التقنية في حدود العقل والأخلاق

هل تبقي الآلة دوراً يؤديه الإنسان مستقبلاً؟ (د.ب.أ)
هل تبقي الآلة دوراً يؤديه الإنسان مستقبلاً؟ (د.ب.أ)
TT

التقنية في حدود العقل والأخلاق

هل تبقي الآلة دوراً يؤديه الإنسان مستقبلاً؟ (د.ب.أ)
هل تبقي الآلة دوراً يؤديه الإنسان مستقبلاً؟ (د.ب.أ)

إن قصة التقنية بدأت منذ أن وجد الإنسان نفسه في مواجهة الطبيعة مع كل ما ينتج عن هذه المواجهة من مخاطر وتحديات وأسئلة وانتظارات. ومن رحم هذا الواقع المتوحش، ولدت فلسفة الفعل التقني التي أسست لصناعة أبسط الأدوات الدفاعية والهجومية والنفعية، وما زالت تفرض نفسها حتى عصرنا الراهن بعد أن تمظهرت من خلال محطات ومنعطفات أساسية في تاريخ البشرية، بدءاً من أبسط الاكتشافات التقنية وصولاً إلى عصر تكنولوجيا النانو، مروراً باكتشاف الذرات وغيرها العديد من الاكتشافات التي ظهرت بفعل التحالف المقدس بين العلم والتقنية.
ومن أبرز محطات فلسفة الفعل التقني كانت الثورة الصناعية الأولى التي تمثلت باكتشاف الآلة البخارية والطباعة، ثم من خلال الثورة الصناعية الثانية التي أتت نتيجة اكتشاف مصادر الطاقة، خصوصاً الطاقة الكهربائية. ولا شك في أن هذه الثورة الصناعية أسهمت في تجاوز وتدمير العالم القديم؛ وقد دامت هذه الثورة طويلاً وصولاً إلى الثورة الصناعية الثالثة التي نعيش في كنفها اليوم وتتمثل في اعتماد البشر الذكاء الاصطناعي من خلال الدعوة إلى تعديل أو تحويل الإنسان من جهة، أو من خلال تجاوزه وإحلال الآلة مكانه من جهة أخرى. هكذا إذن، إن فلسفة الفعل التقني رافقت الإنسان منذ أن بدأ يعي تمايزه عن كائنات الطبيعة الأخرى وراح يحاول عبر التقنية والتكنولوجيا السيطرة على الطبيعة وتطويعها، فحقق على مراحل متفاوتة وثْباتٍ ومنعطفات مهمة على صعيد العلم والتقنية؛ إلا أن الوثبة الأكثر أهمية في تاريخ البشرية قد تحققت في القرن العشرين، وبدت التقنية رهاناً لهذا القرن، على حد تعبير المفكر الفرنسي جاك إلّول (ELLUL).
أمام هذا التطور التكنولوجي الذي برز من خلال الحلف القائم بين سلطتي التقنية والعلم برزت عدة مساهمات فكرية تدق ناقوس الخطر تجاه جموح التقنية من أجل ردها إلى حدود العقل والعقلانية. ومن أبرز المساهمين في طرح مسألة التقنية في القرن العشرين المفكر الفرنسي جاك إلّول ELLUL من خلال كتابه تحت عنوان «التقنية أو رهان القرن» (La technique ou l’enjeu du siècle)، والفيلسوف الألماني مارتن هايدغر من خلال بحثه العميق تحت عنوان «مسألة التقنية»، كما برز رواد «مدرسة