فينومينولوجيا العقل اللبناني

مبنى في بيروت لا يزال يحمل آثار الحرب التي اندلعت في 13 أبريل 1975 (أ.ف.ب)
مبنى في بيروت لا يزال يحمل آثار الحرب التي اندلعت في 13 أبريل 1975 (أ.ف.ب)
TT

فينومينولوجيا العقل اللبناني

مبنى في بيروت لا يزال يحمل آثار الحرب التي اندلعت في 13 أبريل 1975 (أ.ف.ب)
مبنى في بيروت لا يزال يحمل آثار الحرب التي اندلعت في 13 أبريل 1975 (أ.ف.ب)

في البداية، لا بد من تبرير عنوان هذا المقال المكثف. في الواقع، إن لبنان منذ نشأته ككيان وكدولة وكوطن عانى وما زال يعاني من أزمات وحروب أهلية وتدخلات أجنبية وأخوية ومن اعتداءات إسرائيلية. أضف إلى ذلك، أن تركيبة المجتمع اللبناني التعددية القائمة على العديد من الطوائف والمذاهب الدينية ساهمت في تأجيج الأزمات وفي استدراج التدخلات الخارجية من أجل فرض موازين القوى التي تخدم مصالح الأقوى في المعادلات الإقليمية والدولية، وما نشهده في هذه المرحلة من تأزم في موضوع انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية هو أوضح دليل على ما ذكرناه.
وانطلاقاً من هذا الإطار البنيوي سوف نرصد ما يمكن تسميته بالعقل اللبناني الذي وُلد وترعرع في ظل الصيغة الطائفية والمذهبية والتعددية والمتفاعلة مع العوامل الخارجية. ولكي نفهم ما يجري في هذا البلد الصغير بحجمه والكبير بأزماته وبتأثيره على محيطه، سوف نلجأ إلى المنهج الفينومينولوجي (الظاهراتي) لرصد العقل اللبناني ومفارقاته. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن المنهج الفينومينولوجي يعود بشكل أساسي إلى الفيلسوف الألماني إدمون هوسرل (1859-1938). هذا المنهج يقوم على رصد الظاهرة من خلال العودة إلى الأشياء ذاتها من دون إسقاط أي أفكار مسبقة عليها، كما يقوم على مفهوم القصدية؛ بمعنى أن الوعي يقصد الظاهرة كما هي أو كما تظهر له؛ إذ إنه يعتبر أن كل وعي هو وعي لشيء ما. بالنسبة إلى هوسرل، فإن الكينونة هي ما يظهر أمام وعينا؛ إذ إنه بعكس كانط لا يؤمن بأن هناك أشياء في ذاتها غير قابلة للانكشاف أمام العقل.
إذن، بواسطة المنهج الفينومينولوجي سوف نحاول رصد العقل اللبناني من خلال مفارقاته وظهوراته في التجربة اللبنانية المتحركة باستمرار. ولكن ما المقصود بالعقل اللبناني؟ المقصود هنا بالعقل اللبناني تلك البنية التي تتضمن المبادئ الأساسية والقيم والأفكار السائدة والعادات والتقاليد والموروثات الثقافية والدينية التي تحكم العلاقات فيما بين المواطنين اللبنانيين الذين اختاروا أن يخضعوا لها بكامل حريتهم. إذن، فإن اللبنانيين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم ومواقعهم وإثنياتهم ارتضوا أن يعيشوا معاً، وأن يخضعوا للقوانين اللبنانية وللدولة اللبنانية ودستورها. هذا من حيث المبدأ، ولكن حين نخرج إلى الواقع والممارسة والعيش معاً تبدأ المفارقات بالبروز وبالتأثير في خلق الأزمات وصولاً إلى الحرب الأهلية، وإلى استدراج الأطراف الخارجية للاستقواء على الشريك الداخلي. وإذا نظرنا إلى المواطن اللبناني نظرة فينومينولوجية نجد أن العقل الذي يوجهه يتميز بمفارقات واضحة، أهمها ازدواجية الولاء والانتماء من خلال أولوية الانتماء إلى الطائفة والمذهب، أو إلى العشيرة، أو إلى الأمة العربية، أو إلى الأمة الأوروبية وغيرها. أضف إلى ذلك ظاهرة تعدد الجنسيات الأجنبية؛ إذ يتباهى اللبنانيون بالحصول على جنسيات أجنبية. هذا الوضع سوف يؤدي حتماً إلى تعدد الثقافات المرجعية التي من المفترض أن تؤسس الأوطان. وأهم مفارقة تكمن في ظاهرة لافتة تتمثل في انتماء المسؤولين الرسميين في الدولة إلى جنسيات أجنبية. أمام هذا الواقع الذي يعيشه اللبنانيون سوف يجدون أنفسهم واقعين ومتخبطين في أزمات ومـآزق لا يمكن تجاوزها إلا من خلال التسويات والمساومات التي تعيش لفترة، ثم تتجدد الأزمة ويتم الانتقال إلى تسوية أخرى أكثر كلفة على المجتمع وعلى الاقتصاد. من هذه الزاوية أيضاً يمكننا اعتبار أن العقل اللبناني محكوم بالتسويات نتيجة المفارقات التي تحكمه بنيوياً وتاريخياً. من هنا، فإن كينونة لبنان تلازمت مع كينونة التسوية، فبقدر ما تكون التسوية حيّة ومتجدّدة؛ أي بقدر ما تشكّل ظاهرة، بقدر ما يكون لبنان محافظاً على حياته وهويته النظريّة على الأقل.
انطلاقاً من ذلك، فإن العقلية اللبنانية التي تأسست على اعتبار لبنان ذا الهويّة الواحدة لعناصره المختلفة والمتنوعة الحاصلة نتيجة لتسوية ومساومات محكومة بأن تبقى حيّة، هذه العقليّة محكومة أيضاً بأن تكون تسووية ومساومة. وكل فكر يترعرع ضمن هذه البنية ومؤمن بلبنان كوطن نهائي، هو فكر محكوم بأن يكون مساوماً؛ لأن للمساومة مكانة أنطولوجيّة في تحديده كفكر لبناني. وبالفعل، فإن هذه المكانة الأنطولوجيّة للتسوية تنعكس على جميع ميادين الفكر اللبناني. فإذا أجرينا رصداً فينومينولوجيّاً لنشاط الفكر في لبنان نلاحظ أن ظاهرة التسوية تعبره من أبسط مستوياته إلى أعقدها. في الفكر التجاري والاقتصادي تظهر المساومات بوضوح، وخصوصاً حين يتعلّق الأمر بالقوانين التي تحاول تنظيم وتوجيه أو تقييد الاقتصاد الحر. وفي الفكر السياسي تظهر المساومة من خلال التنظير لأشكال غريبة في أسلوب ممارسة الحكم يتميّز بها لبنان من دون سواه من الكيانات والدول. وفي الفكر الدستوري تظهر المساومة من خلال اللَّف والدوران حول الدستور، ومن خلال تشريع القوانين الاعتباطيّة والموسميّة والظَّرفيَّة لخدمة حالات خاصَّة. وفي الفكر الديني نرى المساومة والتسويات بين المذاهب المتعدِّدة تغطّي بساطة الدِّين وتغلِّفه بطبقات من التفسيرات والاجتهادات والتأويلات التي تكيِّفه حسب الطلب وحسب الظروف السياسيّة والاجتماعية والاقتصاديّة. وتظهر المساومة والتسوية في الموقف من لبنان: هل هو وطن نهائي؟ فإذا كان كذلك، فإن أصحاب الفكر الديني المؤمنين بمذاهب مختلفة يجدون أنفسهم أمام خيارات صعبة تلزمهم بالتسوية مع الآخرين من أجل فكرة الوطن والمصالح العامة. وفي الفكر الاجتماعي، يرى اللبناني نفسه أمام تنظير يحاول تبرير الفوارق الاجتماعية بين منطقة وأخرى، وبين طائفة وأخرى، في حين أننا إذا أردنا أن نكون لبنانيين فعلاً يجب أن ننتمي إلى مجتمع واحد، وهذا يقتضي منّا التسوية والمساومة حول فهم مشترك للظاهرات الاجتماعيّة التي تسود في مجتمعنا، والعمل على إيجاد الأطر الكفيلة بدمج اللبنانيّين فيما بينهم على تنوّعهم الدّيني والاجتماعي والثقافي. وفي الفكر الفلسفي، أخيراً، تتجلّى المساومة والتسوية في تيّار «الفلسفة اللبنانية»؛ إذ كان الفيلسوف كمال يوسف الحاج يعتبر أن كلّ ما هو علماني وعروبي وشيوعي غريب عن «الذات اللبنانية»، وبالتالي إذا أراد هذا الغريب أن يكون لبنانيّاً فعليه أن يقبل بالنّظام الطّائفي؛ إذ إنَّ «الأرض والسّماء قد تزولان ولا تزول الطَّائفيّة من لبنان. والطيّون لا يجب أن يناطح الأرز، والغراب لا يجب أن يداعي الحمام»؛ فكلٌّ له مكانه بقدر مدى انتمائه إلى الذات اللبنانيّة المسيحيّة المارونيّة.
وإذا اعترف غير المسيحيين بسيادة الذات المسيحيّة في لبنان وتدجَّنوا تحت لوائها، فإن الفيلسوف كمال الحاج يقدِّم لهم بالمقابل تنازلاً تكتيكيّاً؛ إذ يعترف لهم بوجود الأمة العربية كبُعد اقتصادي للبنان، ولكن بالمقابل هو ينكر وجود «القوميّة العربيّة» التي لم تستطع أن تتجسّد في كيان سياسيّ، بل يعترف «بالقوميّة اللبنانيّة» المتجسِّدة في الدولة اللبنانية.
ونظراً لضيق المجال، فسنكتفي بهذا النموذج المعبّر عن مدى اختراق المساومة أو التسوية الانتقائية والتَّوفيقيّة لمساحات الفكر الناتج داخل إطار بنية ما سُمِّيَ بلبنان. أما تيَّارات الفكر الأخرى من عروبيّة وقوميّة اجتماعية وشيوعيَّة واشتراكيَّة، فعلى رغم صلابة عقائدها ومحاولاتها التَّرفُّع عن المساومة، فإنها بحكم الواقع التَّاريخي وبحكم لبنانيَّتها؛ فقد كانت دائماً تقع في المساومة في وجهها اللبناني؛ إذ إنه عندما يتعلَّق الأمر بمقابلة الفكر بالواقع اللبناني لا بد للمساومة من دور ومكانة أنطولوجيَّة.
والآن بعدما استعرضنا عناصر إشكاليتنا ومراحلها، فإن السُّؤال المطروح يأخذ وجهين: وجهاً معرفيّاً وآخر أخلاقيّاً. معرفيّاً يمكن أن نتساءل: هل نعرف فكرنا؟ هل نعرف أن فكرنا محكوم بظاهرة المساومة أو التسوية؟ ماذا يفيد أن نعرف كون عقلنا، نحن اللبنانيين، عقلاً تسووياً أو مساوماً؟ أما أخلاقيّاً، فيمكن أن نتساءل: هل من المعيب أن يكون فكرنا مساوماً؟ هل المساومة في كينونتها هي شرّ أو خير؟ نحن رصدنا فينومينولوجيا التسوية والمساومة في العقل والفكر اللبنانيين، وليس علينا إطلاق أحكام – قيمة؛ إذ إن الفينومينولوجيا لا تدَّعي بذاتها صياغة وصفات أخلاقيَّة، بل هي تنشغل فقط بما هو كائن وظاهر، ولكنها تفتح باباً لطرح التساؤلات الأخلاقيَّة. إذا سلَّمنا بأننا مساومون، فإنَّ الأحكام تختلف باختلاف المنظار والمعيار. وهناك معيار الوحدة ومعيار الاختلاف. المساومة في ذاتها ليست عيباً ولا حسنة، بل المهم لماذا نساوم، فالمساومة نشاط فكري، والفكر حياة، والحياة كينونة تصير. وإذا لم تكن الفلسفة إشكالية، فهي ليست فلسفة.
- باحث وأستاذ جامعي لبناني



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.