جيل جديد من المسلحين في الضفة الغربية ينذر بانفجار قريب

«الشرق الأوسط» تدخل معاقل كتائب نابلس وجنين... وتلتقي المطلوب الأول لإسرائيل

TT

جيل جديد من المسلحين في الضفة الغربية ينذر بانفجار قريب

مسلحون في مخيم بلاطة بنابلس مطلع الشهر (أ.ب)
مسلحون في مخيم بلاطة بنابلس مطلع الشهر (أ.ب)

بات دخول مخيم جنين في الضفة الغربية اليوم أشبه بالولوج إلى ثكنة عسكرية. على مداخله، تنتشر عوارض معدنية بدائية الصنع لإعاقة المركبات العسكرية الإسرائيلية، تحيط بها أسلاك موصولة بعبوات ناسفة محلية الصنع تشغل جانبي الطريق المؤدي إلى حارات المخيم الذي يؤوي أكثر من عشرين ألف نسمة.

تنتصب بعض المتاريس الرملية على مداخل الأزقة والشوارع الضيقة للمخيم المحصور في مساحة تقل عن نصف كيلو متر مربع أضحت ميداناً للقتال بين القوات الإسرائيلية الخاصة ومسلحين فلسطينيين بين الحين والآخر، بينما تطوف طائرات الاستطلاع الإسرائيلية المعروفة محلياً باسم «الزنانة» سماء المخيم، تطارد التحركات في أزقته ليل نهار فيضفي صوتها مزيداً من القلق على حالة التوتر المقيمة هناك.

وتعكس هذه الأجواء في مخيم جنين التوتر العسكري المتزايد في الأراضي الفلسطينية، بعد سنوات من الهدوء النسبي، خصوصاً مع دخول جيل جديد من المسلحين إلى المعادلة، بات أحد قادته المطلوب الأول لإسرائيل اليوم.

غير أن ميزان القوة بين الطرفين الذي تلخصه صورة التحصينات البدائية على مداخل المخيم في مواجهة القدرات العسكرية المتطورة للجيش الإسرائيلي، ينبئ بأن موجة العنف المرتقبة ستكون صعبة وممتدة.

متاريس على مدخل مخيم جنين (الشرق الأوسط)

في هذا التحقيق، جالت «الشرق الأوسط» في شوارع مدن الضفة الغربية، ودخلت معاقل الجيل الجديد من المسلحين، وتحدثت إلى الأطراف النشطة على الأرض، في مسعى لرصد الواقع القائم، وفهم دوافعه وقراءة تفاعلاته واحتمالاته.

جنين... وموعد مع الماضي

قبل عقدين، شهد مخيم جنين واحدة من أكثر المعارك شراسة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ففي ربيع 2002، اجتاحته القوات الإسرائيلية ضمن عملياتها التي أطلقت عليها اسم «السور الواقي» بهدف القضاء عسكرياً على الانتفاضة الثانية.

دفعت إسرائيل بدباباتها ومدرعاتها وجرافاتها وطائراتها الحربية للمعركة التي أشرف عليها أرفع مستوى سياسي وعسكري وأمني في إسرائيل، وعلى رأسه آنذاك رئيس الوزراء الأسبق آرييل شارون، بمواجهة عشرات المقاتلين الفلسطينيين الذين تحصنوا بالمخيم مسلحين ببنادق آلية وبعض العبوات الناسفة محلية الصنع. دمّرت إسرائيل أحياءً كاملة في المخيم؛ ما دفع بمنسق الأمم المتحدة في الشرق الأوسط تيري رود لارسن إلى وصف ما حلّ بالمخيم «بالزلزال». أسفرت المعركة عن مقتل 58 فلسطينياً، وفقاً للأمم المتحدة، فيما اعترفت إسرائيل بمقتل 23 من جنودها بينهم 14 قُتلوا في يوم واحد.

بعد عشرين عاماً من هذه المواجهة، يعود جيل جديد من أبناء المخيم لحمل السلاح مجدداً بوجه إسرائيل. تنشط في المخيم «كتيبة جنين» التي استقطبت عشرات الشبان إلى صفوفها، ونفذت عمليات ضد أهداف إسرائيلية. يلاحق الجيش الإسرائيلي عناصر الكتيبة، ونفذ عمليات اقتحام للمخيم دارت خلالها اشتباكات عنيفة بين الجانبين، آخرها الأسبوع الماضي.

