جيل جديد من المسلحين في الضفة الغربية ينذر بانفجار قريب

«الشرق الأوسط» تدخل معاقل كتائب نابلس وجنين... وتلتقي المطلوب الأول لإسرائيل

TT

جيل جديد من المسلحين في الضفة الغربية ينذر بانفجار قريب

مسلحون في مخيم بلاطة بنابلس مطلع الشهر (أ.ب)
مسلحون في مخيم بلاطة بنابلس مطلع الشهر (أ.ب)

بات دخول مخيم جنين في الضفة الغربية اليوم أشبه بالولوج إلى ثكنة عسكرية. على مداخله، تنتشر عوارض معدنية بدائية الصنع لإعاقة المركبات العسكرية الإسرائيلية، تحيط بها أسلاك موصولة بعبوات ناسفة محلية الصنع تشغل جانبي الطريق المؤدي إلى حارات المخيم الذي يؤوي أكثر من عشرين ألف نسمة.

تنتصب بعض المتاريس الرملية على مداخل الأزقة والشوارع الضيقة للمخيم المحصور في مساحة تقل عن نصف كيلو متر مربع أضحت ميداناً للقتال بين القوات الإسرائيلية الخاصة ومسلحين فلسطينيين بين الحين والآخر، بينما تطوف طائرات الاستطلاع الإسرائيلية المعروفة محلياً باسم «الزنانة» سماء المخيم، تطارد التحركات في أزقته ليل نهار فيضفي صوتها مزيداً من القلق على حالة التوتر المقيمة هناك.

وتعكس هذه الأجواء في مخيم جنين التوتر العسكري المتزايد في الأراضي الفلسطينية، بعد سنوات من الهدوء النسبي، خصوصاً مع دخول جيل جديد من المسلحين إلى المعادلة، بات أحد قادته المطلوب الأول لإسرائيل اليوم.

غير أن ميزان القوة بين الطرفين الذي تلخصه صورة التحصينات البدائية على مداخل المخيم في مواجهة القدرات العسكرية المتطورة للجيش الإسرائيلي، ينبئ بأن موجة العنف المرتقبة ستكون صعبة وممتدة.

متاريس على مدخل مخيم جنين (الشرق الأوسط)

في هذا التحقيق، جالت «الشرق الأوسط» في شوارع مدن الضفة الغربية، ودخلت معاقل الجيل الجديد من المسلحين، وتحدثت إلى الأطراف النشطة على الأرض، في مسعى لرصد الواقع القائم، وفهم دوافعه وقراءة تفاعلاته واحتمالاته.

جنين... وموعد مع الماضي

قبل عقدين، شهد مخيم جنين واحدة من أكثر المعارك شراسة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ففي ربيع 2002، اجتاحته القوات الإسرائيلية ضمن عملياتها التي أطلقت عليها اسم «السور الواقي» بهدف القضاء عسكرياً على الانتفاضة الثانية.

دفعت إسرائيل بدباباتها ومدرعاتها وجرافاتها وطائراتها الحربية للمعركة التي أشرف عليها أرفع مستوى سياسي وعسكري وأمني في إسرائيل، وعلى رأسه آنذاك رئيس الوزراء الأسبق آرييل شارون، بمواجهة عشرات المقاتلين الفلسطينيين الذين تحصنوا بالمخيم مسلحين ببنادق آلية وبعض العبوات الناسفة محلية الصنع. دمّرت إسرائيل أحياءً كاملة في المخيم؛ ما دفع بمنسق الأمم المتحدة في الشرق الأوسط تيري رود لارسن إلى وصف ما حلّ بالمخيم «بالزلزال». أسفرت المعركة عن مقتل 58 فلسطينياً، وفقاً للأمم المتحدة، فيما اعترفت إسرائيل بمقتل 23 من جنودها بينهم 14 قُتلوا في يوم واحد.

بعد عشرين عاماً من هذه المواجهة، يعود جيل جديد من أبناء المخيم لحمل السلاح مجدداً بوجه إسرائيل. تنشط في المخيم «كتيبة جنين» التي استقطبت عشرات الشبان إلى صفوفها، ونفذت عمليات ضد أهداف إسرائيلية. يلاحق الجيش الإسرائيلي عناصر الكتيبة، ونفذ عمليات اقتحام للمخيم دارت خلالها اشتباكات عنيفة بين الجانبين، آخرها الأسبوع الماضي.

مسلحون من «كتيبة جنين» خلال مهرجان تأبين (الشرق الأوسط)

تمكنت «الشرق الأوسط» من الوصول إلى قائد الكتيبة والحديث معه، وهو الذي تضعه إسرائيل على رأس قائمة المطلوبين لديها. حاولت أجهزة الأمن الإسرائيلية اغتياله أكثر من مرة وقُتل شقيقاه وعدد من رفاقه خلال الاقتحامات التي تنفذها إسرائيل في جنين.

المطلوب الأول لـ«الشرق الأوسط»: كنت أحلم أن أصبح طبيباً!

في الحديث الذي جرى بظروف أمنية دقيقة، روى المطلوب الأول لـ«الشرق الأوسط» كيف انخرط بالعمل المسلح. يقول ويده على بندقيته في أحد أزقة المخيم محاطاً بعدد من عناصر كتيبته المقنعين بينما لفّت عتمة الليل المكان: «أنا في الثلاثينات من عمري، وانخرطت بالكفاح المسلح بسبب تبدد الآمال أمامنا جميعاً، واستمرار عدوان الاحتلال ضدنا». وأضاف: «سنحمل سلاحنا، ونمضي لنموت بكرامتنا، فما دام الاحتلال قائماً فلن يكون أمامنا أي مستقبل».

الشاب المطارد اغتالت القوات الإسرائيلية شقيقيه ورفاقه، لكنه رغم ذلك يواصل نشاطه المسلح والاستعداد لتصاعد المواجهة خلال الفترة المقبلة. ويقول: «نحن نُعد لهم، وسنبقى مستمرين في عملنا».

المطلوب الأول لدى إسرائيل خلال حديثه إلى «الشرق الأوسط» في جنين

وعما إذا تمكنت إسرائيل من اغتياله، يقول الشاب إن «جيلا آخر سيحمل السلاح مجدداً، فحينها سيخرج ابني أو جاري أو أي أحد من أبناء شعبنا لمواصلة الطريق حتى تحرير فلسطين».

يسرد الشاب الذي يقود كتيبة مسلحة ينضوي تحتها العشرات من الشبان المجهزين بالبنادق الآلية والسترات ويخوضون قتالاً مستمراً مع القوات الإسرائيلية، جانباً من أحلامه التي بددها واقع الحياة الثقيل تحت الاحتلال، قائلاً: «كنت أحلم أن أكوّن عائلة وأبني بيتاً. كان لدي طموح بأن أصبح طبياً أو مهندساً أو عاملاً أو موظفاً حكومياً، بيد أن هذه الطموحات بددها الاحتلال برصاصاته التي تطال الجميع».

مرحلة جديدة في المواجهة

وبعد 18 عاماً على نهاية الانتفاضة الثانية المسلحة التي مثّلت واحداً من أكثر فصول الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي دموية، باتفاق بقمة شرم الشيخ عام 2005 بين الرئيس الفلسطيني المنتخب حديثاً محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي حينها آرييل شارون، تعود المظاهر المسلحة من جديد إلى شوارع الضفة لتفتح الباب لمرحلة جديدة لم تتضح معالمها بعد.

