فرانسينا آرمنغول... رئيسة البرلمان الإسباني المؤمنة بـ«الوحدة الوطنية المستندة إلى التنوع»

يسارية انتقلت من الحلبة الإقليمية إلى قلب الساحة الوطنية

فرانسينا آرمنغول... رئيسة البرلمان الإسباني المؤمنة
بـ«الوحدة الوطنية المستندة 
إلى التنوع»
TT

فرانسينا آرمنغول... رئيسة البرلمان الإسباني المؤمنة بـ«الوحدة الوطنية المستندة إلى التنوع»

فرانسينا آرمنغول... رئيسة البرلمان الإسباني المؤمنة
بـ«الوحدة الوطنية المستندة 
إلى التنوع»

في خريف عام 2020، عندما كانت إسبانيا تتعرّض لأقسى موجات جائحة «كوفيد - 19»، ويخضع سكانها لتدابير حجر صارمة تقيّد التنقّل وتمنع التجوّل وارتياد الأماكن العامة ومراتع اللهو في ساعات الليل، شوهدت فرانسينا آرمنغول في ساعة متأخرة من الليل برفقة المسؤول الإعلامي في الحكومة داخل أحد مقاهي جزيرة مايروقة... الذي أقفلته السلطات الأمنية بعد ذلك بأيام إثر الشكاوى التي رفعها سكان المباني المجاورة لكثرة الضجيج الذي كان يتسبب به رواده. آرمنغول، رئيسة الحكومة الإقليمية في جزر الباليار وعضو اللجنة التنفيذية الفيدرالية للحزب الاشتراكي الإسباني، لم تكترث في حينه لسيل الانتقادات التي تعرضت لها من المعارضة التي طالبتها بالاستقالة لانتهاك تدابير الوقاية التي كانت هي وضعتها مع اشتداد الجائحة. بل التفّت حولها جميع القيادات الاشتراكية في تظاهرة نادرة من التضامن مع السياسية التي كانت قد بدأت تُعرف بأنها «النجم الصاعد» في المشهد الاشتراكي الإسباني.

إبان فترة واقعة الملهى، كانت الأنظار قد بدأت حقاً تتجه إلى فرانسينا آرمنغول، تلك الصيدلانية التي دخلت معترك السياسة بوصفها عضوة في مجلس بلدية قريتها الذي كان يرأسه أبوها. إلا أن أحداً لم يكن يتوقع أنها ستصبح بعد ذلك بثلاث سنوات ثاني امرأة ترأس البرلمان الوطني الإسباني، والأولى من الحزب الذي لم يحصل على الغالبية في الانتخابات العامة.

النشأة والمسيرة

فرانسينا آرمنغول من مواليد عام 1971 في بلدة آينكا، من أعمال جزيرة مايورقة كبرى جزر أرخبيل الباليار السياحي في غرب البحر المتوسط. ولقد تخرّجت في كلية العلوم والبحوث الصيدلانية بجامعة برشلونة، حيث تابعت لاحقاً دراسة الحقوق قبل أن تباشر العمل في صيدلية العائلة حتى أواخر تسعينات القرن الماضي.

في عام 1999، أصبحت آرمنغول عضواً في المجلس البلدي المحلي، وفي نهاية العام التالي صارت مستشارة (عضو مجلس) في مجلس الجزيرة، حيث كانت الناطقة بلسان الحزب الاشتراكي حتى عام 2004. وخلال هذه الفترة فازت في الانتخابات الإقليمية بعضوية برلمان جزر الباليار، وجددت ولايتها ثلاث مرات متعاقبة، بينما كان نجمها يواصل الصعود داخل الحزب الذي تولّت منصب الناطق باسمه في البرلمان الإقليمي، وأظهرت قدرة بارزة في التشريع، وفتح قنوات الحوار مع القوى السياسية المنافسة.