مسلحون من «كتيبة جنين» خلال مهرجان تأبين (الشرق الأوسط)

تمكنت «الشرق الأوسط» من الوصول إلى قائد الكتيبة والحديث معه، وهو الذي تضعه إسرائيل على رأس قائمة المطلوبين لديها. حاولت أجهزة الأمن الإسرائيلية اغتياله أكثر من مرة وقُتل شقيقاه وعدد من رفاقه خلال الاقتحامات التي تنفذها إسرائيل في جنين.

المطلوب الأول لـ«الشرق الأوسط»: كنت أحلم أن أصبح طبيباً!

في الحديث الذي جرى بظروف أمنية دقيقة، روى المطلوب الأول لـ«الشرق الأوسط» كيف انخرط بالعمل المسلح. يقول ويده على بندقيته في أحد أزقة المخيم محاطاً بعدد من عناصر كتيبته المقنعين بينما لفّت عتمة الليل المكان: «أنا في الثلاثينات من عمري، وانخرطت بالكفاح المسلح بسبب تبدد الآمال أمامنا جميعاً، واستمرار عدوان الاحتلال ضدنا». وأضاف: «سنحمل سلاحنا، ونمضي لنموت بكرامتنا، فما دام الاحتلال قائماً فلن يكون أمامنا أي مستقبل».

الشاب المطارد اغتالت القوات الإسرائيلية شقيقيه ورفاقه، لكنه رغم ذلك يواصل نشاطه المسلح والاستعداد لتصاعد المواجهة خلال الفترة المقبلة. ويقول: «نحن نُعد لهم، وسنبقى مستمرين في عملنا».

المطلوب الأول لدى إسرائيل خلال حديثه إلى «الشرق الأوسط» في جنين

وعما إذا تمكنت إسرائيل من اغتياله، يقول الشاب إن «جيلا آخر سيحمل السلاح مجدداً، فحينها سيخرج ابني أو جاري أو أي أحد من أبناء شعبنا لمواصلة الطريق حتى تحرير فلسطين».

يسرد الشاب الذي يقود كتيبة مسلحة ينضوي تحتها العشرات من الشبان المجهزين بالبنادق الآلية والسترات ويخوضون قتالاً مستمراً مع القوات الإسرائيلية، جانباً من أحلامه التي بددها واقع الحياة الثقيل تحت الاحتلال، قائلاً: «كنت أحلم أن أكوّن عائلة وأبني بيتاً. كان لدي طموح بأن أصبح طبياً أو مهندساً أو عاملاً أو موظفاً حكومياً، بيد أن هذه الطموحات بددها الاحتلال برصاصاته التي تطال الجميع».

مرحلة جديدة في المواجهة

وبعد 18 عاماً على نهاية الانتفاضة الثانية المسلحة التي مثّلت واحداً من أكثر فصول الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي دموية، باتفاق بقمة شرم الشيخ عام 2005 بين الرئيس الفلسطيني المنتخب حديثاً محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي حينها آرييل شارون، تعود المظاهر المسلحة من جديد إلى شوارع الضفة لتفتح الباب لمرحلة جديدة لم تتضح معالمها بعد.

ظل الهدوء الهش سمة ثابتة في الأراضي الفلسطينية خلال السنوات الماضية وإن عكرت صفوه فصول متلاحقة من المواجهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. سعت السلطة الفلسطينية وأجهزتها إلى الحفاظ على مستويات من الهدوء في مدن الضفة، وحالت دون بروز أي ظواهر مسلحة، لا سيما تلك التي تدعمها حركة «حماس»، والحفاظ على حالة من الاستقرار. وفي مقابل التزام السلطة بالاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل وبتعهداتها للأطراف الدولية والراعية لعملية السلام أملاً بإقامة دولة فلسطينية، واصلت فيه إسرائيل ملاحقاتها للناشطين الفلسطينيين وتوسعت بالاستيطان.

واليوم ومع وصول عملية التسوية السياسية إلى طريق مسدود وتلاشي الآمال بإقامة دولة فلسطينية وفقاً لحل الدولتين، يبرز إلى الواجهة جيل جديد من الشباب الفلسطيني تحركه عوامل الغضب والإحباط من الواقع القائم وتدفعه الرغبة بالتغيير.