ظل الهدوء الهش سمة ثابتة في الأراضي الفلسطينية خلال السنوات الماضية وإن عكرت صفوه فصول متلاحقة من المواجهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. سعت السلطة الفلسطينية وأجهزتها إلى الحفاظ على مستويات من الهدوء في مدن الضفة، وحالت دون بروز أي ظواهر مسلحة، لا سيما تلك التي تدعمها حركة «حماس»، والحفاظ على حالة من الاستقرار. وفي مقابل التزام السلطة بالاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل وبتعهداتها للأطراف الدولية والراعية لعملية السلام أملاً بإقامة دولة فلسطينية، واصلت فيه إسرائيل ملاحقاتها للناشطين الفلسطينيين وتوسعت بالاستيطان.

واليوم ومع وصول عملية التسوية السياسية إلى طريق مسدود وتلاشي الآمال بإقامة دولة فلسطينية وفقاً لحل الدولتين، يبرز إلى الواجهة جيل جديد من الشباب الفلسطيني تحركه عوامل الغضب والإحباط من الواقع القائم وتدفعه الرغبة بالتغيير.

يقول أبناء هذا الجيل إنهم لم يحصدوا طيلة العقود الثلاثة الماضية سوى «ثمار الخيبة» بدءاً بعميلة أوسلو التي فشلت بالوصول لإقامة دولة فلسطينية مروراً بتجربة الانتفاضة الثانية وصولاً لحالة الانسداد القائمة على الصعيدين الداخلي بين الفلسطينيين حيث الانقسام الذي لا بوادر لإنهائه، وعلى صعيد التسوية مع إسرائيل ناهيك عن تفاقم الأوضاع الاقتصادية. لكنهم لا يحملون تصوراً واضحاً لكسر دائرة الخيبات، سوى خوض جولة قتال جديدة.

من هم المقاتلون الجدد؟

تنتمي أغلبية المقاتلين الجدد المنضوين في صفوف الكتائب المشكلة حديثاً إلى جيل واحد، فغالبيتهم من جيل الألفية الثالثة. صيف العام 2021 بدأت أولى بوادر المظاهر المسلحة تطفو على السطح. كان العمل العسكري حتى ذلك الحين فردياً ومحصوراً ضمن نطاق ضيق ليتخذ بعدها شكلاً جديداً. أول التشكيلات العسكرية ظهر في مدينة جنين في مايو (أيار) من ذلك العام حمل اسم «كتيبة جنين» بقيادة جميل العموري المنتمي إلى «سرايا القدس»، الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي»، قبل أن تغتاله قوة إسرائيلية خاصة بعدها بأسابيع إلى جانب اثنين من عناصر الأمن الفلسطيني. انتمى عناصر الكتيبة سابقاً إلى عدد من الفصائل الفلسطينية، وتبنّت المجموعة عدداً من العمليات التي طالت أهدافاً للجيش الإسرائيلي والمستوطنين في محيط جنين.

مسلحون من «كتيبة جنين» خلال مهرجان تأبين (الشرق الأوسط)

بعدها بأشهر، وتحديداً في ديسمبر (كانون الأول) 2021، برز تشكيل مسلح آخر في مدينة نابلس تحت اسم «عرين الأسود»، واتخذ من أزقة بلدتها القديمة معقلاً له إلى جانب عناصر «كتيبة نابلس». ونشطت عناصر «العرين» في نطاق ضيق وسري، ونفذت عمليات مسلحة ضد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، بينما أفلحت المجموعة باستقطاب عشرات الشبان لصفوفها.

نال هذا التشكيل اهتماماً واسعاً في الشارع الفلسطيني الذي تابع البيانات والمقاطع المصورة التي نشرها «العرين» عبر صفحته على منصة «تلغرام» التي يتابعها عشرات الآلاف. بعث هذا التشكيل بإشارات حمراء إلى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي شرعت بعمليات أمنية لملاحقة عناصره واغتيالهم.

كذلك نشطت مجموعات مسلحة في مدن وبلدات أخرى بشمال الضفة الغربية من بينها «كتيبة طولكرم» و«كتيبة جبع» و«كتيبة طوباس»... وغيرها.

ورغم انتماء عدد من عناصر هذه المجموعات سابقاً إلى الفصائل الفلسطينية، لا سيما حركة «فتح» و«الجهاد الإسلامي» و«حماس» على الترتيب، فإن هذه التشكيلات الجديدة بدت مستقلة تنظيمياً وعملياً عن الفصائل التقليدية ولا تتبع لها، ما يمثل شكلاً مغايراً لما كانت عليه حال المجموعات المسلحة الفلسطينية على مدى عقود تصدرتها الفصائل، قبل تراجع شعبيتها وحضورها ونشاطها على الأرض.

في معقل «كتيبة بلاطة»

دخلت «الشرق الأوسط» أزقة وحارات مخيم بلاطة في مدينة نابلس، أكبر مخيمات الضفة الغربية، بعدما بات معقلاً لـ«كتيبة بلاطة» التي خرج عناصرها من رحم «كتائب شهداء الأقصى» التابعة لحركة «فتح»، والتقت مسلحي الكتيبة هناك.

لعب المخيم أدواراً فاعلة خلال الانتفاضة الثانية، وخرج عدد من قادة الفصائل الفلسطينية المسلحة منه، واليوم تنشط الكتيبة المسلحة في حاراته. تتهم إسرائيل الكتيبة بتنفيذ عدد من الهجمات طالت الجيش والمستوطنين، كما نفذت القوات الإسرائيلية عدداً من الاقتحامات والاغتيالات استهدفت عناصر الكتيبة في المخيم.

مسلح من «كتيبة بلاطة» خلال جولة في المخيم (الشرق الأوسط)

يقول أحد عناصر الكتيبة لــ«الشرق الأوسط» إنه هو ورفاقه عادوا إلى العمل المسلح بسبب استمرار هجمات الجيش والمستوطنين. ويضيف الشاب الثلاثيني الملثم وهو يتحدث في أحد أزقة المخيم الضيقة حاملاً سلاحه: «غابت المظاهر المسلحة عن مخيم بلاطة منذ نهاية الانتفاضة الثانية، وراهن الجيش الإسرائيلي على أن الكبار يموتون والصغار ينسون، لكننا اليوم نبرهن لهم أننا لن ننسى، ولن نهادن، ولن نساوم على حقوقنا».

يتحدث الشاب المسلح ببندقية آلية عن سقوط رهان الفلسطينيين على عملية التسوية. ويقول: «دعمنا قادتنا السياسيين حين ذهبوا لعملية السلام، لكنّ استمرار الاحتلال في سياساته وعدوانه وغطرسته ضد أبناء شعبنا وأراضينا دفعنا إلى حمل بنادقنا والوقوف بوجه الاحتلال».

ولا يخفى الفارق في موازين القوى بين أسلحة الكتيبة البسيطة وقدرات الجيش الإسرائيلي المتطورة على أحد، بمن في ذلك المسلحون أنفسهم. يقول الشاب إن مواجهة الشبان بإمكاناتهم البسيطة مع آليات الجيش وقواته الخاصة المدججة بأحدث القدرات العسكرية «لا تعكس إلا حجم العناد لدى شبابنا الذي يدرك أنه يواجه جيشاً يمتلك آليات وطائرات ودبابات، بينما نتسلح نحن ببنادقنا وإيماننا بالله وقضيتنا».

العام 2022 الأكثر دموية

مثّل عام 2022 العام الأكثر عنفاً منذ سنوات؛ إذ شهد سقوط أكبر عدد من القتلى الفلسطينيين والإسرائيليين منذ نهاية الانتفاضة الثانية عام 2005. وسجلت الأرقام سقوط أكثر من 230 فلسطينياً بينهم 171 في الضفة و53 في غزة و6 من فلسطينيي الداخل، فيما قُتل 26 إسرائيلياً خلال الفترة نفسها. وتصاعد العنف أكثر خلال عام 2023، فمنذ بداية العام قُتل 153 فلسطينياً في الضفة والقطاع، بينهم 26 طفلاً.

