الأخلاق الكانطية بين الأمر القطعي والحرية

الأخلاق الكانطية بين الأمر القطعي والحرية
TT

الأخلاق الكانطية بين الأمر القطعي والحرية

الأخلاق الكانطية بين الأمر القطعي والحرية

أمام ما يشهده عالمنا المعاصر من أزمات وتحديات تهدد مصير الإنسان، لا بد من العودة إلى الفلسفة الأخلاقية التي يمكنها أن تساعد الإنسان المعاصر على فهم شروطه وتخطيها، وبالتالي الخروج من أزماته المتلاحقة على إيقاع التطور الهائل في ميادين العلم والتكنولوجيا. في هذا المقال سوف نستعين بأحد أهم فلاسفة الأخلاق، الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 – 1804)، حيث سنحاول إلقاء الضوء على منعطف أساسي في فلسفته يتمثّل في محاولة إتمام مشروع النقد من خلال الخروج من مأزق العقل النظري الخالص، الذي وجد نفسه عاجزاً أمام موضوعات غير خاضعة للتجربة، مثل الله والنفس والعالم، إلى ميدان التجربة الأخلاقية، بحيث يستعيد العقل دوره فيتحول إلى عقل عملي خالص من خلال تأسيس ميتافيزيقي للأخلاق يؤسس التجربة الأخلاقية على العقل، ويضمن للعقل العملي بذلك موضوعاته التجريبية التي يستمدها من ميدان الأخلاق النظرية.
هذا المنعطف برز من خلال كتابه «أسس ميتافيزيقا الأخلاق»** الذي صدر في العام 1785، أي بعد مرور أربع سنوات على صدور كتابه «نقد العقل الخالص النظري».
في الفصل الأول، أي الانتقال من المعرفة العقلية الشائعة للأخلاق إلى المعرفة الفلسفية، يتناول كانط بالتحليل مسألة الإرادة الخيّرة، معتبراً أنها بصفتها خيّرة تملك قيمة مطلقة. ولكن هذه المسألة تطرح المفارقة التالية: كيف تكون الإرادة خيّرة بشكل مطلق دون أن تكترث للمنفعة التي يمكن للإنسان أن يطمح لها من خلال قيامه بعمل الخير؟
إن حل هذه المفارقة قد يكمن في المقصد الأخلاقي للعقل المتمثل في إنتاج إرادة خيّرة في ذاتها وليس كوسيلة لتحقيق غاية أخرى. وبالتالي، فإن الإرادة الخيّرة تتمثل في أن نقوم بواجبنا انطلاقاً فقط من شعورنا بالواجب. وهذا يفترض ثلاث فرضيات: الفرضية الأولى تكمن في افتراض مفهوم لإرادة حقاً جديرة بالتقدير بذاتها وخيّرة بمعزل عن أي مقصد لاحق. وهذا يتوضح من خلال الإضاءة على مفهوم الواجب الذي يتضمن مفهوم الإرادة الخيّرة. ولكن هل نستطيع التمييز بسهولة بين واجبات تقوم على الواجب لمجرد الواجب وأخرى تقوم على المنفعة؟ أما الفرضية الثانية فتفيد بأن أي عمل يقوم انطلاقاً من الواجب لا يستمد قيمته الأخلاقية من الهدف المطلوب الوصول إليه بل من الحكمة (maxime) التي على أساسها يتصرف؛ هذا يقودنا إلى الفرضية الثالثة المشتقة من الفرضيتين السابقتين والتي صاغها كانط كما يلي «إن الواجب هو ضرورة إنجاز عمل ما احتراماً للقانون» (ص 23). إذاً، إن احترام القانون هو المحرك الوحيد للإرادة الخيّرة. ولكن ماذا يمكن أن يكون عليه هذا القانون؟
علي العمل دائماً بطريقة تمكنني من أن أريد أيضاً أن تصبح حكمتي قانوناً كونياً. إن هذا التطابق مع القانون بشكل عام يصلح إذاً كمبدأ للإرادة.
إذاً، وبكل بساطة، فإن المعرفة العقلية الشائعة تتمتع بمزايا تمكّنها، دون الحاجة إلى علم أو فلسفة، من معرفة ما يجب عمله من أجل أن يصبح الإنسان خيّراً وشريفاً وحتى حكيماً وفاضلاً. وهذا يظهر جلياً من خلال الاحترام الذي يتطلبه العقل تجاه فكرة إمكان أن تكون الحكمة الشخصية قانوناً كونياً. ويفترض كانط أن العمل انطلاقاً من الاحترام الخالص للقانون العملي يؤسس الواجب. مع ذلك، فإن كانط لن يأمن في بساطة الحس المشترك.