وفي عام 2007، انتخبت آرمنغول رئيسة للمجلس الاستشاري في الجزيرة بفضل الاتفاق الذي توصلت إليه مع القوى والأحزاب الإقليمية، بعدما كانت قد فازت بمنصب الأمين العام للاتحاد الاشتراكي في مايورقة. ثم في عام 2012 صارت الأمينة العامة الإقليمية للحزب الاشتراكي وعضوة في اللجنة التنفيذية الفيدرالية. ثم، في منتصف العام التالي، فازت السياسية الطموحة بأكثرية ساحقة في انتخابات الحزب الداخلية لاختيار مرشحه لرئاسة الحكومة الإقليمية في انتخابات عام 2015، وعيّنها الأمين العام للحزب ورئيس الوزراء الحالي بيدرو سانشيز مستشارته للشؤون الإقليمية، وذلك قبل أشهر من اندلاع الأزمة الانفصالية الكتالونية... التي ما زالت تداعياتها تتفاعل إلى اليوم بقوة في المشهد السياسي الإسباني.

رئيسة الحكومة الإقليمية

بعد الانتخابات الإقليمية في عام 2015، ونتيجةً تحالف واسع مع الأحزاب التقدمية لعبت هي الدور الأساسي في التوصل إليه، أصبحت آرمنغول أول امرأة تتولى رئاسة الحكومة الإقليمية في جزر الباليار، حيث يوجد المقرّ الصيفي للعائلة المالكة الإسبانية. وفي خطاب توليها مهامها، أعلنت إلغاء السياسة اللغوية التي كانت الحكومة اليمينية السابقة قد فرضتها ضد إرادة غالبية المواطنين والهيئات التعليمية، وتعهّدت بتطبيق نظام تمويلي جديد للجزر، وفرض ضريبة سياحية يعود ريعها لتطوير القطاع الذي يشكّل عماد اقتصاد الأرخبيل.

وكذلك، أعلنت عن حزمة واسعة من التدابير الاجتماعية، مثل إعادة الخدمات الصحية التي كانت الحكومة اليمينية قد أوقفتها، وخطة لمكافحة الفقر، وإنشاء جهاز لمكافحة الفساد تحت إشراف البرلمان، ومكتب للشفافية والمشاركة المباشرة من المواطنين في إدارة شؤون الجزر.

ساهمت كل هذه الخطوات في زيادة شعبية آرمنغول على المستوى الإقليمي، وترسيخ التحالف الذي كان يدعمها، لكن صعودها البارز على المستوى الوطني جاء بفضل الموقف الذي اتخذته من الأزمة التي نشأت بسبب الصراع الداخلي في الحزب الاشتراكي، وأدت إلى تنحّي بيدرو سانشيز عن منصب الأمين العام في سبتمبر (أيلول) عام 2016؛ إذ ذاك راهنت آرمنغول على تشكيل «حكومة وطنية ائتلافية»، على غرار تلك التي كانت تترأسها في جزر الباليار، وكانت أشدّ المعارضين داخل الحزب الاشتراكي العمالي لبقاء زعيم الحزب الشعبي اليميني ماريانو راخوي رئيساً للحكومة الإسبانية، وأكثر المتحمسين للانفتاح على القوى اليسارية والإقليمية - بما فيها الانفصالية - من أجل إسقاط حكومة راخوي المحافظة، وإيصال سانشيز إلى سدة الرئاسة.

نجاحها... وطنياً

في عام 2019، عادت فرانسينا آرمنغول وجددت ولايتها رئيسةً للحكومة الإقليمية بعد فوزها في الانتخابات الإقليمية بجزر الباليار، إلا أن إدارتها لجائحة «كوفيد - 19» كانت متعثّرة في معظم مراحلها؛ إذ تخللتها سلسلة من القرارات الخاطئة التي اعترفت هي، لاحقاً، بأنها تسببت في ارتفاع عدد الإصابات والضحايا، الأمر الذي كان له دور أساسي في هزيمتها إبان الانتخابات الإقليمية التالية عام 2023، وأيضاً خسارة حزبها الغالبية في برلمان الجزر.

