشرين دوليين أو مطورين أو شركات تقنية إلى المملكة العربية السعودية لبناء قدرات النظام البيئي، وإرساء أسس المواهب في القطاع وخلق فرص لنقل المعرفة والاستثمار المشترك.

مبادرات عربية متنوعة

التنافسية الاقتصادية التي تحظى بها صناعة الألعاب الإلكترونية أغرت دولاً أخرى بالمنطقة، إلى جانب السعودية، للدخول في مضمار طرح المبادرات الهادفة إلى توطين تلك الصناعة التي تضعها تقارير عدة في مصاف صناعات المستقبل، من حيث النمو والربحية. فبحسب تقرير حديث لمؤسسة الأبحاث العالمية «نيكو بارتنر» (Niko Partners) المعنية بتطور الصناعات الرقمية، فإنه من المتوقع أن ترتفع عائدات ألعاب الفيديو في السعودية والإمارات ومصر، إلى 3.14 مليار دولار بحلول عام 2025.

وبينما أفادت «غرفة دبي للاقتصاد الرقمي»، في فبراير (شباط) الماضي، بأن 9 من كل 10 بالغين في الإمارات يستخدمون حالياً الألعاب الإلكترونية، فإن هناك «مبادرة أبوظبي للألعاب والرياضات الإلكترونية» التي أطلقت في مارس (آذار) 2021، وتم وفقاً للمبادرة تشييد بنية تحتية تضم أحدث المرافق والأستوديوهات والتي تتميز بشبكات اتصال فائقة السرعة، ومرافق ما بعد الإنتاج واستوديوهات الصوت، وتضم تلك المرافق أكثر من ألف موظف مستقل، وأكثر من 14 ألف عضو في المختبر الإبداعي.

أما في مصر التي تمتلك العدد الأكبر من اللاعبين في المنطقة، وفقاً لتقرير «نيكو بارتنرز»، فإنها تسعى هي الأخرى إلى احتلال موقع ملائم في صناعة الألعاب، وذلك ضمن خططها المعلنة في «رؤية مصر 2030».

ورغم أن القاهرة لم تعلن استراتيجية مستقلة خاصة بالألعاب بعد؛ فإن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أطلق في عام 2018 مبادرة لتدريب 10 آلاف شاب مجاناً على إنشاء وبرمجة التطبيقات والألعاب الرقمية، وإنشاء 100 شركة متخصصة في صناعة الألعاب الرقمية.

وقبل 12 عاماً أسس الأردن مختبراً لصناعة الألعاب بمبادرة أطلقها «صندوق الملك عبد الله الثاني للتنمية»؛ لتلبية احتياجات المطورين والشركات في تصميم الألعاب الإلكترونية وبرمجتها.

ويقول شريف عبد الباقي، رئيس «الاتحاد المصري للألعاب الإلكترونية»، لـ«الشرق الأوسط»: إن «النمو العربي الكبير في صناعة الألعاب مرشح للتزايد مع دخول تقنيات الذكاء الاصطناعي، وفي ظل عدّ الألعاب جزءاً من الإعلام والتسويق وحتى المنافسة العالمية على اكتساب المكانة والدور؛ إذ باتت إحدى أدوات بناء (القوة الناعمة)».

ويعتقد عبد الباقي أن «المنطقة العربية فضلاً عن الاهتمام الحكومي لتوطين الصناعة، فإنها أيضاً سوق استهلاكية وإنتاجية واعدة»، منوهاً بأن «معظم التركيبة السكانية العربية يغلب عليها الشباب، وهي الفئة الأكثر استخداماً للألعاب الإلكترونية».

سرديات جديدة

وإذا كان الجانب الاقتصادي يبدو طاغياً عند النظر إلى صناعة الألعاب الإلكترونية في العالم وفي الإقليم حالياً، إلا أن ثمة تنافساً لا يقل احتداماً في مجال الألعاب الإلكترونية عن التنافس الاقتصادي، ذلك التنافس يبدو أشد عمقاً وأبقى أثراً ألا وهو «التنافس الثقافي».

