«الحدث» وفروق التوقيت بين الممكن والمستحيل!

الروبوت «ببر جي بي تي» في مؤتمر ألماني قبل أيام (د.ب.أ)
الروبوت «ببر جي بي تي» في مؤتمر ألماني قبل أيام (د.ب.أ)
TT

«الحدث» وفروق التوقيت بين الممكن والمستحيل!

الروبوت «ببر جي بي تي» في مؤتمر ألماني قبل أيام (د.ب.أ)
الروبوت «ببر جي بي تي» في مؤتمر ألماني قبل أيام (د.ب.أ)

الجدل الراهن حول «الذكاء الصناعي» لا يتعلق بإمكاناته أو آثاره في المستقبل فحسب، ولكن في تعثر «ميلاد منطق جديد» للعقل الإنساني، يستطيع أن يتعامل مع تحديات واقعنا المعاصر وتعقيداته. بمعنى أن المشكلة الحقيقية ليست فقط في مخاطر الذكاء الصناعي، وإنما فشلنا - حتى الآن - في اكتشاف الأسس الفكرية لعالمنا الجديد (داخل أنفسنا).

(1)

في مارس (آذار) الماضي، وقّع كثير من الشخصيات البارزة، منهم إيلون ماسك، على الرسالة المفتوحة الصادرة عن معهد مستقبل الحياة التي تطالب بوقف احترازي لمدة 6 أشهر: تطوير أنظمة الذكاء الصناعي الأكثر قوة.

وفقاً للفيلسوف سلافوي جيجيك، فإن «الذكاء الصناعي، على عكس الابتكارات التكنولوجية السابقة، لا يتعلق بسيادة الإنسان على الطبيعة، بل بالتخلي عن السيطرة تماماً. ذلك أن الفكرة الفوقية القديمة المتمركزة حول الإنسان، التي دعمتها التكنولوجيا، قد تفسح المجال قريباً لانعدام الأهمية البشرية، بل وانعدام معنى الهيمنة ذاته».

الذكاء الصناعي - في تصوري - هو الحلقة الأحدث في سلسلة طويلة من «الأحداث» غير المسبوقة، شملت الطبيعة (المناخ) والإنسان (السياسة) والتكنولوجيا، تطورت بسرعة جعلت «الوعي» بآثارها يبدو كأنه يجيء متثاقلاً (متأخراً في توقيته)، ناهيك بالتنبؤ بالأبعاد اللاحقة.

نخبة قليلة من الفلاسفة والعلماء والأدباء والفنانين في العالم، منهم الشاعر الاستثنائي أدونيس، تنبهت إلى هذه المعضلة مبكراً، وأصدرت بياناً تاريخياً عام 1994 بعنوان «العبر مناهجية»، لخص مضمونه وأهدافه فيلسوف العلم بسراب نيكولسكو بقوله: «أحد جوانب الأزمة الراهنة للمعرفة، أننا ما زلنا نقر ونعمل مفاهيم وقيم أنموذج (قديم) لم يعد صالحاً للتعامل مع قضايا وإشكالات عالمنا المعاصر الذي يتميز بالترابط والتعقيد والتشبيك. إننا نعيش أزمة تنطوي على (مفارقة): التباعد المزداد بين نضج العقلية الإنسانية التي تتعامل مع الواقع ومشكلاته، والكتلة المعرفية المتراكمة التي تطورت (بسرعة) مذهلة في الربع الأخير من القرن العشرين».

تمثل ذلك في مجموعة من الظواهر والأحداث في العقود الأخيرة، لم يستوعبها (أو يتوقع حدوثها أصلاً) منطق العقل التقليدي، حتى صار مفهوم «الحدث» ذاته، أحد أبرز المفاهيم الاستراتيجية، الأكثر تداولاً بين النخب الفكرية.

«الحدث» - حسب آلان باديو - هو «نقطة التحول في العلاقة بين الممكن والمستحيل، وهو كل (بداية خالصة) تحدث ثقباً في نسيج معارفنا الراسخة».

