«القاعدة»... انكفاء «المشروع العالمي»

دعوات إلى حلّ التنظيم... فروعه «مشغولة بهمومها المحلية»... والقيادة تعاني من «عدم القدرة»

TT

«القاعدة»... انكفاء «المشروع العالمي»

سوريا كانت محور صراع بين «داعش» و«القاعدة» - والصورة لمقاتلي «داعش» بعد سيطرتهم على مدينة الرقة في 30 يونيو 2014 (رويترز)
سوريا كانت محور صراع بين «داعش» و«القاعدة» - والصورة لمقاتلي «داعش» بعد سيطرتهم على مدينة الرقة في 30 يونيو 2014 (رويترز)

مع اقتراب الذكرى الأولى لإعلان الولايات المتحدة قتلها زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، بضربة جوية في العاصمة الأفغانية كابل في نهاية يوليو (تموز) 2022، يرصد هذا التقرير وضع التنظيم حالياً في ظل «عجز» واضح عن تكرار الهجمات الإرهابية الضخمة التي تمكن من شنها في أوج صعود نجمه، منذ النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي... وكذلك تراجع فروعه عن استراتيجيته السابقة أيام زعيمه السابق أسامة بن لادن حيث كانت الأولوية لاستهداف ما يوصف بـ «العدو البعيد». كما يرصد صدور دعوات من جماعات مرتبطة به إلى حل «القاعدة» بعدما تولى قيادة التنظيم «فعلياً» سيف العدل المفترض أنه يقيم في إيران.

جماعات مسلحة.. وأهداف محلية

شهدت السنوات التي تلت الألفية الجديدة تغيّراً جوهرياً في طريقة عمل الجماعات المتشددة في عدد من الدول العربية. ففي تسعينات القرن الماضي، كان هدف هذه الجماعات محلياً صرفاً: قلب الأنظمة الحاكمة بزعم أنها «مرتدة». مع حلول النصف الثاني من ذلك العقد كان واضحاً أنها فشلت في تحقيق مبتغاها. فقد هُزمت عسكرياً وتفككت خلاياها واعتُقل أو قُتل الكثير من قادتها الكبار. حصل هذا مع «الجماعة الإسلامية المسلحة» في الجزائر، ومع «الجماعة الإسلامية المقاتلة» في ليبيا، ومع «جماعة الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» في مصر.

ترافقت تلك الهزيمة مع دخول تنظيم «القاعدة» على الخط. فقد كان أسامة بن لادن، زعيم هذا التنظيم، قد حط رحاله في أفغانستان من جديد عام 1996، بعدما لم يعد موضع ترحيب في السودان. تكرر الأمر ذاته مع زعيم «جماعة الجهاد» المصرية، الدكتور أيمن الظواهري، الذي أُبعد أيضاً من السودان، فاستقر في أفغانستان بعدما فشل في الوصول إلى الشيشان، هدفه الأول. من مقره الجديد في أفغانستان، سعى بن لادن إلى إقناع الجماعات «المهزومة» بالانضمام إليه في «حرب عالمية» تستهدف الأميركيين، والغرب عموماً، وليس الأنظمة المحلية. عُرف ذلك التغيير باستراتيجية استهداف «العدو البعيد»... قبل «القريب».

انطلق «مشروع القاعدة العالمي» في فبراير (شباط) 1998 بتأسيس «الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين»، وضمّ، إضافةً إلى «القاعدة»، «جماعة الجهاد» المصرية، وجزءاً من «الجماعة الإسلامية» المصرية (جناح رفاعي طه)، وجماعات أخرى في جنوب شرقي آسيا. لم تمر سوى شهور، حتى باشر هذا التحالف ترجمة خطته لاستهداف الأميركيين، بدءاً بتفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام في أغسطس (آب) 1998، قبل أن تكرّ المسبحة بتفجير المدمّرة «يو إس إس كول» أمام سواحل اليمن عام 2000، وصولاً إلى هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 في نيويورك وواشنطن.

تفجير برجي مركز التجارة في نيويورك... أبرز عناوين «المشروع العالمي» لـ «القاعدة» (غيتي)

شكّل هذا الهجوم الأخير امتحاناً للجماعات المتشددة، بما فيها تلك التي تحفظت في البداية على مشروع «القاعدة» العالمي، لكنها وجدت نفسها الآن مضطرة للالتحاق به بعدما شملتها «الحرب الأميركية ضد الإرهاب»، بدءاً من نهاية عام 2001. وقد تمثّل ذلك في إعلان جماعات مختلفة ولاءها لـ«القاعدة» وتحوّلها إلى فروع للتنظيم حول العالم.

 

فروع «القاعدة»

كانت «الجماعة المسلحة» في الجزائر، بحلول ذلك التاريخ، قد تفككت بعدما هزمتها أجهزة الأمن و«نخرت عظامها» شبهةُ «اختراق» الاستخبارات لها، فقرر عدد من قادتها تأسيس جماعة جديدة باسم «الجماعة السلفية للدعوة والقتال». رفض هؤلاء السير في المصالحة مع الحكم الجزائري، بعكس ما فعل معارضون إسلاميون كثر في تلك الحقبة. وعندما جاءت هجمات 11 سبتمبر، كانت «الجماعة السلفية» تواجه ضغطاً أمنياً متصاعداً دفعها إلى نقل نشاطها، أكثر فأكثر، نحو بلدان الساحل الأفريقي. هناك استفادت هذه الجماعة من عدم قدرة الحكومات المحلية على السيطرة على أراضيها الصحراوية الشاسعة، فعززت وجودها بروابط قبلية وباستثمار كميات ضخمة من الأموال التي تم جنيها من الاتجار بالرهائن.

في ظل هذه الظروف، وجدت «الجماعة السلفية» نفسها تسير في ركاب «القاعدة»، فأعلنت ولاءها لزعيم هذا التنظيم وباتت فرعه المغاربي باسم «تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي» في يناير (كانون الثاني) 2007. وقد جاء ذلك بعد شهور من الاتصالات بين الجماعة الجزائرية وفرع «القاعدة» العراقي. وكما في حال «الجماعة» الجزائرية، لم يكن فرع «القاعدة» العراقي، في الواقع، جزءاً من تنظيم بن لادن قبل هجمات 11 سبتمبر. فمؤسسه، الأردني أبو مصعب الزرقاوي، كان يقود مجموعة مسلحة «مستقلة» في أفغانستان، بل إن هناك تقارير تؤكد رفضه عرضاً للانضمام إلى «القاعدة». فرّ الزرقاوي من أفغانستان عقب هجمات 11 سبتمبر والرد الأميركي عليها، وانتقل إلى العراق حيث عمل أولاً إلى جانب جماعة كردية تسمى «أنصار الإسلام»، قبل إعلانه، عام 2004، إنشاء فرع لـ«القاعدة» تحت مسمى «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين»، في العام التالي للغزو الأميركي الذي أطاح حكم الرئيس السابق صدام حسين.