فرنكفورت» في النقد العميق للعقلانية التكنولوجية. وكذلك شهدنا مساهمة الفيلسوف الألماني هانز يوناس Jonas من خلال كتابه «مبدأ المسؤولية، أخلاق من أجل الحضارة التكنولوجية». في هذا الكتاب، يطرح يوناس إعادة صياغة الأخلاق انطلاقاً من فكرة المسؤولية. ولذلك ينطلق من الأخلاق الكانطية، وخصوصاً من القواعد التي أرساها كانط في كتابه «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» ويركز على دور الأمر القطعي أو الواجب الإلزامي في تأسيس مبدأ المسؤولية، ويحاول أن يستبدل صيغة كانط الأخلاقية المجردة بصيغة أخرى تنسجم مع دعوته للإنسان المعاصر إلى الالتزام بالمستقبل البشري وإلى عدم المخاطرة حتى ولو كان ذلك منطقياً بمصير الأجيال القادمة. وسنحاول التقاط الفرق بين صيغتي كانط ويوناس. إن الأمر القطعي لدى كانط يقول: «افعل بطريقة تستطيع معها أن تريد بأن تصبح حكمتك قانوناً كونياً» ويلاحظ يوناس أن مسألة الاستطاعة هنا هي مسألة منطقية تتعلق بمدى عدم تناقض العقل مع ذاته، أي أن الإنسان العاقل عليه أن يأخذ بعين الاعتبار كونه واحداً من الكائنات العاقلة، ولذلك عليه أن يحكم بطريقة يكون فيها حكمه كونياً. وبالتالي، إن الاعتبار الأساسي للأخلاق هنا ليس أخلاقياً بل منطقياً، إذ إن الاستطاعة أو عدم الاستطاعة هنا تعبر عن التواؤم أو عدم التواؤم منطقياً وليس عن موافقة أو عدم موافقة. هذا يعني أن الإنسان يستطيع منطقياً أن يريد أو لا يريد تقرير نهاية البشرية. هذا على صعيد المنطق. ولكن على صعيد الأخلاق يجدر التساؤل: من يعطي الحق لحلقة معينة من السلسلة البشرية أن تقطع هذه السلسلة؟ قد يكون من حق أو من واجب جيل معين أو جماعة معينة أن تضحي بنفسها من أجل قضية ما ولكن لا يحق لها أن تتخذ قراراً بقطع السلسلة البشرية، وذلك لأنها مسؤولة عن المستقبل أكثر مما هي مسؤولة عن الحاضر، وبالتالي إن الأمر القطعي عند يوناس يتحول إلى أخلاق من أجل الأجيال القادمة، ليس بمعنى أننا يجب أن نضع من الآن قواعد أخلاقية تلتزم بها الأجيال القادمة، بل بمعنى أن تكون أخلاقنا الراهنة مسؤولة تجاه أجيال المستقبل. ومن أهم المساهمات التي سلطت الضوء على ضرورة إخضاع الجموح التقني لسلطة وقدرة العقل كانت مساهمة الفيلسوف الفرنسي دومينيك جانيكو Janicaud، الذي كان على معرفة قريبة من هايدغر، من خلال كتابه المنشور عام 1985 تحت عنوان «قدرة العقلاني» La puissance du rationnel حيث قدم نظرة ثاقبة وإنذاراً مبكراً تجاه المخاطر التي يسببها جموح التقنية المتفلتة من سلطة العقل والأخلاق.
