في السابع عشر من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم احتفل العالم باليوم العالمي للفلسفة. ولكن كيف يمكن لهذا الاحتفال أن يكون مناسبة وحافزاً لاستقبال وقبول الفكر الفلسفي لدى أجيال العصر الراهن المحكوم من ثورة التكنولوجيا وسرعة الاتصالات ومن سيطرة نمط الحياة السريع في كل المجالات؟ وهل يمكن لهذا الجيل أن يجد الوقت الكافي لقراءة مجلدات الفلاسفة الكبار الذين أغنوا تاريخ الفلسفة بفلسفاتهم حول مصير الكون والإنسان والطبيعة؟ في هذا المقال السريع المنسجم مع عصر السرعة سوف نحاول تقديم قصة الفلسفة بحيث يستطيع الإنسان المعاصر أن يلتقط معنى الفلسفة والتفلسف ويوظف هذا الفهم في حياته اليومية والأخلاقية كما في تحضير مصيره واكتمال ماهيته. أضف إلى ذلك نريد من هذا المقال نزع الوهم الراسخ عند العموم حول عقم وتجريد وسفسطة الفكر الفلسفي، وذلك من خلال عرض موجز وسريع لأهم تصورات الفلسفة ومنعطفاتها عبر أهم المدارس الفلسفية وأعلام الفلسفة الكبار الذين طبعوا مراحل تاريخ الفلسفة بطابعهم.
في سبيل تحقيق الغاية من هذا المقال لا بد لنا من طرح سؤال ماهية الفلسفة: هل اتفق الفلاسفة ومؤرخو الفلسفة على تعريف الفلسفة؟ من الطبيعي ألا يتفقوا؛ وذلك لأن فعل التفلسف لا يقبل القولبة، وبالتالي هناك من الفلسفات بقدر ما هناك من الفلاسفة على حد تعبير جان بول سارتر. كذلك اعتبر الفيلسوف كانط بأننا لا يمكننا تعليم الفلسفة، بل يمكننا تعليم التفلسف. على ذلك، إن ماهية الفلسفة تتوقف على نشاطات وتأملات كل من طرح أسئلة حول الكون والوجود والله والإنسان. من هنا، يمكننا رصد تصورات عدة لماهية الفلسفة. ولكن لا بد من الاعتراف بحسب أرسطو بأن دهشة الإنسان أمام الطبيعة وأمام كل ما هو عادي وطبيعي هي مصدر التفلسف. ولكن هذه الدهشة استمرت في إطار الفلسفة الحديثة من خلال السؤال الميتافيزيقي المطروح من قبل الفيلسوف الألماني لايبنتز واستعاده هايدغر في القرن العشرين ألا وهو: لماذا هناك شيء ما بدلاً من لاشيء؟ في الواقع، إن هذا السؤال يختصر المسألة الأساسية في الفلسفة بحيث إنه يطرح مشكلات الفلسفة الأساسية التي تقوم على السؤال الميتافيزيقي والمكان والوجود والعدم.
على هذا الأساس تعددت التصورات التي انطلقت منها تعريفات الفلسفة. ومن أهم هذه التصورات: أولاً، اعتبار الفلسفة كمحبة الحكمة وليست الحكمة بذاتها؛ وثانياً اعتبار الفلسفة كسؤال؛ إذ إن الأسئلة هي أكثر أهمية من الأجوبة بحسب تعبير الفيلسوف كارل ياسبرز. ثالثاً، اعتبار الفلسفة كعقيدة معينة تمتلك تصوراً عن العالم ومصيره؛ ورابعاً، اعتبار الفلسفة كنظرة كونية شاملة لكل الكون؛ وخامساً، اعتبار الفلسفة كنظرية نقدية وتحليل اللغة والعلم.