هكذا، فإن العقل المشترك يحتاج إلى الفلسفة لحماية الوعي ضد مغالطات «حب الذات».
ولكن الانتقال إلى المعرفة الفلسفية يستلزم انتقالاً من الفلسفة الأخلاقية الشعبية إلى ميتافيزيقا الأخلاق، وهذا سيكون موضوع الفصل الثاني للكتاب، حيث ينطلق كانط من التأكيد على أن مفهوم الواجب ليس تجريبياً؛ إذ إننا نقرّ بأنه ليس ممكناً إيراد مثَال واحد أكيد عن القصد بالسلوك انطلاقاً من الواجب في ذاته.
بالتالي، فإن دراسة فكرة الواجب يجب أن تكون ميتافيزيقية قبلية. ومن هنا ينتقل كانط إلى تعريف الواجب. فهو يعتبر أن كل شيء في الطبيعة يفعل حسب القوانين ولكن الكائن العاقل وحده يمتلك القدرة على العمل حسب تمثّل القوانين، أي حسب مبادئ؛ وبعبارة أخرى، هو الوحيد الذي يمتلك إرادة. وبما أن العقل ضروري لاشتقاق الأعمال من القوانين، وبما أن الكائن العاقل له رغباته وميوله، وبما أن إرادته قد تصطدم بمبادئ موضوعية، فإن تمثّل المبدأ الموضوعي من قِبَل الإرادة يكون بمثابة خضوعٍ واعٍ للأمر الآتي من الواجب. وبالتالي، فإن الأوامر تعبّر عن نفسها من خلال فعل الوجوب. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإرادة الخيّرة بذاتها لا تحتاج إلى أوامر؛ إذ إنها في ذاتها مطابقة للقوانين الموضوعية.
ولكن الأوامر على أنواع، فمنها ما يأمر افتراضياً، ومنها ما يأمر قطعياً.
لصياغة الأمر القطعي يكفي أن نرجع إلى مفهومه البسيط وهو مفهوم الكونية universalité. إذاً هو بسيط وكوني وواحد يمكن صياغته على الشكل التالي: افعل دائماً تبعاً لحكمة تمكّنك من أن تريد لها أن تصبح في الوقت نفسه قانوناً كونياً.
وإذا أردنا أن نأخذ بعين الاعتبار كونية القوانين التي تشكل الطبيعة والواقع الخارجي، فإن الأمر الكوني للواجب يمكن أن يصاغ أيضاً على الشكل التالي: افعل كما لو أن بإرادتك يجب أن تكون حكمة عملك صالحة كقانون كوني للطبيعة. وبالتالي، فإن مختلف واجباتنا تنتج من هذا الأمر كما لو أنه مبدؤها. ويختار كانط بعض الأمثلة عن الواجبات التي يصنفها كواجبات تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين وكواجبات تامة وأخرى ناقصة. ويذكر أربعة أمثلة يحاول من خلالها تبيان نسبية ومحدودية وذاتية الحِكَم التي على أساسها تتم الواجبات تجاه الذات وتجاه الغير، وبالتالي يستنتج ضرورة وإمكانية أن تكون صيغة الأمر الأخلاقي القطعي بمثابة قانون كوني للطبيعة على أساسه يقيس الإنسان أحكامه.
المثال الأول هو مثال الشخص الذي قرّر الانتحار نتيجة لظروف معينة سببت له القرف من الحياة فتكونت لديه الحكمة التالية: لأني أحب نفسي فإني أقترح على ذاتي وضع حد لوجودي في هذه الحياة، وذلك إذا رأيت أن آلامي ستزداد أكثر من أفراحي إذا بقيت حياً. هذا الشخص عليه أن يسأل نفسه ما إذا كان حكمه يصلح لأن يكون قانوناً كونياً للطبيعة. ولكن هل حب الذات يمكن أن يصلح قانوناً كونياً للطبيعة إذا كان سيؤدي إلى تدمير الحياة التي هي مبدأ أساسي من مبادئ الطبيعة؟ بالطبع، فإن طبيعة تقضي على الحياة ستكون متناقضة مع ذاتها، وبالتالي فإن حكمة ذلك الشخص لا تستطيع مطلقاً أن تصبح قانوناً كونياً، وهي بالتالي مناقضة للمبدأ السامي للواجب.