وحلل دانيال سيبوني مفهوم «الحدث» من المنظور النفسي، في 3 أجزاء من كتابه المعنون «أحداث»، بقوله: «الحدث هو الاصطدام الذي يحدث مع الواقع، أو هو هذا اللّقاء الصّادم مع الواقع، إنّ الأحداث التي لا نتعجّب من وقوعها وإنّما من عدم تنبّئنا بوقوعها، تخفي في حقيقة الأمر ميلنا إلى أن نتوقّع حدوث (كلّ شيء)، حتّى لا يحدث (شيء)، فلا يحدث لنا (أيّ شيء)».

(2)

«الحدث» الأبرز الذي كشف عن «فروق التوقيت» بين الإنسان والطبيعة، كان «بركان آيسلندا» في أبريل (نيسان) عام 2010، لأنه أعاد النظر في مجمل الأفكار التي قامت عليها الحداثة الغربية، لا سيما فكرة مركزية الإنسان وسيادته على الطبيعة، أو قل إنه: البركان الذي عمق الهوة بين المنطق التقليدي في التفكير والواقع الجديد في القرن الحادي والعشرين.

أضف إلى ذلك أنه نبه الناس إلى أمر أساسي، يتم تغافله أو تناسيه غالباً، لخصه وقتئذ راي سواريز، كبير مراسلي برنامج «نيوز أور» الإخباري بقوله: «في اللحظة الراهنة، فإن الطبيعة تذكّر البشر بأن الخطط والنظم والجداول ينبغي عليها في بعض الأحيان أن تفسح المجال لكوكب يسير حسب التوقيت الخاص به». سحابة رماد بركان آيسلندا وآثارها على الاقتصاد العالمي، أعادت للأذهان تداعيات الإرهاب في 11 سبتمبر (أيلول). فقد نجم عن إلغاء رحلات الطيران لمدة 5 أيام، خسائر في مجال الصناعة بلغت أكثر من مليار دولار، كما بدأ بعض رجال الصناعة يطالبون بتعويضات من الحكومات الأوروبية ومن الاتحاد الأوروبي، بما يشبه الطريقة التي تم بها تعويض الشركات التجارية بعد توقف حركة الطيران في الولايات المتحدة عام 2001. لكن استجابة الحكومات والمؤسسات وقتئذ لهذا «الحدث» الطبيعي، جاءت مخيبة للتوقعات، مما تسبب في ظهور طائفة من الإشكالات الجديدة لم يتوقف الجدل حولها حتى كتابة هذه السطور، كأن «الحدث» بالمعنى الفلسفي - كما وصفه جاك دريدا - هو ما يفتح الباب أمام أحداث أخرى مقبلة مستقبلاً لا يمكننا توقعها أو التنبؤ بها.

فقد رفضت معظم شركات التأمين على السفر، دفع ملايين الدولارات تعويضاً عن الخسائر، وبررت ذلك بأن هذا «الحدث» كان «قضاء وقدراً»، ويخرج عن السيطرة البشرية، أي أنها تحايلت في تأويل الأساس القانوني الذي يسمح بالمساءلة البشرية. لذا اعتبرت هذه السابقة أول محاولة معاصرة، للتمييز بين الأحداث التي يسببها البشر، وتلك التي لا يسببها البشر بالمعنى القانوني، أو قل: إن فكرة المسؤولية - من الآن فصاعداً - قد تكون موزعة بين البشر وغيرهم (من غير البشر أو الأشياء).

وهو ما أدى إلى مراجعة جذرية لمبدأ «المسؤولية» وعلاقته بمفهوم «العدالة»، كما صاغته الحداثة الغربية، وتعتمده المجتمعات الليبرالية الحديثة التي تقوم أساساً على مبدأ أن «الفرد - الإنسان» وحده يتحمل المسؤولية.

اللافت هنا، أن بعض المؤسسات والهيئات الدولية بدأت بالفعل تتحول شيئاً فشيئاً عن تحمل المسؤولية، وفي بعض الأحيان تتفنن في إنكار فكرة المسؤولية كلياً.

في المقابل، فإن تطبيق المبدأ الليبرالي في مساءلة الفرد، أوشك أن يكون أمراً نسبياً مختلفاً عليه اليوم، وفي بعض الأحيان قد يطبق أو لا يطبق، حسبما اتفق.