تبدو الأدوار الثقافية للألعاب الإلكترونية منسجمة مع ذلك المفهوم الذي طوره أستاذ العلاقات الدولية الأميركي، جوزيف س. ناي في تسعينات القرن الماضي لمصطلح «القوة الناعمة» Soft Power. يرى ناي أن القوة الناعمة في جانب منها «سلاح مؤثر يسعى إلى تحقيق الأهداف عن طريق الجاذبية بدلاً من الإرغام، وإنها في جوهرها قدرة أمة معينة على التأثير في أمم أخرى وتوجيه خياراتها العامة».

ربما لم يتوقع جوزيف ناي أن الألعاب الإلكترونية (التي لم تكن قد ازدهرت في تلك الحقبة التي طور فيها مفهومه للقوة الناعمة) ستكون أفضل تجسيد لفكرته، بل إنها تحولت بعد عقود عدة إلى ساحة لحروب «القوة الناعمة».

أحد الأدلة على ما تثيره الألعاب الإلكترونية على مستوى الثقافي، تجسده واقعة إطلاق شركة «فيكتورا» الأميركية للألعاب الإلكترونية قبل سنوات للعبة تحت اسم «ستة أيام في الفلوجة»، وتستلهم اللعبة مجريات معركة الفلوجة التي دارت إبان الغزو الأميركي للعراق عام 2003، استناداً إلى عشرات المقابلات مع الجنود الذين قاتلوا في تلك المعركة.

وبحسب تصريحات أدلى بها بيتر تامتي، الرئيس التنفيذي لشركة «فيكتورا، لصحيفة «وول ستريت جورنال» قبل عامين، فإن اللعبة «ستتجنب سياسات حرب العراق ووجهات نظر المدنيين الذين عانوا من الوحشية على يد القوات الأميركية، حيث كان ذلك موضوعاً مثيراً للانقسام، وبدلاً من ذلك ستولد اللعبة (التعاطف) مع مشاة البحرية الأميركية الذين قاتلوا في المعركة».

لعبة أخرى هي Full Spectrum Warrior تقدم مثالاً آخر في هذا الصدد، إذ طُرحت عام 2004، وبدأ تطويرها كمحاكاة تدريب لجنود الجيش الأميركي، ثم قامت شركة Pandemic المنتجة للعبة بتعديلها إلى إصدار تجاري حتى يتمكن الجيش من إرسال اللعبة إلى الجنود للعبها أثناء نشرها، وتدور أحداث اللعبة في نسخة خيالية من العراق، حيث تمتلئ بمشاهد لرجال عرب يجري التصويب عليهم ليفوز اللاعب بأعلى قدر من النقاط.

الأمر لم يقتصر على العراق وحده، فوفقاً لدراسة نشرها مركز «بروكينغز» للدراسات في مارس (آذار) 2021، تحت عنوان «ألعاب الفيديو ساحة جديدة لنزاعات السياسة العامة» للباحث جوشوا فاوست، فقد استثمر البنتاغون على مدى 20 عاماً في استخدام ألعاب الفيديو كوسيلة لحث الشباب الأميركي على التجنيد، وأطلق ألعاباً شهيرة تعكس قيمة الجندي الأميركي، ومنها لعبة America’s Army وهي لعبة عسكرية مجانية تم إطلاقها في عام 2002 لإقناع اللاعبين الشباب بالتجنيد.

وخلصت الدراسة إلى التأكيد على أن «الألعاب الإلكترونية ليست فقط مساحة ثقافية متنازعاً عليها في أميركا، ولكنها أيضاً مساحة سياسية متنازعاً عليها تتنافس فيها الحكومات والشركات والصحافيون والنشطاء واللاعبون من كل فئة، لسرد القصص وتشكيل التصورات حول العالم».