والأمر نفسه ينطبق على جماعات كثيرة انخرطت في «مشروع القاعدة العالمي» عقب هجمات 11 سبتمبر، من الخليج إلى شرق أفريقيا، مروراً بسيناء المصرية. لكن لا بد من الإشارة، هنا، إلى أن إنشاء بعض الفروع الجديدة لـ«القاعدة» عكسَ خلافات تنظيمية حادة داخل الجماعات المنضمة. فـ«الجماعة السلفية» الجزائرية، مثلاً، لم تكن متفقة بشكل كامل على التحول إلى فرعٍ لتنظيم بن لادن، لكنّ المعارضين لذلك تم تهميشهم وإبعادهم عن مراكز القيادة. كما أن «الجماعة المقاتلة» الليبية لم تنضم بأكملها إلى «القاعدة» عام 2007، بل الذي انضم كان فقط فرعاً من فروعها يقوده «أبو الليث الليبي». فقد عارض الانضمام آنذاك قادة مسجونون في ليبيا كانوا يتفاوضون مع نظام العقيد معمر القذافي من أجل العفو عنهم لقاء التخلي عن العنف.

والمثالان الجزائري والليبي ينطبقان أيضاً على قادة جماعات مصرية كانت تخوض بدورها «مراجعات» في السجون من أجل التخلي عن العنف والمصالحة مع نظام الرئيس حسني مبارك، في حين كان قادة آخرون خارج مصر ينخرطون في مشروع «القاعدة» العالمي ويحتلون مناصب أساسية في تنظيم بن لادن.

«المشروع العالمي»

كان طبيعياً أن ينضم حلفاء «القاعدة» الجدد إلى مشروعها «العالمي». في البداية كانت الهجمات مرتبطة بقيادة «القاعدة» نفسها، كما حصل في بالي الإندونيسية عام 2002 والتي نفّذها أفراد من تنظيم «الجماعة الإسلامية» بقيادة «حنبلي»، العضو البارز في «القاعدة». وفي عام 2005، تعرضت لندن لأسوأ هجوم إرهابي شمل محطات قطارات وحافلة للنقل العام. كان معظم الانتحاريين في اعتداء لندن بريطانيين من أصول باكستانية، وبعضهم زار، قبل التفجيرات، مناطق الحدود الأفغانية – الباكستانية حيث تتمركز قيادة «القاعدة» التي تبنت هجوم لندن الدموي.

انضمت فروع «القاعدة» بدورها إلى هذا الجهد «العالمي»، إذ حاول الفرع اليمني (القاعدة في جزيرة العرب)، في عام 2009، إرسال انتحاري (عمر فاروق عبد المطلب) لتفجير طائرة ركاب أميركية، قبل أن يحاول التنظيم في العام التالي إرسال طرود متفجرة لتدمير طائرات عدة متجهة إلى الولايات المتحدة.

استمر هذا الاتجاه «العالمي» لدى تنظيم «القاعدة» وحلفائه حتى مرحلة ما يُعرف بـ«الربيع العربي» عام 2011، حيث غرقت دول عدة في ثورات واضطرابات داخلية، وهو أمر سارع هذا التنظيم إلى محاولة استغلاله مستفيداً من سقوط الأنظمة التي هزمت الجماعات المتشددة في التسعينات.

تفجيرات 7/7 2005 في لندن (غيتي)

لكن «القاعدة» واجهت في تلك الفترة مشكلتين أساسيتين.

الأولى، أن الأميركيين قتلوا زعيمها أسامة بن لادن بعد 10 سنوات من مطاردته إثر فراره من تورا بورا نهاية عام 2001. عثروا عليه مختبئاً في فيلا بمدينة أبوت آباد الباكستانية، وقتلوه ليلة 2 مايو (أيار) 2011. ورغم الإعلان السريع عن اختيار خليفة له هو الدكتور الظواهري، زعيم «الجهاد» المصرية سابقاً، فإن سلطة الأخير على التنظيم وفروعه لم تكن هي ذاتها كما كانت أيام بن لادن. وربما ما صعّب من مهمة الظواهري أكثر أنه ورث تنظيماً نجح الأميركيون، على مدى سنوات، في تفكيكه وضرب شبكاته وقتل معظم قادته الكبار المخضرمين الذين قضوا في الحملة على أفغانستان عام 2001، وفي الحملة اللاحقة على مخابئهم في منطقة الحدود الأفغانية – الباكستانية حيث لاحقتهم، بلا هوادة، غارات الطائرات الأميركية المسيّرة.

الثانية، «مشكلة داعش». هذا التنظيم الذي نشأ من رحم فرع «القاعدة في بلاد الرافدين» سرعان ما وجد نفسه في صدام مع الظواهري، خليفة بن لادن. كانت سوريا سبب الخلاف. فـ«الدولة الإسلامية في العراق» بقيادة أبو بكر البغدادي سعت إلى التوسع في سوريا مستغلةً تضعضع نظام الرئيس بشار الأسد على خلفية الثورة ضد نظامه. لكنّ البغدادي سرعان ما واجه تمرداً داخلياً. فالقيادي السوري الذي أرسله لقيادة التوسع في سوريا، أبو محمد الجولاني، استعان بالظواهري كي يستقل بجماعته (جبهة النصرة) عن سلطة زعيمه العراقي السابق، البغدادي. ولم يكن الأخير ليسمح بمثل هذا التمرد على سلطته، حتى ولو كان المتمردون يحظون بدعم قيادة «القاعدة». وهكذا اندلعت حرب ضروس بين الطرفين كادت تنتهي بنصر ساحق للبغدادي على الجولاني، لولا تدخل تحالف عالمي تقوده الولايات المتحدة أرغم «داعش» على الانحسار تدريجياً في العراق أولاً حيث خسر «عاصمته»، الموصل، ثم في سوريا حيث فقد عاصمته، الرقة، قبل أن ينتهي المطاف بمعركة الباغوز على ضفاف الفرات حيث قاتل «داعش» حتى الموت إلى أن تم القضاء عليه. البغدادي نفسه نجا، لكن الأميركيين نجحوا في العثور عليه مختبئاً في قرية صغيرة بمحافظة إدلب، في شمال غربي سوريا، حيث قُتل في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، بعد شهور فقط من معركة الباغوز.

زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي نافس «القاعدة» في أماكن انتشارها حول العالم... قتله الأميركيون في 27 أكتوبر 2019 في محافظة إدلب السورية (أ.ف.ب)

تراجع «الحرب العالمية»

في ظل هذا الوضع، كان لافتاً أن «الحرب العالمية» التي أطلقها تنظيم «القاعدة» ضد الغرب عموماً والأميركيين خصوصاً منذ التسعينات تراجعت إلى حد كبير، إنْ لم تختفِ كلياً. فالسنوات القليلة الماضية أظهرت عجز «القاعدة» عن تكرار الهجمات الكبرى التي تمكّنت سابقاً من شنها على غرار تفجير السفارتين في دار السلام ونيروبي وتفجير المدمرة «كول» وهجمات 11 سبتمبر في واشنطن ونيويورك، ثم تفجيرات بالي ومحطات قطارات الأنفاق بلندن... وكل هذه الهجمات «العالمية» كان لها علاقة، كما يُعتقد، بقيادة «القاعدة» نفسها.

لكن توقف الهجمات «العالمية» لم يشمل قيادة «القاعدة» فقط، بل شمل أيضاً فروعها المفترض أنها جزء من استراتيجية استهداف «العدو البعيد». والحقيقة أن توقف العمليات ترافق مع تصريحات صادرة عن فروع «القاعدة» نفسها تؤكد أن نشاطها «محلي» فقط وليس عالمياً، في نأيٍ لافت بالنفس عن «مشروع القاعدة العالمي».