فقد تم تطبيق هذا المبدأ حرفياً في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2020، بعد أن دار الجدل في الكواليس حول: من يتحمل مسؤولية الخسائر التي تسبب فيها فيروس «كورونا»، وعلى من نلقي اللوم في مجابهة آثاره وتداعياته الصحية والاقتصادية (والسياسية)، هل الرئيس السابق ترمب وحده؟ أم أنه يمكن أن يتقاسم المسؤولية مع منظمة الصحة العالمية أو الصين؟

(3)

إنجاز الاتفاق السعودي - الإيراني بوساطة صينية في فبراير (شباط) الماضي، «الحدث» الأهم بالمعنى السياسي - الاستراتيجي هذا العام، لأنه شكل «نقطة التحول في العلاقة بين الممكن والمستحيل» في «التوقيت المناسب» لمصالح ورؤى وأهداف الأطراف الثلاثة.

وفي حال استمرار نجاحه وتكريسه، قد يفتح الباب على «أحداث أخرى» مقبلة في المنطقة والعالم، ما يثبت أن السياسة في النهاية اختيارات، وأن هناك بدائل دائماً، غير الصراعات والحروب التي أنهكت الشرق الأوسط.

في كتابها «الحرب: كيف شكلنا الصراع» 2020، خلصت المؤرخة الكندية مارغريت ماكميلان، من تحليلها للحرب العالمية عام 1914 إلى أهم نصيحة لعصرنا، تقول: «إذا أردنا توجيه أصابع الاتهام منذ القرن الحادي والعشرين، فبوسعنا إلقاء اللوم على أولئك الذين أخذوا أوروبا إلى الحرب في أمرين. أولاً، فشل الخيال في عدم التنبؤ بمدى الدمار الذي سيُنتجه مثل هذا الصراع، وثانياً، افتقارهم إلى الشجاعة للوقوف في وجه أولئك الذين جادلوا بأنه لم يعد هناك خيار سوى خوض الحرب. هناك دائماً خيارات». الدهشة (أو الصدمة) التي أعقبت «حدث» الاتفاق السعودي - الإيراني، وانتابت البعض، لا تكشف فقط عن «فروق التوقيت»، أو أن «هناك» من لا يزال مسكوناً بنماذج «قديمة» في التفكير انتهت صلاحيتها في التعامل مع الصراعات، وإنما أثبتت أنه «هنا»، تحديداً في قلب هذه البقعة الساخنة من العالم تنبثق ملامح منطق جديد للعقل، أصبح على استعداد للقيام بأشياء مختلفة، أو التعامل مع النزاعات بشكل مختلف في الألفية الثالثة.

القصة الحقيقية لنجاح الصين في الوساطة بين السعودية وإيران، ليست أهم ما في الموضوع - كما قال أحد الاستراتيجيين الثقات في واشنطن - وإنما فشلنا نحن في الغرب في رؤية هذا النجاح وفهمه «في التوقيت المناسب»!

لعل هذا ما دفع مركز «أتلانتيك كونسيل» في سابقة تحسب له، إلى القول: على الغرب أن يتعلم الدرس الصعب في تعامله مع دول الخليج، خصوصاً السعودية. توصيات المركز لصانعي السياسات في الغرب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في العلاقة مع الخليج هي الأهم - في تصوري - لا سيما تأكيدها ودون مواربة على ضرورة التكيف بشكل عملي مع نفوذ الصين الإقليمي المزداد.

* باحث مصري


مقالات ذات صلة

إيران تكشف عن «باليستي» ومسيّرة انتحارية مع تصاعد التوترات الإقليمية

شؤون إقليمية قائد الوحدة الصاروخية أمير علي حاجي زاده يتحدث إلى بزشكيان خلال مرور شاحنة تحمل صاروخ «عماد» الباليستي خلال عرض عسكري في طهران (أ.ف.ب)

إيران تكشف عن «باليستي» ومسيّرة انتحارية مع تصاعد التوترات الإقليمية

قال الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، إن بلاده ستمضي قدماً في توسع «قوة الردع»، وذلك خلال عرض عسكري سنوي بطهران شمل طائرة انتحارية، وصاروخاً باليستياً جديدين.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)
شؤون إقليمية صورة نشرها إعلام «الحرس الثوري» من جولة تنغسيري بجزيرة أبو موسى اليوم

