ما دور جامعة «MIT» في التوسعة السعودية الثالثة للمسجد الحرام؟

«الشرق الأوسط» تنشر الرؤية للتوسعات المستقبلية لتوسعة المسجد الحرام بعد 50 عاماً

إزالة العوائق البصرية لرؤية الكعبة من جميع الاتجاهات (أ.ف.ب)
إزالة العوائق البصرية لرؤية الكعبة من جميع الاتجاهات (أ.ف.ب)
TT

ما دور جامعة «MIT» في التوسعة السعودية الثالثة للمسجد الحرام؟

إزالة العوائق البصرية لرؤية الكعبة من جميع الاتجاهات (أ.ف.ب)
إزالة العوائق البصرية لرؤية الكعبة من جميع الاتجاهات (أ.ف.ب)

تناولنا في الفصل الأول من قصة تصميم التوسعة السعودية الثالثة للمسجد الحرام بدايات الموضوع بصدور الأمر السامي بتشكيل فريق من المختصين من أساتذة الجامعات السعودية وغيرهم من الخبراء العالميين لدراسة المشروع المقترح للتوسعة في عام 1429 - 2008، وشكلت وزارة التعليم العالي بناء على الأمر السامي ذلك الفريق الذي تولى تقويم وضع المسجد الحرام وقتذاك من خلال الدراسات والمسوحات الميدانية، إضافة إلى تقويم التصميم المقترح من خلال المراجعة المحلية التي قام بها فريق الدراسة (فريق الوزارة) والمراجعة الدولية التي قام بها فريق من شركة (أيكوم AECOM).

لكن هنالك قصة تروى عن الرؤية التقنية للمسجد الحرام قام بها فريق من أساتذة وباحثي معهد ماساتشوستس للتقنية (إم آي تيMIT )، كما شارك كبار المعماريين والمكاتب الاستشارية العالمية وبعض المكاتب والجامعات السعودية في اقتراح أفكار معمارية ومقاربات تصميمية للتوسعة، وتقديم رؤى مستقبلية للمسجد الحرام.

في هذا التحقيق تواصل «الشرق الأوسط» إلقاء مزيد من الضوء على جوانب من الأفكار المعمارية والتصميمية والرؤى المستقبلية التي قدمتها المكاتب والجامعات، وكيف تمت الاستفادة من بعض تلك الأفكار في تطوير التصميم المختار من المقام السامي، كما نتناول بعض ملامح الأنظمة التقنية التي قدمتها (إم آي تي MIT)، مع أسماء فريق الباحثين الذين قدموا تلك الأبحاث.

كما يُكشف في هذا الفصل ولأول مرة عن أبرز أسماء رؤساء لجان العمل في المشروع ومساراته المتعددة، والفرق الفنية المشاركة من المسؤولين والخبراء وأعضاء هيئات التدريس في الجامعات السعودية، تلك الفرق التي عملت لأكثر من عامين وبذلت جهداً كبيراً في انجاز المهام المناطة بها.

وسنتطرق وبالتفصيل إلى الفكرة التصميمية المقدمة من جامعة الملك سعود وخلفياتها وأسماء فريق كلية العمارة والتخطيط الذي عمل على تنفيذها، وصولاً إلى عرضها على خادم الحرمين الشريفين الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز في المعرض الخاص الذي أقامته وزارة التعليم العالي في كلية علوم البحار بجدة، والتي صدر الأمر السامي باختيارها كأساس لانطلاق أعمال التصميم، مع طرح التساؤلات حول سبب اختيارها من بين 12 فكرة مقترحة للتوسعة، وسنُبيّن مدى ارتباطها بمسارات تطوير التصميم الابتدائي لمشروع التوسعة.

كما سنتطرق إلى أمر هام لم يكشف عن ملامحه من قبل وهو الرؤية للتوسعات المستقبلية التي قدمتها جامعة الملك سعود للمسجد الحرام (بعد 50 عاماً)، وتم عرضها على الملك عبد الله، والتي من المتوقع أن تكون أساساً لتصاميم أي توسعات قادمة، وسنجيب في هذا التحقيق المعمق على التساؤلات عما حدث بعد تقديم العرض أمام الملك عبد الله؟

الارتباط الروحاني والعمراني بين المسجد الحرام والنسيج الحضري لمكة المكرمة (أ.ف.ب)

