جان ـ بول سارتر والحق الفلسطيني

يهود يشاركون في مظاهرة ضد أفراد من مجتمعهم يخدمون في الجيش الإسرائيلي في القدس - 28 مارس 2017 (رويترز)
يهود يشاركون في مظاهرة ضد أفراد من مجتمعهم يخدمون في الجيش الإسرائيلي في القدس - 28 مارس 2017 (رويترز)
TT

جان ـ بول سارتر والحق الفلسطيني

يهود يشاركون في مظاهرة ضد أفراد من مجتمعهم يخدمون في الجيش الإسرائيلي في القدس - 28 مارس 2017 (رويترز)
يهود يشاركون في مظاهرة ضد أفراد من مجتمعهم يخدمون في الجيش الإسرائيلي في القدس - 28 مارس 2017 (رويترز)

لا شك في أن عالمنا المعاصر يتخبط في مشكلات عظمى، ومن أهم هذه المشكلات قضية اغتصاب الأرض الفلسطينية من قِبل الحركة الصهيونية قبل خمسة وسبعين عاماً، حيث شهد تاريخ هذه القضية صراعات وحروباً ومحاولات تسوية من دون نتائج. وأمام هذا المأزق اختلفت وجهات النظر تجاه الحق في الأرض الفلسطينية بين العرب من جهة واليهود من جهة أخرى. هذا الخلاف ما زال قائماً ويشكل تهديداً لأمن المنطقة والعالم بأجمعه.
بالفعل، إن نزاع الشرق الأوسط الذي يضع الدولة الصهيونية (إسرائيل) في مواجهة الشعوب العربية، وبشكل خاص في مواجهة الشعب الفلسطيني، هو من أهم المشكلات التي تشغل العالم بأكمله. إن هذه المشكلة هي صعبة ومعقدة إلى درجة أنها أربكت الفيلسوف الفرنسي جان - بول سارتر نفسه الذي فضل أن يتخذ تجاهها موقفاً حيادياً وأخلاقياً أكثر منه سياسياً. ويمكننا الحكم على ارتباك سارتر، وبخاصة عندما نعرف أنه لم يتردد طيلة حياته في الانحياز واتخاذ موقف واضح تجاه كل مشكلات عصره السياسية، ما عدا هذا النزاع العربي - الإسرائيلي.
بالنسبة إليه، يجب حل النزاع العربي - الإسرائيلي ضمن إطار القانون الدولي من خلال إقامة مفاوضات مباشرة، أو بواسطة منظمة الأمم المتحدة، بين العرب والإسرائيليين. وكان يعتبر نفسه صديقاً للمعسكرين؛ ولذلك نراه أكثر من أي وقت مرتبكاً جداً إلى درجة أن تصريحاته كانت لا تعجب العرب ولا الإسرائيليين أحياناً كثيرة. وفي الواقع، هو حاول أن يكون منسجماً مع نفسه، منطلقاً من التزامه الدفاع عن قضية المقهورين في أي مكان من العالم. ولكنه لم يكن يرى كيف يمكنه الاحتفاظ بالانسجام مع نفسه وهو يحكم في قضية شعبين تعرّضا، في نظره، للقمع والقهر وهما في حالة نزاع. لقد اختار الحيادية وهو الذي كان فخوراً بنزعته الجذرية وباتخاذ مواقف منحازة في كل الميادين. هل كانت لديه أسباب معينة كي لا يتخذ موقفاً واضحاً وملتزماً في هذه القضية؟ هل أخطأ بذلك؟ هذا ممكن؛ ذلك لأنه بذاته صرّح قائلاً: «كلما كنتُ أرتكب خطأ كان ذلك يعود إلى أنني لم أكن جذرياً بما يكفي». كيف أمكن لسارتر أن يكون مرتبكاً في اتخاذ موقف بخصوص هذا النزاع المطروح؟ ولكي نفهم حرَج سارتر تتوجب علينا معرفة شروط وظروف طرح هذه المشكلة، وما هي علاقات فيلسوفنا مع كل من الطرفين المتنازعين؟ في الواقع، إن علاقات سارتر مع الإسرائيليين تعود إلى زمن الحرب العالمية الثانية، حيث كان اليهود مهدَّدين بالتصفية من قِبل النازية والحركة المعادية للسامية بشكل عام؛ وبما أنه يقف دائماً إلى جانب المقهورين فقد دافع عن اليهود من خلال المرافعة من أجلهم، والقيام بحملة كبرى ضد النزعة المعادية للسامية.
وفي كتابه «تأملات حول المسألة اليهودية» عام 1946، يصور سارتر الإنسان اليهودي كائناً ضعيفاً غير مهيأ للعنف، وحتى أنه لا يعرف كيف يدافع عن نفسه، ولكن الحركة المعادية للسامية هي التي خلقت المسألة اليهودية، وهي التي حشرت كل اليهود في وضع معين، حيث باتوا يشعرون بأنفسهم جميعاً متماثلين في إطار وضع مشترك: «إن اليهودي هو إنسان يتعامل معه الآخرون بوصفه يهودياً؛ تلك هي الحقيقة التي يجب الانطلاق منها... إن معاداة السامية هي التي صنعت اليهودي».
من الطبيعي بالنسبة إلى سارتر أن يشعر اليهودي دائماً بأنه في خطر في مجتمع تراوده معاداة السامية بشكل دائم. من المؤكد أن سارتر كان يتحدث في كتابه حول المسألة اليهودية عن اليهود الفرنسيين، ولكن ذلك لا يعني أن ليس لديه المشاعر والمواقف نفسها تجاه يهود إسرائيل الذين كان يكنّ لهم صداقة عميقة على مر السنين. وهذه الصداقة ليست بالفعل سوى التزام أخلاقي تجاه جماعة اليسار الإسرائيلي، ونتيجة لإسقاط ماضي اليهود الشاق على حاضرهم. هذا يعني أن سارتر يحتفظ في أعماقه بصورة اليهودي المذبوح أو المقهور من قِبل النازية والحركة المعادية للسامية؛ وذلك لكي يعترف ليهود اليوم بحق الوجود وبالكرامة. ولكن هناك مشكلة تطرح نفسها: إذا كان اليهود قد تعرضوا للقهر والتشتت في كل أنحاء العالم، فهل يحق لهم فعل الشيء نفسه تجاه شعب آخر من أجل تكريس وجودهم ومن أجل تأسيس جماعة قومية؟ هل لديهم الحق في أن يكونوا ظالمين كي يمحوا ذكريات القهر الذي تعرّضوا له؟
تلك هي المشكلة. لقد وجد سارتر نفسه أمام الوضع التالي: إن اليهود من جهة وعرب فلسطين من جهة أخرى لهم كل الحقوق التاريخية في الوجود على هذه الأرض، حيث كانوا يعملون ويعيشون منذ زمن طويل. ولكن الفلسطينيين تعرضوا للطرد من أرضهم عام 1948 من قبل اليهود في ظروف غامضة وملتبسة. وقد أسس اليهود دولة إسرائيل. وبعد مرور بضع سنوات بدأ الفلسطينيون في تنظيم كفاحهم المسلح والدبلوماسي في سبيل العودة إلى فلسطين تحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. إسرائيل رفضت بشكل قاطع الاعتراف بحقوق الفلسطينيين في فلسطين كما رفضت التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية. عام 1956 شاركت إسرائيل مع الغرب في الهجوم ضد مصر لاحتلال قناة السويس. عام 1967 وقعت حرب الأيام الستة، حيث احتلت إسرائيل أراضي عربية جديدة. عام 1973 انطلقت حرب جديدة استعادت فيها مصر قناة السويس وصحراء سيناء. بعد هذه الحرب فتح باب التفاوض. عام 1979 قام الرئيس المصري أنور السادات بزيارة إلى إسرائيل ووقّع على أثر هذه الزيارة اتفاقية كامب ديفيد مع مناحيم بيغن رئيس الحكومة الإسرائيلية، حيث أدت هذه الاتفاقية إلى عزل شامل لمصر عن العالم العربي. في ذلك الوقت كانت قدرة منظمة التحرير الفلسطينية تزداد بشكل قوي، حيث تمركز الفلسطينيون، بدعم من اليسار اللبناني، في لبنان أثناء الحرب الأهلية، وبنوا بنية تحتية عسكرية اقتصادية وسياسية بحيث أثارت حفيظة إسرائيل وحلفائها، فشعروا بأن الوضع بات يهدد بالخطر.