المثال الثاني، هو مثال الشخص الذي وعد برد مال كان قد اقترضه مع علمه المسبق أنه ليس باستطاعته القيام بإيفاء الديْن. هل يقبل هذا الشخص أن يعامله الآخرون بنفس ما عاملهم؟ وهل بعد ذلك يبقى هناك أي نوع من المصداقية لأي وعد من الوعود؟ من الواضح إذاً أن حكمة هذا الشخص لا تصلح لأن تكون قانوناً كونياً للطبيعة.
المثال الثالث، هو مثال الشخص الذي لا يهتم بمواهبه وقدراته الطبيعية ولا ينميها. ولكن هذا الشخص كونه كائناً عاقلاً لا يستطيع أن يريد بأن حكمته هذه تصلح لأن تكون قانوناً كونياً للطبيعة؛ وذلك لأن الكائن العاقل يريد بالضرورة تنمية كل قدراته لأنها مفيدة له وهي أعطيت له من أجل كل الغايات الممكنة.
المثال الرابع، هو مثال الشخص الميسور الذي لا يكترث لرؤية أناس آخرين يمرون في ظروف صعبة مكتفياً بعدم إيذاء الآخرين، ومعتبِراً أنه في ذلك يقوم بما عليه وليس مطلوباً منه التدخل بقضايا الغير. في الواقع، إذا كانت طريقة التفكير هذه بمثابة قانون كوني للطبيعة، فإن الجنس البشري قد يستمر في البقاء ولكن مع ذلك قد يكون من المستحيل أن نمنح هذا المبدأ قيمة قانون طبيعي في كل مكان. ونحن إذا قبلنا بهذه الحكمة، فإننا ننتزع من أنفسنا كل أمل في الحصول على العون الذي قد نريده لأنفسنا.
إن كل هؤلاء الأشخاص عليهم أن يتساءلوا ما إذا كانت حكمة عملهم تصلح لأن تكون قانوناً كونياً للطبيعة.
بعد أن يحلل كانط هذه الأمثلة يلاحظ أن الإنسان بشكل عام؛ كونه عاقلاً، لا يستطيع إلا أن يكون مع القوانين الكونية؛ إلا أنه كونه ينتمي إلى عالم الحس والرغبات، فإنه يسمح لنفسه ببعض الاستثناءات، أي أنه يلجأ إلى مساومة أو تسوية ما، ورغم أن هذه التسوية غير مبررة إذا حكمنا بشكل حيادي، فإنها على الأقل تبين لنا بأننا نعترف حقاً بقيمة الأمر القطعي الأخلاقي.
ولكن الإمرة المطلقة للعقل تفترض غاية في ذاتها. من هنا نأتي إلى الصيغة الثانية للواجب والتي يمكن التعبير عنها كما يلي «افعل كما لو أنك تعامل الإنسانية دائماً في شخصك وفي شخص الآخر في الوقت نفسه على أنها غاية وليس أبداً كمجرد وسيلة». (ص 47) إذاً الإنسان هو غاية في ذاته وليس وسيلة. فإذا تفحصنا الأمثلة الأربعة السابقة الذكر، نجد أن كل الأشخاص الذين تنطبق عليهم لا يقومون بواجباتهم لا تجاه أنفسهم ولا تجاه الآخرين؛ إذ إنهم في جميع الحالات الواردة أعلاه يتعاملون مع الإنسان كوسيلة وليس كغاية في ذاته.
أما الصيغة الثالثة للواجب، فتتمثل في الاستقلالية، حيث إن الإرادة تؤسس القانون الذي تخضع له وهي بذلك تؤسس تشريعاً كونياً. وبالتالي، فإن هذا المبدأ يلائم تماماً الأمر القطعي؛ وذلك لأنه، بسبب فكرة تشريع كوني، لا يقوم على أي منفعة، ولأنه بذلك يكون الوحيد من بين الأوامر الممكنة قادراً أن يكون غير مشروط. إذاً، كانط يسمي مبدأ استقلالية الإرادة ذلك المبدأ الأساسي المتعارض مع كل المبادئ الأخرى المرتبطة بالتبعية.
ويرتبط بهذه الصيغة ما يسميه كانط «مملكة الغايات» التي يقصد بها الاتحاد المطلق لمختلف الكائنات العاقلة استناداً إلى قوانين مشتركة.
وفي مملكة الغايات، كل شيء يمكن أن يكون له ثمن أو يكون له كرامة. أما الشيء الذي له ثمن فيمكن استبداله بشيء آخر كمعادل له. وعلى العكس، فإن ما هو فوق أي ثمن ولا يقبل أي معادل له هو الذي يتمتع بالكرامة. والكرامة تأتي من الالتزام بالواجب وبالأمر الأخلاقي. إذاً، إن الاستقلالية هي مبدأ كرامة الطبيعة الإنسانية وكل طبيعة عاقلة.