الاستفادة من الرؤى المعمارية والأفكار التصميمية

بالرغم من أن المدة الممنوحة لرواد العمارة والمكاتب العالمية والجهات المحلية التي دعيت لتقديم مقترحاتها لم تتجاوز الشهرين، فإن الرؤى المعمارية المقترحة من 12 بيت خبرة عالمي (منها جامعتان ومكتبان استشاريان محليان) تضمنت أفكاراً أولية ومقاربات معمارية متقدمة ومهمة لكثير من الجوانب المرتبطة بالتوسعة، واستفيد من بعض تلك الأفكار والمقاربات عند تطوير التصميم كما سنورد ذلك لاحقاً، وكان لكل من تلك الرؤى هويتها ومساهمتها المعمارية، واشتركت في كثير من النقاط منها:

- إزالة العوائق البصرية لرؤية الكعبة من جميع الاتجاهات.

- مراعاة زيادة مساحات أماكن الصلاة.

- توسعة المطاف والمسعى.

- قرب مناطق الخدمات.

- وضوح محاور الحركة وسلاستها.

- الارتباط الروحاني والعمراني بين الحرم (المسجد) والنسيج الحضري لمكة المكرمة.

- التناسق مع تضاريس الأرض المحيطة من خلال استخدام المصاطب والمدرجات.

- توفير الأسواق.

التصاميم حرصت على أن يكون شاملاً ويغطي المتطلبات

كما شمل العمل مساراً مخصصاً لتقديم الرؤى المستقبلية، وتضمن وضع رؤى عمرانية لحل شامل وأمثل للمسجد الحرام على المدى البعيد، وذلك من خلال آفاق فكرية عمرانية دون قيود، وذلك بهدف اكتشاف آثار إيجابية في النظرة الشمولية لما يحتاجه المسجد الحرام من إضافات وتحسينات تؤدي لحلول مستقبلية مثلى. وتقدم سبعة من رواد العمارة العالميين، إضافة إلى جامعة الملك سعود، برؤاهم المقترحة، التي تمحورت حول النظرة الشمولية لتطوير مكة المكرمة عموماً، وإعادة تطوير المنطقة المحيطة بالمسجد الحرام من خلال نسيج مدني عمراني متآلف مع مراعاة التدرج الطبوغرافي للمناطق المحيطة بالحرم وتظليل مساحات واسعة في المسجد الحرام ومحيطه.

المبادئ التوجيهية للمسجد الحرام

مسار الرؤية التقنية وفريق MIT

ولإبراز حجم الجهد الذي بذلته الفرق الفنية، نلقي الضوء على ملامح الرؤية التقنية المتقدمة التي قدمها فريق ضم أكثر من عشرة من أساتذة معهد ماساتشوستس للتقنية MIT، وهم:

1- البرفسور أليكس بينتلاند

2- البرفسور ج. وليامز

3- البرفسور إيفا كاسينيز

4- البرفسور رالف جاكينهايمر

5- البرفسور ميتشل

6- البرفسور ج. سوسمان

7- البرفسور سارة سلوتر

8- البرفسور ديفيد ماركس

9- البرفسور ف. جوزيف أولم

10- البرفسور ليون غليكسمان

11- البرفسور ليزلي نورفورد

الأمير محمد بن سلمان في زيارة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأميركية (غيتي)

واشتملت بحوثهم المقدمة على الأنظمة التقنية المناسبة والقابلة للتطبيق في مشروع توسعة الحرم المكي، وفيما يلي بعض الجداول التي توضح المبادئ التوجيهية التي ارتكزت عليها الرؤية التقنية، وملخصات لبعض الحلول التقنية المقترحة.

اكتمال المرحلة الأولى... وجنودها المجهولون

وبعد أن بذل الفريق الفني جهده خلال المرحلة الأولى من المشروع، التي تضمنت الدراسات الدقيقة والشاملة والتصورات والرؤى المعمارية والعمرانية والفنية والتقنية للمشروع، وعرض النتائج على الملك عبد الله، واختيار مقترح جامعة الملك سعود بوصفه أنسب البدائل، صدر التوجيه السامي رقم 1692 وتاريخ 26 صفر 1430هـ - 21 فبراير 2009م، الذي تضمن في الفقرة الثانية منه «يكون التصميم المقترح من قبل جامعة الملك سعود لتوسعة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للمسجد الحرام أساساً لانطلاق أعمال التصميم، لكونه التصميم الأقرب للتكامل مع الوضع الحالي للمسجد الحرام... على أن يتم تطويره بما يستجيب للرؤى التطويرية والتصميمية والتشغيلية لفريق الدراسة ويمكن لمجموعة بن لادن السعودية تبنيه وتنفيذه».