بدأت فصول التوتر في الضفة الغربية خلال تولي الحكومة الإسرائيلية السابقة برئاسة يائير لابيد السلطة في إسرائيل، إلا أنه تصاعد مع وصول سلفه بنيامين نتنياهو مجدداً إلى السلطة وتشكيله حكومة بين الأكثر تشدداً في إسرائيل، تعهد وزراؤها الذين ينتمون إلى أحزاب دينية متطرفة بتصعيد المواجهة مع الفلسطينيين.

مسلح من «كتيبة بلاطة» في أحد أزقة المخيم (الشرق الأوسط)

أطلقت إسرائيل عملية أمنية لمواجهة التصعيد في الضفة الغربية أطلقت عليها اسم «كاسر الأمواج» شملت الدفع بمزيد من الوحدات العسكرية، وزيادة وتيرة الملاحقات والاغتيالات، إلى جانب إعادة نشر الحواجز وتنفيذ عقوبات جماعية بعد سلسلة من العمليات التي نفذها فلسطينيون في الضفة وفي المدن الإسرائيلية.

استطلاعات الرأي: الانفجار وشيك

يشير آخر استطلاعات الرأي إلى اعتقاد الفلسطينيين والإسرائيليين على السواء بإمكانية تدحرج الموجة الحالية من العنف في الضفة الغربية نحو اندلاع انتفاضة جديدة. يرى 61 في المائة من الفلسطينيين أن ما تشهده الضفة الغربية هو بداية لمواجهة أوسع، فيما يوافق 65 في المائة من الإسرائيليين على الأمر نفسه، وفقاً لـ«المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية».

وتشير الأرقام إلى أن التأييد لخيار الكفاح المسلح ارتفع بشكل طفيف بين الفلسطينيين مقارنة بالأعوام السابقة، إذ حاز نسبة تأييد بلغت 40 في المائة مقارنة بـ37 في المائة 2020.

أما الإسرائيليون، ففضل 26 في المائة منهم خيار «حرب حاسمة ضد الفلسطينيين»، ما يمثل ارتفاعاً بالتأييد لهذا الخيار بنسبة 7 نقاط مقارنة باستطلاعات الرأي عام 2020، وفقاً للمركز نفسه.

وتشير الاستطلاعات إلى تراجع التأييد لدى الفلسطينيين والإسرائيليين معاً لخيار التوصل إلى اتفاق سلام بين الجانبين، إذ أيد 31 في المائة من الفلسطينيين و30 في المائة من الإسرائيليين خيار السلام، مقابل تفضيل 34 في المائة من الفلسطينيين و41 في المائة من الإسرائيليين لهذا الخيار قبل عامين.

حركة «فتح»: المواجهة مستمرة بجيل جديد

عطا أبو رميلة، أمين سر حركة «فتح» في جنين الذي التقته «الشرق الأوسط» داخل حارات المخيم حيث كانت «ذروة المعركة العنيفة» بين المقاتلين الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية عام 2002، يقول إن «أبناء وأحفاد المقاتلين والشهداء هم الذين يقاتلون الاحتلال اليوم»، مضيفاً أنهم «أشد قوة وشراسة من آبائهم».

أمين سر حركة «فتح» في جنين عطا أبو رميلة (الشرق الأوسط)

يرى أبو رميلة الذي تلاحقه القوات الإسرائيلية وهاجمت سيارته الخاصة قبيل إجراء المقابلة معه وحاولت اعتقاله، إن نذر انفجار الأوضاع في الضفة الغربية تبدو كبيرة. ويقول: «بصراحة وبعيداً عن الشعارات والخطابات؛ الانفجار بات وشيكاً، والاحتلال يتحضّر لذلك ونحن مستعدون أيضاً، وإن كان بإمكاناتنا البسيطة وتصنيعنا المحلي، فليس هناك من يدعمنا بالسلاح».

وبينما يقول أبو رميلة إن «من حق الفلسطينيين مقاومة الاحتلال بالسلاح وغيره»، يرى أن «شرارة الانفجار» قد تخرج من «قلب المخيم» لتنتقل إلى بقية المناطق الفلسطينية.

وعن العوامل المحركة والدافعة لحالة التصعيد في الضفة الغربية، يقول أبو رميلة إن إسرائيل «تسعى إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني»، في ظل انعدام أي أفق سياسي، مشيراً إلى أن القيادات الفلسطينية المتعاقبة خاضت مفاوضات مع الجانب الاسرائيلي إلا أنه «بات واضحاً أنه لا يوجد شريك إسرائيلي للمفاوضات ولما يسمى عملية السلام، فهم يرفضون السلام، ويسعون للقتل والإجرام».

«الجهاد الإسلامي»: القهر ولّد حالة مسلحة جديدة

أما ماهر الأخرس، القيادي في حركة «الجهاد الإسلامي» بالضفة الغربية، فيقول لـ«الشرق الأوسط» إن «ما تشهده المدن الفلسطينية اليوم هو رد فعل من المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني بعدما لم يجد طريقاً للسلام، ولم يجد طريقاً لتطبيق الاتفاقيات بين السلطة الفلسطينية والاحتلال». وأضاف أن «ما تلا هذه الاتفاقيات من فصول جاء عكسياً وحمل مزيداً من سياسات التوسع والاستيطان والقتل في الأراضي الفلسطينية». وفي ظل هذا الواقع، يقول الأخرس: «سلك بعض الشباب الفلسطيني طريق الخلاص، وقرر أن الحرية لا بد أن تكون بالتضحية وبمواجهة الاحتلال».

وفي قراءته الأسباب التي أدت إلى ارتفاع منسوب التوتر في الضفة الغربية، يقول الأخرس إن الفلسطينيين يعيشون «قهراً دائماً» جراء سياسات إسرائيل، مضيفاً أن معاناة الفلسطينيين المستمرة خلقت حالة مسلحة جديدة في الضفة.

السلطة الفلسطينية... تحديات عديدة

تمثل حالة التوتر المتصاعدة وبروز الفصائل المسلحة من جديد في شوارع الضفة الغربية تحدياً ثقيلاً للسلطة الفلسطينية وأجهزتها؛ فهي تزيد من أعبائها، وتسهم بإضعاف صورتها وسلطتها، وتفتح الباب أمام احتكاكات مع هذه الكتائب وحواضنها الشعبية، ناهيك عن تصاعد الضغوط الإسرائيلية والغربية عليها لإيجاد حلول لهذه الظواهر المسلحة الجديدة.

سعت السلطة الفلسطينية إلى احتواء الحالة المسلحة في بداياتها عبر الانفتاح على العناصر المسلحة، ومحاولة حثّها على إلقاء سلاحها والالتحاق بالأجهزة الأمنية على غرار تجارب الانتفاضة الثانية في التعاطي مع الكتائب المسلحة في الضفة الغربية، لكن من دون نجاح هذه المرة.

يقول اللواء أكرم الرجوب، محافظ جنين والشخصية الأمنية البارزة في مناطق شمال الضفة، إن الحكومة الإسرائيلية تسعى إلى جانب أهدافها الأخرى من التصعيد في الضفة الغربية إلى إضعاف السلطة أيضاً. ويوضح أن «أحد أهم الأهداف التي ترمي إليها حكومة الاحتلال هو إضعاف السلطة وتقديمها أمام شعبها على أنها سلطة ضعيفة وغير قادرة على الإيفاء بالتزاماتها تجاه الشعب الفلسطيني»، مضيفاً أن إسرائيل تستخدم الظواهر المسلحة في الضفة «مبرراً لاستمرار الهجمات والعنف، وسفك المزيد من دماء الشعب الفلسطيني».