يقول أبناء هذا الجيل إنهم لم يحصدوا طيلة العقود الثلاثة الماضية سوى «ثمار الخيبة» بدءاً بعميلة أوسلو التي فشلت بالوصول لإقامة دولة فلسطينية مروراً بتجربة الانتفاضة الثانية وصولاً لحالة الانسداد القائمة على الصعيدين الداخلي بين الفلسطينيين حيث الانقسام الذي لا بوادر لإنهائه، وعلى صعيد التسوية مع إسرائيل ناهيك عن تفاقم الأوضاع الاقتصادية. لكنهم لا يحملون تصوراً واضحاً لكسر دائرة الخيبات، سوى خوض جولة قتال جديدة.

من هم المقاتلون الجدد؟

تنتمي أغلبية المقاتلين الجدد المنضوين في صفوف الكتائب المشكلة حديثاً إلى جيل واحد، فغالبيتهم من جيل الألفية الثالثة. صيف العام 2021 بدأت أولى بوادر المظاهر المسلحة تطفو على السطح. كان العمل العسكري حتى ذلك الحين فردياً ومحصوراً ضمن نطاق ضيق ليتخذ بعدها شكلاً جديداً. أول التشكيلات العسكرية ظهر في مدينة جنين في مايو (أيار) من ذلك العام حمل اسم «كتيبة جنين» بقيادة جميل العموري المنتمي إلى «سرايا القدس»، الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي»، قبل أن تغتاله قوة إسرائيلية خاصة بعدها بأسابيع إلى جانب اثنين من عناصر الأمن الفلسطيني. انتمى عناصر الكتيبة سابقاً إلى عدد من الفصائل الفلسطينية، وتبنّت المجموعة عدداً من العمليات التي طالت أهدافاً للجيش الإسرائيلي والمستوطنين في محيط جنين.

مسلحون من «كتيبة جنين» خلال مهرجان تأبين (الشرق الأوسط)

بعدها بأشهر، وتحديداً في ديسمبر (كانون الأول) 2021، برز تشكيل مسلح آخر في مدينة نابلس تحت اسم «عرين الأسود»، واتخذ من أزقة بلدتها القديمة معقلاً له إلى جانب عناصر «كتيبة نابلس». ونشطت عناصر «العرين» في نطاق ضيق وسري، ونفذت عمليات مسلحة ضد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، بينما أفلحت المجموعة باستقطاب عشرات الشبان لصفوفها.

نال هذا التشكيل اهتماماً واسعاً في الشارع الفلسطيني الذي تابع البيانات والمقاطع المصورة التي نشرها «العرين» عبر صفحته على منصة «تلغرام» التي يتابعها عشرات الآلاف. بعث هذا التشكيل بإشارات حمراء إلى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي شرعت بعمليات أمنية لملاحقة عناصره واغتيالهم.

كذلك نشطت مجموعات مسلحة في مدن وبلدات أخرى بشمال الضفة الغربية من بينها «كتيبة طولكرم» و«كتيبة جبع» و«كتيبة طوباس»... وغيرها.

ورغم انتماء عدد من عناصر هذه المجموعات سابقاً إلى الفصائل الفلسطينية، لا سيما حركة «فتح» و«الجهاد الإسلامي» و«حماس» على الترتيب، فإن هذه التشكيلات الجديدة بدت مستقلة تنظيمياً وعملياً عن الفصائل التقليدية ولا تتبع لها، ما يمثل شكلاً مغايراً لما كانت عليه حال المجموعات المسلحة الفلسطينية على مدى عقود تصدرتها الفصائل، قبل تراجع شعبيتها وحضورها ونشاطها على الأرض.

في معقل «كتيبة بلاطة»

دخلت «الشرق الأوسط» أزقة وحارات مخيم بلاطة في مدينة نابلس، أكبر مخيمات الضفة الغربية، بعدما بات معقلاً لـ«كتيبة بلاطة» التي خرج عناصرها من رحم «كتائب شهداء الأقصى» التابعة لحركة «فتح»، والتقت مسلحي الكتيبة هناك.

