«الحدث» وفروق التوقيت بين الممكن والمستحيل!

الروبوت «ببر جي بي تي» في مؤتمر ألماني قبل أيام (د.ب.أ)
الروبوت «ببر جي بي تي» في مؤتمر ألماني قبل أيام (د.ب.أ)
TT

«الحدث» وفروق التوقيت بين الممكن والمستحيل!

الروبوت «ببر جي بي تي» في مؤتمر ألماني قبل أيام (د.ب.أ)
الروبوت «ببر جي بي تي» في مؤتمر ألماني قبل أيام (د.ب.أ)

الجدل الراهن حول «الذكاء الصناعي» لا يتعلق بإمكاناته أو آثاره في المستقبل فحسب، ولكن في تعثر «ميلاد منطق جديد» للعقل الإنساني، يستطيع أن يتعامل مع تحديات واقعنا المعاصر وتعقيداته. بمعنى أن المشكلة الحقيقية ليست فقط في مخاطر الذكاء الصناعي، وإنما فشلنا - حتى الآن - في اكتشاف الأسس الفكرية لعالمنا الجديد (داخل أنفسنا).

(1)

في مارس (آذار) الماضي، وقّع كثير من الشخصيات البارزة، منهم إيلون ماسك، على الرسالة المفتوحة الصادرة عن معهد مستقبل الحياة التي تطالب بوقف احترازي لمدة 6 أشهر: تطوير أنظمة الذكاء الصناعي الأكثر قوة.

وفقاً للفيلسوف سلافوي جيجيك، فإن «الذكاء الصناعي، على عكس الابتكارات التكنولوجية السابقة، لا يتعلق بسيادة الإنسان على الطبيعة، بل بالتخلي عن السيطرة تماماً. ذلك أن الفكرة الفوقية القديمة المتمركزة حول الإنسان، التي دعمتها التكنولوجيا، قد تفسح المجال قريباً لانعدام الأهمية البشرية، بل وانعدام معنى الهيمنة ذاته».

الذكاء الصناعي - في تصوري - هو الحلقة الأحدث في سلسلة طويلة من «الأحداث» غير المسبوقة، شملت الطبيعة (المناخ) والإنسان (السياسة) والتكنولوجيا، تطورت بسرعة جعلت «الوعي» بآثارها يبدو كأنه يجيء متثاقلاً (متأخراً في توقيته)، ناهيك بالتنبؤ بالأبعاد اللاحقة.

نخبة قليلة من الفلاسفة والعلماء والأدباء والفنانين في العالم، منهم الشاعر الاستثنائي أدونيس، تنبهت إلى هذه المعضلة مبكراً، وأصدرت بياناً تاريخياً عام 1994 بعنوان «العبر مناهجية»، لخص مضمونه وأهدافه فيلسوف العلم بسراب نيكولسكو بقوله: «أحد جوانب الأزمة الراهنة للمعرفة، أننا ما زلنا نقر ونعمل مفاهيم وقيم أنموذج (قديم) لم يعد صالحاً للتعامل مع قضايا وإشكالات عالمنا المعاصر الذي يتميز بالترابط والتعقيد والتشبيك. إننا نعيش أزمة تنطوي على (مفارقة): التباعد المزداد بين نضج العقلية الإنسانية التي تتعامل مع الواقع ومشكلاته، والكتلة المعرفية المتراكمة التي تطورت (بسرعة) مذهلة في الربع الأخير من القرن العشرين».

تمثل ذلك في مجموعة من الظواهر والأحداث في العقود الأخيرة، لم يستوعبها (أو يتوقع حدوثها أصلاً) منطق العقل التقليدي، حتى صار مفهوم «الحدث» ذاته، أحد أبرز المفاهيم الاستراتيجية، الأكثر تداولاً بين النخب الفكرية.

«الحدث» - حسب آلان باديو - هو «نقطة التحول في العلاقة بين الممكن والمستحيل، وهو كل (بداية خالصة) تحدث ثقباً في نسيج معارفنا الراسخة».

وحلل دانيال سيبوني مفهوم «الحدث» من المنظور النفسي، في 3 أجزاء من كتابه المعنون «أحداث»، بقوله: «الحدث هو الاصطدام الذي يحدث مع الواقع، أو هو هذا اللّقاء الصّادم مع الواقع، إنّ الأحداث التي لا نتعجّب من وقوعها وإنّما من عدم تنبّئنا بوقوعها، تخفي في حقيقة الأمر ميلنا إلى أن نتوقّع حدوث (كلّ شيء)، حتّى لا يحدث (شيء)، فلا يحدث لنا (أيّ شيء)».