وذهبت الدراسة إلى أنه يمكن للألعاب الإلكترونية أن «تؤثر على الحالة العاطفية للناس وأنماط التفكير والتصورات، ويمكن من خلالها تمرير رسائل سياسية سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة».

«الكثير من الألعاب التي أنتجتها شركات أميركية قدمت أهدافاً تعكس الرؤية السائدة للعدو حسب تحولات الحقب التاريخية، فقد تطورت صورة الأعداء في الألعاب الإلكترونية من النازيين إلى الشيوعيين السوفيات، وصولاً إلى العرب والمسلمين، وحتى الصينيين مؤخراً»

الباحثة منيبة سليم

أداة لصناعة الأعداء و«الإسلاموفوبيا»

ليس فقط التشجيع وجذب الأنصار أو سرد التاريخ لصالح اتجاه معين هو ما تستهدفه الألعاب الإلكترونية في جانبها الثقافي والسياسي، بل إنها من بين تأثيراتها «اصطناع الأعداء وفق رؤية مسيسة»، على ما تذهب الباحثة، منيبة سليم في دراستها الصادرة عن جامعة «ميتشغان» الأميركية، في عام 2016 بالاشتراك مع «الجمعية الأميركية للطب النفسي».

تشير الدراسة إلى أن «الكثير من الألعاب التي أنتجتها شركات أميركية قدمت أهدافاً تعكس الرؤية السائدة للعدو حسب تحولات الحقب التاريخية، فقد تطورت صورة الأعداء في الألعاب الإلكترونية من النازيين إلى الشيوعيين السوفيات، وصولاً إلى العرب والمسلمين، وحتى الصينيين مؤخراً».

وتطرقت الدراسة إلى نماذج الألعاب التي حملت «إساءات عنصرية ومشاعر كراهية ضد العرب والمسلمين» أو ما بات يُعرف بـ«الإسلاموفوبيا»، في نسخ ألعاب شهيرة بيعت منها ملايين النسخ، ومنها اللعبة الشهيرة «Resident Evil» خاصة نسختها الذهبية والحصرية الخامسة، التي قامت الشركة اليابانية بطرحها في الأسواق، حيث احتوت إحدى مراحلها على صور للقرآن الكريم ملقاة على الأرض.

وهناك أيضاً لعبة «First to Fight» والتي منحت نقاط الفوز للاعب الذي يتمكن من تدمير المساجد وقتل المسلمين الملتحين الذين يجب تتبعهم والجري خلفهم بعد دخولهم للاحتماء في المساجد وقتلهم داخلها وسط صوت الأذان.

كما دفعت حملات مقاطعة وغضب العرب والمسلمين من إصدار عام 2021 من لعبة «Call of duty»، الشركة المطورة لها إلى إصدار بيان اعتذار قالت فيه: إن «اللعبة صنعت للجميع والصورة المسيئة للمسلمين وضعت بشكل خاطئ، وتمت إزالتها، ولم يكن من المفترض ظهورها في اللعبة».

ويعدّ الدكتور ماكس غراب، أستاذ الإعلام بجامعة ولاية يونغستاون بالولايات المتحدة، الألعاب الإلكترونية «أداة ثقافية بامتياز»، مشيراً إلى أنها «تتفوق في تأثيرها خلال السنوات الماضية على الأشكال التقليدية للإعلام»؛ وهو ما يجعلها ساحة تنافس ثقافي لافت سواء داخل المجتمعات أو بين الدول والثقافات المختلفة.

ويضيف غراب لـ«الشرق الأوسط» أن «معظم ممارسي الألعاب الإلكترونية من الشباب هم في طور تشكيل خبراتهم عن العالم والصور الذهنية تجاه أمور لا تتوافر لديهم القدرة الواعية على بناء فهمهم وتصوراتهم عنها، ومن ثم تكون المصادر الرقمية هي موردهم الأول».