وفي هذا الإطار، كان لافتاً أن الجولاني نفسه الذي كان يمثّل فرع «القاعدة» في سوريا لم يكتفِ بإعلان فك ارتباطه بالتنظيم، بل جَهَدَ لتأكيد أن تنظيمه -«هيئة تحرير الشام»، (جبهة النصرة سابقاً)- لا يستهدف الغرب بل ينشط فقط «ضد النظام» في سوريا. ويقول الجولاني في حوار شهير عام 2020 مع «مركز إدارة الأزمات» شارحاً انفصاله عن البغدادي (عام 2013): «لم يكن أمامنا أي خيارات جيدة. كان عليّ أن أتخذ قراراً سريعاً، ولذلك اجتمعت بحلقتي الداخلية وأخبرتهم بأني أفكر في مبايعة (القاعدة). لم ينصحوني بذلك –بل إن بعضهم وصفوا ذلك بأنها خطوة انتحارية– لكن لم يكن أي منهم قادراً على تقديم بديل. إلا أنني جعلت مبايعتي مشروطة بفكرة أننا لن نستخدم سوريا كنقطة انطلاق لشن عمليات خارجية. كما أننا لن نسمح لآخرين باستخدامها لمثل تلك الغاية. وأوضحت أننا سنركز حصرياً على صراعنا ضد النظام السوري وحلفائه في سوريا». ويبدو أن الجولاني قد التزم بذلك حتى الآن. فحتى جماعة «حراس الدين» التي باتت تمثل «القاعدة» في سوريا والتي تنشط في مناطق نفوذ «هيئة تحرير الشام»، لم يُسجّل أنها شنت هجمات ضد الغرب انطلاقاً من الأراضي السورية، من دون أن يعني ذلك أنها لم تحاول. وربما فشلها مرتبط بتمسك الجولاني بعدم السماح لها باستخدام أراضيه لشن هجمات خارجية، أو بسبب الضربات التي تشنها بين الوقت والآخر طائرات مسيّرة غربية ضد قادة التنظيم المشتبه بتورطهم في التخطيط لهجمات.

والأمر نفسه ينطبق، كما يبدو، على فرع «القاعدة» في شرق أفريقيا. فبعدما تحولت حركة «الشباب» إلى فرع لـ«القاعدة» حاولت أن تشارك في «الحرب العالمية» من خلال تفجير طائرة ركاب مدنية في الجو عام 2016 (وقتها قُتل الانتحاري فقط بعدما نجح قائد الطائرة في الهبوط بها بسلام رغم فجوة كبيرة أحدثها الانفجار في هيكلها). وقد شنت الحركة الصومالية هجمات عدة في دول الجوار، لكنها، كما يبدو، باتت منشغلة الآن بهمها «المحلي» في ظل حرب شديدة تشنها ضدها القوات الحكومية الصومالية، بمساندة أميركية مباشرة. ولم تعلن حركة «الشباب»، في الواقع، موقفاً واضحاً يتعلق بوقف انخراطها في «الحرب العالمية» ضد الغرب، لكنّ الواضح أن عملياتها باتت منذ فترة طويلة «محلية»، إذ تقتصر على الصومال ومحيطه.

أبو عبيدة العنابي مطلوب أميركياً... ينأى بنفسه عن الهجمات ضد الغرب (الشرق الأوسط)

في المقابل، كان فرع «القاعدة» في الصحراء الكبرى (دول الساحل الأفريقي) الأكثر وضوحاً في ما يخص الحرب «العالمية» ضد الغرب، إذ قال زعيم هذا التنظيم «أبو عبيدة يوسف العنابي»، لـ«فرنس 24»، عندما سُئل عن التهديدات الإرهابية على الأراضي الفرنسية، إن القيادات الغربية «تعرف وتعي» ما هي أهداف «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» و«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، موضحاً أن هذه الأهداف «تركز على القتال في أفريقيا ولم تجهز لأي عمليات في الغرب أو على الأراضي الفرنسية». ويؤكد كلام العنابي أن تنظيمه منشغل فقط، حالياً، بمعاركه «المحلية» ضد حكومات دول الساحل، وليس ضد الغرب، بالإضافة إلى انشغاله بحرب ضروس يخوضها ضد منافسه «داعش» الذي ينشط في مناطق انتشاره نفسها بمالي وبوركينا فاسو والنيجر ونيجيريا. وإضافة إلى الانشغال بـ«العدو القريب جداً»، تنظيم «داعش»، يجد فرع «القاعدة» نفسه في حرب قاسية مع حكومات محلية باتت تحظى اليوم بدعم من جماعة «فاغنر» الروسية التي لا تجد رادعاً يمنعها عن ملاحقة المتشددين في أماكن اختبائهم حتى ولو أدى ذلك إلى مقتل مدنيين، وهو أمر كان الأميركيون والفرنسيون يترددون في القيام به سابقاً.

وربما يجب التوقف هنا عند وضع قيادة «القاعدة» نفسها التي وجدت نفسها في السنوات الأخيرة معزولة بشكل واضح عن خلاياها وفروعها بسبب ظروف اختباء الظواهري وعدم قدرته على التواصل مع مناصريه. وهو استعاض عن ذلك بأشرطة فيديو وتسجيلات صوتية كان يبثها بين الوقت والآخر ويحرّض فيها على مواصلة الحرب ضد الغرب، في إشارة إلى هجمات «الذئاب المنفردة». وقد شكّل الانسحاب الفوضوي المفاجئ للأميركيين من أفغانستان عام 2021، فرصة ذهبية لـ«القاعدة» لإعادة تنظيم صفوفها. ويبدو أن الظواهري نفسه شعر بنوع من الاطمئنان إلى هذا الوضع الجديد، فانتقل إلى كابل حيث عاش في حماية «شبكة حقاني» واسعة النفوذ داخل «طالبان». لكنّ الأميركيين تمكنوا من قتله بهجوم بطائرة مسيّرة في يوليو (تموز) 2022.

دخان يتصاعد في كابل عقب ضربة أميركية في 31 يوليو (تموز) 2022... الأميركيون قالوا إنهم قتلوا أيمن الظواهري (أ.ف.ب)

ورغم مرور شهور على مقتل الظواهري، لم يعلن تنظيم «القاعدة» بعد اختيار خليفة له. وقد يكون ذلك مرتبطاً بـ«طالبان»، لأن الإقرار بمقتله في كابل سيُحرج الحركة الأفغانية التي نفت وجوده فيها. وقد يكون التأخر في إعلان خليفة للظواهري مرتبطاً أيضاً بأن الشخص الأكثر ترجيحاً للحلول محله والذي يوصف بأنه بات «الأمير الفعلي» الجديد، سيف العدل، يقيم في إيران، ما يمكن أن يحرج التنظيم أمام أفراده والمدافعين عنه. وكانت هذه القضية، كما هو معروف، أحد أسباب دعوة وجّهها الرجل الثاني في تنظيم الجولاني في سوريا، أبو ماريا القحطاني، لفروع «القاعدة» لإعلان حل نفسها كفروع للتنظيم، مؤيداً فكرة حل التنظيم كلياً بما أن زعيمه الجديد، سيف العدل، يعيش في حماية أجهزة الأمن الإيرانية.