بالنسبة إلى جانيكو، إن قدرة العقل تتجاوز وتنظم وتضبط الظاهرة التقنية، ولكن هذه القدرة ليست مباشرة أو ظاهرة بل هي خلفية وتظهر من خلال آليات معينة في جميع ميادين الكينونة. يقول جانيكو حول هذه المسألة: «هناك نقطة أضحت مكتسبة: إن العقل لا يسود مباشرة ولا بالكامل في العالم كما لو أنه ملِك أو ساعة ضخمة أو صورة مؤلّهة من قبل الثورة؛ ولكن ما زال هناك الكثير لحل الأحجية التي يقترحها العالم الراهن على روحٍ ما تزال قادرة على الاندهاش: إن التحول التقني - العلمي الشاسع، الذي يتابع مساره وينمي قدراته ومفاعيله من دون توقف، يتم إنجازه، بمعنى ما، باسم العقلانية؛ وعلى أي حال، إنه يضمن سيطرته على العالم من خلال توسط العديد من الآليات العقلية، النظرية، التقنية والعملية... هكذا نصل بذلك إلى منح العقلاني - على الأقل في هيئاته التقنية - العلمية - مزايا القدرة الفعلية، وذلك لأنه، بحلوله محل الأساطير والطقوس والثقافات التقليدية، يصبح ملاذاً وإشارة أو نموذجاً عن النظام الكوني وحتى عن معنى الحياة. ونتيجة لذلك، فإن الإنسان (فرد، طبقة، أو نوع) يفتخر بكونه وكيله ومن منبعه راح يسكر بملذات السلطة»**. ولكن طالما أن الإنسان ينهل سلطته من ينبوع العقل، ما الذي يدفعه إلى الانتفاض ضد العقلانية المسيطرة سواء كانت عقلانية تقنية أم عقلانية سياسية أو فلسفية؟ نحن هنا أمام «مناقضة: لم يكن العالم أبداً معقلناً بهذا الشكل؛ والعقل لم يكن أبداً بهذا العجز»*** هل نحن أمام عجز العقلاني أم أمام قدرته؟ طالما أننا نتمرد على العقلانية وننتقدها فهذا يعني أن العقل مسيطر، وبالتالي يتمتع بالقدرة الكافية لذلك. وبالمقابل، فإن انتصار الأفكار العدمية والنقدية والتفكيك وعدم ارتياح الإنسان تجاه التكنولوجيا وخوفه من المجهول، فهذا يعني أن العقل عاجز عن تقديم مبرراته.
وإذا عدنا إلى المسألة التقنية بصفتها مسألة عقلانية، نجد أنفسنا نتساءل حول الحدود العقلانية للظاهرة التقنية. هل هي ظاهرة محدودة في الزمان والمكان أم أنها غير محدودة؟ عقلانياً، هي قد تكون محدودة وقد تكون غير محدودة. هذا يتوقف على وظيفتها وعلى مدى انتهاكها لقدرة العقل أولاً وللقانون الأخلاقي الإنساني، ثانياً. وفي هذه المسألة، نجد أنفسنا، أيضاً، أمام مناقضة جديدة تتعلق بالتقنية: «إن مناقضة قدرة العقلاني في عصر القدرة يمكن أن تُصاغ على الشكل التالي: أطروحة: كل ما هو قابل للتنفيذ تقنياً يجب أن يكون متحققاً سواء كان تحقيقه معتبَراً حسناً أخلاقياً أو مداناً. أما الأطروحة النقيضة فهي: لا شيء مما هو قابل للتنفيذ تقنياً يجب أن يكون متحققاً إذا شكّل تحقيقه خطراً على الأهلية الأخلاقية للبشرية أو ألغاها»****
إن الأطروحة الأولى تتعاطى مع التقنية على أنها ظاهرة حيادية ولا تخضع لأي معيار أو تقدير أخلاقي أو لأحكام القيمة الأخلاقية في عملية تحقيق الموضوع التقني. أما نقيض هذه الأطروحة فيقتضي بأن لا تكون أي عملية تقنية مقبولة إذا انتهكت مبدأ الأخلاق ذاته أي الإنسانية في حريتها.
هنا نعود إلى هانز يوناس الذي أخذ على الأمر القطعي الكانطي صوريته ومنطقيته بمعزل عن الحكم الأخلاقي، الذي يمكن أن يؤدي إليه الفعل البشري، فعدله بحيث ربط الحكم على العمل البشري بمدى تأثيره على الإنسانية وعلى مستقبلها فعلياً وليس منطقياً. إن النقاش في هذه المسألة يتعلق بالطبع بمسألة التقنية وبمدى سيطرتها وبكيفية التعامل مع هذه السيطرة مستقبلياً. لقد وضع دومينيك جانيكو ثلاث ملاحظات حول تناول يوناس لهذه المسألة:
في الملاحظة الأولى، يذكر جانيكو الصيغة المعدلة للأمر القطعي بحسب يوناس فيعتبر أنها تتناسب مع الأطروحة النقيضة في المناقضة المذكورة أعلاه. ولكنه يرى أن ظروف الإنسانية في عهد يوناس هي مختلفة عن ظروفها في عصر كانط، إذ لم يكن في ذهن كانط أن الإنسانية سوف تكون مهدَّدة بالفناء. وبالتالي إن يوناس يعدل صيغة مطلقة فينقلها من ظرف إلى ظرف لتصبح محصورة في حالة وحيدة قد تكون مستحيلة وهي فناء البشرية.