ويذهب أستاذ الإعلام بجامعة يونغستاون إلى أن ألعاباً شهيرة مثل Call of Duty وBattlefield وCounter-Strike وHalo والتي تداولها الملايين حول العالم «تتميز بدرجات متفاوتة من الواقعية والإلهام من أحداث العالم الواقعي وعناصر الخيال العلمي، وحملت مضامين تتعلق بقيم أراد صانعوها ترسيخها مثل استهداف جنسيات معينة، أو تمجيد جيوش دول بعينها، وهو ما يمكن عدّه سلاحاً ثقافياً فعالاً بالنظر إلى حداثة سن وقلة خبرة معظم ممارسي تلك الألعاب».


مقالات ذات صلة

«مغامرات ليغو هورايزن»: عالم من الخيال العلمي بأسلوب طريف لجميع أفراد العائلة

تكنولوجيا رحلة طريفة عبر بيئة خيالية في لعبة «مغامرات ليغو هورايزن»

«مغامرات ليغو هورايزن»: عالم من الخيال العلمي بأسلوب طريف لجميع أفراد العائلة

تقدّم سلسلة ألعاب «هورايزن» Horizon مغامرات ممتعة بصحبة شخصية «آلوي» Aloy عبر عالم خطر مليء بالمصاعب. إلا أن إصداراً جديداً ينقل اللعبة إلى بيئة طريفة وممتعة…

خلدون غسان سعيد (جدة)
تكنولوجيا شعار برنامج حاضنة «مشروع البطل لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»

«سوني» تكشف عن برنامج حاضنة «مشروع البطل لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»

يمكنه إبراز المشاركين عالمياً ونشر ألعابهم

خلدون غسان سعيد (جدة)
رياضة سعودية ستحصل الأندية التي سيتم قبولها في البرنامج على دعم مادي ضخم لتنمية علاماتها وتفعيل قاعدة جماهيرها (الشرق الأوسط)

مؤسسة كأس العالم للرياضات الإلكترونية: دعم 40 نادياً بـ20 مليون دولار

أعلنت مؤسسة كأس العالم للرياضات الإلكترونية اليوم الاثنين استمرار مبادرة برنامج دعم الأندية في نسختها الجديدة للعام 2025.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق ألعاب الفيديو يمكن أن تساعد على تعزيز ذكاء الأطفال (رويترز)

دراسة: ألعاب الفيديو تزيد معدل ذكاء الأطفال

قالت دراسة جديدة إن ممارسة الأطفال لألعاب الفيديو تزيد من معدل ذكائهم، وهو ما يتناقض إلى حد ما مع السرد القائل بأن هذه الألعاب سيئة لأدمغة وعقول الأطفال.

«الشرق الأوسط» (استوكهولم)
رياضة سعودية جانب من تتويج الأبطال (الشرق الأوسط)

كأس العالم في روكيت ليغ «سعودية»  

أضاف المنتخب السعودي للرياضات الإلكترونية إنجازاً جديداً إلى سجله الحافل، بعد فوزه بلقب كأس العالم لكرة القدم الإلكترونية في لعبة روكيت ليغ.

منيرة السعيدان (الرياض )

مستقبل إردوغان والحزب الحاكم... سؤال تركيا الكبير

عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
TT

مستقبل إردوغان والحزب الحاكم... سؤال تركيا الكبير

عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)

أمضت تركيا أكثر من 22 عاماً تحت حكم حزب «العدالة والتنمية» الذي شهدت مسيرته محطات حرجة وتحديات سياسية واقتصادية، بين صعود وهبوط، وانعكست على السياسة الخارجية على وجه الخصوص.

الحزب ذو الجذور الإسلامية الذي أسسه الرئيس رجب طيب إردوغان ومجموعة من رفاقه أبرزهم الرئيس السابق عبد الله غل، والسياسي المخضرم بولنت أرينتش، ظهر في 14 أغسطس (آب) 2001، وفاز منفرداً بحكم تركيا في أول انتخابات تشريعية خاضها في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2002، وبقي في الحكم حتى الآن.