حرص التصميم على إزالة العوائق البصرية لرؤية الكعبة من جميع الاتجاهات

وبذلك اكتملت أعمال المرحلة الأولى من عمل الفريق على المشروع، التي توجت بصدور الأمر السامي المشار إليه أعلاه، وهنا لا بد من التأكيد على جهد الفريق وبذله ما في الوسع لتحقيق النتائج المرجوة عبر منهجية العمل الجماعي التكاملي وبمهنية عالية، ووفق آليات عمل ومرجعيات محددة، مع إيضاح أن عبارة «الفريق»، الذي تعددت تسمياته في الوثائق والتقارير المختلفة مثل: «فريق الدراسة» أو «الفريق الأساس» أو «فريق الوزارة» أو «فريق الجامعات»، كما سيلاحظ في ثنايا هذا التقرير تشمل جميع اللجان والفرق العاملة تحت مظلة وزارة التعليم العالي. لكن السؤال الذي ظل مطروحاً على مدى سنوات: من هو هذا الفريق الذي لم يكشف النقاب عن أسماء أعضائه أو حتى رؤساء مجموعاته وفرقه المتخصصة بعد مضي أكثر من خمسة عشر عاماً على تشكيله؟

وحيث يتعذر نشر كامل أسماء جميع من شارك في عضوية الفريق أو قدم استشارة أو شارك في دراسة محددة، من مختلف التخصصات والخبراء المحليين والعالميين والباحثين والفنيين وغيرهم من أعضاء الفرق المساندة لوجستياً، للعدد الكبير لهم، لتكتفي «الشرق الأوسط» بالاقتصار على ذكر أسماء أبرز أعضاء اللجنة التوجيهية وأسماء رؤساء اللجان والفرق والمسارات الفنية، مع عدم إغفال دور مئات الأشخاص، من جنسيات متعددة، الذين شاركوا في عضوية لجان وفرق هذا المشروع على مدى عامين أو أكثر، ففي المرحلة الأولى كان التشكيل كالآتي:

اللجنة التوجيهية: برئاسة وزير التعليم العالي حينذاك الدكتور خالد بن محمد العنقري، وعضوية كل من المشرف العام على الشؤون المالية والإدارية بالوزارة الدكتور علي بن سليمان العطية، والدكتور وليد بن حسين أبو الفرج، والدكتور سعد بن عبد الرحمن القاضي، والمهندس بسيم الحلبي.

وتتولى اللجة بالتشاور مع الفريق الفني تحديد القضايا التي يشملها المشروع وإقرار تكوين الفرق العلمية المختلفة لدراسة تلك القضايا وتوجيه مسارات الفرق ومتابعة أعمالها، وتلقي التقارير الفنية من الفرق التخصصية، والموافقة على ورش العمل اللازمة، وإقرار الوثائق والتوصيات الصادرة عن فرق العمل، فيما يترأس المشرف العام على الشؤون المالية والإدارية بوزارة التعليم العالي على اللجنة المالية والإدارية.

محاور العمل الرئيسة

شكلت ثمانية محاور عمل رئيسة هي:-

محور تقييم الوضع الراهن ومحور المراجعة المحلية. يترأسه الدكتور سعد القاضي، ومحور المراجعة الدولية برئاسة الدكتور عصام بن عدنان القيسي، ومحور الرؤية المعمارية برئاسة الدكتور جمال عبد، ومحور الرؤية التقنية برئاسة الدكتور وليد بن حسين أبو الفرج، ومحور المعرض برئاسة الدكتور علي العطية، ومحور الإنتاج برئاسة المهندس بسيم الحلبي، ومحور التطبيق برئاسة الدكتور ياسر صقر.

الفرق الفنية التخصصية. يترأسها الأستاذ الدكتور سعد بن عبد الرحمن القاضي للعمل ضمن إطار المشروع، حسب احتياجات كل مسار، وكلفت بإعداد التقارير اللازمة لذلك، وهي:

فريق الدراسات المعمارية والعمرانية: برئاسة د. سمير بن محمود زهر الليالي

فريق الدراسات الإنشائية: برئاسة أ.د. صالح بن حامد السيد

فريق الحركة والحشود والخدمات المساندة والأمن: برئاسة أ.د. سعد بن عبد الرحمن القاضي

فريق الدراسات البيئية: برئاسة د. هشام بن عبد الله الجيلاني

فريق دراسات الاستدامة: برئاسة د. أحمد بن عبد الوهاب خليل

فريق الدراسات الخدمية والكهروميكانيكية: برئاسة د. تاج الدين بن محمد عثمان وخلفه بعد مدة الدكتور عبد الله بن عثمان النحيط.