وهكذا نجد من خلال هذا التحليل أننا استطعنا أن نستخلص من الصيغة الأصلية للأمر القطعي ثلاث صيغ أخرى تتفق في المعنى؛ إذ إنها جميعها تمتلك صورة ومادة وتحديداً كاملاً: فمن ناحية الصورة فهي تكمن في الكونية (universalité)، حيث تكون صيغة الأمر القطعي كما يلي: يجب اختيار الحِكَم كما لو أن عليها أن تتمتع بقيمة قوانين الطبيعة الكونية. أما من ناحية المادة، فالأمر يتعلق بالغاية وبالتالي الصيغة تقول بأن الكائن العاقل كونه بطبيعته غاية في ذاته عليه أن يفرض على كل حكمة شرطاً يسهم في حصر الغايات النسبية والعشوائية. أما الصيغة التي تعبّر عن التحديد الكامل فيما يتعلق بكل الحِكم فتقول: إن كل الحِكم الآتية من تشريعنا الخاص عليها أن تتفق مع مملكة ممكنة للغايات متصوَّرة كمملكة طبيعية. ويمكن لنا في آخر الأمر أن نوضح أن هذه الصيغ كلها يمكن أن تعود إلى صيغة واحدة فنقول، إن الأمر القطعي هو القانون الكوني لكائنات عاقلة هي غايات بالذات وهذه الكائنات العاقلة هي مشرّعة هذا القانون.
وهذه الصيغ تتدرج بالأمر الأخلاقي القطعي حتى تقرّبه من نفوسنا فتبدأ انطلاقاً من الوحدة وتمر بالكثرة لتصل إلى الكلية المتمثلة بنظام الغايات الذي ندركه بقلوبنا كما بعقولنا. على أن الطريق المثلى التي يجب أن نتبعها حينما نريد أن نصدر حكماً أخلاقياً، هي أن نسترشد بالصيغة الأصلية للأمر القطعي، وهي «اعمل كما لو كنت تريد أن تكون حكمتك قانوناً كونياً للكائنات العاقلة».
ولكن كيف يمكن لفرضية عملية تركيبية قبلية أن تكون ممكنة ولماذا هي ضرورية؟ هذا سؤال لا يجد إجابة له في حدود ميتافيزيقا الأخلاق؛ لذلك وجب الانتقال إلى ميدان العقل العملي الخالص.
وهذا ما يقودنا إلى الفصل الثالث والأخير وموضوعه: الانتقال من ميتافيزيقا الأخلاق إلى نقد العقل الخالص العملي.
وهنا نجد كانط يبحث عما إذا كان الواجب حقيقة مقرَّرة ثم عن إمكان الأمر القطعي بصفة عامة. وهو يحدد المنهج الذي نسير عليه لكي نصل إلى إقرار فكرتي الواجب والأمر القطعي. فبعد أن استخدم منهج التحليل في الفصلين الأول والثاني استطاع تحليل الشعور العام وانتهى إلى فكرة الواجب التي نتج منها فكرة استقلال الإرادة في الحياة الأخلاقية. وها هو الآن يستخدم القياس والجدل لكي يربط النتائج التي توصل إليها بقانون أشمل للحياة الأخلاقية. عندما نقول إن الإنسان قانون نفسه يكون معنى هذا أن إرادة الفرد يجب أن تتطابق مع القانون الكوني للطبيعة، أي الإرادة الكونية. وهنا نجد أن كانط يضع تخطيطاً يلخص فيه فلسفته النقدية وتبريره للأحكام التركيبية الأولية في ميدان الأخلاق، فيبدأ نقده للعقل العملي بالكلام عن فكرة الحرية التي هي وحدها تسمح بقيام الأحكام التركيبية الأولية في الأخلاق.
ويبدأ كانط بتعريف الحرية أولاً بطريقة سلبية فيعتبرها صفة تتعلق بأفعال الإنسان باعتبارها أفعالاً مستقلة عن العلل الطبيعية. أما التعريف الإيجابي للحرية فيتناول ماهيتها معتبراً أنها القوة التي يُصدِر بها الكائن العاقل قانونه بنفسه. وهنا نجد أن علة الحرية تأتيها من ذاتها؛ ذلك أن قانون الحرية لا يمكن أن يضعه سوى الحرية ذاتها بحيث تكون الإرادة الحرة هي الإرادة المستقلة. هكذا، فإن الحرية ليست موضوع حدس حسي، بل هي صفة للكائنات العاقلة.