وخاض الحزب في البداية صدامات مع النخبة العلمانية والجيش والقضاء وصلت ذروتها عند ترشيح عبد الله غل، الذي كان وزيراً للخارجية، للرئاسة عام 2007 خلفاً للرئيس الأسبق أحمد نجدت سيزر.

أزمات ومعارك

أحدث ترشيح غل أزمة كبيرة في تركيا التي شهدت تجمعات مليونية في أنقرة وإسطنبول رفضاً له. وأفلت الحزب أيضاً من الحل في دعوى أقيمت ضده أمام المحكمة الدستورية التي قضت بالغرامة المالية دون الإغلاق في عام 2008، بسبب انتهاكه «مبادئ العلمانية».

ومنذ عام 2010، بدأ الحزب حملة تغييرات واسعة، عبر تعديل الدستور، بعدما استفاد من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي التي انطلقت رسمياً عام 2005 في إرساء العديد من حزم الإصلاحات في النظام القضائي والقوانين.

وخاص الحزب العديد من المعارك، كما نزع فتيل محاولات استهدفته على غرار قضايا «أرجنكون» و«المطرقة» و«القفص» التي حاول فيها عسكريون الإطاحة بحكومة إردوغان.

وعد إردوغان، الرجل القوي الذي لا يزال قابضاً بقوة على السلطة في تركيا، أن احتجاجات «غيزي بارك» في مايو (أيار) 2013، وما أعقبها من تحقيقات «الفساد والرشوة» التي جرت في 17 و25 ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته، كانت محاولات للإطاحة بحكومته.

ونُسبت تحقيقات في تهم فساد ورشوة طالت أبناء وزراء في حكومة إردوغان ورجال أعمال مقربين منه، وامتدت إلى أفراد عائلته، إلى حركة «الخدمة» التي تزعمها حليفه الوثيق السابق، فتح الله غولن، الذي توفي منذ أشهر.

حشد من الأتراك يحتفلون وسط إسطنبول فوق دبابة هجرها ضباط من الجيش بعد محاولة انقلاب فاشلة في 16 يوليو 2016 (غيتي)

مواجهة أخيرة

كانت محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو (تموز) 2016، التي نفذتها مجموعة من الجيش، نُسب إليها الانتماء إلى حركة غولن، هي آخر المواجهات التي مكنت إردوغان من إخضاع المؤسسة الحامية للعلمانية في البلاد (الجيش) بعدما تمكن من السيطرة على أجهزة الأمن والقضاء عقب تحقيقات الفساد والرشوة، وقام بتطهيرها من أنصار غولن، الذي كان حليفاً لحزب «العدالة والتنمية» منذ ظهوره.

ووسط هذه المعارك التي مكنت إردوغان وحزبه من السيطرة على جميع مفاصل الدولة وإزالة مشكلة حظر الحجاب من أجندة تركيا، كان الحزب يخوض مسار صعود اقتصادي أزال أثر الأزمة الحادة التي عاشتها البلاد في 2001، وكانت العامل الأساسي في فوزه الكاسح بأول انتخابات يخوضها.

صعود اقتصادي وتقلبات سياسية

استمر الصعود الاقتصادي، وساعد في ذلك اعتماد حزب «العدالة والتنمية» سياسة «صفر مشاكل» مع دول الجوار التي أسس لها وزير الخارجية الأسبق أحمد داود أوغلو، الذي تولى لاحقاً رئاسة الحكومة، التي كان لها الفضل في إذابة الجليد في علاقات تركيا مع محيطها في الشرق الأوسط والعالم العربي، فضلاً عن توسيع علاقات تركيا بالشرق والغرب.