فرق الدعم الإداري واللوجستي: برئاسة الدكتور خالد بن محمد أبا الحسن وضمت كلاً من فريق المتابعة والتوثيق برئاسة الدكتور متعب بن محمد آل جمهور، وفريق الشؤون المالية برئاسة عبيد بن سفر السلمي، وفريق الدعم اللوجستي برئاسة عبد العزيز بن عبد الله المشهدي.

لماذا اختير تصميم جامعة الملك سعود؟

وفقاً للدكتور عبد العزيز بن سعد المقرن عميد كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود سابقاً، أنه خلال العرض على الملك عبد الله في كلية علوم البحار بجدة، تم تقديم الرؤى المعمارية والمستقبلية التي قدمتها المكاتب الاستشارية العالمية والمحلية والكليات الأخرى، وكان مقرراً أن يتم استعراض كل مقترح تصميمي من قبل الفريق المعني خلال 3-5 دقائق.

المقترح المقدم من جامعة الملك سعود تجاوز وقت استعراضه 20 دقيقة، نظراً لاستماع الملك عبد الله (رحمه الله) إلى الشروحات التفصيلية لمقترح الجامعة التي قدمها الدكتور عبد الله العثمان مدير الجامعة والدكتور عبد العزيز المقرن عميد الكلية، التي أوضحت مزايا الفكرة التصميمية المقترحة من جوانب عدة. وقد يكون السبب في استغراق كل ذلك الوقت هو التأكيد على أن هذا التصميم قد راعى الحفاظ على هوية المسجد الحرام، والتكامل مع التوسعات السابقة ربما أكثر من غيره من التصاميم، كما عززت الجامعة ذلك بتقديم رؤيتها للتوسعات المستقبلية، التي توضح إمكانية الاستمرار في التوسعات القادمة على النهج نفسه، إضافة إلى مناقشة الملك للفريق الفني وبعد ذلك للمسؤولين المعنيين حول ترشيح الفكرة التصميمية التي قدمتها جامعة الملك سعود لكونها الأنسب ولتكاملها مع التوسعات السابقة ولكونها الأقرب لقابلية التنفيذ في وقت أسرع.

مشروع جامعة الملك سعود الأساس الذي انطلقت عملية تطوير تصميم التوسعة من فكرته التخطيطية والمعمارية حسب التوجيه السامي الكريم

لجنة لدراسة مقترح جامعة الملك سعود

وشكلت لجنة من وزارة التعليم العالي والرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي ومجموعة بن لادن السعودية لرفع التوصيات للمقام السامي.

وكانت الفكرة التخطيطية والمعمارية المقترحة من جامعة الملك سعود تعتمد على أن الحرم ليس مجرد مكان للصلاة فحسب؛ بل في الأساس هناك المطاف والمسعى. وشعيرتا الطواف والسعي هي ما يميز الحرم المكي عن بقية المساجد بما في ذلك المسجد النبوي، بالإضافة لوظيفة الصلاة ذات الوزن الكبير.

إضافة إلى أهمية مراعاة التوازن بين هذه الوظائف الجوهرية وتقليص العبء التشغيلي، مع رفع معيار السلامة والأمان والروحانية لقاصدي الحرم، والاستدامة للحرم بصفته منشأة كبرى (Mega Facility)، ويمكن تخليص المقاربة التصميمية المقترحة في التالي:-

إنشاء ثلاث كتل بنائية للتوسعة، منفصلة نوعاً ما، وبارتفاع ثلاثة طوابق أرضي وأول وثان وسطح، ومتصلة ببعضها في الطوابق العليا. وذلك لإعطاء مرونة عالية في التشغيل بحسب المناسبات ولمراعاة إدارة وسلامة الحشود.

ويقع في جوانب هذه الكتل عناصر خدمات المصلين وخدمات أماكن الصلاة مما يجعلها في المتناول، فيقلص بذلك الحركة بين أماكن الصلاة ومناطق الخدمات، ويتخلل هذه الكتل أفنية لإدخال الضوء إلى كل أدوار التوسعة.