إذن، كان الوضع شديد التعقيد لدرجة أن سارتر لم يستطع اتخاذ موقف واضح دون أن يستاء منه الطرفان. إن صداقة سارتر لليهود لم تمنعه من أن يكون صديقاً للعرب، وبخاصة لأولئك الذين يؤمنون بالتقدم والذين يحاولون إقامة الاشتراكية في بلدانهم. وبالفعل، فإن سارتر قام عام 1967 قبل حرب الأيام الستة بزيارة لمصر، حيث أُعجب كثيراً بالعمل الذي كان يقوم به جمال عبد الناصر في سبيل بناء بلده على قاعدة الاشتراكية. وإضافة إلى ذلك، فقد أُعجب بشخصية عبد الناصر ووجد فيه رجلاً يريد السلام. وبعد هذه الزيارة لمصر قام بزيارة المخيمات الفلسطينية في غزة، واكتشف البؤس الذي يعانيه شعب يعيش على مسافة قصيرة من أرضه التي طرد منها. وفي ختام جولته في الشرق الأوسط قام بزيارة إسرائيل، ويبدو أنه تأثر بعبد الناصر أكثر مما تأثر بالقادة الإسرائيليين. وعلى أثر هذه الزيارة المزدوجة لمصر ولإسرائيل كان سارتر شبه مقتنع بأن حرباً ما ستنفجر بين العرب وإسرائيل. وهذا الشعور تكوّن لديه بناءً على محادثة مع عبد الناصر. ويوجز سارتر وجهة نظر عبد الناصر كالآتي:
«هناك تناقض لا نصل إلى حله. ولكن الحل بواسطة الحرب لا يبدو حلاً جيداً». بعد كل ذلك يستنتج أن القضية هي قضية حق: «للفلسطينيين الحق القاطع في العودة إلى ديارهم»، وبالتالي «بكل بساطة لأنهم طُردوا يحق لهم أن يعودوا». وإذا كان للفلسطينيين الحق في أن يكونوا في ديارهم وفي أرضهم، فإن اليهود أيضاً لديهم الحق نفسه، ولكن ليس كل اليهود، بل أولئك الذين ولدوا في فلسطين واشتغلوا فيها. يقول سارتر: «إذا كنت أعترف لحفيد أو لابن أحد اليهود الذي أقام في إسرائيل بحق البقاء في وطنه لأنه فيه ولا يجب طرده منه، فأنا أعترف للفلسطينيين وطبقاً للمبدأ نفسه بحق العودة إلى هذا الوطن».
ولكن ما الحل الذي يقترحه سارتر لحل هذه المشكلة المعقدة؟ إنه يلخص اقتراحاته في ثلاث نقاط:
1. يتوجب على إسرائيل إعادة الأراضي التي تحتلها، وقد يكون عليها اتخاذ القرار من ذاتها ومن دون ضغط.
2. يجب الاعتراف بسيادة إسرائيل.
3. يجب أن تكون مشكلة الفلسطينيين مباشرة موضوع المفاوضات الأولى؛ لأن هذه المشكلة أساسية.
في الواقع، إن سارتر يطلب من الحكومة الإسرائيلية أن تقدم أكثر من الآخرين من أجل حل هذه المشكلة؛ وذلك لأن إسرائيل لديها مسؤولية كبرى في هذه القضية. من هنا هو يعتقد بأن «الكثير من الأمور في يد إسرائيل، وأن السياسة الإسرائيلية خطيرة جداً بشكل خاص؛ لأنها تترك الشك يخيم حول موضوع المناطق المحتلة». وهذه السياسة الإسرائيلية الخطيرة قد تأكدت من خلال إعلان القدس عاصمةً للدولة العبرية عام 1980، ومن خلال ضم هضبة الجولان المحتلة عام 1981.