ولا يبدو أن الغرب، في الواقع، بعيد كلياً عن ظروف وضع «القاعدة» حالياً، بدليل أن «الهم الإرهابي» الذي كان طاغياً على مدى سنوات أفسح المجال أمام أولويات أخرى، على غرار «التحدي الصيني» والغزو الروسي لأوكرانيا. وقد ظهر هذا التغيير في السياسة الغربية بشكل واضح من خلال إنشاء وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) مركزاً مكرساً للصين، على غرار المركز الذي أنشأته الوكالة في التسعينات للتركيز على «خطر القاعدة»، وهو ما تمثل آنذاك في تكثيف حملات تجنيد العملاء في المجتمعات الإسلامية وتعلم اللغة العربية. كما كان الأمر ذاته واضحاً من الاستراتيجية الجديدة التي أعلنتها المملكة المتحدة أخيراً والتي تؤكد أن الأولوية باتت للصين، ما يتطلب تركيز الاهتمام على تجنيد خبراء بهذا البلد وتعلم لغة الماندرين... وبذلك يبدو واضحاً أن أجهزة الأمن الغربية طوت مرحلة التسعينات عندما كانت أولويتها تعليم عملائها العربية ومحاولة اختراق «القاعدة».

ماذا يعني ذلك، ولماذا؟

يطرح توقف «القاعدة» وفروعها عن الانخراط في الحرب ضد «العدو البعيد» وحصر نشاطها بالشأن المحلي (العدو القريب)، تساؤلاً حول مغزى هذا التراجع الواضح عن استراتيجية بن لادن القديمة.

يشرح عضو سابق في «القاعدة» انشقّ عن التنظيم بسبب تطرفه في سفك الدم وساعد أجهزة أمنية في تفكيك خلاياه، أن هناك سببين «للعودة إلى قتال العدو القريب وليس البعيد». يوضح لـ«الشرق الأوسط»: «السبب الأول هو عدم القدرة. مشكلة تنظيم «القاعدة» أنه فقد القدرة على التواصل مع خلاياه وتهريب أفراد لتكوين خلايا وتجنيد أفراد في البلاد البعيدة، مثل أميركا وكندا وأستراليا وأوروبا وغيرها، كما أنه فقد القدرة على تمويل هذه الجهات. عنده فقط قدرة على إلهام الذئاب المنفردة. ولكن لم يعد يستطيع إدارة عمليات من الخارج في الداخل الأوروبي أو الأميركي أو الأسترالي. حتى إن التنظيم فشل أحياناً في العمل داخل دول عربية. إذن، السبب الأول الذي يحكم الانتقال من قتال العدو البعيد إلى العدو القريب هو عدم القدرة: القدرة المالية، القدرة التنظيمية، القدرة الاختراقية، القدرة الاستخباراتية... كلها باتت شبه منتفية الآن».

ويضيف: «السبب الثاني هو أن معظم فروع تنظيم القاعدة أصبحت الآن تهتم بقضاياها الداخلية. فحركة (الشباب) في الصومال مهتمة بالصومال والجاليات الصومالية في كينيا وأوغندا وإثيوبيا. (تنظيم القاعدة في اليمن) عنده مشكلات لا يمكن تخيلها وبالكاد يستطيع تنظيم العمل في الداخل اليمني. بات همّه الآن النجاة. (تنظيم القاعدة في أفغانستان وباكستان) يركز عمله على إعادة التدريب وفتح المعسكرات وبدء التجنيد لعمليات مستقبلية قد تحصل في دول عربية. (تنظيم حراس الدين في سوريا) مهتم فقط بسوريا ولم يستطع تحقيق أي اختراق حتى في الداخل التركي، ناهيك بالداخل الأوروبي والأميركي».

إذا كان هذا التحليل صحيحاً فإنه يُذكّر بما حصل مع «جماعة الجهاد» المصرية في نهاية التسعينات. فرغم أن هذا التنظيم ظل يرفض الانضمام إلى وقف النار الذي أعلنته «الجماعة الإسلامية» خلال مفاوضاتها في السجون مع الحكومة المصرية، فإنه ظل يروّج لمسألة أنه يلتزم عدم شن عمليات في الداخل المصري. لم يُعرف سوى في وقت لاحق سبب ذلك... إذ تبيّن أن «جماعة الجهاد» أوقفت عملياتها داخل مصر نتيجة «عدم القدرة» فقط. فالأجهزة الأمنية فككت خلاياها كلها.

ويبدو اليوم أن «عدم القدرة» هو نفس السبب الذي دفع «القاعدة» وفروعها إلى التوقف عن شن هجمات ضد «العدو البعيد»، ربما باستثناء هجمات «الذئاب المنفردة». المشكلة ستكون بالطبع عندما ينتفي سبب «عدم القدرة». حتى ذلك الوقت، يبدو أن أولوية الغرب ستبقى... الصين وروسيا.


مقالات ذات صلة

مجلس الأمن يمدد تفويض بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال حتى 2026

أفريقيا مجلس الأمن (أ.ف.ب)

مجلس الأمن يمدد تفويض بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال حتى 2026

اعتمد مجلس الأمن الدولي، الثلاثاء، قراراً يمدد تفويض القوة التابعة للاتحاد الأفريقي في الصومال حتى عام 2026.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
شمال افريقيا قيادة الجيش الموريتاني خلال زيارة لمناورات هي الأولى من نوعها في البلد (الجيش الموريتاني)

دعم فرنسي وأميركي لموريتانيا «لمواجهة التحديات الإقليمية»

عقد الجيش الموريتاني سلسلة اجتماعات مغلقة في نواكشوط مع وفد من الإدارة العامة للتسليح بالجيش الفرنسي بهدف تحديد احتياجات التعاون بين الجانبين.

آسيا عبَّر المشيّعون عن حزنهم لدى نقل نعش تيبور ويتزن أحد ضحايا إطلاق النار في شاطئ بونداي خلال جنازته في سيدني بأستراليا يوم 18 ديسمبر 2025 (أ.ب.أ)

هجوم شاطئ بونداي بأستراليا يعيد تنظيم «داعش» إلى الواجهة

أدى هجوم وقع على محتفلين بعيد الأنوار اليهودي (حانوكا) في شاطئ بونداي بسيدني في أستراليا إلى تسليط الضوء مجدداً على تنظيم «داعش خراسان».

«الشرق الأوسط» (دبي - لندن )
آسيا صورة أرشيفية لمتظاهرين يهتفون بشعارات مؤيدة لتنظيم «داعش» وهم يحملون أعلام التنظيم أمام مقر حكومة المحافظة في الموصل على بعد 360 كيلومتراً (225 ميلاً) شمال غربي بغداد 16 يونيو 2014 (أ.ب)

جماعات مسلحة تختبر استخدام الذكاء الاصطناعي… ومخاطر متنامية في الأفق

في الوقت الذي يسارع فيه العالم إلى تسخير قدرات الذكاء الاصطناعي، بدأت الجماعات المسلحة بدورها في اختبار استخدام هذه التكنولوجيا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أفريقيا أسلحة وذخيرة ومعدات كانت بحوزة الإرهابيين (إعلام محلي)

نيجيريا تصدُّ هجوماً لتنظيم «داعش» ضد قاعدة عسكرية

أعلنت نيجيريا أن جيشها تصدى لهجوم كبير نفذه «تنظيم داعش في غرب أفريقيا»، ضد قاعدة عسكرية في ولاية بورنو، أقصى شمال شرقي البلاد.

الشيخ محمد (نواكشوط)

مصر وترمب... تحالف استراتيجي على وقع اضطرابات إقليمية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)
TT

مصر وترمب... تحالف استراتيجي على وقع اضطرابات إقليمية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)

بعد أشهر من التكهنات بشأن مستقبل العلاقات المصرية - الأميركية، وسط حديث متكرر عن بوادر «توتر وأزمة» بين القاهرة وواشنطن على خلفية تبني الرئيس دونالد ترمب مقترحاً لـ«تهجير» سكان غزة، الذي رفضه الرئيس عبد الفتاح السيسي، وما تبع ذلك من تداعيات، جاء لقاء الرئيسين في شرم الشيخ وتوقيعهما اتفاق سلام بشأن غزة ليؤكد استمرار التحالف الاستراتيجي بين البلدين على وقع الاضطرابات الإقليمية.

وبينما شهدت بداية العام الأول من ولاية ترمب حديثاً إعلامياً عن إلغاء السيسي خطط زيارة لواشنطن، ينتهي العام بتكهنات عن اقتراب تنفيذ تلك الزيارة، رد الرئيس الأميركي عليها بقوله: «السيسي صديق لي، وسأكون سعيداً بلقائه أيضاً».

وحمل فوز ترمب بانتخابات الرئاسة الأميركية، نهاية العام الماضي، آمالاً مصرية بتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، عبَّر عنها السيسي، في منشور لتهنئة ترمب عبر حسابه الرسمي على موقع «إكس»، قال فيه: «نتطلع لأن نصل معاً لإحلال السلام، والحفاظ على السلم والاستقرار الإقليميَّين، وتعزيز علاقات الشراكة الاستراتيجية».

لكن طَرْحَ ترمب خطة لـ«تطهير غزة»، وتهجير سكانها إلى مصر والأردن، ألقى بظلاله على العلاقات بين البلدين، لا سيما مع إعلان القاهرة رفضها القاطع للتهجير، وحشدها دعماً دولياً لرفض الطرح الأميركي مع إعلانها مخططاً بديل لإعمار غزة، واستضافتها قمةً طارئةً بهذا الشأن في مارس (آذار) الماضي.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يرحب بنظيره المصري عبد الفتاح السيسي في البيت الأبيض (أرشيفية - رويترز)

القليل المعلن

ويرى ديفيد باتر، الباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «تشاتام هاوس»، في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن الجانب اللافت في العلاقة بين مصر والولايات المتحدة، على مدار العام الماضي، هو «انخفاض مستوى الجوانب العلنية»، فباستثناء «عرض ترمب» في شرم الشيخ، «لم يكن هناك كثير مما جرى، على الملأ».

في حين وصف عمرو حمزاوي، أستاذ العلوم السياسية المصري، مدير برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة «كارنيغي»، العام الأول من ولاية ترمب الثانية، بأنه كان «عاماً صعباً فيما يتعلق بالعلاقات المصرية - الأميركية»، مشيراً في مقابلة مع «الشرق الأوسط» إلى أن «العام بدأ بحديث عن التهجير و(ريفييرا الشرق الأوسط)، لكن مصر بجهودها الدبلوماسية استطاعت تحويل المسار، لتحمل خطة ترمب للسلام إشارة إلى رفض التهجير، وحديث عن مسار أمني وسياسي لغزة، ومسار سياسي للقضية الفلسطينية كلها، وإن كان غير واضح».

وقال حمزاوي: «بدأ العام من نقطة صعبة، هي تطور طبيعي لموقف بايدن المتخاذل في غزة، حيث بدأ الحديث التهجير فعلياً في عهد بايدن، لكن بعد نحو عام من الجهد المصري السياسي والدبلوماسي وصلت الأمور لمعكوس البدايات، حيث أصبح التهجير غير مطروح على أجندة واشنطن، وإن ظل خطراً قائماً لا يمكن تجاهله».

تاريخياً «شكّلت مصر دولةً محوريةً بالنسبة للأمن القومي الأميركي، استناداً إلى موقعها الجغرافي، وثقلها الديمغرافي، ودورها الدبلوماسي»، بحسب تقرير نشرته أخيراً وحدة أبحاث الكونغرس الأميركي.

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة بمدينة شرم الشيخ المصرية في أكتوبر 2025 (أرشيفية - أ.ف.ب)

غزة... العقدة الأبرز

كان لحرب غزة دور في تشكيل العلاقات المصرية - الأميركية خلال العام الأول من ولاية ترمب، ودعمت واشنطن جهود الوساطة المصرية - القطرية لإيقاف الحرب. ووجَّه وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، الشكر للقاهرة بعد نجاحها في إقرار هدنة بين إسرائيل وحركة «حماس» في يناير (كانون الثاني) الماضي. لكن مع استئناف القتال مرة أخرى «وُضعت مصر في مواقف دبلوماسية معقّدة إزاء كلٍّ من الولايات المتحدة وإسرائيل؛ فبينما رفضت دعوة ترمب لإعادة توطين سكان غزة، فإن خطتها لإعادة إعمار غزة لم تحظَ بقبول من الولايات المتحدة أو إسرائيل. وتعرَّضت القاهرة لانتقادات من ترمب إثر امتناعها عن الانضمام إلى واشنطن في تنفيذ أعمال عسكرية ضد جماعة (الحوثي) اليمنية»، بحسب وحدة أبحاث الكونغرس.

وأوضح الباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «تشاتام هاوس» أن «العلاقات المصرية مع إدارة ترمب شهدت توتراً على خلفية ملف غزة؛ حيث ألغى السيسي خططاً لزيارة واشنطن في مطلع العام، عقب إعلان ترمب عن (ريفييرا الشرق الأوسط)، ليقتصر التواصل بين الجانبين على الحد الأدنى».

لكن باتر يشير إلى أن «زيارة ترمب لشرم الشيخ وتوقيع (اتفاق غزة) والاحتفاء بنجاح خطته، كانت فرصة لإعادة ضبط العلاقات بين القاهرة وواشنطن»، لافتاً إلى أنه بالنسبة للوضع في غزة فإن «مصر أصبحت لاعباً رئيسياً لا غنى عنه لإدارة ترمب ولإنجاح خطته».

وقال حمزاوي: «إن غزة كانت الملف الأبرز في العام الأول لإدارة ترمب، ومنحت مصر فرصةً لاستعادة قراءة صانع القرار الأميركي والأوروبي لدورها وسيطاً رئيسياً لحل الصراع وتفعيل وتنفيذ الاتفاق، والانطلاق لمسارات سياسية»، لافتاً إلى أن «القاهرة استطاعت وضع رؤيتها للحل على الطاولة، فبدلاً من تعاقب المسارَين الأمني والسياسي في الطرح الأميركي، أصبح هناك توافق على توازي المسارات، وكذلك الأمر تحول من الحديث عن نزع السلاح إلى قبول فكرة حصر السلاح».

وطوال العام عوّلت مصر على ترمب لإنهاء الحرب في غزة، عبر بيانات وتصريحات رسمية عدة، ودخلت واشنطن بالفعل على خط الوساطة. وحثَّ السيسي نظيره الأميركي، في كلمة متلفزة في يوليو (تموز) الماضي على بذل الجهد لوقف الحرب بوصفه «قادراً على ذلك».

وتعد «مصر دولة لا غنى عنها في خطوات الاستجابة الدولية لحرب غزة، وإن ظلت شريكاً صعباً للولايات المتحدة وإسرائيل»، وفق ما كتبه الباحثان الأميركيان دانيال بيمان وجون ألترمان، في مقال مشترك نشرته «فورين بوليسي». وأوضح بيمان وألترمان أن «الحرب في غزة أعادت تسليط الأضواء الدبلوماسية تدريجياً على مصر، ومنحتها أوراق ضغط قوية».

بدورها، ترى سارة كيرة، مديرة المركز الأوروبي الشمال أفريقي للأبحاث، أن «وتيرة العلاقات المصرية - الأميركية في ظل إدارة ترمب في ولايته الثانية تختلف عن الأولى»، موضحة في مقابلة مع «الشرق الأوسط» أن «ولاية ترمب الأولى شهدت توافقاً بين البلدين في ملفات عدة، وكانت هناك حفاوة من ترمب شخصياً بمصر وإدارتها للملفات المختلفة، لا سيما مكافحة الإرهاب، على عكس الولاية الثانية التي شهدت تباينات في المواقف».

هذه الخلافات في المواقف برزت في أبريل (نيسان) مع حديث ترمب عن «مرور مجاني لسفن بلاده التجارية والعسكرية في قناة السويس المصرية»، مقابل ما تبذله واشنطن من إجراءات لحماية الممر الملاحي.

إيجابية رغم التباين

تباين المواقف بشأن غزة لم يمنع من إشارات إيجابية في ملفات أخرى، ففي بداية العام قرَّرت وزارة الخارجية الأميركية تجميد التمويل الجديد لجميع برامج المساعدات الأميركية في مختلف أنحاء العالم، باستثناء برامج الغذاء الإنسانية، والمساعدات العسكرية لإسرائيل ومصر.

كما لم تدرج واشنطن مصر ضمن قائمة حظر السفر التي أصدرتها في يونيو (حزيران) الماضي، وبرَّر ترمب ذلك بأن «مصر دولة نتعامل معها من كثب. الأمور لديهم تحت السيطرة». واستُثنيت مصر أيضاً من زيادة رسوم الجمارك الأميركية. في وقت أكدت فيه مصر مراراً على «عمق ومتانة» العلاقات الاستراتيجية بين القاهرة وواشنطن.

وأشارت كيرة إلى أن «مصر ضغطت بكل ما أوتيت من قوة لتحقيق السلام وإيقاف الحرب على قطاع غزة، ونجحت في إقناع الجانب الأميركي برؤيتها حتى وصلت لتوقيع اتفاق سلام في شرم الشيخ». وقالت: «تعاملت الدولة المصرية ببراغماتية وذكاء، واستطاعت بفهمها لطبيعة شخصية ترمب وللمصالح الأميركية إقناع واشنطن برؤيتها».

وبينما يتعثر الوصول للمرحلة الثانية من اتفاق غزة، لا تزال مصر تعوّل على ترمب لإنجاح خطته، وتتواصل القاهرة مع واشنطن في هذا الشأن، كما تعمل معها على الإعداد لمؤتمر تمويل إعادة إعمار القطاع، الذي لا يبدو حتى الآن أن إدارة ترمب أعطته الزخم الكافي.

ولا يقتصر الحوار المصري - الأميركي على غزة، بل يمتد إلى عدد آخر من الملفات الإقليمية مثل ليبيا والسودان ولبنان وإيران، إضافة إلى الملفات المرتبطة بالأمن المائي، وعلى رأسها «سد النهضة» الإثيوبي الذي تخشى مصر أن يضر بحصتها من مياه النيل.

«سد النهضة» الإثيوبي (وكالة الأنباء الإثيوبية)

سد النهضة

في منتصف يونيو الماضي، أثار ترمب جدلاً في مصر بحديثه عبر منصته «تروث سوشيال» بأنَّ الولايات المتحدة «موَّلت بشكل غبي سد النهضة، الذي بنته إثيوبيا على النيل الأزرق، وأثار أزمةً دبلوماسيةً حادةً مع مصر». وفي أغسطس (آب) الماضي، أعلن «البيت الأبيض» قائمة نجاحات ترمب في إخماد حروب بالعالم، تضمَّنت اتفاقية مزعومة بين مصر وإثيوبيا بشأن «سد النهضة». وكرَّر ترمب مراراً حديثاً عن جهود إدارته في «حل أزمة السد الإثيوبي»، لكن هذا الحديث لم يترجم حتى الآن إلى جهود على الأرض.

وأشار حمزاوي إلى أن «هناك فرصة لتلعب واشنطن دور الوسيط لحل أزمة سد النهضة، والعودة للاتفاق الذي تمَّ في نهاية فترة ترمب الأولى». لكن تشارلز دن، الباحث في «المركز العربي واشنطن دي سي»، كتب في تقرير نُشر أخيراً، يقول: «إن موقف ترمب من السد الإثيوبي قد يمنح قدراً من الرضا للقاهرة، لكنه قد يفضي في الوقت نفسه إلى نتائج غير محمودة، في ظل عدم تبني واشنطن دور الوسيط في هذا الملف حتى الآن».

وكانت واشنطن قد استضافت جولة مفاوضات خلال ولاية ترمب الأولى عام 2020 بمشاركة البنك الدولي، بين مصر وإثيوبيا والسودان، لكنها لم تصل إلى اتفاق نهائي؛ بسبب رفض الجانب الإثيوبي التوقيع على مشروع الاتفاق.

قوات أميركية محمولة جواً خلال تدريبات النجم الساطع في مصر في سبتمبر 2025 (القيادة المركزية الأميركية)

علاقات عسكرية مستمرة

على صعيد العلاقات العسكرية، واصل التعاون بين الجانبين مساره المعتاد. ومنذ عام 1946، قدَّمت الولايات المتحدة لمصر نحو 90 مليار دولار من المساعدات، مع زيادة كبيرة في المساعدات العسكرية والاقتصادية بعد عام 1979، بحسب وحدة أبحاث الكونغرس، التي أشارت إلى أن الإدارات الأميركية المتعاقبة تبرِّر ذلك بوصفه «استثماراً في الاستقرار الإقليمي».

وعلى مدى أكثر من عقد، وضع الكونغرس شروطاً متعلقة بحقوق الإنسان على جزء من المساعدات الموجَّهة لمصر. وخلال الأعوام المالية من 2020 إلى 2023، حجبت إدارة بايدن والكونغرس نحو 750 مليون دولار من التمويل العسكري لمصر، لكن الملحق الفني الأخير الذي قدَّمه ترمب لموازنة عام 2026، تضمّن طلباً بقيمة 1.3 مليار دولار مساعدات عسكرية لمصر، دون أي مشروطية، وفق وحدة أبحاث الكونغرس.

وهنا قال حمزاوي: «الإدارة الأميركية أبعد ما تكون عن وضع مشروطية على مصر، فالعلاقات بين البلدين مبنية على المصالح بين قوة كبرى، وأخرى وسيطة مؤثرة بإيجابية».

بالفعل، منذ حرب غزة، سرَّعت إدارتا بايدن وترمب وتيرة مبيعات الأسلحة الأميركية إلى مصر بشكل ملحوظ، وأخطرت وزارة الخارجية الكونغرس بمبيعات عسكرية لمصر بقيمة إجمالية بلغت 7.3 مليار دولار، بحسب وحدة أبحاث الكونغرس. وفي يوليو الماضي أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) موافقة وزارة الخارجية، على صفقة بيع لمنظومة صواريخ متقدمة للدفاع الجوي إلى مصر، بقيمة تقدر بنحو 4.67 مليار دولار. كما استضافت مصر في سبتمبر (أيلول) الماضي مناورات «النجم الساطع».

وقالت كيرة: «العلاقات بين مصر وواشنطن تسير وفقاً لاعتبارات المصالح»، مؤكدة أن «القاهرة استطاعت تقديم نفسها لاعباً أساسياً في الإقليم». بينما أكد حمزاوي أن «مصر في مكان مركزي في تفكير الولايات المتحدة للشرق الأوسط، حيث تحتاج واشنطن إلى طيف من الحلفاء، ومصر في موقع القلب منه».


عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
TT

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)

خفتت آمال السودانيين في نهاية قريبة للحرب والمأساة الإنسانية التي يعيشونها منذ 15 أبريل (نيسان) 2023، ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الرصاصة الأولى، ثم تزايد تشاؤمهم بأن المشهد يزداد قتامة مع تعثر المبادرات الإقليمية والدولية.

لكن تدخل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وطلبه من الرئيس الأميركي دونالد ترمب «التدخل» بكامل ثقله الرئاسي، أعاد بريق الأمل، وقفز دور السعودية إلى قلب حديث الناس، وفتح نافذة جديدة تراهن على ثقل قادر على كسر الجمود.

وخلال زيارته الرسمية إلى الولايات المتحدة أخيراً، طلب ولي العهد من الرئيس الأميركي التدخل للمساعدة في وقف الحرب، وفق تصريحات أدلى بها ترمب خلال المنتدى الأميركي – السعودي للأعمال في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وكشف ترمب وقتها أن ولي العهد طلب منه التدخل لوقف حرب السودان، بقوله: «سمو الأمير يريد مني القيام بشيء حاسم يتعلق بالسودان»، وأضاف: «بالفعل بدأنا العمل بشأن السودان قبل نصف ساعة، وسيكون لنا دور قوي في إنهاء النزاع هناك».

الأمير محمد بن سلمان مستقبلاً في قصر اليمامة بالرياض رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان (واس)

عندما يتكلم الناس

في الخرطوم التي دمرتها الحرب، نظر مواطنون للتحرك السعودي بوصفه استجابة «متوقعة من الأشقاء»، يقول أحمد موسى، إن «ما فعله ولي العهد السعودي أمر متوقع من المملكة، كدولة شقيقة».

وفي الفاشر التي سيطرت عليها «قوات الدعم السريع»، لم تخفِ حواء إبراهيم تأثير الحرب في كلماتها، قبل أن تربط الأمل بأي خطوة توقف النزيف: «الحرب قضت على الأخضر واليابس، وتضررنا منها كثيراً».

أما في الأبيض، عاصمة شمال كردفان المحاصرة، حيث يعيش السكان على حافة القلق من تمدد القتال، فيختصر عيسى عبد الله المزاج العام بقوله: «تأثرت كل البيوت بالحرب، لذلك نحن نرحب بتدخل الأشقاء».

ومن نيالا التي يتخذ منها تحالف «تأسيس» عاصمة موازية، يقول ف. جبريل إن السكان «يأملون أن تجتث الحرب من جذورها، وأن تصل إليهم المساعدات الإنسانية، وأن يعود النازحون إلى ديارهم».

ولا يطلب السودانيون حلاً مفروضاً من الخارج، بقدر ما يريدون وسيطاً «نزيهاً» يعيد الأطراف إلى طاولة الحوار، ويمنع استخدام المسارات السياسية لشراء الوقت، ويعتقدون أن السعودية هي ذلك الوسيط.

شاحنة محمّلة بممتلكات شخصية لعائلات نازحة تنتظر مغادرة نقطة حدودية في مقاطعة الرنك بجنوب السودان (أرشيفية - أ.ف.ب)

إشارات تراجع

على المستوى الرسمي، لم تسر الاستجابة على خط واحد، ففي 19 نوفمبر 2025، وبمجرد إعلان ترمب عن طلب ولي العهد، رحّب رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان بالخطوة، وكتب في تغريدة على «إكس»: «شكراً سمو الأمير محمد بن سلمان، شكراً الرئيس ترمب».

ورحّبت حكومة البرهان بالجهود السعودية والأميركية، وأبدت استعدادها «للانخراط الجاد لتحقيق السلام». لكنها تحفظت على وساطة «المجموعة الرباعية» التي تضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر، وأبدت تفضيلاً للوساطة السعودية.

«صفقة عسكرية»

ورحب التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود) الذي يقوده رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك بالجهود السعودية، واعتبرها «خطوة إيجابية قد تفتح مساراً جديداً»، بيد أنه اشترط ألا يكون الحل حصراً بين العسكريين، وأن يشارك المدنيون في أي تسوية شاملة قادمة.

من جهته، عبر تحالف السودان التأسيسي - اختصاراً «تأسيس» - الموالي لـ«قوات الدعم السريع»، عن تأييده للتحرك السعودي، واعتبره تأكيداً على حرص المملكة على منع انهيار السودان.

سودانيون فرّوا من الفاشر يستريحون لدى وصولهم إلى مخيم «الأفاد» للنازحين بمدينة الدبة شمال السودان 19 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

هل تنجح المبادرة؟

يراهن السودانيون على تحويل الجهود السعودية - الأميركية من «إشارة سياسية» إلى مسار دبلوماسي كامل يتضمن «ضغطاً يفضي إلى وقف إطلاق نار، وترتيبات إنسانية تفتح الممرات وتخفف المعاناة، ثم عملية سياسية لا تعيد إنتاج الأزمة»، وفق المحامي حاتم إلياس لـ«الشرق الأوسط».

وقال إلياس لـ«الشرق الأوسط»، إن «التحدي الأكبر يبقى في تعقيد الحرب نفسها: صراع على الشرعية، وانقسام مجتمعي، ومؤسسات ضعيفة، وتضارب مصالح أطراف متعددة».

ورغم هذه التعقيدات، فإن المزاج الشعبي من بورتسودان إلى الخرطوم إلى الفاشر والأبيض ونيالا، يبدو واضحاً، حسب الصحافي المقيم في باريس محمد الأسباط، في أن «هناك تعلقاً بالأمل الهش بتوقف البنادق وفتح باب نحو سلام طال انتظاره».

وبعد تراجع آمال السودانيين في حل قريب، عادت الروح المتفائلة مرة أخرى، إثر زيارة رئيس مجلس السيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان للرياض 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي للمملكة، والاجتماع الرفيع الذي عقده معه ولي العهد.

وبدا أن مجرد عقد هذا الاجتماع في الرياض، فتح بوابة جديدة للأمل بوقف الحرب وإنهاء المأساة الإنسانية، وكأن واقع الحال يقول: «تضع السعودية ملف وقف الحرب في السودان على رأس أولوياتها».

ويأمل السودانيون الذين أنهكتهم الحرب وأزهقت أرواح العديد منهم، وأهلكت ضرعهم وزرعهم، وشردتهم في بقاع الدنيا، لاجئين ونازحين، العودة إلى بلادهم وبيوتهم، وحياتهم التي يفتقدونها، فهل تثمر المبادرات سلاماً مستداماً هذه المرة؟


ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)

في قطاع غزة، كان لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب دور بارز في إقناع «حماس» وإسرائيل بضرورة التوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، وإعلان انتهاء الحرب التي استمرت لمدة عامين، دفع خلالها الفلسطينيون أثماناً لا تحتمل من خسائر بشرية ومادية وعلى صعد مختلفة، منها الصحة والبيئة والبنية التحتية وغيرها.

