التقنية في حدود العقل والأخلاق

هل تبقي الآلة دوراً يؤديه الإنسان مستقبلاً؟ (د.ب.أ)
هل تبقي الآلة دوراً يؤديه الإنسان مستقبلاً؟ (د.ب.أ)
TT

التقنية في حدود العقل والأخلاق

هل تبقي الآلة دوراً يؤديه الإنسان مستقبلاً؟ (د.ب.أ)
هل تبقي الآلة دوراً يؤديه الإنسان مستقبلاً؟ (د.ب.أ)

إن قصة التقنية بدأت منذ أن وجد الإنسان نفسه في مواجهة الطبيعة مع كل ما ينتج عن هذه المواجهة من مخاطر وتحديات وأسئلة وانتظارات. ومن رحم هذا الواقع المتوحش، ولدت فلسفة الفعل التقني التي أسست لصناعة أبسط الأدوات الدفاعية والهجومية والنفعية، وما زالت تفرض نفسها حتى عصرنا الراهن بعد أن تمظهرت من خلال محطات ومنعطفات أساسية في تاريخ البشرية، بدءاً من أبسط الاكتشافات التقنية وصولاً إلى عصر تكنولوجيا النانو، مروراً باكتشاف الذرات وغيرها العديد من الاكتشافات التي ظهرت بفعل التحالف المقدس بين العلم والتقنية.
ومن أبرز محطات فلسفة الفعل التقني كانت الثورة الصناعية الأولى التي تمثلت باكتشاف الآلة البخارية والطباعة، ثم من خلال الثورة الصناعية الثانية التي أتت نتيجة اكتشاف مصادر الطاقة، خصوصاً الطاقة الكهربائية. ولا شك في أن هذه الثورة الصناعية أسهمت في تجاوز وتدمير العالم القديم؛ وقد دامت هذه الثورة طويلاً وصولاً إلى الثورة الصناعية الثالثة التي نعيش في كنفها اليوم وتتمثل في اعتماد البشر الذكاء الاصطناعي من خلال الدعوة إلى تعديل أو تحويل الإنسان من جهة، أو من خلال تجاوزه وإحلال الآلة مكانه من جهة أخرى. هكذا إذن، إن فلسفة الفعل التقني رافقت الإنسان منذ أن بدأ يعي تمايزه عن كائنات الطبيعة الأخرى وراح يحاول عبر التقنية والتكنولوجيا السيطرة على الطبيعة وتطويعها، فحقق على مراحل متفاوتة وثْباتٍ ومنعطفات مهمة على صعيد العلم والتقنية؛ إلا أن الوثبة الأكثر أهمية في تاريخ البشرية قد تحققت في القرن العشرين، وبدت التقنية رهاناً لهذا القرن، على حد تعبير المفكر الفرنسي جاك إلّول (ELLUL).
أمام هذا التطور التكنولوجي الذي برز من خلال الحلف القائم بين سلطتي التقنية والعلم برزت عدة مساهمات فكرية تدق ناقوس الخطر تجاه جموح التقنية من أجل ردها إلى حدود العقل والعقلانية. ومن أبرز المساهمين في طرح مسألة التقنية في القرن العشرين المفكر الفرنسي جاك إلّول ELLUL من خلال كتابه تحت عنوان «التقنية أو رهان القرن» (La technique ou l’enjeu du siècle)، والفيلسوف الألماني مارتن هايدغر من خلال بحثه العميق تحت عنوان «مسألة التقنية»، كما برز رواد «مدرسة