ولتسهيل الوصول للمطاف دون إرباك للمصلين في التوسعة تبنت الفكرة مبدأ عمل مسارات بين الكتل تصل مباشرة الخارج بالداخل ومستمرة إلى مباني المسجد الحرام الحالية، التي يفصلها عنها فراغ مفتوح، الذي يعمل بمثابة الفراغ التمهيدي والفاصل بين التوسعة الجديدة والتوسعات القديمة، ويمثل رئة بين الحرم القائم والتوسعة لدواعٍ بيئية ولسلامة الحشود، مع التزام المقترح الحفاظ على المباني الحالية، وعدم إحداث أي تغيير فيها عدا تغيير طفيف في الأبواب والفتحات الخارجية؛ لإعطاء الفرصة لرؤية الكعبة من خلال ممرات المشاة المحورية التي تحتويها التوسعة الجديدة.

المحاور الإشعاعية المنبثقة من المركز (الكعبة المشرفة)

وتمتد الممرات المحورية من خلال الساحات الأمامية باتجاه الشامية (الشمال) إلى مبانٍ على هيئة مصاطب لاستغلال التدرج الجبلي الموجود، وتحتوي هذه المصاطب على أماكن للصلاة، إضافة إلى مكاتب ومحال تجارية وخدمات من دورات مياه وأماكن وضوء وغيرها من الخدمات اللازمة. كما يوجد في نهاية الممرات المحورية وأعلى المصاطب ثلاثة مبانٍ مهمة هي مكتبة المسجد الحرام، ومعهد الحرم المكي الشريف، والرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي مصممة على شكل بوابات رمزية لتعزز المحاور الرئيسية المؤدية إلى المسجد الحرام، ويمكن للقاصد بمجرد الوصول إلى هذه المحاور من المستوى الأعلى رؤية الكعبة المشرفة.

المحاور الرئيسية تعمل كقنوات تهوية طبيعية

وعند استعراض أبرز مزايا التصميم المختار حينها نجد أن المقترح التصميمي راعى إمكانية تنفيذ التوسعة على مراحل لتعطي حلاً استراتيجياً مستقبلياً لتنفيذ التوسعة على مراحل من خلال إعادة تكرار الوحدة التصميمية، يمكن لهذا الفكر التصميمي المقترح أن يسمح بالامتداد المستقبلي في الجهات الأخرى من دون إحداث خلل في الأداء الوظيفي والتشغيلي للمسجد الحرام. تحقيق رؤية الكعبة من الممرات المحورية وكذلك من داخل الكتل البنائية المقترحة نظراً لتقليص عدد الأعمدة فيها نتيجة استخدام بحور إنشائية واسعة، إذ تعد رؤية الكعبة من الأهداف الرئيسية في التصميم لما لها من تأثير قوي في وجدان المسلم.

العناصر والمكونات الرئيسية التي تتضمنها الفكرة التخطيطية والمعمارية لمقترح التوسعة

تؤدي الفكرة التصميمية إلى سهولة تشغيل كل مبنى على حدة وصيانته، وتقليل استخدام الكهرباء والتكييف خلال التشغيل في غير المواسم. كما يسمح التصميم باستخدام فراغات خاصة، أو ربما مبنى واحد في الأوقات العادية، عندما يقل عدد قاصدي الحرم، وسهولة تحديد الفراغات والمداخل والمخارج، وسرعة إخلاء المسجد الحرام في أوقات الطوارئ، ومراعاة إخلاء الحشود، فبالدراسة واختبار الفكرة وجد أنه يمكن الإخلاء من جميع أجزاء التوسعة المقترحة في زمن قياسي آمن.

المخارج ونقاط الإخلاء الطارئ

ويمكن أن تصل سيارات الطوارئ إلى أي جزء من المسجد الحرام من خلال المسارات المصممة في المشروع.

يوجد دورات مياه وأماكن وضوء قريبة وفي متناول كل القاصدين، ومنها وجود دورات مياه في طابق القبو تحت الساحات ومسارات الحركة بين المباني، كما يوجد طريق خدمة في القبو يصل بين المسجد الحرام والمستشفى المصمم في المحيط الخارجي للتوسعة.

إضافة إلى إمكانية السيطرة على الظروف الخاصة والطارئة، وذلك لوجود مبانٍ منفصلة حيث يمكن التعامل مع كل مبنى على حدة. ووجود طريق تحت الأرض يصل بين القبو في المسجد الحرام ومساكن قوات الأمن المصممة خارج المسجد الحرام.

نطاق الخدمات في دور القبو في المسجد الحرام

صمم طابق القبو بحيث يحتوي على مسارات يمكن أن تستخدمها عربات الإطفاء في حالة الحرائق، وتوفير كاميرات ذات تقنية عالية تحدد أماكن المشكلات وتجمع الزوار وتعطي إنذارات للتعامل معها، ويؤدي هذا التوجه التصميمي إلى إمكانية التهوية الطبيعية وكذلك الإضاءة الطبيعية لجميع الفراغات والمباني، إضافة إلى أن وجود وحدات بنائية مستقلة يؤدي إلى سهولة الإدارة والتشغيل والصيانة.

المحاور الإشعاعية المنبثقة من المركز (الكعبة المشرفة)

وقد عمل فريق المشروع تحت إشراف ومساندة الأستاذ الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن العثمان مدير جامعة الملك سعود وقتذاك، وأدرجت كلية العمارة والتخطيط أسماء فريق العمل الذين شاركوا في التصميم، من داخل وخارج الكلية، في (وثيقة المشروع) التي قدمت إلى وزارة التعليم العالي، وهم:

أ.د. عبد العزيز بن سعد المقرن (رئيس الفريق)

أ.د السيد محمد بن عبد الفتاح عامر (مدير المشروع)

د. حسن بن عبد الفتاح القارئ - تصميم وتخطيط عمراني

د. أحمد بن عمر محمد سيد مصطفى - تصميم معماري وتقنيات التصميم الحاسوبية

د. عبد الرحمن بن عبد الله الطاسان - كود المباني والاشتراطات

د. صالح بن عبد العزيز الفوزان - النقل والتصميم الحضري

د. هشام بن عبد الرحمن الفالح - النقل والتصميم الحضري

د. محمد بن عبد العزيز عبد الحميد - نظم المعلومات الجغرافية

د. تاج الدين بن محمد عثمان - الاستدامة والأنظمة الكهروميكانيكية (قسم الهندسة الميكانيكية بكلية الهندسة - جامعة الملك سعود)

د. عادل إشراق الدين - الاستدامة (كلية العمارة وتصاميم البيئة بجامعة كنت الحكومية، أوهايو - الولايات المتحدة الأميركية)

أ.د شهاب الدين بن محمد مراد - الهندسة الإنشائية (قسم الهندسة المدنية بكلية الهندسة - جامعة الملك سعود)

د. جمال بن شفيق عليان - التراث المعماري

م. مختار بن محمد الشيباني

م. تركي بن منصور الزهراني

م. خالد بن غازي فرج

م. محمد بن عمر العامودي

م. فوزان بن محمد الجديعي

م. زكريا بن أحمد الأحمد

م. عبد العزيز الصغير

م. فيصل الحارثي

نذير أحمد عبد العزيز - الدعم اللوجستي

ومما يجدر ذكره أن جامعة الملك سعود كانت من بين الجهات المشاركة التي قدمت أكثر من رؤية لمشروع التوسعة؛ إذ قدمت رؤيتين متكاملتين، إحداهما رؤية معمارية للتوسعة، التي أقرها المقام السامي أساساً لتطوير أعمال التصميم، والأخرى رؤية للتوسعات المستقبلية تشكل التصور بعيد الأمد للمسجد الحرام (50 عاماً أو أكثر)، وتتضمن: إزالة بعض المباني القائمة وتكرار الوحدات البنائية الجديدة لتشكل منظومة متكاملة لاستيعاب عدد أكبر من قاصدي المسجد الحرام، وتبدأ هذه الوحدات كبيرة وتتجه مصغرة إلى الكعبة لتوفير الحماية ولإعطاء الإحساس بالاحترام للكعبة المشرفة، ولتمكين المصلين من رؤية الكعبة من أي اتجاه.

كما قدمت الجامعة رؤية مستقبلية ثالثة ضمن مسار الرؤى المستقبلية، لكن تلك قصة أخرى.

لكن ما أريد التأكيد عليه هنا لا يتعلق بالتصميم فحسب؛ بل بالكفاءات البشرية والقدرات الهندسية السعودية التي لم تكن متوفرة بالشكل الكافي قبل 60 عاماً، ففي عام 1387هـ - 1967م رأى الملك فيصل دعوة أشهر المعماريين والمهندسين العالميين من مختلف الدول الإسلامية لإيجاد الحلول الهندسية، للنظر في موضوع ربط مبنى الأروقة التاريخية في المسجد الحرام بالمبنى الجديد المتمثل بالأروقة السعودية، وفي العام نفسه، (ولا أعلم إن كان الأمر مجرد مصادفة أم أن هناك ارتباط)، تأسس قسم العمارة وعلوم البناء في كلية الهندسة بجامعة الملك سعود، كأول مؤسسة تعليمية للعمارة في شبه الجزيرة العربية، والذي تحول عام 1404هـ - 1984م إلى كلية العمارة والتخطيط، وأسهم خريجوها على مدى عقود في تأسيس كليات وأقسام العمارة والتخطيط في باقي الجامعات السعودية، كما كانت المدرسة المعمارية الأم التي خرَّجت مجموعة من رواد العمارة والمخططين السعوديين، الذين كان لهم دورهم في مسيرة التنمية والبناء، وتبوأ عدد منهم مناصب وزارية وقيادية في عديد من القطاعات.

ويوضح الشكل الفكرة التخطيطية والمعمارية الأساسية التي قدمتها كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود واعتمدت من قبل المقام السامي أساساً لانطلاق أعمال تطوير تصميم التوسعة، ثم المسارين التطويريين اللذين تولدا من فكرة جامعة الملك سعود والقائمين على أساس:

التجزئة على مستوى الكتلة والحيز الفراغي الأوسع.

التجزئة على مستوى الكتلة وعلى مستوى الحيز الفراغي الأصغر.

ويمكن من خلال هذه الرسومات ملاحظة مدى العلاقة الوثيقة والمتجذرة بين التطويرين والفكرة الأساسية.

أما كيف ومتى وأين تم التطوير ومن قام بذلك وأي المسارين تم اعتماده والتنفيذ على أساسه؟ فهذا ما سنتناوله في فصل قادم مع تفاصيل أخرى من فصول هذه القصة...

* كاتب وباحث سعودي


مقالات ذات صلة

الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام

خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام play-circle 01:52

الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام

في الحلقة الأخيرة من مذكراته، يوضح رجل الدولة السعودي الشيخ جميل الحجيلان، حقيقة الدور الفرنسي في جهود تحرير الحرم المكي الشريف من مجموعة جهيمان العتيبي.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض)
تحقيقات وقضايا لأكثر من 100 عام... نجاحات سعودية في إدارة الحج play-circle 05:39

لأكثر من 100 عام... نجاحات سعودية في إدارة الحج

على مدى أكثر من 100 عام، تعهدت الدولة السعودية بخدمة الحجاج، ونجحت في إدارة الحشود المليونية التي كانت قبل العهد السعودي لا تصل إلى 4 آلاف حاج من الخارج.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر
المشرق العربي زوار يطلون من جبل الزيتون على المسجد الأقصى في القدس القديمة (أرشيفية - أ. ب)

«دائرة الأوقاف» في القدس تحذر من مضاعفة اقتحامات المستوطنين للأقصى

حذر مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية من خطط مضاعفة عدد المقتحمين من المستوطنين وطمس المعالم العربية والإسلامية.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
يوميات الشرق وصل البث المباشر لآخر حدود الصين واليابان شرقاً والأميركيتين الشمالية والجنوبية غرباً (واس)

بعد 4 عقود من نقل صلاة التراويح... كيف يبدو البث التلفزيوني في الحرمين؟

كان أول بث مباشر على التلفزيون السعودي لصلاة التراويح وختمة القرآن الكريم من المسجد الحرام في «العشر الأواخر» من شهر رمضان عام 1397هـ.

غازي الحارثي (الرياض)
يوميات الشرق أضحى وصول ملايين المسلمين إلى مكة المكرمة في وقت واحد متيسراً بفضل تطور الخدمات من المغادرة حتى البلوغ (هيئة العناية بالحرمين)

«دروب مكة»... عناصر ثقافية وكنوز تراثية وحضارية عبر العصور

تقود السعودية مشروعاً لتوثيق دروب مكة المكرمة وعناصرها الثقافية التي شكلت هوية المكان، والمساجد التاريخية والصناعات الثقافية التي تطورت وتبلورت عبر الزمن.

عمر البدوي (الرياض)

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».