ولكن بعد فوزها بمقعد في البرلمان الوطني الإسباني خلال الانتخابات العامة الأخيرة منتصف الصيف الماضي، التي فاز فيها الحزب الشعبي اليميني المحافظ، قرر الحزب الاشتراكي ترشيحها لرئاسة البرلمان. وجاء القرار بناءً على عجز الحزب اليميني الفائز عن جمع غالبية الأصوات اللازمة لانتخاب مرشحه، وأيضاً بناءً على استعداد القوى اليسارية والقومية لدعم آرمنغول من أجل توليها المنصب بوصفها أول رئيسة للبرلمان من حزب لم يحصل على الغالبية في الانتخابات العامة.

ومع أن مسيرة آرمنغول السياسية اقتصرت عملياً على الحيّز الإقليمي حتى إعلان ترشيحها لرئاسة البرلمان الوطني، فإن العديد من القرارات والمبادرات التي اتخذتها خلال رئاستها الحكومة الإقليمية في جزر الباليار أثارت جدلاً واسعاً على الصعيدين السياسي والإعلامي تجاوز الإطار الإقليمي. وفي الوقت عينه، كان يترسّخ موقعها بوصفها القيادية الاشتراكية الوحيدة التي تحظى بتأييد جميع القوى القومية والانفصالية الممثلة في البرلمان الوطني، بما فيها حزب «جونتس» الكتالوني الانفصالي المحافظ.

وواقع الأمر أنه فضلاً عن الرغبة المشتركة في إقصاء اليمين - المناهض بشدة للمطالب القومية والانفصالية - عن رئاسة البرلمان، تعود أسباب التقارب القومي والانفصالي مع ترشيح آرمنغول أيضاً إلى أن الحزب الاشتراكي في جزر الباليار، الذي تتزّعمه لديه جذور قومية عميقة حافظت هي عليها منذ وصولها إلى منصب الأمين العام الإقليمي. كذلك، جدير بالذكر أن آرمنغول عندما كانت تتابع تحصيلها الجامعي في جامعة برشلونة، انخرطت في أحد التيارات الطلابية الكتالونية (القطالونية) التي كان تنادي بـ«الاستقلال». إلا أنها عادت وابتعدت عنه لاحقاً، وانضمّت إلى الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي العمالي، وهو جناح يدعو إلى إنشاء نظام فيدرالي في إسبانيا، كـ«منزلة بين المنزلتين»: المركزية والانفصالية.

من ناحية أخرى، كانت القوى والأحزاب اليمينية قد وجّهت اتهامات متكرّرة ضد آرمنغول بأنها «انفصالية»، و«تدعم الحركة الاستقلالية» في إقليم كتالونيا. لكنها كانت تصرّ دائماً على رفض تلك الاتهامات بشكل قاطع، وإن كانت قد تحالفت إبّان ولايتها الأولى رئيسةً للحكومة الإقليمية في الباليار مع اثنتين من القوى الانفصالية. ثم إنها كانت ترد على اتهامات اليمين بالتأكيد على أنها كانت تحرص دائماً على رفض الطروحات الانفصالية إبان الأزمة الاستقلالية التي أدت إلى المواجهة الصدامية بين الحكومة المركزية والحكومة الكتالونية في خريف عام 2017، وأدت إلى اعتقال عدد كبير من القيادات الانفصالية بتهمة العصيان والتمرّد، وفرار بعضهم إلى الخارج، من بينهم رئيس الحكومة آنذاك كارلي بوتشيمون.

لم تتردد آرمنغول إطلاقاً في الإفصاح عن ميولها الجمهورية

لكنها حافظت دائماً على علاقات ممتازة مع العائلة المالكة

سياسية واقعية ونشيطة وواضحة المواقف

مقابل ما سبق، لم تتردد آرمنغول إطلاقاً في الإفصاح عن ميولها الجمهورية، لكنها حافظت دائماً على علاقات ممتازة مع العائلة المالكة التي تتخذ من جزيرة مايورقة مقرّاً لإقامتها الصيفية. ولقد تبدّت هذه العلاقة بوضوح خلال الاحتفال بافتتاح الولاية الاشتراعية الأخيرة أواخر الشهر الماضي، التي ترأسها العاهل الإسباني فيليبي السادس، برفقة قرينته الملكة ليتيزيا وولية العهد ابنته الأميرة ليونور، بل تضمّن خطاب آرمنغول عدة إشارات إلى الدور المحوَري الذي يلعبه العاهل الإسباني في هذه المرحلة الحساسة من التاريخ السياسي للبلاد الذي يشهد انقسامات حادة وتوتراً في العلاقات بين مكوّنات الشعب لم يعرفها الإسبان منذ عودة النظام الديمقراطي مطالع ثمانينات القرن الفائت.