«الحرس الثوري»: قواتنا في أفضل حالاتها العملياتية بمضيق هرمز

قال قائد «الوحدة البحرية» في «الحرس الثوري»، علي رضا تنغسيري، إن قواته بمضيق هرمز «في أفضل حالاتها العملياتية» في خضم تصاعد التوترات مع إسرائيل.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)
شؤون إقليمية صورة نشرتها وسائل إعلام إيرانية لفرقاطة «سهند» الأحد الماضي قبل أن تغرق بالكامل قبالة ميناء بندر عباس

الفرقاطة الإيرانية «سهند» تغرق بالكامل رغم جهود إعادة توازنها

ذكرت وسائل إعلام إيرانية أن الفرقاطة «سهند» غرقت بالكامل في مياه ضحلة، اليوم الثلاثاء، قبالة مضيق هرمز، بميناء بندر عباس جنوب البلاد.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)
الاقتصاد سفينة تحمل حاويات تمر عبر قناة السويس (الموقع الإلكتروني لقناة السويس المصرية)

الاضطرابات في الممرات البحرية تُلقي بظلالها على أمن الطاقة العالمي

بينما تتجه الأنظار إلى البحر الأحمر للوقوف على حركة التجارة بعد ازدياد الهجمات على السفن العابرة، حذَّر متخصصون من التحديات التي تحيط بالممرات المائية بالمنطقة.

صبري ناجح (القاهرة)
شؤون إقليمية قوارب سريعة تابعة لـ«الحرس الثوري» خلال مناورات في جزيرة أبو موسى أغسطس الماضي (تسنيم)

«الحرس الثوري» يعلن استعراضا لـ«الباسيج البحري في محور المقاومة»

أعلن قائد بحرية «الحرس الثوري» علي رضا تنغسيري عن استعراض لـ«الباسيج البحري» في «دول محور المقاومة» الجمعة المقبل، لافتاً إلى أن قواته ستشارك بـ3 آلاف سفينة.

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)

ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

TT

ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)
معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، الساعة 8:46 صباحاً بتوقيت واشنطن، تصاعدت ألسنة اللهب وراء دخان طائرتين اصطدمتا ببرجي مركز التجارة العالمي. مشاهد صادمة طُبعت في أذهان الأميركيين والعالم إلى الأبد، ورغم أنها الأقوى والأكثر تداولاً، فإن الهجمات لم تقتصر عليها، بل تعدتها لتشمل مقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) التي دُمِّر جزء منه بعد سقوط طائرة من الطائرات الأربع في ساحته، فيما فشلت الطائرة الرابعة في الوصول إلى هدفها المزعوم: مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن، فتحطمت بركابها والخاطفين في حقل في ولاية بنسلفانيا.

صور الاعتداءات هذه حفرت جروحاً لم تندمل في المجتمع الأميركي بعد 23 عاماً من ذكراها، وولّدت حرباً مستعرة «ضد الإرهاب» شنتها الإدارات المتعاقبة في العراق وأفغانستان، في سلسلة من القرارات السياسية والخطوات العسكرية التي هدفت إلى تجنب تكرار حوادث مشابهة ومحاسبة المنفذين والمخططين، لكنها أيضاً تجاهلت القوانين الدولية والأعراف الأميركية، ليكون الرمز الأبرز لهذه الممارسات «معتقل غوانتنامو» في كوبا.

اليوم وفي الذكرى الـ23 للهجمات، لا يزال المعتقل مفتوحاً رغم كل الوعود والتعهدات بإغلاقه لطي صفحة لطخت سمعة أميركا في العالم، وساعدت أعداءها في تجنيد عناصر لمهاجمتها.

ومع انسحاب إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن من أفغانستان، واستعداداتها الجارية للانسحاب من العراق (وتمت جدولته لعام 2026) تبقى الآمال معلقة على وعود إغلاق هذه القاعدة العسكرية الموجودة في كوبا والتي استقبلت أول الوافدين العشرين إليها بعد اعتداءات سبتمبر، في 11 يناير (كانون الثاني) 2002 في عهد جورج بوش الابن. ثم وصل عدد المعتقلين إلى قرابة 800 في الأعوام الماضية، قبل أن يتم نقل عدد كبير منهم ويبقى منهم اليوم نحو 30 معتقلاً.