ولم تخف توجهات السياسة التركية في هذه الفترة اعتمادها على نظرية «العثمانية الجديدة»، واستعادة مناطق النفوذ، التي انطلقت من نظرية «العمق الاستراتيجي» لـ«داود أوغلو»، وبعدما بدأت تركيا التمدد من الدول العربية إلى أفريقيا اعتماداً على أدوات الدبلوماسية الناعمة والمساعدات الإنسانية وعامل الدين والتاريخ المشترك، جاء ما عرف بـ«الربيع العربي» ليقلب سياسة تركيا إلى التدخل المباشر والخشن عبر أدوار عسكرية امتدت من سوريا وليبيا إلى القرن الأفريقي، وفتحت لها باب التوسع بإقامة القواعد العسكرية في الخارج.

وتسبب انحياز تركيا إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وجماعات متشددة، ودعمها في تونس ومصر وسوريا وليبيا، في حصارها في المنطقة، وهو ما حاول سياسيوها تبريره بشعار «العزلة القيمة».

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان... ربع قرن عاصف بالتحولات (غيتي)

بين الكرد والقوميين

جاءت محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016 لتضيف مزيداً من التوتر إلى علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين بسبب ما عدّته أوروبا وأميركا، استغلالاً لها في سحق معارضي إردوغان على اختلاف انتماءاتهم وليس أنصار غولن فقط، والتوسع في انتهاكات حقوق الإنسان وحرية التعبير عبر الاعتقالات الواسعة، وإغلاق المنصات الإعلامية، وهو ما أدى إلى «دفن» مفاوضات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، التي كانت مجمدة بالفعل منذ عام 2012.

الحال، أن الانسداد في العلاقات مع أوروبا كان قد تأجج في فترة الانتخابات البرلمانية في تركيا عام 2015 التي شهدت مصادمات مع الكرد، وخسر فيها حزب «العدالة والتنمية» الأغلبية للمرة الأولى في الانتخابات التي أجريت في 7 يونيو (حزيران) من ذلك العام للمرة الأولى في مسيرته، قبل أن يلجأ إردوغان إلى الانتخابات المبكرة في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته، ليفوز بها حزبه.

وفي هذه الفترة كان «العدالة والتنمية» أطلق في عام 2013 مبادرة للسلام الداخلي وحل المشكلة الكردية، قبل أن يعلن إردوغان إنهاءها في 2015 قائلاً إنه لا توجد مشكلة كردية في تركيا.

وأثبتت القضية الكردية أنها الورقة التي يلجأ إليها إردوغان في لحظات الضعف التي يمر بها حزبه وتتراجع شعبيته، فقد عاد الحديث في الأسابيع الماضية عن مبادرة جديدة للحل، أطلقها رئيس حزب «الحركة القومية»، الحليف لإردوغان، دولت بهشلي، ودعا من خلالها إلى حوار مباشر مع زعيم حزب «العمال الكردستاني» المحكوم بالسجن مدى الحياة في تركيا، عبد الله أوجلان، بل دعوته للحديث في البرلمان، والنظر في العفو عنه.

وجاءت هذه الخطوة، كما يرى مراقبون، محاولة من إردوغان لجذب كتلة أصوات الكرد بعد الهزيمة التي تلقاها حزبه في الانتخابات المحلية التي أجريت في 31 مارس (آذار) الماضي، بعدما فاز بصعوبة بالغة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو 2023، والحصول على دعم نواب حزب «الديمقراطية المساواة للشعوب»، المؤيد للكرد لفتح الطريق أمام إردوغان للترشح للرئاسة للمرة الرابعة في انتخابات مبكرة تُجرى قبل عام 2028 بطلب من 360 نائباً، وهو ما لا يملكه «تحالف الشعب»، الذي تأسس مع تحول البلاد إلى النظام الرئاسي عام 2018، ليضم حزب «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية»، وأحزاب قومية وإسلامية أخرى صغيرة مثل «الوحدة الكبرى»، و«هدى بار».