لعب المخيم أدواراً فاعلة خلال الانتفاضة الثانية، وخرج عدد من قادة الفصائل الفلسطينية المسلحة منه، واليوم تنشط الكتيبة المسلحة في حاراته. تتهم إسرائيل الكتيبة بتنفيذ عدد من الهجمات طالت الجيش والمستوطنين، كما نفذت القوات الإسرائيلية عدداً من الاقتحامات والاغتيالات استهدفت عناصر الكتيبة في المخيم.

مسلح من «كتيبة بلاطة» خلال جولة في المخيم (الشرق الأوسط)

يقول أحد عناصر الكتيبة لــ«الشرق الأوسط» إنه هو ورفاقه عادوا إلى العمل المسلح بسبب استمرار هجمات الجيش والمستوطنين. ويضيف الشاب الثلاثيني الملثم وهو يتحدث في أحد أزقة المخيم الضيقة حاملاً سلاحه: «غابت المظاهر المسلحة عن مخيم بلاطة منذ نهاية الانتفاضة الثانية، وراهن الجيش الإسرائيلي على أن الكبار يموتون والصغار ينسون، لكننا اليوم نبرهن لهم أننا لن ننسى، ولن نهادن، ولن نساوم على حقوقنا».

يتحدث الشاب المسلح ببندقية آلية عن سقوط رهان الفلسطينيين على عملية التسوية. ويقول: «دعمنا قادتنا السياسيين حين ذهبوا لعملية السلام، لكنّ استمرار الاحتلال في سياساته وعدوانه وغطرسته ضد أبناء شعبنا وأراضينا دفعنا إلى حمل بنادقنا والوقوف بوجه الاحتلال».

ولا يخفى الفارق في موازين القوى بين أسلحة الكتيبة البسيطة وقدرات الجيش الإسرائيلي المتطورة على أحد، بمن في ذلك المسلحون أنفسهم. يقول الشاب إن مواجهة الشبان بإمكاناتهم البسيطة مع آليات الجيش وقواته الخاصة المدججة بأحدث القدرات العسكرية «لا تعكس إلا حجم العناد لدى شبابنا الذي يدرك أنه يواجه جيشاً يمتلك آليات وطائرات ودبابات، بينما نتسلح نحن ببنادقنا وإيماننا بالله وقضيتنا».

العام 2022 الأكثر دموية

مثّل عام 2022 العام الأكثر عنفاً منذ سنوات؛ إذ شهد سقوط أكبر عدد من القتلى الفلسطينيين والإسرائيليين منذ نهاية الانتفاضة الثانية عام 2005. وسجلت الأرقام سقوط أكثر من 230 فلسطينياً بينهم 171 في الضفة و53 في غزة و6 من فلسطينيي الداخل، فيما قُتل 26 إسرائيلياً خلال الفترة نفسها. وتصاعد العنف أكثر خلال عام 2023، فمنذ بداية العام قُتل 153 فلسطينياً في الضفة والقطاع، بينهم 26 طفلاً.

بدأت فصول التوتر في الضفة الغربية خلال تولي الحكومة الإسرائيلية السابقة برئاسة يائير لابيد السلطة في إسرائيل، إلا أنه تصاعد مع وصول سلفه بنيامين نتنياهو مجدداً إلى السلطة وتشكيله حكومة بين الأكثر تشدداً في إسرائيل، تعهد وزراؤها الذين ينتمون إلى أحزاب دينية متطرفة بتصعيد المواجهة مع الفلسطينيين.

مسلح من «كتيبة بلاطة» في أحد أزقة المخيم (الشرق الأوسط)

أطلقت إسرائيل عملية أمنية لمواجهة التصعيد في الضفة الغربية أطلقت عليها اسم «كاسر الأمواج» شملت الدفع بمزيد من الوحدات العسكرية، وزيادة وتيرة الملاحقات والاغتيالات، إلى جانب إعادة نشر الحواجز وتنفيذ عقوبات جماعية بعد سلسلة من العمليات التي نفذها فلسطينيون في الضفة وفي المدن الإسرائيلية.

استطلاعات الرأي: الانفجار وشيك

يشير آخر استطلاعات الرأي إلى اعتقاد الفلسطينيين والإسرائيليين على السواء بإمكانية تدحرج الموجة الحالية من العنف في الضفة الغربية نحو اندلاع انتفاضة جديدة. يرى 61 في المائة من الفلسطينيين أن ما تشهده الضفة الغربية هو بداية لمواجهة أوسع، فيما يوافق 65 في المائة من الإسرائيليين على الأمر نفسه، وفقاً لـ«المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية».