إذاً، العالم المعقول هو الذي سيوحّد في مرحلة لاحقة من التحليل ما بين الإرادة الحرة والإرادة الخاضعة للقانون الأخلاقي. وبالتالي، فإن الحرية يجب أن تكون مفترضة كخاصية للإرادة التي تتمتع بها كل الكائنات العاقلة؛ إذ لا يكفي أن أنسب الحرية إلى إرادتي، بل يجب أن يكون لدي الحوافز الكافية لأنسبها لكل الكائنات العاقلة الأخرى.
ولكن لماذا الأخلاق وما المنفعة التي ترتبط بالأفكار الأخلاقية وما مصدر إلزامية القانون الأخلاقي؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل تكمن في الخروج من الحلقة المفرغة التالية: نحن نفترض أنفسنا أحراراً ضمن إطار نظام العلل الفاعلة؛ وذلك كي نتصور أنفسنا خاضعين لقوانين أخلاقية في إطار نظام الغايات؛ وبالتالي فنحن ننظر إلى أنفسنا كخاضعين لهذه القوانين لأننا نسبنا إلى أنفسنا حرية الإرادة؛ وبالفعل فإن الحرية والتشريع الخاص للإرادة ينتميان معاً إلى الاستقلالية.
وبما أن هناك الظاهرات من جهة والأشياء في ذاتها من جهة أخرى، يستنتج كانط وجود العالم المعقول من جهة والعالم المحسوس من جهة أخرى؛ ويتوقف موضوع استقلالية الإرادة الحرة على الجهة التي يضع فيها الكائن العاقل نفسه حين يتعلق الأمر بإلزامية القانون الأخلاقي الذي يشرّعه هو نفسه. ويبسّط كانط الأمر كما يلي «إن على أي كائن عاقل، إذاً، أن يعتبر نفسه، بما هو عقل، منتمياً، ليس إلى العالم المحسوس، بل إلى العالم المعقول، وبالتالي فهو لديه وجهتا نظر يمكنه تبعاً لهما أن يعرف نفسه ويعرف قوانين ممارسة قدراته وأعماله: أولاً بصفته جزءاً من العالم المحسوس وخاضعاً لقوانين الطبيعة (تبعية hétéronomie)؛ وثانياً بصفته جزءاً من العالم المعقول وخاضعاً للقوانين المستقلة للطبيعة وغير قائمة على التجربة، بل على العقل فقط... ونحن الآن نرى جيداً بأنه عندما نتصور أنفسنا أحراراً فإننا نضع أنفسنا في عالم معقول باعتبارنا جزءاً من هذا العالم، حيث نتعرف على استقلالية الإرادة مع نتيجتها: الأخلاق؛ وعلى العكس، حين نتصور أنفسنا كمُلزَمين بالواجب فإننا نعتبر أنفسنا في آن واحد كأعضاء في العالم المحسوس وفي العالم المعقول معاً». (ص 69)
هكذا نتجاوز الحلقة المفرغة ونجد مصدر الإلزام الأخلاقي في مفهوم الاستقلالية من جهة وفي الانتماء المزدوج للإنسان إلى العالمين المعقول والمحسوس من جهة أخرى.
وهذا يفتح الباب لطرح السؤال عن إمكانية الأمر القطعي. إن الأمر القطعي يكون ممكناً لأن فكرة الحرية تجعل الكائن العاقل عضواً في العالم المعقول، ولكن بما أنه عضو في العالم المحسوس أيضاً، فإن أعماله تصبح خاضعة للواجب وبالتالي للأمر القطعي.
من كل ذلك يستنتج كانط بأن الواجب الأخلاقي هو إذاً الإرادة الضرورية الخاصة بعضو ينتمي إلى العالم المعقول؛ وهذا بالذات لا يبدو له كواجب إلا إذا اعتبر نفسه في الوقت نفسه عضواً في العالم المحسوس. (ص 72)
إذاً، إن إمكانية الأمر القطعي تتلخص في افتراض ضرورة الحرية وتبيان ضرورة هذا الافتراض.

* باحث وأستاذ جامعي لبناني
**لقد اعتمدنا الترجمة الفرنسية لكتاب كانط وكل
النصوص الواردة في هذه الورقة مأخوذة من هذه النسخة:
Kant، Fondements de la métaphysique des mœurs.Traductions Hatier،
Paris 1974.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.