محافظ جنين اللواء أكرم الرجوب خلال حديثه إلى «الشرق الأوسط»

ويلفت الرجوب إلى أن التقديرات لدى الدوائر الأمنية والسياسية الفلسطينية تشير إلى أن الأوضاع تمضي نحو المزيد من التصعيد، «فلدينا تقديرات بأن اعتداءات الاحتلال ستستمر، والهجمة الدموية الشرسة مستمرة أيضاً، وقد يقدم الاحتلال على عمل مبرمج ممنهج واسع فيه المزيد من الاقتحامات، وزج المزيد من المستوطنين المتطرفين لخلق أجواء لزيادة الصراع في شمال الضفة الغربية».

خطة أميركية لخفض التصعيد

خلال الأشهر الماضية ومع محاولة الولايات المتحدة الدخول على خط الجهود لخفض التصعيد في الضفة ودعمها مسار محادثات بين الفلسطينيين والاسرائيليين في العقبة وشرم الشيخ، أشارت تقارير إلى تقديم الجانب الأميركي خطة أمنية إلى السلطة الفلسطينية صاغها المنسق الأمني الأميركي الجنرال مايكل فنزل. تهدف الخطة إلى إعادة السيطرة الأمنية للسلطة على مدينتي نابلس وجنين، وتشكيل قوة أمنية فلسطينية خاصة للتعاطي مع الكتائب المسلحة. أشارت التقارير إلى إبداء السلطة تحفظات عديدة على الخطة الأميركية، أبرزها غياب الضمانات بوقف الاقتحامات الإسرائيلية للمدن الفلسطينية.

يقول الرجوب إن هذه المقترحات «سمعت بها عبر وسائل الإعلام»، مشيراً إلى أن «القيادة لم تصدر تعميماً رسمياً بهذا الشأن، وبالتالي أنا أتعامل معه كحديث إعلامي لا قيمة له على الأرض».

وبشأن المقترحات التي قُدّمت للعناصر المسلحة لوضع سلاحهاً وتسليم أنفسها لأجهزة الأمن الفلسطينية، ينفي الرجوب طرح الأمر في «أي لقاء أو جلسة مع قيادة السلطة»، مضيفاً أنه لا يعلم «مدى جدية المقترحات ولا آفاقها»، وإن صحّت هذه التقارير لا سيما مع ورود أنباء عن تسليم بعض المسلحين أنفسهم.

تقليل من احتمالات الانفجار

وفي وقت تتصاعد فيه أكثر نذر اتساع نطاق المواجهة، يرى آخرون أن حالة التصعيد القائمة ستظل مستمرة، لكن بالوتيرة نفسها لغياب عوامل سياسية وتنظيمية عدة عنها. ويقول أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بيرزيت غسان الخطيب إنه «لا يوجد احتمال كبير لتطور هذه الأنشطة والفعاليات الثورية ومظاهر المقاومة الحالية لتصبح حالة واسعة الانتشار ومستمرة وممتدة»، مشيراً إلى أن «تحويل أي فعل ثوري إلى حالة واسعة ومستمرة وشاملة وعميقة يتطلب تنظيماً للحالة السياسية».

وأضاف أن «الحالة السياسية الفلسطينية تفتقر إلى التنظيم، وتظل هذه الأنشطة متفرقة لا تنبع من واقع أو إطار تنظيمي واسع وعميق ومتين»، لذلك يرى أن من الصعب استمرارها، خصوصاً في ضوء الفجوة الكبيرة في موازين القوى بين «الطبيعة البسيطة والبدائية» في بعض الأحيان لهذه الأنشطة، مقارنة «بالآلة العسكرية المتطورة والمتقدمة كثيراً» من جانب إسرائيل.


مقالات ذات صلة

كاتس يهدد بـ«تفكيك وحل» السلطة الفلسطينية إذا دفعت بقرار أممي ضد إسرائيل

شؤون إقليمية وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس (رويترز)

كاتس يهدد بـ«تفكيك وحل» السلطة الفلسطينية إذا دفعت بقرار أممي ضد إسرائيل

هدَّد وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس بـ«تفكيك وحل» السلطة الفلسطينية إذا تقدمت بإجراءات عدوانية ضد إسرائيل في الأمم المتحدة.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي سيارة خدمات طبية تسير بالقرب من موقع إطلاق سائق شاحنة النار على جسر أللنبي المعروف أيضاً باسم جسر الملك حسين بالقرب من أريحا في الضفة الغربية (إ.ب.أ)

حادثة جسر الملك حسين ترفع منسوب التشنج بين الأردن وإسرائيل

تتخوف مصادر من أن تلقي عملية المعبر بظلالها على المشهد الانتخابي، مع رفع سقف الشعارات الحزبية المطالبة بتجميد اتفاقية السلام الأردنية - الإسرائيلية.

محمد خير الرواشدة (عمّان)
العالم العربي مطلق النار الذي قتل 3 إسرائيليين على الحدود الأردنية الإسرائيلية الأحد أردني (إ. ب.أ)

الأردن: مطلق النار الذي قتل 3 إسرائيليين على الحدود أردني

قالت وزارة الداخلية الأردنية إن مطلق النار الذي قتل 3 إسرائيليين على الحدود الأردنية الإسرائيلية، الأحد، أردني.

«الشرق الأوسط» (عمان)
شؤون إقليمية تصاعد الدخان عقب غارة جوية إسرائيلية على خان يونس جنوب قطاع غزة يوم الأحد في ظل توسع الحرب (إ.ب.أ)

غالانت لزيادة الضغط في الضفة الغربية

في أول رد من مسؤولين إسرائيليين على عملية معبر «أللنبي»، قال وزير الدفاع، يوآف غالانت، إن تل أبيب «ستزيد إجراءاتها في الضفة».

كفاح زبون (رام الله)
المشرق العربي جنود إسرائيليون عند معبر «جسر أللنبي» بين الضفة الغربية والأردن (إ.ب.أ) play-circle 00:33

إسرائيل تحاصر الفلسطينيين وتغلق آخر منافذهم للعالم

مع إغلاق إسرائيل جسر أللنبي من جهتها (والمعروف أردنياً بالملك حسين) الواصل بين الضفة والأردن، تكون تل أبيب وضعت بشكل رسمي جميع الفلسطينيين بالضفة في عزلة تامة.

كفاح زبون (رام )

لبنان الناهض على الصداقة ولبنان الناهض على العداوة

جانب من مرفأ بيروت المدمر وفي الخلفية مبان شاهقة (رويترز)
جانب من مرفأ بيروت المدمر وفي الخلفية مبان شاهقة (رويترز)
TT

لبنان الناهض على الصداقة ولبنان الناهض على العداوة

جانب من مرفأ بيروت المدمر وفي الخلفية مبان شاهقة (رويترز)
جانب من مرفأ بيروت المدمر وفي الخلفية مبان شاهقة (رويترز)

حين نشأ لبنان في 1920 وحين استقلّ في 1943، لم تكن فكرة العداوة والعدوّ من شِيمَه، ولا كانت على لسانه. فلحسن الحظّ لم يكن لدينا «مليون شهيد» نتباهى بهم، بل لم يكن لدينا أيّ شهيد أصلاً. وقد خلا تاريخنا الاستقلاليّ من معارك، كمعركة ميسلون في سوريّا. فـ«الآباء المؤسّسون»، إذا صحّت الاستعارة الأميركيّة، اهتمّوا بالصداقة وبناء الجسور، فوصفوا بلدهم بأنّه «جسر بين الشرق والغرب»، ترصّعه المدارس والجامعات والمستشفيات والمصارف والرساميل والفنادق.