وتسبب التحالف مع القوميين في انتقال «العدالة والتنمية» من حزب وسطي إصلاحي يخدم الشعب بلا تمييز ويعمل على دفع الاقتصاد والانضمام للاتحاد الأوروبي، إلى حزب يرفع شعارات الفكر القومي والأمة، ويبشر بالعثمانية الجديدة و«الوطن الأزرق» في ظل نظام يصفه معارضوه في الداخل وحلفاؤه في الغرب بأنه يكرس الديكتاتورية وحكم الفرد منذ إقرار النظام الرئاسي من خلال تعديلات دستورية تم الاستفتاء عليها عام 2017.

إردوغان (يمين) ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني في ديار بكر جنوب تركيا نوفمبر 2013 (غيتي)

ألغاز السياسة الخارجية

ربما تكون السياسة الخارجية لتركيا تحت حكم إردوغان و«العدالة والتنمية» هي أكبر الألغاز المحيرة، فبعدما أريد لها الانفتاح وتصفير المشاكل، انتقلت منذ 2011 إلى التدخل في أزمات المنطقة، ثم رفعت شعار «العزلة القيمة»، بعدما حدثت شروخ عميقة في العلاقات مع محيط تركيا الإقليمي من مصر إلى دول الخليج إلى سوريا والعراق، في مرحلة ما، ثم محاولة العودة بعد 10 سنوات ضائعة إلى مسعى «تصفير المشاكل» مرة أخرى.

وهكذا عملت تركيا على إصلاح العلاقات مع دول الخليج ومصر، وعدم التمادي في تدمير العلاقات مع إسرائيل، على الرغم من إدانتها الصارخة لحربها في غزة ولبنان وهجماتها في سوريا، وصولاً إلى الحوار الإيجابي مع اليونان وأرمينيا.

واتسمت هذه السياسة أيضاً بتبديل غير مستقر للمحاور بين الشرق والغرب، عبر محاولة توظيف ورقة العلاقات مع روسيا والصين وإيران، وتقديم طلب عضوية في مجموعة «بريكس»، والحضور في قمة منظمة شنغهاي للتعاون على المستوى الرئاسي، للضغط من أجل تحريك مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكسر فتور العلاقات مع أميركا.

وشكل التذبذب في العلاقات بين تركيا وروسيا ملمحاً مميزاً، وكذلك مع إيران، لكن بصورة أقل علانية، إلى أن دخلت العلاقات معهما منعطفاً حاداً بسبب التطورات الأخيرة التي أطاحت بحكم بشار الأسد في سوريا، فضلاً عن عدم الرضا من جانب روسيا عن نهج تركيا في التعامل مع الأزمة الروسية الأوكرانية.

الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان على هامش قمة منظمة شنغهاي في سمرقند سبتمبر 2022 (أ.ف.ب)

هواجس المستقبل

الآن، وبعد نحو ربع قرن ساد فيها حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، يبدو أن إردوغان يجد صعوبة كبيرة في تنفيذ وعده لناخبيه عقب فوزه بالرئاسة في مايو 2023 بتأسيس «قرن تركيا».

يواجه إردوغان الآن معارضة عرفت طريقها إلى الشارع بعد أكثر من 22 عاماً من التشتت، وركاماً اقتصادياً أجهض ما تحقق من مكاسب في الحقبة الذهبية لحزبه، الذي أتى بالاقتصاد، والذي قد يرحل بسببه، بعدما بدأ رحلة تراجع منذ تطبيق النظام الرئاسي في 2018، مع صعوبة التغلب على المشاكل الهيكلية، وكسر حلقة التضخم الجامح وغلاء الأسعار وتآكل الدخل.

كما يدخل الحزب عام 2025 مع سؤال كبير وملحّ: «هل يضعف (العدالة والتنمية) أو يتلاشى إذا غابت عنه قيادة إردوغان القوية؟»، ومع هذا السؤال يبدو أن سيناريوهات مقبلة في الطريق لإبقاء الرجل على رأس الحزب والسلطة في تركيا.