وفي الملاحظة الثانية، يعتبر جانيكو أن قانون يوناس لا يتعلق بذات فردية في حياتها اليومية، بل يطال البشرية كبشرية معرّضة لتمدد عدواني من قبل التقنية المتحالفة مع العلم. وفي المناقضة الجديدة تقنية/ أخلاق، إن المكان المخصص للطبيعة لدى كانط أخذته التقنية التي أصبحت عاملاً حاسماً. أما العدو الأكبر للأمر القطعي الأخلاقي فلم يعد اليوم اللذة الطيبة أو الخبث، بل فعالية أو كفاءة البشرية التي خضعت للطابع التقني.
وفي الملاحظة الثالثة، يعتبر جانيكو أنه من وجهة نظر كانطية، قد يمكننا مع ذلك الاعتراض على قانون يوناس كما يلي: إن إعادة صياغة الأمر القطعي تمّت بموجب تعديلات تجريبية في احترام الحياة البشرية. وإن حصر دائرة تطبيق القانون المزعوم على العمليات التي تهدد دوام الحياة البشرية الحقيقية على الأرض يمكن أن يظهر بمثابة آخر خط دفاع للأخلاقية (ولكنه، في الواقع، تنازل وجداني أمام كل الانتهاكات التقنية). فإذا أصبح بسيطاً أمر اعتبار الآخر كوسيلة، ما عدا الحالات التي يعتبر فيها جوهر الإنسان مهدَّداً، ألا يمكن لنا أن نحاول بشكل دائم تمديد حدود المسموح به؟ على سبيل المثال، القرار الذي اتخذه ترومان بقصف هيروشيما وناغازاكي ألا يعتبر متوائماً مع «دوام حياة بشرية حقيقية»؟ وألا ينطبق ذلك عل غرف الغاز الهتلرية؟... إلخ من هذه الناحية، يصبح قانون يوناس، ليس فقط غير مفيد، بل قد يصبح مؤذياً لأنه مصدر إبهام حول ما هو جوهري*****.
ولكن جانيكو يشارك يوناس اهتمامه بمستقبل البشرية شرط ألا يكون هذا المستقبل على حساب الحاضر. هذا يعني أن الحاضر والمستقبل مرتبطان بلعبة قدرة العقل المفتوحة على الممكن المستقبلي. ولكن هل سيبقى هذا الممكن أسيراً لسلطة حلف التقنية والعلم؟ أم أنه سوف يشكل ميدان شراكة تنكسر فيه أحادية هذه السلطة؟ لذلك، إن هذه القدرة المفتوحة على الممكن سوف تنتشر وتترجم في ثلاثة ميادين مقدسة: الأخلاق، والسياسة والشعر. وهذه الميادين الثلاثة هي الأماكن الحساسة في مقاومة عملية التحويل التقني الكامل للمجتمع الإنساني وفي حماية المستقبل البشري على أنه ميدان شراكة وليس أحادية تقنية.
ففي ميدان الأخلاق يبقى الأمر القطعي، في نقاوته، الأطروحة العقلانية الوحيدة الممكنة النقيضة لتوسع القدرة التقنية/ العلمية للعقلاني. وذلك لأن هذا الأمر القطعي الأخلاقي لا شيء فيه يتنازل أمام السلطة أو القدرة أو يدخل في لعبتها. إنه يحفظ بصورة مبدئية نواة عقلانية تعصى على الانقلاب.