هجمات 11 سبتمبر 2001 في أميركا (رويترز - أرشيفية)

غوانتنامو بين بايدن، وأوباما وترمب

سعت إدارة بايدن جاهدة لتنفيذ وعودها بإغلاق غوانتنامو ونقل المعتقلين، وكانت باشرت في عملية النقل الأولى في 19 يوليو (تموز) 2021، وسعت لاستكمال هذه العملية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إذ أفادت تقارير صحافية عن خطتها لنقل 11 معتقلاً لسلطنة عمان. وقد أبلغت الكونغرس نيتها الإقدام على هذه الخطوة قبل 30 يوماً من موعد التنفيذ بحسب القانون الأميركي، لكن هجوم 7 من أكتوبر الماضي عرقل المساعي بعدما حذّر أعضاء الكونغرس من المضي قدماً خوفاً من تدهور الوضع في الشرق الأوسط.

وتسلّط هذه الخطوات الضوء على التحديات الضخمة بوجه قرار الإغلاق وتنفيذه وهذا ما يتحدث عنه آدم كليمينتس مدير الاستراتيجية والسياسة السابق لقطر والكويت في وزارة الدفاع الأميركية والمستشار العسكري السابق في هيئة الأركان المشتركة لليمن والسعودية والأردن وعمان، فيقول لـ«الشرق الأوسط» إنه «من الصعب على إدارة بايدن اتخاذ خطوة من هذا النوع في عام انتخابي لأن خصومه السياسيين سيعثرون على طريقة لاستعمال هذا القرار ضده وضد الديمقراطيين». ويخص كلمينتس بالذكر أفغانستان وانتقادات الجمهوريين المتزايدة لما يصفونه بـ«الانسحاب الكارثي» فيقول: «رغم أن إدارات بوش الابن وأوباما وترمب وبايدن تتحمل مسؤولية مشتركة لفشل السياسة الأميركية في أفغانستان، فإن الجمهوريين يسعون لربط الانسحاب الأميركي من أفغانستان بصفته فشل في سياسة بايدن الخارجية، بأي قرار حول غوانتنامو».

من ناحيته، يشير الكولونيل عباس داهوك المستشار العسكري السابق لوزارة الخارجية إلى تحديات سياسية وقانونية وأمنية حالت دون إغلاق غوانتنامو فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «معظم الأدلة ضد المعتقلين يعتمد على معلومات استخباراتية سرية، مما يعقد استخدامها في محاكمات علنية من دون المخاطرة بالكشف عن معلومات حساسة تصعّب بدورها عقد محاكمات عادلة». ولا تتوقف التحديات عند هذا الحد، بل تشمل، بحسب داهوك، التعاون والتنسيق بين مختلف الوكالات الأميركية بما فيها وزارات الدفاع والعدل والخارجية، مضيفاً: «هذه التعقيدات البيروقراطية تعرقل الإغلاق».

وخيمت هذه التعقيدات على مساعي إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما أيضاً في إغلاق المعتقل، فمع تعالي الأصوات المنتقدة للممارسات الأميركية فيه، وصدور تقارير كثيرة كشفت أساليب تعذيب مبتكرة تخرق اتفاقيات معاملة الأسرى، وصلت إلى حد وصف منظمة العفو العالمية لغوانتنامو بأنه «رمز التعذيب ونقل المعتقلين بطريقة غير شرعية، والاحتجاز إلى أجل غير مسمى من دون تهمة أو محاكمة»، سعت إدارة أوباما إلى وضع خطة لإغلاقه. فأصدر الرئيس الديمقراطي السابق قراراً في 22 يناير 2009 بإغلاق كل العمليات في غوانتنامو خلال عام واحد وتعليق جلسات المحاكمة، كما أمر بتأسيس فريق عمل لمراجعة وضع بقية المعتقلين الذين وصل عددهم حينها إلى نحو 240 رجلاً.