لقد كان سارتر يعتبر أنه من المؤسف أن تكون مشكلة الفلسطينيين غير منظورة في بيانات الحكومة الإسرائيلية، وكان يجد أنه من خلال دفع الفلسطينيين إلى اليأس نتيجة رفض إعطائهم حق تقرير مصيرهم بذاتهم، وعدم السماح لهم بالمشاركة عبر ممثليهم الشرعيين في المفاوضات المرتقبة حول قضيتهم، قرر هؤلاء تنظيم كفاحهم المسلح في سبيل العودة إلى ديارهم في فلسطين. وبالفعل هو يبرر الكفاح المسلح الذي يخوضه الفلسطينيون، كما كان يبرر ذلك لجبهة التحرير الوطني الجزائرية.
وهو يحمّل مسؤولية العنف للإسرائيليين الذين أقفلوا كل الأبواب أمام احتمالات أخرى. إذن، بالنسبة إليه: «إن المسألة هي مسألة حق. وما دامت لا تتم مقاربة المشكلة وجهاً لوجه فستكون هناك (حركة فتح) وستكون هناك (جبهة تحرير فلسطين)، وهذا أكيد تماماً. بالتالي سيكون هناك توتر حاد، وفي نهاية الأمر ستقع حرب جديدة». وفي الوقت نفسه يعطي سارتر حقاً لإسرائيل عندما ترد على العمليات التي يقوم بها الفلسطينيون ضدها؛ لكنه يجد شيئاً من الكذب على الذات (الإيمان الفاسد) في موقف الحكومة الإسرائيلية، عندما تهاجم بلداً مثل لبنان الذي لم يعلن الحرب ضد إسرائيل، بحجة الرد على المجموعات الفلسطينية المقيمة في هذا البلد. إذن، من الصعب بالنسبة لإسرائيل تدمير المقاومة الفلسطينية المنتظمة في مجموعات فردية وتعمل انطلاقاً من فلسطين ذاتها ومن الأراضي المحتلة حديثاً.
في مقابلة عام 1969 في مجلة «l’arche» يعالج سارتر النزاع العربي - الإسرائيلي بطريقة حالمة أكثر منها واقعية. في الواقع، هو لا يعتبر - بخلاف العرب - أن إسرائيل هي رأس حربة «الإمبريالية الأميركية»؛ بل يعتقد، على العكس، أن إسرائيل والعرب هم ضحايا «الإمبرياليتين الكبيرتين الأميركية والسوفياتية»، وأن النزاع في الشرق الأوسط هو نتيجة للتنافس القائم بين هاتين «الإمبرياليتين». وفي إجابة عن سؤال حول هذا الموضوع، قال سارتر: «فيما يتعلق بإسرائيل، فإن التواطؤ الموضوعي بين الروس والأميركيين ليس قابلاً للشك». بالنسبة إليه ما كان يجب على العرب والإسرائيليين أن ينخرطوا في لعبة الأميركيين والسوفيات؛ وذلك لأنه يعتقد أن الاقتصاد الإسرائيلي يجب أن يكون متمحوراً كلياً على الشرق الأوسط. وهو يقول حول هذا الموضوع: «من العبث اعتبار إسرائيل كرأس حربة للإمبريالية الأميركية، ولكن ما هو مؤكد أن إسرائيل الآن هي في حاجة إلى دعم اليهود الأميركيين». إذن، المَخرَج الوحيد لإسرائيل هو أن تتكامل اقتصادياً مع الشرق الأوسط. ولكي يحل السلام تجب إقامة الثقة بين الطرفين، واستبعاد الشروط التي تسبب خوفاً لهذا الطرف أو ذاك. ومن أجل المساهمة في هكذا عملية؛ فإن سارتر طمأن الإسرائيليين قائلاً لهم بأن العرب لا يريدون إلغاءهم كأقلية؛ لأن أقليات الشرق الأوسط، برأيه، تستطيع دوماً إيجاد حلول لمشاكلها بالتكيف مع محيطها. وبهذا المعنى يقول: «باستثناء الشرق الأوسط، إن مشكلة الأقليات غالباً ما تجد حلها في مجزرة...»