أما السياسي (ليس المقصود هنا السياسة اليومية بل السياسة التي تقوم على مواجهة الممكن من قبل الشعب كمسألة حياة أو موت) فهو يشكل ميداناً مقدساً بمعنى أن الشعب يتحمل من خلاله مسؤولية المستقبل. إن القرار السياسي الجوهري هو عقلاني - لاعقلاني؛ إنه يعرف أنه معرّض للانقلاب، وهو بذلك مختلف عن نقاوة الأمر القطعي، وذلك لأنه على علاقة مع السلطة. ولكن، طالما هناك أناس جديرون بهذا الاسم سوف يتغلب شرف الشعب في مواجهة المستقبل ضد خطاب التقنية.
أما الشعر، فهو ذلك البعد الذي يأخذ اللغة والإشارات إلى مداها الأقصى. إنه المعنى المتجاوز للمعنى. إنه قول عما لا يقال، إنه سمع اللامسموع، إنه المستقبل القائم على الاحتياطي الممكن لدى الإنسان. إن الشعر يجتاز التناقضات والانقلابات؛ إنه ذلك الجانب الذي يتجاوز بإفراط، من حيث هو المصدر ومن حيث هو المآل، قدرة العقلاني. إذن هناك اللامعقول؛ ولكن يجب الحفاظ على الشكل الخالص للعقلانية العملية فيما يتعدى كل الانقلابات الخاصة بالعقلانية التقنية. واللا محسوب أيضاً له مكانه، ولكن لا يجب علينا التوقف عن التعداد والحساب. هناك الغامض أو غير المرئي ولكن قول ما هو واضح وما هو مرئي هو مهمة مقدسة أمام انحراف كل المعابد.
ويختم جانيكو كتابه بعبارة لباسكال تقول: «حينها سوف نكون صامدين أو منضبطين جيداً» إذا رأينا الروابط أو العلاقات بين كل الأشياء. إن العقلاني «المنضبط جيداً» لم يعد يملك القوة الوحيدة المسيطرة التي كانت تمنحه إياها مرجعيته الذاتية الميتافيزيقية المطلقة، ولا الفعالية المطلقة المفروضة من خلال نسخته التقنية/ العلمية.
إن قدرة العقلاني، منفصلة إلى مراحل، ومتصدية للانقلاب ومنسوبة إلى الاختلاف الأونطولوجي والمصيري، هي مع ذلك وأكثر من أي وقت مضى، في حالة إمكان لممكن هش ولم نفقد الأمل فيه: إنه مستقبلنا******.
هكذا فإن القدرة التقنية ليست قدراً نهائياً، بل هي مجرد تعبير من تعبيرات العقلانية التي تستطيع احتضان المفارقة داخلها وتفتح دائماً الأبواب للممكن واللامحسوب وبالتالي للحرية. وهنا، لن يعود هنالك أي مبرر للأنظمة الشمولية التي تحكم باسم العقل الشامل سواء كانت أنظمة سياسية أو تقنية أو اقتصادية أو فلسفية... فقدرة العقلاني مفتوحة على المستقبل الممكن وعلى كل احتمالاته وبالتالي على النقد.
من هنا، فإن الموجة العارمة من الانبهار أمام التقنية الحديثة والثورة الصناعية التكنولوجية والتي سادت عصر الحداثة لا بد لها من أن تهدأ وتتأمل ولا تتسرّع في إطلاق الأحكام أو تسلّم تسليماً مطلقاً بما يسمى السلطة التكنوقراطية التي انبثقت من انتصار العلم والتقنية في عصر الحداثة؛ إذ إن هذا التسرع بهذا التسليم بسلطة التقنية مكان السلطات الأخرى ومكان الفاعلين الاجتماعيين سوف يؤدي إلى حركة مضادة للحداثة تنتفض ضد كل ما هو شمولي أو ضد كل ظاهرة تحاول مصادرة الذات الفاعلة والقضاء على دورها في صناعة التاريخ.
* باحث وأستاذ جامعي لبناني
** Dominique JANICAUD، La puissance du rationnel، Editions Gallimard، Paris، 1985. ص. 11 - 12
*** المرجع نفسه، ص 12
**** المرجع نفسه، ص 146
*****راجع المرجع نفسه ص 147 - 148
****** راجع المرجع نفسه ص 376 - 377



غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.