وتشير الأرقام إلى أن التأييد لخيار الكفاح المسلح ارتفع بشكل طفيف بين الفلسطينيين مقارنة بالأعوام السابقة، إذ حاز نسبة تأييد بلغت 40 في المائة مقارنة بـ37 في المائة 2020.

أما الإسرائيليون، ففضل 26 في المائة منهم خيار «حرب حاسمة ضد الفلسطينيين»، ما يمثل ارتفاعاً بالتأييد لهذا الخيار بنسبة 7 نقاط مقارنة باستطلاعات الرأي عام 2020، وفقاً للمركز نفسه.

وتشير الاستطلاعات إلى تراجع التأييد لدى الفلسطينيين والإسرائيليين معاً لخيار التوصل إلى اتفاق سلام بين الجانبين، إذ أيد 31 في المائة من الفلسطينيين و30 في المائة من الإسرائيليين خيار السلام، مقابل تفضيل 34 في المائة من الفلسطينيين و41 في المائة من الإسرائيليين لهذا الخيار قبل عامين.

حركة «فتح»: المواجهة مستمرة بجيل جديد

عطا أبو رميلة، أمين سر حركة «فتح» في جنين الذي التقته «الشرق الأوسط» داخل حارات المخيم حيث كانت «ذروة المعركة العنيفة» بين المقاتلين الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية عام 2002، يقول إن «أبناء وأحفاد المقاتلين والشهداء هم الذين يقاتلون الاحتلال اليوم»، مضيفاً أنهم «أشد قوة وشراسة من آبائهم».

أمين سر حركة «فتح» في جنين عطا أبو رميلة (الشرق الأوسط)

يرى أبو رميلة الذي تلاحقه القوات الإسرائيلية وهاجمت سيارته الخاصة قبيل إجراء المقابلة معه وحاولت اعتقاله، إن نذر انفجار الأوضاع في الضفة الغربية تبدو كبيرة. ويقول: «بصراحة وبعيداً عن الشعارات والخطابات؛ الانفجار بات وشيكاً، والاحتلال يتحضّر لذلك ونحن مستعدون أيضاً، وإن كان بإمكاناتنا البسيطة وتصنيعنا المحلي، فليس هناك من يدعمنا بالسلاح».

وبينما يقول أبو رميلة إن «من حق الفلسطينيين مقاومة الاحتلال بالسلاح وغيره»، يرى أن «شرارة الانفجار» قد تخرج من «قلب المخيم» لتنتقل إلى بقية المناطق الفلسطينية.

وعن العوامل المحركة والدافعة لحالة التصعيد في الضفة الغربية، يقول أبو رميلة إن إسرائيل «تسعى إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني»، في ظل انعدام أي أفق سياسي، مشيراً إلى أن القيادات الفلسطينية المتعاقبة خاضت مفاوضات مع الجانب الاسرائيلي إلا أنه «بات واضحاً أنه لا يوجد شريك إسرائيلي للمفاوضات ولما يسمى عملية السلام، فهم يرفضون السلام، ويسعون للقتل والإجرام».

«الجهاد الإسلامي»: القهر ولّد حالة مسلحة جديدة

أما ماهر الأخرس، القيادي في حركة «الجهاد الإسلامي» بالضفة الغربية، فيقول لـ«الشرق الأوسط» إن «ما تشهده المدن الفلسطينية اليوم هو رد فعل من المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني بعدما لم يجد طريقاً للسلام، ولم يجد طريقاً لتطبيق الاتفاقيات بين السلطة الفلسطينية والاحتلال». وأضاف أن «ما تلا هذه الاتفاقيات من فصول جاء عكسياً وحمل مزيداً من سياسات التوسع والاستيطان والقتل في الأراضي الفلسطينية». وفي ظل هذا الواقع، يقول الأخرس: «سلك بعض الشباب الفلسطيني طريق الخلاص، وقرر أن الحرية لا بد أن تكون بالتضحية وبمواجهة الاحتلال».