فرنكفورت» في النقد العميق للعقلانية التكنولوجية. وكذلك شهدنا مساهمة الفيلسوف الألماني هانز يوناس Jonas من خلال كتابه «مبدأ المسؤولية، أخلاق من أجل الحضارة التكنولوجية». في هذا الكتاب، يطرح يوناس إعادة صياغة الأخلاق انطلاقاً من فكرة المسؤولية. ولذلك ينطلق من الأخلاق الكانطية، وخصوصاً من القواعد التي أرساها كانط في كتابه «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» ويركز على دور الأمر القطعي أو الواجب الإلزامي في تأسيس مبدأ المسؤولية، ويحاول أن يستبدل صيغة كانط الأخلاقية المجردة بصيغة أخرى تنسجم مع دعوته للإنسان المعاصر إلى الالتزام بالمستقبل البشري وإلى عدم المخاطرة حتى ولو كان ذلك منطقياً بمصير الأجيال القادمة. وسنحاول التقاط الفرق بين صيغتي كانط ويوناس. إن الأمر القطعي لدى كانط يقول: «افعل بطريقة تستطيع معها أن تريد بأن تصبح حكمتك قانوناً كونياً» ويلاحظ يوناس أن مسألة الاستطاعة هنا هي مسألة منطقية تتعلق بمدى عدم تناقض العقل مع ذاته، أي أن الإنسان العاقل عليه أن يأخذ بعين الاعتبار كونه واحداً من الكائنات العاقلة، ولذلك عليه أن يحكم بطريقة يكون فيها حكمه كونياً. وبالتالي، إن الاعتبار الأساسي للأخلاق هنا ليس أخلاقياً بل منطقياً، إذ إن الاستطاعة أو عدم الاستطاعة هنا تعبر عن التواؤم أو عدم التواؤم منطقياً وليس عن موافقة أو عدم موافقة. هذا يعني أن الإنسان يستطيع منطقياً أن يريد أو لا يريد تقرير نهاية البشرية. هذا على صعيد المنطق. ولكن على صعيد الأخلاق يجدر التساؤل: من يعطي الحق لحلقة معينة من السلسلة البشرية أن تقطع هذه السلسلة؟ قد يكون من حق أو من واجب جيل معين أو جماعة معينة أن تضحي بنفسها من أجل قضية ما ولكن لا يحق لها أن تتخذ قراراً بقطع السلسلة البشرية، وذلك لأنها مسؤولة عن المستقبل أكثر مما هي مسؤولة عن الحاضر، وبالتالي إن الأمر القطعي عند يوناس يتحول إلى أخلاق من أجل الأجيال القادمة، ليس بمعنى أننا يجب أن نضع من الآن قواعد أخلاقية تلتزم بها الأجيال القادمة، بل بمعنى أن تكون أخلاقنا الراهنة مسؤولة تجاه أجيال المستقبل. ومن أهم المساهمات التي سلطت الضوء على ضرورة إخضاع الجموح التقني لسلطة وقدرة العقل كانت مساهمة الفيلسوف الفرنسي دومينيك جانيكو Janicaud، الذي كان على معرفة قريبة من هايدغر، من خلال كتابه المنشور عام 1985 تحت عنوان «قدرة العقلاني» La puissance du rationnel حيث قدم نظرة ثاقبة وإنذاراً مبكراً تجاه المخاطر التي يسببها جموح التقنية المتفلتة من سلطة العقل والأخلاق.