وكان من مصادر التكريم الذي أُسبغ على فينيقيا، وعلى الاستمراريّة التي قيل إنّها تضمّنا إليها، أنّ الفينيقيّين تجّار يعبرون المحيطات ويقصّرون المسافات. وكان في وسع الفينيقيّين أولئك أن يعيشوا في جوار عرب مسالمين أيضاً، فضلاً عن كونهم يأتوننا سيّاحاً ومصطافين ومستثمرين. وإذا كان لا بدّ من أعداء، لأنّ الأساطير المؤسِّسة للأوطان تتطلّب الأعداء، اختار أولئك الآباء أعداء اندثروا ولم تعد لهم ذريّة. هكذا أعلنوا عتبهم على الإسكندر المقدونيّ الذي حاصر صور قبل زمن المسيح، وعلى الملك الفارسيّ أرتحششتا الذي حاصر صيدا في زمن مُقارب. فكأنّما أريدَ القول إنّ لبنان لم يولد من رحم العداوة، وحين كانت العداوة تقصده كان يقاومها مضطرّاً، وهي في الأحوال كافّة، مرّت مروراً سريعاً ولم تعمّر.

صحيح أنّ الرواية التاريخيّة المعتمَدة لم تستطع تجاهل العثمانيّين. فهم قتلوا فخر الدين المعنيّ، الذي رفعته السرديّة الرسميّة جَدّاً أوّل للوطن، كما نفوا جدّه الثاني، بشير الشهابيّ. لكنّ العثمانيّة هي أيضاً صارت تاريخاً بلا وريث منذ ألغى أتاتورك سلطنتها وخلافتها. وبالمعنى هذا أصبحت الإحالات الكثيرة إلى الأربعمائة سنة عثمانيّة لا تدلّ إلى أحد، إذ قبل رجب طيّب إردوغان لم يكن في تركيّا حاكمٌ يتعصّب لها أو يُغضبه هجاؤها.

الأمين العام لجامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام باشا وسفير العراق لدى واشنطن علي جودت ومندوب العراق لدى الأمم المتحدة فاضل جميلي ومندوب لبنان شارل مالك في استراحة غداء في أثناء اجتماع اللجنة السياسية بشأن فلسطين... وبعد جلسة غاضبة تخللها تبادل الشتائم صوتت الأمم المتحدة على عدم استقلال فلسطين (غيتي)

أمّا الامتحان الأصعب الذي عبره لبنان فكان موضوعه جمال باشا عام 1916. هكذا أُطلقت استدراكات ثلاثة لتطويق تلك العداوة: فأوّلاً، بولغَ في التوكيد على أنّ الرجل سفّاح، وهذا ما امتصّ مضمون العداوة السياسيّ وردّها إلى ساديّة مَرَضيّة أصيلة فيه. وثانياً، كُرّم الشهداء بأن جُعل لهم عيد، فكأنّ المقصود أنّ هذا احتفال أو تنصيب يحصل مرّة واحدة، مثلما الحال حين يُحتفل بعيد قدّيس معيّن. وثالثاً، وبما أنّ جمال أعدم مسيحيّين ومسلمين، جُعل الإعدام جسراً آخر يؤدّي إلى الوحدة الوطنيّة ويمتّنها. آخرُ الأحزان جعلناه، إذاً، أوّل الأفراح.

وكان من أسباب البساطة هذه أنّ الأوضاع نفسها بسيطة لا تحوِج إلى تعقيد. أمّا الحرّيّة فأكثر من كافية لجعل بلد قليل العداوات وكثير الصداقات شيئاً قابلاً للحياة. وفي وقت لاحق، نطقَ رجل، لم تصدر عنه إلا الكليشيهات المضجرة، بعبارة مبدعة هي أنّ «قوّة لبنان في ضعفه»، بمعنى أنّ الجسور مدافع اللبنانيّين وسلاحهم الثقيل.

وظلّ تعبير «العدوّ» غير مُستساغ في القاموس اللبنانيّ السائد، شأنه شأن باقي التعابير التي تلازمه عادةً، كـ«الاستعمار» و«الرجعيّة» و«الصهيونيّة». ولكثيرين بدا الشيوعيّون الذين يشهّرون بـ«الحلف الأطلسيّ»، والعروبيّون الذين يتباهون بمعارك اليرموك والقادسيّة، أشخاصاً غريبين يتحدّثون لغة عجيبة. ولئن تسرّع البعض حين خوّنوا إميل إدّه، إبّان الاستقلال، بقي المعترضون على فكرة التخوين، والمشمئزّون من جوّها التشهيريّ، كثيرين. وبالطبع لم تنشأ محاكمات ولم تحصل إعدامات من النوع الذي يلازم تهمة الخيانة. هكذا رفض اللبنانيّون، مرّة أخرى، أن يكون الدم أحد آبائهم. وبعد ثلاث سنوات على الاستقلال، حوّل إميل إدّه مؤيّديه إلى حزب سياسيّ شرعيّ، وحين توفّي، بعد ثلاث سنوات أخرى، أقيم له مأتم شعبيّ حاشد.

مقهى بيروتي تقليدي في 1951 (غيتي)

تفادي ذيول النكبة

وحتّى عندما نشبت حرب فلسطين في 1948، تراءى أنّ إطفاء نارها أمر ممكن. وبالفعل وقّعتْ على هدنة رودُس، بعد عام واحد، مصر وسوريّا والأردن، ما حالَ دون ظهور لبنان كأنّه متفرّد، أي كأنّه مسيحيّ في عالم الإسلام. والحلّ هذا لم يكن سهلاً فحسب، بل كان مُربحاً أيضاً، إذ أعفى اللبنانيّين من احتمالات الحرب كما أعفاهم من مغبّة التنافس مع مرفأ حيفا الصاعد في دولة إسرائيل ذات الوجه الغربيّ. وبهذا تمكّن الشاطر اللبنانيّ من أن يؤكّد شطارته التي لا يُمارى فيها. وبعد سنوات، تجرّأ لبنانيّون على أن يقدّموا نموذجهم الذي سمّوه «عيشاً مشتركاً»، بديلاً عن النموذج الصهيونيّ لإسرائيل.

يومذاك كان التأمّل ممكناً ونقاش التأمّلات ممكناً أيضاً، تماماً كما كانت الشطارة. وبرغم النكبة، ثمّ الانقلابات العسكريّة التي راحت منذ 1949 تضرب الجوار السوريّ، ومحاولة انقلاب فولكلوريّة نفّذها أنطون سعادة، «زعيم» القوميّين السوريّين، وأُعدم بنتيجتها، لم يعرف لبنان، في 1952، أكثر من «ثورة بيضاء» أطاحت ببشارة الخوري وعهده. وهذه كانت أشبه بمشاجرة قرويّة أو مباراة زجليّة، اندرجت في تاريخ من العراضات التي كانت تنتهي بتبويس اللحى، وباكتشاف أنّنا أخوة متحابّون.

وظلّ ممكناً، حتّى أواسط الخمسينات، الحفاظ على طريقة الحياة هذه. وكان ما يسهّل الأمر أنّ الأنظمة العربيّة، ما قبل الانقلابات، شابهت نظام لبنان. فهي أيضاً حرصت على علاقة جيّدة مع الدول الغربيّة، وأبقت على الإدارة والتعليم كما أنشأهما الاستعمار الغربيّ، كما أقدمت على محاولات تجريبٍ في البرلمانيّة شابتْها، كما كلّ المحاولات الأولى، شوائب ونواقص.