لكن العرقلة جاءت أيضاً من الداخل الأميركي وتحديداً من الكونغرس الذي رفض جهود الإغلاق، ليأتي الرئيس الأميركي دونالد ترمب ويوقع أمراً تنفيذياً في يناير من عام 2018 لإبقاء المعتقل مفتوحاً و«إرسال المزيد من الإرهابيين إليه».

سمعة ملطخة و«رمز للنفاق»

على مدار السنوات وتبدل الإدارات، لم تقف العرقلات بوجه تحركات الداعين لإغلاق غوانتنامو ومنهم «مركز الحقوق الدستورية» المعني بالدفاع عن المعتقلين. وتقول كبيرة المحامين الإداريين في المركز شاين كاديدال لـ«الشرق الأوسط»: «لقد حان الوقت لإغلاق غوانتنامو وإنهاء الاحتجاز إلى ما لا نهاية من دون تهمة أو محاكمة» وتتابع مذكرة بتصريح الجنرال الأميركي أنطونيو تابوغا الذي أعد تقريراً داخلياً يفصل الانتهاكات في سجن أبو غريب قائلة: «إن السجن أضر بصورة الولايات المتحدة لأسباب تستحقها، وهو مستمر بهذا الضرر، وأذكر تصريح الجنرال تابوغا للكونغرس حين قال إن السببين وراء مقتل الأميركيين في ساحة المعركة في أفغانستان والعراق هما أبو غريب وغوانتنامو فقد تم استعمالهما كأدوات تجنيد لأعداء الولايات المتحدة».

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

وبالفعل يوافق كل من كلمينتس وداهوك مع هذه المقاربة، فيشير الأول إلى وجود الكثير من الإخفاقات السياسية الأميركية المتعلقة بالعراق وأفغانستان مضيفاً: «نعم إن فكرة انتهاك حقوق الإنسان أو انتهاكات الكرامة الإنسانية تؤثر على سمعة الولايات المتحدة في الخارج، وهذه النظرة، حتى لو كانت شرعية تقنياً ضمن القوانين الدولية والأميركية، فإنها قد توفر مادة (بروباغندا) للمجموعات المتشددة».

ويقدم داهوك تقييماً مماثلاً فيقول: «قد يكون غوانتنامو قدم حلولاً قصيرة الأمد للأمن القومي الأميركي من خلال اعتقال أشخاص خطرين وتجنب تهديدات فورية، لكنه أصبح رمزاً للنفاق في السياسة الخارجية. وهذا يؤثر سلباً على جهود القيادة بالمثل في حقوق الإنسان ويعقد من التعاون مع شركاء أساسيين في الحرب ضد الإرهاب. كما أن غوانتنامو أضرَّ الأمن القومي الأميركي من خلال تغذية التشدد وإيذاء التحالفات المهمة مع الشركاء».

تكاليف باهظة وصفقات سرية

بالإضافة إلى تشويه سمعة الولايات المتحدة، يشير كثيرون إلى أن إغلاق غوانتنامو ضروري بسبب تكاليفه الباهظة. فبحسب مبادرة «ذي بريدج» وهي مشروع أبحاث عن الإسلاموفوبيا في جامعة جورج تاون الأميركية، تخطت تكلفة المعتقل 6 مليارات دولار منذ عام 2002 ووصلت تكلفة احتجاز كل فرد إلى 13 مليون دولار، مما يجعل المعتقل «أكثر برامج الاحتجاز تكلفة في العالم». وفي معرض المقارنة، فإن السجين الواحد في سجن كولورادو الفيدرالي بتصنيف «سوبرماكس»، أي الشديد الحراسة كلف دافع الضرائب الأميركي 78 ألف دولار في عام 2012.

اليوم ومن ضمن المعتقلين الثلاثين الموجودين في غوانتنامو، هناك 3 معتقلين «إلى ما لا نهاية» بموجب قانون الحرب، من دون توصيات بنقلهم، وهم: زين العابدين محمد حسين- أبو زبيدة (فلسطيني) ومصطفى فرج مسعود الجديد محمد (ليبي) ومحمد رحيم (أفغاني).