(2)

«الحدث» الأبرز الذي كشف عن «فروق التوقيت» بين الإنسان والطبيعة، كان «بركان آيسلندا» في أبريل (نيسان) عام 2010، لأنه أعاد النظر في مجمل الأفكار التي قامت عليها الحداثة الغربية، لا سيما فكرة مركزية الإنسان وسيادته على الطبيعة، أو قل إنه: البركان الذي عمق الهوة بين المنطق التقليدي في التفكير والواقع الجديد في القرن الحادي والعشرين.

أضف إلى ذلك أنه نبه الناس إلى أمر أساسي، يتم تغافله أو تناسيه غالباً، لخصه وقتئذ راي سواريز، كبير مراسلي برنامج «نيوز أور» الإخباري بقوله: «في اللحظة الراهنة، فإن الطبيعة تذكّر البشر بأن الخطط والنظم والجداول ينبغي عليها في بعض الأحيان أن تفسح المجال لكوكب يسير حسب التوقيت الخاص به». سحابة رماد بركان آيسلندا وآثارها على الاقتصاد العالمي، أعادت للأذهان تداعيات الإرهاب في 11 سبتمبر (أيلول). فقد نجم عن إلغاء رحلات الطيران لمدة 5 أيام، خسائر في مجال الصناعة بلغت أكثر من مليار دولار، كما بدأ بعض رجال الصناعة يطالبون بتعويضات من الحكومات الأوروبية ومن الاتحاد الأوروبي، بما يشبه الطريقة التي تم بها تعويض الشركات التجارية بعد توقف حركة الطيران في الولايات المتحدة عام 2001. لكن استجابة الحكومات والمؤسسات وقتئذ لهذا «الحدث» الطبيعي، جاءت مخيبة للتوقعات، مما تسبب في ظهور طائفة من الإشكالات الجديدة لم يتوقف الجدل حولها حتى كتابة هذه السطور، كأن «الحدث» بالمعنى الفلسفي - كما وصفه جاك دريدا - هو ما يفتح الباب أمام أحداث أخرى مقبلة مستقبلاً لا يمكننا توقعها أو التنبؤ بها.

فقد رفضت معظم شركات التأمين على السفر، دفع ملايين الدولارات تعويضاً عن الخسائر، وبررت ذلك بأن هذا «الحدث» كان «قضاء وقدراً»، ويخرج عن السيطرة البشرية، أي أنها تحايلت في تأويل الأساس القانوني الذي يسمح بالمساءلة البشرية. لذا اعتبرت هذه السابقة أول محاولة معاصرة، للتمييز بين الأحداث التي يسببها البشر، وتلك التي لا يسببها البشر بالمعنى القانوني، أو قل: إن فكرة المسؤولية - من الآن فصاعداً - قد تكون موزعة بين البشر وغيرهم (من غير البشر أو الأشياء).

وهو ما أدى إلى مراجعة جذرية لمبدأ «المسؤولية» وعلاقته بمفهوم «العدالة»، كما صاغته الحداثة الغربية، وتعتمده المجتمعات الليبرالية الحديثة التي تقوم أساساً على مبدأ أن «الفرد - الإنسان» وحده يتحمل المسؤولية.

اللافت هنا، أن بعض المؤسسات والهيئات الدولية بدأت بالفعل تتحول شيئاً فشيئاً عن تحمل المسؤولية، وفي بعض الأحيان تتفنن في إنكار فكرة المسؤولية كلياً.

في المقابل، فإن تطبيق المبدأ الليبرالي في مساءلة الفرد، أوشك أن يكون أمراً نسبياً مختلفاً عليه اليوم، وفي بعض الأحيان قد يطبق أو لا يطبق، حسبما اتفق.

فقد تم تطبيق هذا المبدأ حرفياً في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2020، بعد أن دار الجدل في الكواليس حول: من يتحمل مسؤولية الخسائر التي تسبب فيها فيروس «كورونا»، وعلى من نلقي اللوم في مجابهة آثاره وتداعياته الصحية والاقتصادية (والسياسية)، هل الرئيس السابق ترمب وحده؟ أم أنه يمكن أن يتقاسم المسؤولية مع منظمة الصحة العالمية أو الصين؟

(3)

إنجاز الاتفاق السعودي - الإيراني بوساطة صينية في فبراير (شباط) الماضي، «الحدث» الأهم بالمعنى السياسي - الاستراتيجي هذا العام، لأنه شكل «نقطة التحول في العلاقة بين الممكن والمستحيل» في «التوقيت المناسب» لمصالح ورؤى وأهداف الأطراف الثلاثة.

وفي حال استمرار نجاحه وتكريسه، قد يفتح الباب على «أحداث أخرى» مقبلة في المنطقة والعالم، ما يثبت أن السياسة في النهاية اختيارات، وأن هناك بدائل دائماً، غير الصراعات والحروب التي أنهكت الشرق الأوسط.