بالنسبة إلى جانيكو، إن قدرة العقل تتجاوز وتنظم وتضبط الظاهرة التقنية، ولكن هذه القدرة ليست مباشرة أو ظاهرة بل هي خلفية وتظهر من خلال آليات معينة في جميع ميادين الكينونة. يقول جانيكو حول هذه المسألة: «هناك نقطة أضحت مكتسبة: إن العقل لا يسود مباشرة ولا بالكامل في العالم كما لو أنه ملِك أو ساعة ضخمة أو صورة مؤلّهة من قبل الثورة؛ ولكن ما زال هناك الكثير لحل الأحجية التي يقترحها العالم الراهن على روحٍ ما تزال قادرة على الاندهاش: إن التحول التقني - العلمي الشاسع، الذي يتابع مساره وينمي قدراته ومفاعيله من دون توقف، يتم إنجازه، بمعنى ما، باسم العقلانية؛ وعلى أي حال، إنه يضمن سيطرته على العالم من خلال توسط العديد من الآليات العقلية، النظرية، التقنية والعملية... هكذا نصل بذلك إلى منح العقلاني - على الأقل في هيئاته التقنية - العلمية - مزايا القدرة الفعلية، وذلك لأنه، بحلوله محل الأساطير والطقوس والثقافات التقليدية، يصبح ملاذاً وإشارة أو نموذجاً عن النظام الكوني وحتى عن معنى الحياة. ونتيجة لذلك، فإن الإنسان (فرد، طبقة، أو نوع) يفتخر بكونه وكيله ومن منبعه راح يسكر بملذات السلطة»**. ولكن طالما أن الإنسان ينهل سلطته من ينبوع العقل، ما الذي يدفعه إلى الانتفاض ضد العقلانية المسيطرة سواء كانت عقلانية تقنية أم عقلانية سياسية أو فلسفية؟ نحن هنا أمام «مناقضة: لم يكن العالم أبداً معقلناً بهذا الشكل؛ والعقل لم يكن أبداً بهذا العجز»*** هل نحن أمام عجز العقلاني أم أمام قدرته؟ طالما أننا نتمرد على العقلانية وننتقدها فهذا يعني أن العقل مسيطر، وبالتالي يتمتع بالقدرة الكافية لذلك. وبالمقابل، فإن انتصار الأفكار العدمية والنقدية والتفكيك وعدم ارتياح الإنسان تجاه التكنولوجيا وخوفه من المجهول، فهذا يعني أن العقل عاجز عن تقديم مبرراته.
وإذا عدنا إلى المسألة التقنية بصفتها مسألة عقلانية، نجد أنفسنا نتساءل حول الحدود العقلانية للظاهرة التقنية. هل هي ظاهرة محدودة في الزمان والمكان أم أنها غير محدودة؟ عقلانياً، هي قد تكون محدودة وقد تكون غير محدودة. هذا يتوقف على وظيفتها وعلى مدى انتهاكها لقدرة العقل أولاً وللقانون الأخلاقي الإنساني، ثانياً. وفي هذه المسألة، نجد أنفسنا، أيضاً، أمام مناقضة جديدة تتعلق بالتقنية: «إن مناقضة قدرة العقلاني في عصر القدرة يمكن أن تُصاغ على الشكل التالي: أطروحة: كل ما هو قابل للتنفيذ تقنياً يجب أن يكون متحققاً سواء كان تحقيقه معتبَراً حسناً أخلاقياً أو مداناً. أما الأطروحة النقيضة فهي: لا شيء مما هو قابل للتنفيذ تقنياً يجب أن يكون متحققاً إذا شكّل تحقيقه خطراً على الأهلية الأخلاقية للبشرية أو ألغاها»****
إن الأطروحة الأولى تتعاطى مع التقنية على أنها ظاهرة حيادية ولا تخضع لأي معيار أو تقدير أخلاقي أو لأحكام القيمة الأخلاقية في عملية تحقيق الموضوع التقني. أما نقيض هذه الأطروحة فيقتضي بأن لا تكون أي عملية تقنية مقبولة إذا انتهكت مبدأ الأخلاق ذاته أي الإنسانية في حريتها.
هنا نعود إلى هانز يوناس الذي أخذ على الأمر القطعي الكانطي صوريته ومنطقيته بمعزل عن الحكم الأخلاقي، الذي يمكن أن يؤدي إليه الفعل البشري، فعدله بحيث ربط الحكم على العمل البشري بمدى تأثيره على الإنسانية وعلى مستقبلها فعلياً وليس منطقياً. إن النقاش في هذه المسألة يتعلق بالطبع بمسألة التقنية وبمدى سيطرتها وبكيفية التعامل مع هذه السيطرة مستقبلياً. لقد وضع دومينيك جانيكو ثلاث ملاحظات حول تناول يوناس لهذه المسألة:
في الملاحظة الأولى، يذكر جانيكو الصيغة المعدلة للأمر القطعي بحسب يوناس فيعتبر أنها تتناسب مع الأطروحة النقيضة في المناقضة المذكورة أعلاه. ولكنه يرى أن ظروف الإنسانية في عهد يوناس هي مختلفة عن ظروفها في عصر كانط، إذ لم يكن في ذهن كانط أن الإنسانية سوف تكون مهدَّدة بالفناء. وبالتالي إن يوناس يعدل صيغة مطلقة فينقلها من ظرف إلى ظرف لتصبح محصورة في حالة وحيدة قد تكون مستحيلة وهي فناء البشرية.
وفي الملاحظة الثانية، يعتبر جانيكو أن قانون يوناس لا يتعلق بذات فردية في حياتها اليومية، بل يطال البشرية كبشرية معرّضة لتمدد عدواني من قبل التقنية المتحالفة مع العلم. وفي المناقضة الجديدة تقنية/ أخلاق، إن المكان المخصص للطبيعة لدى كانط أخذته التقنية التي أصبحت عاملاً حاسماً. أما العدو الأكبر للأمر القطعي الأخلاقي فلم يعد اليوم اللذة الطيبة أو الخبث، بل فعالية أو كفاءة البشرية التي خضعت للطابع التقني.
وفي الملاحظة الثالثة، يعتبر جانيكو أنه من وجهة نظر كانطية، قد يمكننا مع ذلك الاعتراض على قانون يوناس كما يلي: إن إعادة صياغة الأمر القطعي تمّت بموجب تعديلات تجريبية في احترام الحياة البشرية. وإن حصر دائرة تطبيق القانون المزعوم على العمليات التي تهدد دوام الحياة البشرية الحقيقية على الأرض يمكن أن يظهر بمثابة آخر خط دفاع للأخلاقية (ولكنه، في الواقع، تنازل وجداني أمام كل الانتهاكات التقنية). فإذا أصبح بسيطاً أمر اعتبار الآخر كوسيلة، ما عدا الحالات التي يعتبر فيها جوهر الإنسان مهدَّداً، ألا يمكن لنا أن نحاول بشكل دائم تمديد حدود المسموح به؟ على سبيل المثال، القرار الذي اتخذه ترومان بقصف هيروشيما وناغازاكي ألا يعتبر متوائماً مع «دوام حياة بشرية حقيقية»؟ وألا ينطبق ذلك عل غرف الغاز الهتلرية؟... إلخ من هذه الناحية، يصبح قانون يوناس، ليس فقط غير مفيد، بل قد يصبح مؤذياً لأنه مصدر إبهام حول ما هو جوهري*****.
ولكن جانيكو يشارك يوناس اهتمامه بمستقبل البشرية شرط ألا يكون هذا المستقبل على حساب الحاضر. هذا يعني أن الحاضر والمستقبل مرتبطان بلعبة قدرة العقل المفتوحة على الممكن المستقبلي. ولكن هل سيبقى هذا الممكن أسيراً لسلطة حلف التقنية والعلم؟ أم أنه سوف يشكل ميدان شراكة تنكسر فيه أحادية هذه السلطة؟ لذلك، إن هذه القدرة المفتوحة على الممكن سوف تنتشر وتترجم في ثلاثة ميادين مقدسة: الأخلاق، والسياسة والشعر. وهذه الميادين الثلاثة هي الأماكن الحساسة في مقاومة عملية التحويل التقني الكامل للمجتمع الإنساني وفي حماية المستقبل البشري على أنه ميدان شراكة وليس أحادية تقنية.
ففي ميدان الأخلاق يبقى الأمر القطعي، في نقاوته، الأطروحة العقلانية الوحيدة الممكنة النقيضة لتوسع القدرة التقنية/ العلمية للعقلاني. وذلك لأن هذا الأمر القطعي الأخلاقي لا شيء فيه يتنازل أمام السلطة أو القدرة أو يدخل في لعبتها. إنه يحفظ بصورة مبدئية نواة عقلانية تعصى على الانقلاب.
أما السياسي (ليس المقصود هنا السياسة اليومية بل السياسة التي تقوم على مواجهة الممكن من قبل الشعب كمسألة حياة أو موت) فهو يشكل ميداناً مقدساً بمعنى أن الشعب يتحمل من خلاله مسؤولية المستقبل. إن القرار السياسي الجوهري هو عقلاني - لاعقلاني؛ إنه يعرف أنه معرّض للانقلاب، وهو بذلك مختلف عن نقاوة الأمر القطعي، وذلك لأنه على علاقة مع السلطة. ولكن، طالما هناك أناس جديرون بهذا الاسم سوف يتغلب شرف الشعب في مواجهة المستقبل ضد خطاب التقنية.
أما الشعر، فهو ذلك البعد الذي يأخذ اللغة والإشارات إلى مداها الأقصى. إنه المعنى المتجاوز للمعنى. إنه قول عما لا يقال، إنه سمع اللامسموع، إنه المستقبل القائم على الاحتياطي الممكن لدى الإنسان. إن الشعر يجتاز التناقضات والانقلابات؛ إنه ذلك الجانب الذي يتجاوز بإفراط، من حيث هو المصدر ومن حيث هو المآل، قدرة العقلاني. إذن هناك اللامعقول؛ ولكن يجب الحفاظ على الشكل الخالص للعقلانية العملية فيما يتعدى كل الانقلابات الخاصة بالعقلانية التقنية. واللا محسوب أيضاً له مكانه، ولكن لا يجب علينا التوقف عن التعداد والحساب. هناك الغامض أو غير المرئي ولكن قول ما هو واضح وما هو مرئي هو مهمة مقدسة أمام انحراف كل المعابد.
ويختم جانيكو كتابه بعبارة لباسكال تقول: «حينها سوف نكون صامدين أو منضبطين جيداً» إذا رأينا الروابط أو العلاقات بين كل الأشياء. إن العقلاني «المنضبط جيداً» لم يعد يملك القوة الوحيدة المسيطرة التي كانت تمنحه إياها مرجعيته الذاتية الميتافيزيقية المطلقة، ولا الفعالية المطلقة المفروضة من خلال نسخته التقنية/ العلمية.
إن قدرة العقلاني، منفصلة إلى مراحل، ومتصدية للانقلاب ومنسوبة إلى الاختلاف الأونطولوجي والمصيري، هي مع ذلك وأكثر من أي وقت مضى، في حالة إمكان لممكن هش ولم نفقد الأمل فيه: إنه مستقبلنا******.
هكذا فإن القدرة التقنية ليست قدراً نهائياً، بل هي مجرد تعبير من تعبيرات العقلانية التي تستطيع احتضان المفارقة داخلها وتفتح دائماً الأبواب للممكن واللامحسوب وبالتالي للحرية. وهنا، لن يعود هنالك أي مبرر للأنظمة الشمولية التي تحكم باسم العقل الشامل سواء كانت أنظمة سياسية أو تقنية أو اقتصادية أو فلسفية... فقدرة العقلاني مفتوحة على المستقبل الممكن وعلى كل احتمالاته وبالتالي على النقد.
من هنا، فإن الموجة العارمة من الانبهار أمام التقنية الحديثة والثورة الصناعية التكنولوجية والتي سادت عصر الحداثة لا بد لها من أن تهدأ وتتأمل ولا تتسرّع في إطلاق الأحكام أو تسلّم تسليماً مطلقاً بما يسمى السلطة التكنوقراطية التي انبثقت من انتصار العلم والتقنية في عصر الحداثة؛ إذ إن هذا التسرع بهذا التسليم بسلطة التقنية مكان السلطات الأخرى ومكان الفاعلين الاجتماعيين سوف يؤدي إلى حركة مضادة للحداثة تنتفض ضد كل ما هو شمولي أو ضد كل ظاهرة تحاول مصادرة الذات الفاعلة والقضاء على دورها في صناعة التاريخ.
* باحث وأستاذ جامعي لبناني
** Dominique JANICAUD، La puissance du rationnel، Editions Gallimard، Paris، 1985. ص. 11 - 12
*** المرجع نفسه، ص 12
**** المرجع نفسه، ص 146
*****راجع المرجع نفسه ص 147 - 148
****** راجع المرجع نفسه ص 376 - 377



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».