ويحسب لإدارة ترمب أنها نجحت فعلاً بالتوصل لاتفاق بعد محاولات حثيثة من إدارة جو بايدن للتوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، إلا أن كل الجهود فشلت آنذاك في ظل خلافات برزت بينها وبين الحكومة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو، الذي كان يتوق لعودة ترمب إلى الحكم. إلا أن هذه العودة لم تكن مثل ولاية ترمب الأولى التي منح خلالها لإسرائيل الكثير من الهدايا سواء الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، أو سيادتها على الجولان، أو حتى العمل على الاتفاقيات الإبراهيمية.

قبول مواقف «حماس»

وفرض ترمب على نتنياهو وحكومته العديد من القرارات المتعلقة بالشأن الفلسطيني والمنطقة بأسرها، وخاصةً فيما يتعلق بالحرب على إسرائيل، حين فاجأ الأخيرة بقبول موقف «حماس» من خطته التي طرحت على الحركة، بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو أمر فاجأ نتنياهو وحكومته بشكل خاص، قبل أن تقبل الحكومة الإسرائيلية، بالأمر الواقع، ويتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

وعلى الرغم من أن هذا الإنجاز يحسب لإدارة ترمب، فإن الخروقات الإسرائيلية المستمرة لوقف إطلاق النار الهش للغاية، قد تفضي إلى إفشاله. لكن أيضاً حالة العجز الفلسطينية بعد حرب استمرت عامين واستنزفت كل قدرات فصائلها المسلحة وخاصةً «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، ربما تدفع الجميع بقبول ما تطمح إليه الولايات المتحدة من العبور إلى المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار. ليتم ذلك لا بد من دعم من الوسطاء الذين يحاولون تقريب وجهات النظر بين «حماس» وإسرائيل من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر، ويتمحور دورها في الضغط على حكومة نتنياهو، بقبول الاتفاق والالتزام ببنوده. ففي أكثر من مرة منعت هذه الحكومة من اتخاذ إجراءات مثل إغلاق المعابر مجدداً للقطاع بحجة خروقات حصلت من جانب «حماس»، كما ضغطت عليها في العديد من المرات بالالتزام بزيادة عدد الشاحنات التجارية والمساعدات إلى القطاع.

«ضغوط وهمية»؟

رغم أن هذه الضغوط تؤتي أكلها وثمارها في بعض الأحيان، لكن الفصائل الفلسطينية والمراقبين للوضع في قطاع غزة، يرون أنها مجرد ضغوط وهمية في قضايا غير ملحة، وأن هناك حاجة أكثر لضرورة أن يكون الضغط فاعلاً تجاه قضايا أكبر ومهمة بالنسبة للسكان في القطاع، مثل البدء بتوفير المواد الإغاثية من خيام جيدة صالحة للحياة، وإدخال الكرفانات، والبدء بمسيرة إعمار جادة، بينما تتطلع إسرائيل للبدء بنزع سلاح «حماس» والفصائل الأخرى، وأن تتخلى الحركة عن حكمها للقطاع، وهي قضايا ما زالت تبحث ويدار حولها الكثير من اللقاءات والمحادثات الهادفة للانتقال لكل عناصر وبنود الاتفاق بمرحلته الثانية.

خريطة لمراحل الانسحاب من غزة وفق خطة ترمب (البيت الأبيض)

ولربما غالبية سكان قطاع غزة، كانوا يتطلعون لنجاحات أكبر من إدارة ترمب بعد أن فرضت على إسرائيل و«حماس» اتفاق وقف إطلاق النار، سواء من خلال الدبلوماسية التي قادتها هذه الإدارة من جانب، أو من خلال سياسة الضغط عبر الوسطاء وحتى عبر التهديدات التي كان يطلقها ترمب من حين إلى آخر، لكن هناك من يرى سياسياً وشعبياً أن الولايات المتحدة ما زالت لم تقدم الكثير تجاه إنجاح هذا الاتفاق في ظل أنه كان المأمول في أن يتغير واقع القطاع لأفضل من ذلك، خاصةً على مستوى الظروف الحياتية وبدء الإعمار، وهو الأمر الذي يهتم به المواطن في غزة أكثر من أي مطالب أخرى.

المرحلة الثانية

وفتحت اللقاءات المباشرة بين «حماس» والإدارة الأميركية، التي كانت مفاجئة بالنسبة لإسرائيل، أفقاً أكبر لإمكانية الانتقال للمرحلة الثانية بسلاسة كما جرى في المرحلة الأولى، حيث تحاول الحركة الفلسطينية إقناع إدارة ترمب بالعديد من المقترحات التي تقدمها عبر الوسطاء، لكنها كانت تتطلع لعقد لقاء آخر مع المبعوثين الأميركيين لبحث هذه القضايا بشكل مباشر، قبل أن تعترض إسرائيل على هذه اللقاءات، ما أدى لتأجيلها، في وقت جرت تسريبات عن أنها عقدت سراً، وهو الأمر الذي لم يؤكد سواء من الحركة أو الولايات المتحدة.

مسلحون من «حماس» يحملون أحد التوابيت في أثناء تسليم جثث رهائن إسرائيليين إلى «الصليب الأحمر» في خان يونس 20 فبراير 2025 (د.ب.أ)

ويبدو أن «حماس» التي تدرس جيداً الكثير من خطواتها، قبل أن تخطوها، تتفهم خريطة عمل إدارة ترمب التي تصنف في استراتيجية أمنها القومي منطقة الشرق الأوسط «منطقة شراكة» لا التزام عسكري طويل، بما يشير إلى أن الولايات المتحدة تحت حكم ترمب، منفتحة على أن حتى من يصنفون أنهم أعداؤها، يمكن أن تكون لهم الفرصة في حال أثبتوا قدرتهم على أن يصبحوا شركاء نافذين لها في منطقة الشرق الأوسط، وأنه لا يهمها من يحكم، إنما يهمها الشراكة المُجدية فقط.

انتصار مزدوج

وتتجه «حماس» لاستغلال هذه الفرصة التي وضعتها الإدارة الأميركية لنفسها، للتواصل مع جهات غير حكومية في سبيل حل التعقيدات التي تواجه سياساتها الخارجية، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط، بما يحقق لها ولرئيسها دونالد ترمب، انتصاراً دبلوماسياً يطمح له الأخير لتحقيق هدفه بالحصول على جائزة «نوبل» للسلام من جانب، وبما يشكل من جانب آخر اتفاقاً قد يكون غير مسبوق فيما يتعلق بواقع القضية الفلسطينية ومصير الصراع مع إسرائيل.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في قمة شرم الشيخ لإنهاء حرب غزة بمصر يوم 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

ورغم هذه الرؤية، فإن هناك في «حماس» من لا يأمن الجانب الأميركي الذي قدم في العديد من المرات وعوداً لم تتحقق بالنسبة للحركة، ومنها عندما أطلقت سراح الجندي الإسرائيلي الذي يحمل الجنسية الأميركية، عيدان ألكسندر، كهدية لترمب بعد لقاءات مباشرة بين الجانبين، وضمن اتفاق ضمني يسمح بفتح المعابر وإدخال المساعدات للقطاع، في وقت تهربت فيه إسرائيل من هذا الاتفاق، كما تهربت من اتفاق مماثل بتسليم جثة الضابط الإسرائيلي هدار غولدن مقابل حل أزمة العناصر المسلحة من «حماس» في أنفاق رفح، الأمر الذي قد يؤشر أيضاً إلى عدم قدرة تحقيق الإدارة الأميركية إنجازات حقيقية في قطاع غزة، حال بقيت سياستها على حالها دون ضغط حقيقي على إسرائيل.