، ولكن المشكلة تكمن في أن العرب يحقدون على الدولة الصهيونية، ويعتبرونها بمثابة جسم غريب مزروع بينهم من قِبل القوى العظمى، من أجل منعهم من الاتحاد فيما بينهم، وجعلهم يستنفدون قدراتهم الاقتصادية والعسكرية؛ وذلك كي لا يشكلوا في المستقبل خطراً على مصالح القوى التوسعية التابعة للإمبريالية العالمية. ولكن، من أجل طمأنة العرب الذين يرتابون من الصهيونية ويعتبرونها العدو الأول بما تمثل من مشروع توسعي، يقول سارتر لهم بأن الصهيونية أصبحت ميتة. ويصرح بهذا المعنى قائلاً: «برأيي، الصهيونية عاشت حياتها. وهناك سبب وجيه لاعتبار ذلك، هو أنه رغم أن الناس لم يشفوا من معاداتهم للسامية، فليس هناك في الوقت الراهن أزمة معاداة السامية، ولن تكون هناك أزمة كهذه في المستقبل المنظور. إن يهود الشتات يفضلون البقاء حيث هم».
إن سارتر الذي كان يؤمن بنهاية الحركة الصهيونية، وبالنوايا الحسنة لليسار العربي والإسرائيلي، سمح لنفسه بالتعبير عن أمل حالم أكثر منه ممكن التحقق بحلول سلام في الشرق الأوسط، يمكن أن يوحد أولئك الذين يتعرضون للاستغلال، سواء كانوا عرباً أم يهوداً، في الكفاح من أجل الثورة الاشتراكية، وهذا لن يتحقق إلا بدمج الاقتصاد الإسرائيلي في إطار الشرق الأوسط؛ حتى لا يكون هناك أي مبرر للارتياب بين المعسكرين.
وكي يجد صراع الطبقات أفضل شروطه للقيام بثورة حقيقية تستطيع تحرير إسرائيل والعرب من براثن القوى الإمبريالية الكبرى، تجب إقامة اتحاد المستغَليّن من الطرفين في النضال الاجتماعي نفسه. انطلاقاً من هذا الموقف، لم يدخر سارتر جهوده من أجل مباشرة الحوار بين مفكرين عرب وإسرائيليين على صفحات مجلته «الأزمنة الحديثة» من أجل خلق الشروط الضرورية لتقارب محتمل في وجهات النظر بين الطرفين.
والآن نتساءل: ماذا كان يمكن لسارتر أن يقول لو كان ما زال حياً بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982؟ وبعد مجازر «صبرا وشاتيلا» التي ارتُكبت بتواطؤ الإسرائيليين مع بعض القوى اليمينية اللبنانية المتطرفة آنذاك، ضد المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين؟ على أي حال، بالنسبة لأولئك الذين يتتبعون مسار التزامات سارتر، كان من الممكن جداً أن يغير موقفه تجاه إسرائيل، وخصوصاً بعد مجازر «صبرا وشاتيلا»، ويمكننا الذهاب أبعد من ذلك لنقول إنه من أجل تماسك الفكر السارتري، ونظراً لمعطيات المشكلة، كان من الممكن أن يتخذ موقفاً أكثر وضوحاً وأكثر التزاماً، وبالتالي أكثر واقعية، كما كان من الممكن أن يفعل في ظروف سياسية واجتماعية أخرى. بكلمة، يمكننا القول إن موقف سارتر حول الشرق الأوسط هو المثال النموذجي عن التباس أخلاق الالتزام الفردي.
* باحث وأستاذ جامعي لبناني



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!