تقديم الفلسفة في عصر السرعة

مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة الذي عقد دورته الثانية قبل أيام شهد حضوراً كثيفاً (واس)
مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة الذي عقد دورته الثانية قبل أيام شهد حضوراً كثيفاً (واس)
TT

تقديم الفلسفة في عصر السرعة

مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة الذي عقد دورته الثانية قبل أيام شهد حضوراً كثيفاً (واس)
مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة الذي عقد دورته الثانية قبل أيام شهد حضوراً كثيفاً (واس)

في السابع عشر من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم احتفل العالم باليوم العالمي للفلسفة. ولكن كيف يمكن لهذا الاحتفال أن يكون مناسبة وحافزاً لاستقبال وقبول الفكر الفلسفي لدى أجيال العصر الراهن المحكوم من ثورة التكنولوجيا وسرعة الاتصالات ومن سيطرة نمط الحياة السريع في كل المجالات؟ وهل يمكن لهذا الجيل أن يجد الوقت الكافي لقراءة مجلدات الفلاسفة الكبار الذين أغنوا تاريخ الفلسفة بفلسفاتهم حول مصير الكون والإنسان والطبيعة؟ في هذا المقال السريع المنسجم مع عصر السرعة سوف نحاول تقديم قصة الفلسفة بحيث يستطيع الإنسان المعاصر أن يلتقط معنى الفلسفة والتفلسف ويوظف هذا الفهم في حياته اليومية والأخلاقية كما في تحضير مصيره واكتمال ماهيته. أضف إلى ذلك نريد من هذا المقال نزع الوهم الراسخ عند العموم حول عقم وتجريد وسفسطة الفكر الفلسفي، وذلك من خلال عرض موجز وسريع لأهم تصورات الفلسفة ومنعطفاتها عبر أهم المدارس الفلسفية وأعلام الفلسفة الكبار الذين طبعوا مراحل تاريخ الفلسفة بطابعهم.
في سبيل تحقيق الغاية من هذا المقال لا بد لنا من طرح سؤال ماهية الفلسفة: هل اتفق الفلاسفة ومؤرخو الفلسفة على تعريف الفلسفة؟ من الطبيعي ألا يتفقوا؛ وذلك لأن فعل التفلسف لا يقبل القولبة، وبالتالي هناك من الفلسفات بقدر ما هناك من الفلاسفة على حد تعبير جان بول سارتر. كذلك اعتبر الفيلسوف كانط بأننا لا يمكننا تعليم الفلسفة، بل يمكننا تعليم التفلسف. على ذلك، إن ماهية الفلسفة تتوقف على نشاطات وتأملات كل من طرح أسئلة حول الكون والوجود والله والإنسان. من هنا، يمكننا رصد تصورات عدة لماهية الفلسفة. ولكن لا بد من الاعتراف بحسب أرسطو بأن دهشة الإنسان أمام الطبيعة وأمام كل ما هو عادي وطبيعي هي مصدر التفلسف. ولكن هذه الدهشة استمرت في إطار الفلسفة الحديثة من خلال السؤال الميتافيزيقي المطروح من قبل الفيلسوف الألماني لايبنتز واستعاده هايدغر في القرن العشرين ألا وهو: لماذا هناك شيء ما بدلاً من لاشيء؟ في الواقع، إن هذا السؤال يختصر المسألة الأساسية في الفلسفة بحيث إنه يطرح مشكلات الفلسفة الأساسية التي تقوم على السؤال الميتافيزيقي والمكان والوجود والعدم.
على هذا الأساس تعددت التصورات التي انطلقت منها تعريفات الفلسفة. ومن أهم هذه التصورات: أولاً، اعتبار الفلسفة كمحبة الحكمة وليست الحكمة بذاتها؛ وثانياً اعتبار الفلسفة كسؤال؛ إذ إن الأسئلة هي أكثر أهمية من الأجوبة بحسب تعبير الفيلسوف كارل ياسبرز. ثالثاً، اعتبار الفلسفة كعقيدة معينة تمتلك تصوراً عن العالم ومصيره؛ ورابعاً، اعتبار الفلسفة كنظرة كونية شاملة لكل الكون؛ وخامساً، اعتبار الفلسفة كنظرية نقدية وتحليل اللغة والعلم.