في الحقيقة، يذكر متابعون جيدو الاطلاع أنه لم يكن وارداً في حسابات آرمنغول النزول إلى الحلبة السياسية المركزية؛ لكونها كانت دائماً بعيدة عن دوائر القرار الفيدرالية في الحزب الاشتراكي. غير أن فشلها في تجديد ولايتها رئيسةً لحكومة جزر الباليار للمرة الثالثة على التوالي خلال الانتخابات الإقليمية في الربيع الماضي، دفعها إلى الترشح للانتخابات العامة أواخر يوليو (تموز) الفائت، حين فازت للمرة الأولى بمقعد في البرلمان الوطني الذي أصبحت اليوم رئيسة له.

وتالياً، يجمع الذين يعرفون آرمنغول عن كثب على أنها تملك قدرة خارقة على العمل، وتتميّز بقناعاتها السياسية الراسخة التي تدافع عنها بشدة، وبخاصة، مواقفها المناهضة للسياسة الإقليمية التي ينهجها الحزب الشعبي المحافظ، وانتقاداتها القاسية لحزب «فوكس» اليميني المتطرف.

مقابل ذلك، من المآخذ عليها أنها لا تتقبّل النقد بسهولة، بل غالباً ما تجنح نحو اتخاذ مواقف مشددة صعب العودة عنها أو تعديلها لاحقاً. وكان الخطاب الذي ألقته أخيراً خلال افتتاح الدورة الاشتراعية الجديدة قد تضمّن غمزات عدة من قناة الأحزاب اليمينية التي توافق نوابها على مقاطعة رئيسة البرلمان الجديدة غير مرة، والامتناع عن التصفيق لها عند نهاية الخطاب، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الديمقراطية الإسبانية. وفي هذا الشأن، وصف زعيم الحزب الشعبي المحافظ ألبرتو فيخو خطابها بأنه «الأسوأ بين ما سمعه إلى اليوم من رؤساء البرلمان في إسبانيا».

وما يستحق الإشارة هنا، أن تحالف الأحزاب اليسارية والتقدمية مع الأحزاب القومية والانفصالية، الذي أمّن الفوز لفرانسينا آرمنغول برئاسة البرلمان على حساب مرشحة الحزب الشعبي - الذي كان فاز بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات العامة -هو الذي منع فيخو من الحصول على ثقة البرلمان لتشكيل الحكومة الجديدة التي عاد بيدرو سانشيز ليتولّى رئاستها مرة أخرى.

ثم أنه كان بين أوائل القرارات التي اتخذتها آرمنغول بعد توليها رئاسة البرلمان، قرار باستخدام اللغات الإقليمية (الكتالونية والباسكية والجليقية - الغاليسية) في النقاش العام والمداولات، وذلك للمرة الأولى في تاريخ البرلمان الإسباني. وكان سبق لها إبان توليها رئاسة الحكومة الإقليمية في جزر الباليار أن فرضت معرفة اللغة الكتالونية (القطالونية) - التي هي اللغة المحكية في الجزر - على الأطباء وأعضاء طواقم التمريض في المؤسسات الصحية الرسمية. أيضاً سبق لآرمنغول أن صرّحت عند الإعلان عن قرارها استخدام اللغات القومية في مداولات البرلمان بقولها: «إن إسبانيا تتقدّم عند الاعتراف بتنوّعها وتباينها، وثروتها الحقيقية تكمن في هذه التعددية الفريدة». لم تتردد آرمنغول إطلاقاً في الإفصاح عن ميولها الجمهورية

لكنها حافظت دائماً على علاقات ممتازة مع العائلة المالكة


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.