وهناك 16 معتقلاً تمت التوصية بنقلهم بحسب قوانين الحرب «في حال الإيفاء بالشروط الأمنية» ومعظمهم من اليمن. أما البقية، وهم 11 فقد تم توجيه اتهامات لهم بارتكاب جرائم حرب في المحاكم العسكرية، وينتظر 7 منهم المحاكمة فيما تمت إدانة أربعة.

لا لعقوبة الإعدام

هنا يكمن تحدٍ من نوع آخر، ففي نهاية يوليو من العام الحالي، أعلن البنتاغون إن المسؤول المشرف على اللجان العسكرية توصل إلى اتفاق قضائي مع ثلاثة من المعتقلين المتهمين بالتخطيط لهجمات 11 سبتمبر هم خالد شيخ محمد ووليد محمد صالح مبارك بن عطاش، ومصطفى أحمد آدم الهوساوي، مفاده الاعتراف بالذنب مقابل موافقة الادعاء على عدم المطالبة بعقوبة الإعدام. وتفسر كاديدال لـ«الشرق الأوسط» خلفيات الاتفاق فتقول: «الادعاء يريد الاتفاق لأنه يعلم أن عقوبة الإعدام لن تنفذ. ليس لان الأدلة ملطخة بالتعذيب، بل لأن نظام المحاكمات العسكرية ليس مؤهلاً بما يكفي للمضي قدماً بقضايا معقدة لهذه الدرجة، وعندما تنتهي المحاكمة وعمليات الاستئناف سيكون المتهمون إما في السبعينات من عمرهم أو قد ماتوا لأسباب طبيعية».

خالد شيخ محمد العقل المدبر لـ«هجمات سبتمبر» الإرهابية (نيويورك تايمز)

ويوافق داهوك مع كاديدال على تقييم المحاكمات العسكرية فيصفها بالبطيئة وغير الفعالة، مع وجود بعض القضايا التي استمرت لأكثر من عقد.

لكن هذه الحجج لم تقنع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي عمد إلى اتخاذ خطوة غير اعتيادية وتدخل في الإجراءات معلناً نقضه للاتفاق قائلاً إنه «لطالما اعتقدت بأن عائلات الضحايا والقوات الأميركية والشعب الأميركي يستحق الفرصة بأن يرى المحاكم العسكرية تتخذ مجراها في هذه القضية.» إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، فمن غير المؤكد أن أوستن لديه الصلاحية الكافية لنقض قرار من هذا النوع، لهذا فقد عمد القاضي العسكري في قضية الاعتداءات الكولونيل ماثيو مكول إلى السماح للمحامين بالتحقيق فيما إذا كان قرار أوستن ضمن الأعراف والقوانين المعتمدة على أن يتم النظر فيها في الجولة المقبلة من جلسات الاستماع التي ستبدأ في 16 من الشهر الحالي. وعن هذا تقول كاديدال: «أعتقد أن محاولة وزير الدفاع لنقض قرار تم البت فيه سوف تفشل قانونياً، وسوف يتم المضي قدماً بالاتفاق. وهذا أمر جيد، لأن الاتفاق هذا هو الفرصة الوحيد لآلاف العائلات للحصول على نوع من الخاتمة العاطفية، كما أنه قد يولد بعض الأجوبة من المتهمين على أسئلة كثيرة».

وبانتظار المزيد من الوضوح لتبيان تفاصيل المرحلة المقبلة، يدق الديمقراطيون ناقوس الخطر محذرين من أن وصول ترمب إلى البيت الأبيض مجدداً من شأنه أن يعيد الزمان إلى الوراء ويحيي المعتقل، لكن مواقف ترمب غير ثابتة في هذا الخصوص، فبعد أن تعهد بعدم إغلاق غوانتنامو في عام 2018 تحدث عن تكلفته الباهظة في عام 2019 قائلاً: «هذا جنون، إدارة غوانتنامو تكلف ثروة».

أما أغرب تصريح لترمب حول الملف، فهو ما ذكره صحافيا «واشنطن بوست» ياسمين أبو طالب وداميان باليتا في كتاب لهما صدر مؤخراً، ويقول فيه ترمب إنه أراد حجر المصابين بـ«كورونا» في غوانتنامو... فماذا ستكون خطته إذا ما فاز؟