ولأنّهم رأوا البلد رائقاً ومُطَمْئناً، التحم به المسيحيّون الذين أسّسوه التحاماً صوفيّاً. فهو عندهم ليس وطناً فحسب، بل هو البيت والجبل والبحر، وهو عصارة الكون و«أرز الربّ» الذي لا يكون الشاعر شاعراً إن لم يكتب نصف شعره عنه، ولا يكون المغنّي مغنّياً إن لم يُغنّ له. هكذا رُفعت الوطنيّة إلى ديانة متعالية ومطلقة تطالب بالموافقة على كلّ حرف فيها. أمّا الذي يشكّك بهذه الفهم للوطنيّة فجرى التشكيك بلبنانيّته نفسها. وفي المقابل، حافظ المسلمون على مسافتهم الهادئة التي تفضّل أن يكون الوطن جواز سفر وفرصة عمل وعلاقة جوار ولا تستسيغ رومنطيقيّة الريف وهذا الاحتفال الدائم بالنفس. والمسافة تلك كان يمكنها، لو اختلفت الظروف، أن تعقلن الوطنيّة اللبنانيّة وتثبّتها على سكّة أكثر دستوريّة وديمقراطيّة، بيد أنّ أواسط الخمسينات راحت تدفع في اتّجاهات أخرى.

فمع تمكين جمال عبد الناصر قبضته في مصر، نشأ قاموس سياسيّ جديد في المنطقة مفرداته الثورة والتحرير ومكافحة الاستعمار وتخوين «أعوان الاستعمار» والتحريض على إسقاطهم، وهذا فضلاً عن تعطيل الأحزاب السياسيّة وتأميم الصحافة وتدجين النقابات وهروب الرساميل. لقد استقرّت الرئاسة والزعامة في يد ضابط، وفي 1956 تحديداً، مع «حرب السويس» أو «العدوان الثلاثيّ»، انهالت على ذاك الضابط أوصاف هي غالباً ممّا يُمنح للأنبياء والرسل.

جمال عبد الناصر، ياسر عرفات، معمر القذافي والملك حسین في القاهرة عام 1970 (غيتي)

هكذا راح يتبدّى كأنّ الحياة اللبنانيّة، كما رسمها القاموس السائد، هي في أحسن أحوالها نعيم مضجر لا يطاق، وفي أسوأها هروب جبان من صناعة الأقدار والمصائر الملحميّة. فالمنطقة باتت تنتج العداوات وتستهلكها بنهم وشراهة، فتطرد أفكار التوافق والتسوية، فيما هي تغلق البرلمانات تباعاً، ولا ترى طريقاً إلى المستقبل غير نكء جراح الماضي. وبات لبنان مطالَباً بأن يكون له موقف: فبدعوة من رئيس الجمهوريّة كميل شمعون، عُقدت في بيروت قمّة للتضامن مع مصر، وأكّد بيان القمّة الختاميّ على «مناصرة مصر ضدّ العدوان الثلاثيّ (...) واعتبار سيادة مصر أساس حلّ قضيّة السويس، وتأييد نضال الشعب الجزائريّ من أجل الاستقلال». لكنّ عبد الناصر أراد أكثر كثيراً، فطلب من الحكومة اللبنانيّة قطع العلاقات مع فرنسا وبريطانيا. وكان طبيعيّاً أن يرفض شمعون طلباً كهذا. فهو، من جهة، يقطع بعض الشرايين الأساسيّة لبلد ناشئ يرى أنّ علاقته بالغرب شرط شارط لازدهاره ولتعليمه. وهو، من جهة أخرى، يغيّر معنى لبنان كما رسمه «الآباء المؤسّسون». وعلى عكس ما أشيع، لم يكن في ذلك شيء من «الانعزال عن العرب»، إذ الأكثريّة الساحقة من الحكّام العرب كانت ترى ما رآه شمعون، وتتخوّف من «المارد الأسمر» مثلما تخوّف.

لكنّ الأمر لم يقتصر على حاكم مصر العسكريّ. فيومها كان الاتّحاد السوفياتيّ ما بعد الستالينيّ، والضالع في حرب باردة مع الغرب، يتقدّم من الشرق الأوسط، وكانت سوريّا، التي تحدّ لبنان من الشمال والشرق، تخضع لحكم ضبّاط يختبئون خلف واجهة مدنيّة. وكان هؤلاء الضبّاط، من ذوي الميول القوميّة العربيّة والبعثيّة، قد سحقوا خصومهم من «حزب الشعب» والقوميّين السوريّين وشرعوا يدفعون بلدهم نحو وحدة اندماجيّة مع مصر الناصريّة. وفي المعمعة هذه بدأت إعادة تأسيس القضيّة الفلسطينيّة بوصفها قضيّة لا تُعالَج بالهدنة والسياسة والوساطات الدوليّة، بل بتحريرٍ يعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل 1948. هكذا ارتسمت العداوة، التي حرص لبنان على تجنّبها، قدراً لا سبيل إلى تجنّبه، ولا تستطيع الشطارة تذليله.

عودة المكبوت

وكانت قضيّة فلسطين بالطريقة التي صارت تُطرح فيها أشبه بعودة المكبوت وهو جريح مُدمّى. فالفلسطينيّون الذين طُردوا من أرضهم وبيوتهم، وفي عدادهم مائة ألف نزحوا من الجليل إلى لبنان، وجدوا في عبد الناصر وإذاعة «صوت العرب» ما يغريهم بالعودة والتحرير، ويقنعهم بانسداد طرق السياسة والتسويات. وفي لبنان استيقظ مكبوت آخر هو تاريخ البلد نفسه، إذ صار إنشاء «لبنان الكبير» في 1920 قابلاً لإعادة النظر. فهو ضمّ، في الأطراف، أكثريّات إسلاميّة مشدودة اقتصاديّاً وقرابيّاً وعاطفيّاً إلى سوريّا وفلسطين، لكنّ الأطراف هذه وُحّدت مع ما كان متصرفيّة جبل لبنان ذات اللون المسيحيّ الطاغي. وفي ظلّ توازنات القوى الجديدة، من تحوّلات الديموغرافيا اللبنانيّة إلى الصعود الناصريّ، لم يعد مقبولاً ما بدا مقبولاً على مضض صامت في زمن أسبق. فالسياسة الموصوفة بممالأة الغرب وبمناوأة عبد الناصر، والنظام الرئاسيّ، خصوصاً وقد زوّر انتخابات 1957 وأسقط معظم القادة المسلمين لتعاطفهم مع الزعيم المصريّ، باتا عبئاً على استمرار النظام. وفي 1958، وبعد شهرين على قيام الوحدة المصريّة السوريّة، انفجرت حرب أهليّة طائفيّة كانت تمريناً أوّليّاً على حروب أشدّ شراسة سوف تلي. هكذا بدا أنّ يقظة القديم المسكوت عنه لا تأتي إلاّ على شكل حرب.

مظاهرات ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان في سبتمبر (أيلول) 1984 (غيتي)

وفي تسوية أميركيّة - مصريّة، جيء بفؤاد شهاب رئيساً موصوفاً بالقدرة على توحيد لبنان. فهو، وإن كان مارونيّاً لا يرقى الشكّ إلى مارونيّته، لم يزجّ الجيش، بوصفه قائداً له، في مواجهة 1958. لكنّ نجاح تجربة الإصلاح الشهابيّ استدعت ربط السياسة الخارجيّة للبنان بالقاهرة، وأُحكمت السيطرة على الإعلام اللبنانيّ. كذلك زُوّرت انتخابات 1964 مثلما زُوّرت انتخابات 1957 إنّما على نحو معكوس، فأُسقط كميل شمعون وريمون إدّه، ومُنح جهاز «الشعبة الثانية» صلاحيّات يصعب تبريرها في نظام برلمانيّ. وما كادت تنتهي التجربة الشهابيّة، في النصف الثاني من عهد شارل حلو، حتّى انشقّ اللبنانيّون من حول المقاومة الفلسطينيّة الناشئة للتوّ، ووجدنا أنفسنا على أبواب حرب لن تلبث أن تندلع.

في تلك الغضون حاول الرحابنة وفيروز إقناعنا بأنّ مشاكلنا بسيطة، ناجمة عن سوء فهم وقابلةٌ لأن تُحلّ بالتفهّم والمحبّة، على غرار ما يحصل في القرى برعاية الشاويش والمختار. إلا أنّ الأعرف بيننا شرعت تُضحكهم تلك النهايات السعيدة. ذاك أنّ قاموسين مكتملين ارتسما في الأفق يتجاوزان الانقسام الحاصل ما بين تأييد الجيش وتأييد الفدائيّين الفلسطينيّين. فالقاموس الأوّل تعامل مع لبنان بوصفه بلداً ناجزاً، لا ينقصه إلاّ بعض الإصلاح، وكان أصحاب هذا القاموس يستوحون بلدان أوروبا المستقرّة نموذجاً لهم. أمّا القاموس الثاني فاعتبره بلداً فادح النقص ينبغي أن يعاد تأسيسه من صفر، وأصحابُ هذا القاموس كانوا يجدون نماذجهم في بلدان «العالم الثالث» المندرجة حينذاك في مكافحة الاستعمار. والقاموس الأوّل ظلّ، رغم كلّ شيء، يرسمه بلداً رائعاً أنجز تحرّره ولم يعد بحاجة لأن يحارب ويقاتل لأنّ تاريخ الآلام بات وراءه، فيما كان القاموس الثاني يرسمه بلداً شنيعاً وكريهاً لا يزال عليه أن يجتاز شوط التحرّر الطويل. أمّا الحروب والعذابات فإنّما تبدأ للتوّ، وهي ستكون هذه المرّة أكبر من أيّ وقت سابق. والأسوأ أنّ ما ظنّه أهل القاموس الأوّل أدوات تحرّر، كالجامعة والمصرف، كان بالضبط ما ظنّه أهل القاموس الثاني أدوات استعبادٍ تُعزّز ربطنا بـ«الإمبرياليّة والاستعمار والرجعيّة العربيّة». وهم اقترحوا علينا، بعد أن نطلّق هؤلاء كلّهم، نماذج بديلة كسوريّا والعراق البعثيّين واليمن الجنوبيّ المتمركس والبلدان الشيوعيّة في أوروبا الشرقيّة. وعلى العموم، أصبحنا مثل رجل مصاب بمرضين، واحدٍ يُعالَج بالإكثار من تناول المسكّنات والآخر يُعالَج بالامتناع عن تناولها.

وفي أواسط السبعينات شرعنا نتحرّر، فإذا بها حرب أهليّة متمادية وضروس، صبغتْها المجازر وتطهير المناطق أو تطهّرها من المختلفين، وهذا ناهيك عن تعطيل الدولة وشيوع الميليشيات ممّا راح يتعاظم مذّاك. وفي آخر المطاف تأدّى عن ذلك اجتياح 1982 الإسرائيليّ، فلم يتحرّر اللبنانيّون ولا انتصر الفلسطينيّون.

سيدة لبنانية تطلب النجدة لزوجها الذي سقط جريحاً في اشتباكات ببيروت (غيتي)

أمّا دعاة الحلّ عبر انتصار كاسح يحتمي بالغزو الإسرائيليّ فرأوا أنّ رئاسة بشير الجميّل تطوي صفحة الماضي. هكذا رُفض كميل شمعون أو بيار الجميّل كمرشّحين للرئاسة، وهما مَن هما في التصلّب المسيحيّ، ولم يعد مقبولاً في موقع الرئاسة إلاّ رمز التحدّي وقائد الميليشيا بشير الجميّل. فالردّ على ما اعتبره أغلب المسيحيّين خيانة المسلمين بانحيازهم إلى المقاومة الفلسطينيّة واعتبارها جيشهم لا يكون إلا ببشير. لكنّ الأخير اغتيل قبل وصوله إلى قصره، ثمّ كانت حرب الجبل وحرب المخيّمات وحرب الإلغاء وحرب التحرير، وراحت الكراهية، في وداع متعدّد الفصول للبنان القديم، تشقّ طريقها من الأجسام الاجتماعيّة الأكبر إلى الأجسام النواتيّة الأصغر.

والحال أنّ لبنان القديم لم يكن سيّئاً، وهو قطعاً كان أفضل الموجود في الشرق الأوسط. صحيح أنّ القصور والخطأ لازماه لكنّ النجاحات التي لازمته كانت أكبر. فهنا، وبفعل الحرّيّة المتاحة، كان التاريخ يتحوّل ويفتح باباً للاحتمال، وخلال سنوات قليلة من عمر الاستقلال تمدّدت الرأسماليّة من المركز إلى الأطراف، واشتدّ عود الطبقة الوسطى، وحصل اللبنانيّون على تعليم جيّد جعلهم شعباً مؤهّلاً لكثير من الأدوار والوظائف في داخل بلدهم وفي خارجه، كما اتّسع نطاق العمل الحزبيّ والنقابيّ مثلما اتّسعت رقعة الإعلام وما يمارسه من نفوذ. وهذا جميعاً لم يترافق مع ظهور ديكتاتور أو آيديولوجيا رسميّة تقول للسكّان: هكذا كونوا ولا تكونوا هكذا.

عبادة الأسد ونصر الله

لكنْ إبّان الحرب المديدة التي كسرت لبنان القديم جدّ عاملان شدّانا من شَعرنا إلى الانحطاط وكان لهما دور بارز في تأسيس الجمهوريّة الثانية. فقبل الغزو الإسرائيليّ وبعده، فرض نظام الوصاية، وعلى نحو غير مسبوق في لبنان، آيديولوجيا رسميّة على لبنانيّين كانوا قبلذاك أحراراً. هكذا لم يعد مقبولاً أن نفكّر ونناقش ونستنتج في ما يخصّ «عروبة لبنان» أو «قداسة المقاومة». وكان من نتائج التحوّل هذا انكماش الفضاء العامّ وازدهار التلقين والتخوين والتشهير في التعامل مع الرأي الآخر، تماماً كما هي الحال في الأنظمة الديكتاتوريّة والتوتاليتاريّة المؤسّسة على العداء والكراهية.

ومنذ ذلك الحين راحت تتزايد المقدّسات في حياتنا كما تتزايد المدنّسات. وكانت ثنائيّة المقدّس والمدنّس، وهي دوماً طريق إلى العنف والعداوة، تمهيداً لعبادة أولياء صالحين كان أبرزهم حافظ الأسد ومن بعده حسن نصر الله. وراح يتبدّى بجلاء، وعلى عكس الحكمة الشائعة، أنّ الجمع مستحيل بين أن تكون مقاوماً وأن تكون حرّاً يقتل نفسه فدى لحذاء زعيم. وهذا، بطبيعة الحال، جاء مصحوباً بفقر أكبر وتعليم أسوأ وهجرات شبابيّة إلى سائر أرجاء المعمورة.