في كتابها «الحرب: كيف شكلنا الصراع» 2020، خلصت المؤرخة الكندية مارغريت ماكميلان، من تحليلها للحرب العالمية عام 1914 إلى أهم نصيحة لعصرنا، تقول: «إذا أردنا توجيه أصابع الاتهام منذ القرن الحادي والعشرين، فبوسعنا إلقاء اللوم على أولئك الذين أخذوا أوروبا إلى الحرب في أمرين. أولاً، فشل الخيال في عدم التنبؤ بمدى الدمار الذي سيُنتجه مثل هذا الصراع، وثانياً، افتقارهم إلى الشجاعة للوقوف في وجه أولئك الذين جادلوا بأنه لم يعد هناك خيار سوى خوض الحرب. هناك دائماً خيارات». الدهشة (أو الصدمة) التي أعقبت «حدث» الاتفاق السعودي - الإيراني، وانتابت البعض، لا تكشف فقط عن «فروق التوقيت»، أو أن «هناك» من لا يزال مسكوناً بنماذج «قديمة» في التفكير انتهت صلاحيتها في التعامل مع الصراعات، وإنما أثبتت أنه «هنا»، تحديداً في قلب هذه البقعة الساخنة من العالم تنبثق ملامح منطق جديد للعقل، أصبح على استعداد للقيام بأشياء مختلفة، أو التعامل مع النزاعات بشكل مختلف في الألفية الثالثة.

القصة الحقيقية لنجاح الصين في الوساطة بين السعودية وإيران، ليست أهم ما في الموضوع - كما قال أحد الاستراتيجيين الثقات في واشنطن - وإنما فشلنا نحن في الغرب في رؤية هذا النجاح وفهمه «في التوقيت المناسب»!

لعل هذا ما دفع مركز «أتلانتيك كونسيل» في سابقة تحسب له، إلى القول: على الغرب أن يتعلم الدرس الصعب في تعامله مع دول الخليج، خصوصاً السعودية. توصيات المركز لصانعي السياسات في الغرب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في العلاقة مع الخليج هي الأهم - في تصوري - لا سيما تأكيدها ودون مواربة على ضرورة التكيف بشكل عملي مع نفوذ الصين الإقليمي المزداد.

* باحث مصري


مقالات ذات صلة

إيران تكشف عن «باليستي» ومسيّرة انتحارية مع تصاعد التوترات الإقليمية

شؤون إقليمية قائد الوحدة الصاروخية أمير علي حاجي زاده يتحدث إلى بزشكيان خلال مرور شاحنة تحمل صاروخ «عماد» الباليستي خلال عرض عسكري في طهران (أ.ف.ب)

إيران تكشف عن «باليستي» ومسيّرة انتحارية مع تصاعد التوترات الإقليمية

قال الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، إن بلاده ستمضي قدماً في توسع «قوة الردع»، وذلك خلال عرض عسكري سنوي بطهران شمل طائرة انتحارية، وصاروخاً باليستياً جديدين.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)
شؤون إقليمية صورة نشرها إعلام «الحرس الثوري» من جولة تنغسيري بجزيرة أبو موسى اليوم

«الحرس الثوري»: قواتنا في أفضل حالاتها العملياتية بمضيق هرمز

قال قائد «الوحدة البحرية» في «الحرس الثوري»، علي رضا تنغسيري، إن قواته بمضيق هرمز «في أفضل حالاتها العملياتية» في خضم تصاعد التوترات مع إسرائيل.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)
شؤون إقليمية صورة نشرتها وسائل إعلام إيرانية لفرقاطة «سهند» الأحد الماضي قبل أن تغرق بالكامل قبالة ميناء بندر عباس

الفرقاطة الإيرانية «سهند» تغرق بالكامل رغم جهود إعادة توازنها

ذكرت وسائل إعلام إيرانية أن الفرقاطة «سهند» غرقت بالكامل في مياه ضحلة، اليوم الثلاثاء، قبالة مضيق هرمز، بميناء بندر عباس جنوب البلاد.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)
الاقتصاد سفينة تحمل حاويات تمر عبر قناة السويس (الموقع الإلكتروني لقناة السويس المصرية)

الاضطرابات في الممرات البحرية تُلقي بظلالها على أمن الطاقة العالمي

بينما تتجه الأنظار إلى البحر الأحمر للوقوف على حركة التجارة بعد ازدياد الهجمات على السفن العابرة، حذَّر متخصصون من التحديات التي تحيط بالممرات المائية بالمنطقة.

صبري ناجح (القاهرة)
شؤون إقليمية قوارب سريعة تابعة لـ«الحرس الثوري» خلال مناورات في جزيرة أبو موسى أغسطس الماضي (تسنيم)

«الحرس الثوري» يعلن استعراضا لـ«الباسيج البحري في محور المقاومة»

أعلن قائد بحرية «الحرس الثوري» علي رضا تنغسيري عن استعراض لـ«الباسيج البحري» في «دول محور المقاومة» الجمعة المقبل، لافتاً إلى أن قواته ستشارك بـ3 آلاف سفينة.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!