وفي قراءته الأسباب التي أدت إلى ارتفاع منسوب التوتر في الضفة الغربية، يقول الأخرس إن الفلسطينيين يعيشون «قهراً دائماً» جراء سياسات إسرائيل، مضيفاً أن معاناة الفلسطينيين المستمرة خلقت حالة مسلحة جديدة في الضفة.

السلطة الفلسطينية... تحديات عديدة

تمثل حالة التوتر المتصاعدة وبروز الفصائل المسلحة من جديد في شوارع الضفة الغربية تحدياً ثقيلاً للسلطة الفلسطينية وأجهزتها؛ فهي تزيد من أعبائها، وتسهم بإضعاف صورتها وسلطتها، وتفتح الباب أمام احتكاكات مع هذه الكتائب وحواضنها الشعبية، ناهيك عن تصاعد الضغوط الإسرائيلية والغربية عليها لإيجاد حلول لهذه الظواهر المسلحة الجديدة.

سعت السلطة الفلسطينية إلى احتواء الحالة المسلحة في بداياتها عبر الانفتاح على العناصر المسلحة، ومحاولة حثّها على إلقاء سلاحها والالتحاق بالأجهزة الأمنية على غرار تجارب الانتفاضة الثانية في التعاطي مع الكتائب المسلحة في الضفة الغربية، لكن من دون نجاح هذه المرة.

يقول اللواء أكرم الرجوب، محافظ جنين والشخصية الأمنية البارزة في مناطق شمال الضفة، إن الحكومة الإسرائيلية تسعى إلى جانب أهدافها الأخرى من التصعيد في الضفة الغربية إلى إضعاف السلطة أيضاً. ويوضح أن «أحد أهم الأهداف التي ترمي إليها حكومة الاحتلال هو إضعاف السلطة وتقديمها أمام شعبها على أنها سلطة ضعيفة وغير قادرة على الإيفاء بالتزاماتها تجاه الشعب الفلسطيني»، مضيفاً أن إسرائيل تستخدم الظواهر المسلحة في الضفة «مبرراً لاستمرار الهجمات والعنف، وسفك المزيد من دماء الشعب الفلسطيني».

محافظ جنين اللواء أكرم الرجوب خلال حديثه إلى «الشرق الأوسط»

ويلفت الرجوب إلى أن التقديرات لدى الدوائر الأمنية والسياسية الفلسطينية تشير إلى أن الأوضاع تمضي نحو المزيد من التصعيد، «فلدينا تقديرات بأن اعتداءات الاحتلال ستستمر، والهجمة الدموية الشرسة مستمرة أيضاً، وقد يقدم الاحتلال على عمل مبرمج ممنهج واسع فيه المزيد من الاقتحامات، وزج المزيد من المستوطنين المتطرفين لخلق أجواء لزيادة الصراع في شمال الضفة الغربية».

خطة أميركية لخفض التصعيد

خلال الأشهر الماضية ومع محاولة الولايات المتحدة الدخول على خط الجهود لخفض التصعيد في الضفة ودعمها مسار محادثات بين الفلسطينيين والاسرائيليين في العقبة وشرم الشيخ، أشارت تقارير إلى تقديم الجانب الأميركي خطة أمنية إلى السلطة الفلسطينية صاغها المنسق الأمني الأميركي الجنرال مايكل فنزل. تهدف الخطة إلى إعادة السيطرة الأمنية للسلطة على مدينتي نابلس وجنين، وتشكيل قوة أمنية فلسطينية خاصة للتعاطي مع الكتائب المسلحة. أشارت التقارير إلى إبداء السلطة تحفظات عديدة على الخطة الأميركية، أبرزها غياب الضمانات بوقف الاقتحامات الإسرائيلية للمدن الفلسطينية.

يقول الرجوب إن هذه المقترحات «سمعت بها عبر وسائل الإعلام»، مشيراً إلى أن «القيادة لم تصدر تعميماً رسمياً بهذا الشأن، وبالتالي أنا أتعامل معه كحديث إعلامي لا قيمة له على الأرض».

وبشأن المقترحات التي قُدّمت للعناصر المسلحة لوضع سلاحهاً وتسليم أنفسها لأجهزة الأمن الفلسطينية، ينفي الرجوب طرح الأمر في «أي لقاء أو جلسة مع قيادة السلطة»، مضيفاً أنه لا يعلم «مدى جدية المقترحات ولا آفاقها»، وإن صحّت هذه التقارير لا سيما مع ورود أنباء عن تسليم بعض المسلحين أنفسهم.

تقليل من احتمالات الانفجار

وفي وقت تتصاعد فيه أكثر نذر اتساع نطاق المواجهة، يرى آخرون أن حالة التصعيد القائمة ستظل مستمرة، لكن بالوتيرة نفسها لغياب عوامل سياسية وتنظيمية عدة عنها. ويقول أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بيرزيت غسان الخطيب إنه «لا يوجد احتمال كبير لتطور هذه الأنشطة والفعاليات الثورية ومظاهر المقاومة الحالية لتصبح حالة واسعة الانتشار ومستمرة وممتدة»، مشيراً إلى أن «تحويل أي فعل ثوري إلى حالة واسعة ومستمرة وشاملة وعميقة يتطلب تنظيماً للحالة السياسية».

وأضاف أن «الحالة السياسية الفلسطينية تفتقر إلى التنظيم، وتظل هذه الأنشطة متفرقة لا تنبع من واقع أو إطار تنظيمي واسع وعميق ومتين»، لذلك يرى أن من الصعب استمرارها، خصوصاً في ضوء الفجوة الكبيرة في موازين القوى بين «الطبيعة البسيطة والبدائية» في بعض الأحيان لهذه الأنشطة، مقارنة «بالآلة العسكرية المتطورة والمتقدمة كثيراً» من جانب إسرائيل.


مقالات ذات صلة

الخارجية الفلسطينية: قرار إلغاء الاعتقال الإداري للمستوطنين يشجعهم على ارتكاب الجرائم

المشرق العربي قوات إسرائيلية تقوم بتأمين مَسيرة للمستوطنين في البلدة القديمة بالخليل (وفا)

الخارجية الفلسطينية: قرار إلغاء الاعتقال الإداري للمستوطنين يشجعهم على ارتكاب الجرائم

قالت وزارة الخارجية الفلسطينية، اليوم الجمعة، إن قرار إسرائيل إلغاء الاعتقال الإداري للمستوطنين يشجعهم على ارتكاب المزيد من الجرائم.

شؤون إقليمية  قوات إسرائيلية تقيم إجراءات أمنية في البلدة القديمة للخليل تحمي اللمستوطنين اليهود (د.ب.أ)

إسرائيل تنهي استخدام الاعتقال الاداري بحق المستوطنين اليهود في الضفة الغربية

أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، اليوم الجمعة، أنه قرر إنهاء استخدام الاعتقال الإداري بحق المستوطنين اليهود في الضفة الغربية المحتلة.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي جرافات وآليات إسرائيلية تغلق شوارع مدينة جنين، خلال عملية عسكرية نفذتها القوات الإسرائيلية (د.ب.أ)

الجيش الإسرائيلي: مقتل 9 مسلحين في اشتباكات خلال مداهمة في جنين

أعلن الجيش الإسرائيلي، اليوم (الخميس)، أن قواته نفذت «عمليات لمكافحة الإرهاب» في جنين، خلال اليومين الماضيين.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
شؤون إقليمية قوات إسرائيلية حول منشأة زراعية ومنزل بعد مداهمة قُتل خلالها 3 فلسطينيين في قباطية جنوب جنين بالضفة الغربية المحتلة يوم الثلاثاء (أ.ف.ب)

التصعيد يعود إلى الضفة و«طنجرة الضغط» تقتل 3 فلسطينيين في جنين

قتل الجيش الإسرائيلي 3 فلسطينيين في جنين، شمال الضفة الغربية، في أحدث هجوم على المدينة، بعد هدوء نسبي أعقب سلسلة دامية من الهجمات.

كفاح زبون (رام الله)
الولايات المتحدة​ وزارة الخزانة الأميركية تفرض عقوبات على منظمة «أمانا» الإسرائيلية للاستيطان (أ.ب)

وزارة الخزانة الأميركية تفرض عقوبات على منظمة استيطانية إسرائيلية

فرضت الولايات المتحدة اليوم الاثنين عقوبات على منظمة «أمانا» الاستيطانية الإسرائيلية متهمة إياها بالمساعدة في ارتكاب أعمال عنف في الضفة الغربية المحتلة

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.