أمّا العامل الآخر فكان الثورة الإيرانيّة، أعظم الكوارث التي شهدتها منطقتنا في تاريخها الحديث. فمعها لم تعد العداوة والعنف يستهدفان طرفاً في حاضرنا، بل باتا يدفعاننا عميقاً في الماضي إلى يزيد بن معاوية والحسين بن عليّ. فكأنّما العداوة أصل أصيل في البشر ما إن يبرأوا منه حتّى يبرأوا من بشريّتهم. وبعدما كان عيب الثورات إصرارها على فرض التنوير دونما اكتراث بالواقع، بات عيب هذه الثورة إصرارها على رفض التنوير من أساسه.

عرض لـ«حزب الله» في الضاحية الجنوبية لبيروت نهاية 1989 في الذكرى الأولى لأول عملية انتحارية ضد جنود إسرائيليين في بلدة كفركلا (غيتي)

وعن الرعايتين السوريّة والإيرانيّة، وفي ظلّ تردّي الجسد اللبنانيّ المنهك بحروبه، انتهت السياسة، فرمزَ إلى نهايتها الطاقم الذي تولّى الحكم متوّجاً بالرئيس إميل لحّود، الموظّف المطواع لدى المتحكّمين في دمشق وطهران. أمّا الثمرة الأكبر التي نجمت عن زواج الرعايتين هاتين فكان «حزب الله» الذي استثني من حلّ الميليشيات، كما قضى به اتّفاق الطائف، بذريعة الاحتلال الإسرائيليّ ومقاومته.

لكنّ زوال الاحتلال في 2000 لم يُنه السلاح الذي ازداد افتتاناً بذاته، وفي حرب 2006 أضاف العرب إلى افتتانه بنفسه افتتانهم به، إذ، كما قيل، صمد وقاتل وهزم إسرائيل. وما لبث هذا الحزب، بعد عامين فحسب، أن وضع يده على بيروت بعدما غزاها وأذلّها. وعلى مدى تلك المرحلة التي جعلت لبنان ملحقاً بـ«حزب الله»، راح يهطل علينا القتل والقتال والشهادة والشهداء بوصفهم الصناعة الحصريّة للبنان، وانقسم المواطنون إلى واحد يحمي وآخر يُحمى، وهما كانا ينقلبان، حين تستدعي الظروف، إلى واحد يهدِّد وبيده السلاح، وآخر منزوع السلاح يُهدَّد وليس له إلا الله. والحقّ أنّ الصناعة الإيرانيّة - السوريّة، وبالاستفادة من التصدّع اللبنانيّ لما بعد الحرب، نجحت في جعل الوحش أكبر من الغرفة التي يقيم فيها، بحيث غدا تهديم الغرفة شرطاً لقتل الوحش.

وإذ أصبح اكتساب الأصدقاء وبناء الجسور تهمة، غدت أعمال التفجير والاغتيال والخطف رياضة يوميّة. وحتّى لو وضعنا جانباً تلك الارتكابات التي طالت لبنانيّين وأجانب، وكانت بمثابة حرب تطهيرٍ للبنانيّة المعروفة، بقي اغتيال رفيق الحريري في 2005 والاغتيالات اللاحقة لسياسيّين وصحافيّين شهادةً على أنّ الوطن الواحد صار مهمّة صعبة، إذ انشطر السكّان إلى قاتل وقتيل.

وفيما توطّد نظام تقسيم العمل بين المقاومة والفساد، شاعت لدى بعض اللبنانيّين لغة ورواية للتاريخ مزعومتان لا تنطويان إلاّ على الضدّيّة وتمجيد العنف. فنحن منذ كنّا، وبغضّ النظر عمّا نفعل، مُستهدَفون بالأطماع، وليس متاحاً لنا إلاّ القتال حتّى نهاية العالم، وأمّا الكرامة فلا تُكتسب بالعلم أو التقدّم أو الإنجاز، بل هي تعريف أن نقاتل إسرائيل. وهذا، في عمومه، كان برنامجاً لتصغير العقل وشفط المعرفة وتلغيز العالم.

وبدوره جاء صعود ميشال عون في الوسط المسيحيّ ليعلن تمكّن السمّ من المسيحيّين. فهم تصرّفوا كالعامل الذي يضطهده ربّ عمله فيفجّر غضبه انتقاماً من زوجته ومن أبنائه. هكذا حاولت العدوانيّة العونيّة، المغطّاة بكثير من الزجل، أن توهمنا بأنّ الالتحاق بـ«حزب الله» هو وحدة بين أنداد متساوين يخوضون معاً حرب الأقلّيّات. ولاحقاً، إبّان حرب «حزب الله» في سوريّا، حاول الطرفان إيهامنا بأنّنا ننتقل من سويّة التحرّر الذي أنجزناه إلى سويّة التحرير الذي ننخرط فيه. فبدل التوقّف لمراجعة الأكلاف الهائلة التي رتّبها علينا «التحرّر» منذ ابتدائه في 1975 حتّى تصاعده النوعيّ مع «حزب الله»، هربنا إلى «التحرير» عبر احتلال جزء من سوريّا وقتل السوريّين وتهجيرهم.

امرأة تحمل صورة لأمين عام «حزب الله» وتعبر بها وسط الدمار في بلدة عيتا الشعب بجنوب لبنان (أ.ب)

وأن تسيطر إيران، من خلال «حزب الله»، على قرارات البلد الأساسيّة فهذا متعدّد الأبعاد والمعاني، لكنّ المعنى الذي يهمّنا هنا هو أنّ العداوة والضدّيّة والعنف باتت عنواناً لحياتنا العامّة، حيث «الموت عادة» و«كلّ يوم كربلاء وكلّ أرض عاشوراء».

وإذ وفّرت حرب غزّة مسرحاً نموذجيّاً للعيش وفق القتال، بات واضحاً أنّ الخيارين اللبنانيّين وصلا إلى نقطة اللاعودة، وأنّه بات من المشكوك فيه أن يتصالح هذان التصوّران عن لبنان وعن العيش فيه حتّى لو هبّت رياح إقليميّة ودوليّة لغير صالح الحزب المسلّح.

صحيح أنّ هذا التناول لم يتوقّف عند أخطاء كثيرة ارتكبها الجميع، وارتكبتها الطوائف كلّها، والحكّام جميعاً، أكان في إدارة البلد أو في اقتصاده أو تعليمه أو غير ذلك. لكنّ هذه العوامل، على أهميّتها، لم تكن سبب تفجيره وجعله مستحيلاً. فأغلب الظنّ أنّ المشكلة الأمّ تكمن في السؤال: أيّ لبنان نريد؟ وهل نغلّب الصداقة أو نغلّب العداوة؟ فاللبنانيّون لم يتّفقوا في الأساسيّات، وكلُّ ما يلوح في الأفق يوحي أنّ عدم اتّفاقهم سيكبر ويتعاظم. وهذا ما يُلزمهم، أو يُفترض أن يلزمهم، بالتفكير في عدم اتّفاقهم وفي تحويله إلى نظام وإلى مؤسّسة يحلّان محلّ الفوضى المشبعة باحتمالات العنف الخصبة. والأسرع الأفضل، كي لا تنتهي بنا الحال إلى ما انتهت بـ«الحمار الفلسفيّ» الذي كتب عنه فيلسوف القرن الرابع عشر الفرنسيّ جون بوريدان. ذاك أنّ حماراً ضربه الجوع والعطش وجد نفسه في النقطة الوسطى بين كومة قشّ وسطل ماء، فراح يفكّر: هل أشرب أوّلاً أو آكل أوّلاً؟ وظلّ يطرح هذا السؤال على نفسه إلى أن مات جائعاً وعطشاناً معاً.

* ألقي هذا النصّ في ندوة استضافها «حزب الكتلة الوطنيّة» في لبنان.