إذن، كي نستطيع تصنيف الفلاسفة لا بد لنا من طرح المسألة الأساسية في الفلسفة، وهي: مسألة العلاقة بين الفكر والواقع والتي تتناول مسألة الحقيقة الناشئة عن تطابق الفكر والواقع المادي. حول هذه المسألة انقسم الفلاسفة التقليديون إلى معسكرين: المعسكر المثالي والمعسكر المادي. الخلاف وقع حول السباق الدائم بين المعرفة والوجود. في مسألة الوجود يعتبر المثاليون أن الفكر يسبق الوجود؛ أما الماديون فيعتبرون أن الوجود المادي سابق على الفكر. وفي مسألة المعرفة، يعتبر المثاليون بأن المعرفة تتم من خلال إسقاط وتوجيه الوعي إلى الوجود الواقعي؛ أما الماديون فيعتبرون بأن المعرفة تتم من خلال انعكاس الواقع المادي على الوعي البشري.
في الواقع، إن تاريخ الفلسفة شهد مراحل عدة، بدءاً من الفلسفات الشرقية وصولاً إلى الفلسفة المعاصرة مروراً بالفلسفة اليونانية وفلسفة العصر الوسيط العربي والغربي والفلسفة الحديثة الألمانية والفرنسية. ولقد شهد هذا التاريخ الفلسفي منعطفات أساسية في تطور الفكر البشري. من هذه المنعطفات برزت المعجزة اليونانية من خلال فلاسفة المرحة السابقة على سقراط، وبرز فيها هرقليطس فيلسوف الحركة والتغيير والجدل، والفيلسوف برمنيدس الذي اعتقد بمبدأ الثبات والسكون ورفض العدم، حيث اعتبر أن الكون يكون والعدم لا يكون: يعني لا شيء خارج الكينونة الساكنة والثابتة. كما برز الفيلسوف ديمقريطس الذي افترض أن كل شيء في الطبيعة يتكون من ذرّات. أما سقراط فقد شكّل منعطفاً أساسياً في تاريخ الفكر، حيث نقل الاهتمام الفلسفي من الطبيعة إلى الإنسان عندما قال: أيها الإنسان اعرف نفسك. واكتملت المعجزة اليونانية مع أفلاطون وأرسطو اللذين طبعا تاريخ الفلسفة بتأسيس الميتافيزيقا من خلال طرح كل منهما نظاماً فلسفياً متكاملاً. وبالفعل كان لأفلاطون الدور الأساسي في تأسيس الفلسفة المثالية من خلال اعتباره أن الحقيقة تكمن في عالم المُثُل والحقائق الأبدية في حين أن عالمنا الأرضي ليس سوى عالم الفساد والتغير، وقد عبر عن هذه النظرية في كتاب «الجمهورية» عندما تحدث عن أسطورة الكهف. أما أرسطو فقد لُقب بالمعلم الأول لغزارة إنتاجه في الميتافيزيقا والفيزيقا والمنطق. بالفعل، لقد عمل أرسطو على تأسيس الميتافيزيقا متجاوزاً أستاذه أفلاطون ورادماً الهوة التي أقامها الأخير بين عالم المُثل وبين عالم الطبيعة الفيزيقية. لذلك؛ سيطر المنطق الأرسطي لقرون عديدة وصولاً إلى عصر النهضة بعد انتكاسة القرون الوسطى، حيث سادت محاولات التوفيق بين الفلسفة والدين وحتى جعل الفلسفة خادمة للدين. هنا لا بد من ذِكر الدور الذي لعبته الفلسفة العربية - الإسلامية من خلال الفارابي وابن سينا وابن رشد الذي قدم قراءة جديدة لفلسفة أرسطو، حيث ساهمت هذه القراءة في إعادة الاعتبار للمعجزة اليونانية وفي ولادة جديدة للفلسفة في عصر النهضة. وتجدر الإشارة أيضاً إلى المدرسة الرواقية والمدرسة الأبيقورية اللتين ظهرتا بعد سيطرة الأرسطية لفترة طويلة وكان همهما أخلاقياً واتفقتا على شعار أساسي، ألا وهو العيش وفقاً للطبيعة من خلال مصالحة الإنسان بين طبيعته الفردية والطبيعة المحكومة بقوانينها. في عصر النهضة وعصر التنوير برزت النزعة الإنسانية واستعاد التيار العقلاني مجده وبرزت الفلسفة الحديثة مع الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي أطلق الكوجيتو «أنا أفكر إذن أنا موجود»، حيث فتح الباب أمام مرحلة جديدة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث من خلال منح الدور الأساسي للإرادة الحرة المنطلقة من الأنا أفكر. ولكن منعطف ديكارت العقلاني الحر استمر مع الفيلسوف الهولندي سبينوزا الذي شكّل إضافة مهمة للفكر الحديث من خلال تأسيسه للأخلاق على أسس رياضية ومن خلال رؤيته لوحدة الوجود، واعتباره أن الحرية هي وعي الضرورة. أما الفيلسوف الألماني لايبنتز فقد استعاد ذرات ديمقريطس وافترض أن كل الكائنات هي عبارة عن اتحاد للمونادات البسيطة والتي تتعاطف مع بقية الكائنات تبعاً لنظرية الانسجام المسبق الذي وضعته العناية الإلهية. وبالتوازي مع هذا الاتجاه العقلاني في الفلسفة الحديثة برز الاتجاه التجريبي مع فرنسيس بيكون وتوماس هوبس وحون لوك، حيث أعطى هذا التيار الأولوية لدور التجربة في عملية المعرفة. وبما أن لكل تيار حججه وبراهينه القوية بحيث لا يمكن إهمالها، فقد برز الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط محاولاً الاستفادة من التيارين التجريبي والعقلاني من خلال تأسيسه للفلسفة النقدية عبر كتابه «نقد العقل الخالص»، حيث حاول الجمع بين العقل والتجربة، مستنداً إلى حدسين أساسيين: حدس الزمان وحدس المكان كشرطين أساسيين للمعرفة. كما كان كانط مهتماً بتأسيس الأخلاق على أساس ميتافيزيقي بحيث تشكل هذه الميتافيزيقا أساساً لأخلاق كونية مجردة تصلح لكل البشر ويكون الإنسان بالنسبة إليها غاية وليس وسيلة.
بعد النقد الكانطي للعقل الخالص أتى الفيلسوف الألماني الموسوعي هيغل ليعيد للعقل اعتباره من خلال كتابه الشهير «فينومينولوجيا الروح»، معتبراً أن العالم هو تجسيد للعقل المطلق. وبذلك؛ فقد شكّل هيغل قمة الفلسفة المثالية، حيث اعتبر أن العقل يحكم العالم. وقد تميز هيغل بمنهجه الجدلي القائم على ثلاثيات كل منها يتضمن قضية ونقيضها والمركب من النقيضين، معتبراً الثلاثية الأشمل التي تستوعب كل الثلاثيات هي التالية: الفن الدين الفلسفة. هذا يعني أن الفلسفة تمثل خطاب العقل المتجاوز للنشاطين الديني والفني. لذلك؛ إن هيغل يعتبر أن الفيلسوف يمثل روح عصره. وبما أن هيغل يمثل قمة الفلسفة المثالية كان لا بد من نقيض يواجه هذه الفلسفة، فكان أحد تلامذة هيغل كارل ماركس الذي قلب المنهج الجدلي الهيغلي رأساً على عقب، حيث أوقف هذا المنهج على قدميه بدلاً من أن يكون واقفاً على رأسه. الجدل عند ماركس ينطلق من الواقع المادي بينما عند هيغل ينطلق من الفكرة الخالصة. إذن، لقد استفاد ماركس من الجدل الهيغلي وأسسه على أرض صلبة تتمثل بالبنية التحتية الاقتصادية؛ إذ إن ماركس يعتبر أن المجتمع البشري يقوم على ثلاثة مستويات: المستوى الاقتصادي والمستوى السياسي والمستوى الآيديولوجي. هذه المستويات تشكل البنية الاجتماعية، ولكن البنية الاقتصادية هي التي تطبع المجتمع بطابعها. إذا كان نمط الإنتاج رأسمالياً يكون المجتمع تحت سيطرة الآيديولوجيا الرأسمالية.
هكذا، وبعد هذا العرض السريع نرجو أن نكون قد استطعنا تقديم فكرة إجمالية حول تاريخ الفلسفة وصولاً إلى الفلسفة الحديثة على أن نستكمل مرحلة ما بعد الماركسية في المقال القادم.
* باحث وأستاذ جامعي لبناني



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.