إذن، كي نستطيع تصنيف الفلاسفة لا بد لنا من طرح المسألة الأساسية في الفلسفة، وهي: مسألة العلاقة بين الفكر والواقع والتي تتناول مسألة الحقيقة الناشئة عن تطابق الفكر والواقع المادي. حول هذه المسألة انقسم الفلاسفة التقليديون إلى معسكرين: المعسكر المثالي والمعسكر المادي. الخلاف وقع حول السباق الدائم بين المعرفة والوجود. في مسألة الوجود يعتبر المثاليون أن الفكر يسبق الوجود؛ أما الماديون فيعتبرون أن الوجود المادي سابق على الفكر. وفي مسألة المعرفة، يعتبر المثاليون بأن المعرفة تتم من خلال إسقاط وتوجيه الوعي إلى الوجود الواقعي؛ أما الماديون فيعتبرون بأن المعرفة تتم من خلال انعكاس الواقع المادي على الوعي البشري.
في الواقع، إن تاريخ الفلسفة شهد مراحل عدة، بدءاً من الفلسفات الشرقية وصولاً إلى الفلسفة المعاصرة مروراً بالفلسفة اليونانية وفلسفة العصر الوسيط العربي والغربي والفلسفة الحديثة الألمانية والفرنسية. ولقد شهد هذا التاريخ الفلسفي منعطفات أساسية في تطور الفكر البشري. من هذه المنعطفات برزت المعجزة اليونانية من خلال فلاسفة المرحة السابقة على سقراط، وبرز فيها هرقليطس فيلسوف الحركة والتغيير والجدل، والفيلسوف برمنيدس الذي اعتقد بمبدأ الثبات والسكون ورفض العدم، حيث اعتبر أن الكون يكون والعدم لا يكون: يعني لا شيء خارج الكينونة الساكنة والثابتة. كما برز الفيلسوف ديمقريطس الذي افترض أن كل شيء في الطبيعة يتكون من ذرّات. أما سقراط فقد شكّل منعطفاً أساسياً في تاريخ الفكر، حيث نقل الاهتمام الفلسفي من الطبيعة إلى الإنسان عندما قال: أيها الإنسان اعرف نفسك. واكتملت المعجزة اليونانية مع أفلاطون وأرسطو اللذين طبعا تاريخ الفلسفة بتأسيس الميتافيزيقا من خلال طرح كل منهما نظاماً فلسفياً متكاملاً. وبالفعل كان لأفلاطون الدور الأساسي في تأسيس الفلسفة المثالية من خلال اعتباره أن الحقيقة تكمن في عالم المُثُل والحقائق الأبدية في حين أن عالمنا الأرضي ليس سوى عالم الفساد والتغير، وقد عبر عن هذه النظرية في كتاب «الجمهورية» عندما تحدث عن أسطورة الكهف. أما أرسطو فقد لُقب بالمعلم الأول لغزارة إنتاجه في الميتافيزيقا والفيزيقا والمنطق. بالفعل، لقد عمل أرسطو على تأسيس الميتافيزيقا متجاوزاً أستاذه أفلاطون ورادماً الهوة التي أقامها الأخير بين عالم المُثل وبين عالم الطبيعة الفيزيقية. لذلك؛ سيطر المنطق الأرسطي لقرون عديدة وصولاً إلى عصر النهضة بعد انتكاسة القرون الوسطى، حيث سادت محاولات التوفيق بين الفلسفة والدين وحتى جعل الفلسفة خادمة للدين. هنا لا بد من ذِكر الدور الذي لعبته الفلسفة العربية - الإسلامية من خلال الفارابي وابن سينا وابن رشد الذي قدم قراءة جديدة لفلسفة أرسطو، حيث ساهمت هذه القراءة في إعادة الاعتبار للمعجزة اليونانية وفي ولادة جديدة للفلسفة في عصر النهضة. وتجدر الإشارة أيضاً إلى المدرسة الرواقية والمدرسة الأبيقورية اللتين ظهرتا بعد سيطرة الأرسطية لفترة طويلة وكان همهما أخلاقياً واتفقتا على شعار أساسي، ألا وهو العيش وفقاً للطبيعة من خلال مصالحة الإنسان بين طبيعته الفردية والطبيعة المحكومة بقوانينها. في عصر النهضة وعصر التنوير برزت النزعة الإنسانية واستعاد التيار العقلاني مجده وبرزت الفلسفة الحديثة مع الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي أطلق الكوجيتو «أنا أفكر إذن أنا موجود»، حيث فتح الباب أمام مرحلة جديدة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث من خلال منح الدور الأساسي للإرادة الحرة المنطلقة من الأنا أفكر. ولكن منعطف ديكارت العقلاني الحر استمر مع الفيلسوف الهولندي سبينوزا الذي شكّل إضافة مهمة للفكر الحديث من خلال تأسيسه للأخلاق على أسس رياضية ومن خلال رؤيته لوحدة الوجود، واعتباره أن الحرية هي وعي الضرورة. أما الفيلسوف الألماني لايبنتز فقد استعاد ذرات ديمقريطس وافترض أن كل الكائنات هي عبارة عن اتحاد للمونادات البسيطة والتي تتعاطف مع بقية الكائنات تبعاً لنظرية الانسجام المسبق الذي وضعته العناية الإلهية. وبالتوازي مع هذا الاتجاه العقلاني في الفلسفة الحديثة برز الاتجاه التجريبي مع فرنسيس بيكون وتوماس هوبس وحون لوك، حيث أعطى هذا التيار الأولوية لدور التجربة في عملية المعرفة. وبما أن لكل تيار حججه وبراهينه القوية بحيث لا يمكن إهمالها، فقد برز الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط محاولاً الاستفادة من التيارين التجريبي والعقلاني من خلال تأسيسه للفلسفة النقدية عبر كتابه «نقد العقل الخالص»، حيث حاول الجمع بين العقل والتجربة، مستنداً إلى حدسين أساسيين: حدس الزمان وحدس المكان كشرطين أساسيين للمعرفة. كما كان كانط مهتماً بتأسيس الأخلاق على أساس ميتافيزيقي بحيث تشكل هذه الميتافيزيقا أساساً لأخلاق كونية مجردة تصلح لكل البشر ويكون الإنسان بالنسبة إليها غاية وليس وسيلة.
بعد النقد الكانطي للعقل الخالص أتى الفيلسوف الألماني الموسوعي هيغل ليعيد للعقل اعتباره من خلال كتابه الشهير «فينومينولوجيا الروح»، معتبراً أن العالم هو تجسيد للعقل المطلق. وبذلك؛ فقد شكّل هيغل قمة الفلسفة المثالية، حيث اعتبر أن العقل يحكم العالم. وقد تميز هيغل بمنهجه الجدلي القائم على ثلاثيات كل منها يتضمن قضية ونقيضها والمركب من النقيضين، معتبراً الثلاثية الأشمل التي تستوعب كل الثلاثيات هي التالية: الفن الدين الفلسفة. هذا يعني أن الفلسفة تمثل خطاب العقل المتجاوز للنشاطين الديني والفني. لذلك؛ إن هيغل يعتبر أن الفيلسوف يمثل روح عصره. وبما أن هيغل يمثل قمة الفلسفة المثالية كان لا بد من نقيض يواجه هذه الفلسفة، فكان أحد تلامذة هيغل كارل ماركس الذي قلب المنهج الجدلي الهيغلي رأساً على عقب، حيث أوقف هذا المنهج على قدميه بدلاً من أن يكون واقفاً على رأسه. الجدل عند ماركس ينطلق من الواقع المادي بينما عند هيغل ينطلق من الفكرة الخالصة. إذن، لقد استفاد ماركس من الجدل الهيغلي وأسسه على أرض صلبة تتمثل بالبنية التحتية الاقتصادية؛ إذ إن ماركس يعتبر أن المجتمع البشري يقوم على ثلاثة مستويات: المستوى الاقتصادي والمستوى السياسي والمستوى الآيديولوجي. هذه المستويات تشكل البنية الاجتماعية، ولكن البنية الاقتصادية هي التي تطبع المجتمع بطابعها. إذا كان نمط الإنتاج رأسمالياً يكون المجتمع تحت سيطرة الآيديولوجيا الرأسمالية.
هكذا، وبعد هذا العرض السريع نرجو أن نكون قد استطعنا تقديم فكرة إجمالية حول تاريخ الفلسفة وصولاً إلى الفلسفة الحديثة على أن نستكمل مرحلة ما بعد الماركسية في المقال القادم.
* باحث وأستاذ جامعي لبناني
تقديم الفلسفة في عصر السرعة
تقديم الفلسفة في عصر السرعة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة